"بيت الدمية" صفقة الباب الأشهر في تاريخ الأدب العالمي - جديد بدرية العامري

    • "بيت الدمية" صفقة الباب الأشهر في تاريخ الأدب العالمي - جديد بدرية العامري


      "بيت الدمية" صفقة الباب الأشهر في تاريخ الأدب العالمي




      إنّ مُلامسة الكِتابة للجوهري الإنساني من القضايا هو ما يجعل تلك الإصدارات تتجاوز الحدود الجغرافيّة والزّمانيّة، وما بيت الدمية إلّا مثال جميل للأدب الّذي تعدّى العرضي الخاص إلى العالميّة .

      بيتُ الدُّمية مسرحيَّة ألّفها النّرويجي هنريك إبسن في نهايات القرن التّاسع عشر، وأحدثت يومها ضجّة كبيرة، وصخبا عارما في أوساط المجتمع الأوروبي. تناولت المسرحيّة موضوعا مسكوتا عنه آنذاك، يمس الحياة الاجتماعيّة لكل أُسرة بل ويرفع عنها حجاب الزِّيف ليُعرِّ الحقيقة الكامنة خلف المظاهر الزائفة، تتلخّص المسرحيّة الّتي تتكوّن من ثلاثة فصول، في ثورة نورا هيلمر على بيت الزّوجيّة بعدما تكتشف في الفصل الأخير زيف الحياة الّتي كانت تحياها لثمانية أعوام، وأنها لم تكن إلّا دمية في بيت زوجها يحركها كيفما شاء، ويديرها حيثما يُريد، وأنه في لحظة الغضب ينسف كل اعتبار لإنسانيّتها وكيانها مقابل نظرة الخارج له. " أتهجرين بيتك وزوجك وأولادك دون أن تُفكِّري فيما قد يقوله النّاس؟"

      في بيت الدمية يمسح إبسن الألوان والبهرجة الخارجيّة عن أبطالِه ؛ليعرِض مسرحيّة توجه جمهورها لحقيقة يتجاهلونها، فإبسن في أعماله الاجتماعيّة مجملا يُعرِّ حقيقة المجتمع الّذي لا يكترث للإنسان بقيمته الإنسانيّة، ففي بيتِ الدُّميةِ مثلا "نورا" المدلّلة الحبيبة لزوجها عصفورته الصّغيرة وأرنبته الأثيرة ما أن يكتشفُ زوجها أنّها استدانت و زوّرت توقيع والدها لأجل إنقاذ حياته حتّى ثارت ثائرته وهو الّذي قبل لحظات فقط من اكتشافه لذلِك يخدرها بقوله " أتعلمين يا نورا أنِّي طالما تمنيتُ أن يتهدّدكِ خطر شديد حتّى يُتاح لي أن أُجازِف بحياتي وبكلِّ ما ملكت يدي في سبيلك."
      تورفالد ثار لأجلِ سمعته الّتي ستتأثّر نتيجة تزوير زوجته لتوقيع والِدها، دونما اعتبار لسببِ تزويرها، تورفالد حملته أنانيته وإلتفاته للخارج وكلام النّاس [... أمّا نحنُ فيجب أن نُحافظ على المظهر أمام النّاس، كأنّ شيئا لم يحدُث] إلى توبيخ نورا وإهالة أبشعِ الأوصاف لها فقط لأنّها استدانت باسم والِدها لتنقذ حياة زوجها المريض، وزوّرت توقيع والدها؛ لكي لا تزعجه وهو المُقعد على فراش المرض، بخبر مرض زوجها.

      [ما من رجل يقبل التّضحية بشرفِه في سبيل المرأة الّتي يحب] الزوج في "بيت الدمية" لا يكترث لمشاعر زوجته، فبعدما وبّخها وعنّفها وأهانها بأبشع الألفاظ [.. يا لها من صحوةٍ مفجعة. ثماني سنوات وأنا أعقد عليها أملي في الحياة، وأنظر إليها بخيلاء، فإذا بها منافقة، كاذِبة بل أسوأ من هذا مجرمة!
      إن بشاعة اللفظ وحدها تثير الاشمئزاز، يا للعار! يا للعار!
      كان يجب أن أتوقّع شيئًا من هذا القبيل كان يجب أن أستبق الحوادث بشئٍ من بعد النّظر. إنّ خسة أبيك وطباعه المتدهورة قد انتقلت إليكِ، فلا دين، ولا أخلاق، ولا إحساس بالواجب. وهذا عقابي لأنّني أغمضتُ عينيّ عن سيئاته من أجلكِ. يا لهُ من جزاء!]..وحالما أدرك أنّ الخطر تلاشى لمجرد تراجع كروجشتاد عن عزمه بإفشاء السر وفضحهم، عاد تورفالدو لكأن شيئا لم يكن، بل والأبشع من ذلك أنه كان متعجبًا من نفورها منه بعدما تراجع [ ما هذه النّظرة المتجهِّمة؟.. آه. فهمت يا عزيزتي. إنّك لا تصدقين أنّني غفرتُ لك. ولكنّها الحقيقة يا نورا. أقسم لك لقد غفرتُ لكِ كلّ شئ، إنّني أُدرك أنّ الدّافع لك على ما فعلتِ كان حبًّا لي].
      بل ويتمادى في إيلامها حالما يقول: [كُل ما عليكِ هو أن تعتمدي عليّ، وأنا كفيل بالنصح والإرشاد. ما كنتُ لأُعدُّ من بني جنسي إن لم تزدني أنوثتكِ الضعيفة إقبالا عليكِ. لا تُفكري فيما قلته لك لحظة الانفعال الأولى، وأنا أتوهم أنّ الدّنيا قد انطبقت فوق رأسي، لقد غفرت لكِ يا نورا أُقسم أنّني قد غفرتُ لكِ].
      نسف إبسن في أعماله النّمط المُعتاد في بناء المسرحية المحكمة المتكوِّنة من (عرض، عقدة، حل)، واستبدلها بنمط جديد من المسرحيات ذات التحليل الرجعي التي تتكوّن من ( عرض، عُقدة، نقاش)، صاحب تغييره المستوى الفنِّي كذلك تغيير على مستوى الموضوع، فقد ابتدع مواضيع جديدة لمسرحيّاته غير ما كانت سائدة آنذاك من معالجات تختص بالثّالوث البرجوازي ( الزّوج، الزّوجة، العشيق/ة).
      عمد إبسن في أعماله إلى مواضيع مسكوت عنها لم يجرؤ أحد قبله على فتحها، فهز بذلك هيبة تابوهات محرمة، مما أثار سخط الرأي العام ضده، فقد عالجت مسرحيّات إبسن ومن بينها "بيت الدُّمية" قضايا الإنسان وإرادته، فحملت إحساسًا عميقا بالإنسان، وانتصارًا لإرادتِه، رافضة أيّ تغييب له تحت أي مبرر كان.
      وفي "بيت الدُّمية" خصوصًا هاجم إبسن السُّلطة الذُّكوريّة المتمثلة في الزوج والأب اللذان يرسمان خط سير " نورا"، فنورا في كنف والدها كانت لا ترى إلا من زاويته، حيث يقف هو وما يريد هو، وحالما انتقلت لكنف زوجها كان لزامًا عليها أن تنتقل لزاوية رؤية زوجها وأن تكون كما يشتهي هو لا كما هي عليه، إبسن في مسرحيته يعرض آلية تغييب الإنسان عن نفسه، وانصهاره في الآخر، وأنانية الآخر الذي يرى في هذا الانصهار والاندماج واجب وحق.
      ينتصر إبسن للإنسان أولا وللمرأة ثانيًا، وترجمةً لذلك الهدف أوضح في شخصية تورفالدو مساوئ أن يستمد المرء قوّته وثقته من الخارج، وأن يرى في مباركة المحيط راحته واستقراره، إبسن ينتصر للذات الإنسانية بكونها ذات مستقلة تتحقق وفق ما يناسبها ويلائمها وليس وفق تقييدات اجتماعية تُفرض عليها.
      "بيت الدمية" بشكلها الفني وبموضوعها كانت ثورة بحد ذاتها، فالباب الموارب في بيت الدمية رمز للاستباحة والتملّك والتداخل، وصفقة الباب التي هي أشهر صفقة باب عرفها التاريخ رمزٌ آخر، الصفقة التي ختمت بها نورا المسرحية هي صفقة قرار رفض، وثورة على الواقع المحكوم بقيمه البالية وعاداته المتوارثة، كما أنه بمرور الوقت أصبحت " نورا" أيضًا رمزًا آخر للمرأة الطامحة للحرية والمساواة، المرأة الرافضة الخضوع للسلطة الذكورية.


      إن لمسرحية هنريك إبسن الفضل في التجديد، فإضافة إلى كونه أبو المسرح الحديث بتجديده في الشّكل والموضوع، فلإبسن الفضل في التمهيد لظهور الحركة النسوية في الأدب، حيث أن انتصاره للمرأة وإنصافه لها في موضوع مسرحيته ومناهضته لما كان سائد قبله من تناولات وتوظيف للمرأة كما في أعمال تشوسر وشكسبير وغيرهم من قبله، كان دافعًا لظهور حركات نسائيّة من بعده حاولت الانتفاضة على الواقع وإثبات وجودها.
      أثارت بيت الدمية آنذاك الكثير من السّخط، إذ أن "صفقة الباب" وشخصية نورا ككُل نورا التي تُقدم على تحمل أعباء مادية وتشارك زوجها ولو بطريقة سريّة بعض المتاعب هي شخصية لا تليق بالمرأة آنذاك، فكانت مدعاة لتجريح إبسن واتهامه بمحاولة إفساد المجتمع، مما اضطره في بعض العروض إلى تحريف النهاية بما يتواءم ورؤية النقّاد والمجتمع.
      المسرحية التي أثارت ضجّة آنذاك في الدّول الأوروبيّة، بلا شك تجاوزوها الآن بعد مرور قرن وربع القرن إلا أن موضوعها ما زال يُثير ضجّة في دولٍ أخرى، حيث الإنسان مغيّب يستمد مكانته من الخارج، وفق رضا منظومات متوارثة، ولا يعتد بذاته كما هي، بل كما يُراد لها أن تكون وتتقولب.




      المصدر : مدونة بدرية العامري