(قلب طفل) بين سلطة الأب وسُلطة الرّب. - جديد بدرية العامري

    • (قلب طفل) بين سلطة الأب وسُلطة الرّب. - جديد بدرية العامري





      في مقاربةٍ بين سلطة الأب وسُلطة الرّب يضعنا هرمان هسّه في (قلب طفل)، سلطة الأب التي هي امتداد وراثي حسبما يرى بعض علماء النّفس لسلطة الرب في الكون، إذ يرى فرويد أنّ إله كلّ فرد هي صورة أبيه، كما أنّ الموقف الشّخصي لكلِّ فرد إزاء الإله منوط بموقفه المادي إزاء أبيه، فالطفل بالذّات في مراحل حياته الأولى يرى في أبيه سلطة الرّب، وما فكرة الحماية والإلتجاء إلا تدليلٌ على ذلك، فالموقف الازدواجي من الأب ومحاولة اِخفاء المشاعر العدائيّه تجاه الأب وعدّها خطيئة، وتعزيز مشاعر المحبّة، هذه الازدواجية المبطنة للعقدة التي هي بين الترغيب والتّهريب هي ذاتها يحملها البعض تجاه الرّب. وكما يرى فرويد فإن ثمة تشابه بين صفات الرّب الذي يهابه المؤمن، وبين صفات الأب الذي يهابه الطّفل، ففي الحالتين الذّات العليا رحيمة وحكيمة ومهابة، يخاف الفرد عقوبتها ويتطلع للجزاء والحماية منها. قلبُ طِفلٍ في الحادية عشر من عُمرِه، قلبٌ يحملُ مخاوف الطفولةِ وقلقها وهواجسها وهمومها، وذاك المدعو " تأنيب الضّمير"، وما ترتّب على كُلّ ذاك من تداعياتٍ وحوادِث، صورة الأب/الرّب في ذِهن ذلِك الطّفل، الخطيئة والذّنب والمغفِرة، وعالم المثاليّة والفضيلة، وتمنِّي الموت هربا من المواجهة، وكلّ ما يعتمل في قلبِ طفلٍ خائف من العقاب. "قلبُ طِفل لـ هرمان هيسّه... كما صُنِّفت رواية تقع في ما يُقارِب الـ 53 صفحة، قلبُ طِفلٍ ازدحمت بِهِ الوصايا والأخلاق مع حبِّ المُغامرةِ والاكتشاف، فأنتجت صِراعا عاشهُ الطِّفل ألقى بِظلالِهِ على يوميه الّلذين تدور فيهما الرواية، قلبُ طِفلٍ صورةٌ أُخرى لتأثير الأب/ الرّب والرّغبةُ والرّهبة. تتلمس المقاربة منذُ البداية ففي الصفحة 8 وعلى لسان الطفل يقول: "لكنّ المدخل والعُتمة يأتيانِ في البداية ولهما من أبي شئٌ ما، شئٌ من السُّلطانِ والهيبة، شئ من العقابِ والضّميرِ الآثمِ. آلاف المرّاتِ مررتُ بهما ضاحِكا ولكنّ أحيانا أُخرى دخلتُ وقد شعرتُ على الفورِ بالانسحاقِ والضآلةِ والخوفِ، فأُسرِعُ إلى السُّلمِ الّذي يمنحني الحُريّة". كان الطفل قد قصد والده ليشكوه اعتلال مزاجه، صعد للمكان المهيب في المنزل بعدما حاصره الضِّيق من فعلٍ سيِّئ لم يقترفه بعد، صعد ليتوب إلى والِده، ويعترِف بأي خطأٍ كان ليتلاشى ذلِك الإحساس، وهنا صورة أخرى لانعكاس صورة الأب، فعلى لسان الطّفل يقول: "في أيّامٍ مثل هذِه تنعكِسُ أيّ خيبة واضطراب في نفوسنا على ما يُحيطنا وتشوّهه، ويقبض القلق والارتِباك على قلوبِنا، فنبحثُ عن السّببِ المُفترض، فنجده خارِج ذواتنا، إذ أنّنا نرى العالم سيِّء التّنظيمِ ونُلاقي ما يعيقنا في كلِّ مكان". بين فقدِ الأملِ والإحساس بالارتياح، ترنّح الطِّفل عندما لم يجد والدهُ في مكتبِه وغُرفتِه، وكعادةِ الأطفال وحبّ الاكتِشاف. لم يشأ الطِّفل أن يخرُج دونما جديدٍ يعرِفهُ عن مخبأِ والِده، قلّب بعض الأشياء، وهاتِف الشُّعور بالخطيئةِ يعوي داخِله. رأى مجموعة دبابيس وريش أقلام، ودون أيِّ حاجةٍ أخذ اثنين منها ودسّهما في جيبه، ربّما كان الأمر تلبيةً لهاتِف الشِّرِّ ذاك، قلّب الكثير ولم يجد ما يُجدِ هُناك. فكِّر هُنيهة أن يُعيد ما أخذ لكي لا يُثقله الإحساس بالذّنب، لكنّه قبل أن يخطو تلك الخطوة امتدّت يده لأحد الأدراج، تمنّى لو يجد شيئا يُرضي غرور طفولتِه، وفِعلا وجد "قِلادة كامِلة من تينٍ أصفر مغطّىً بالسُّكّر" بنهمِ الطّفولةِ أخذ يكنِز جيوبه منها، إلى أن تناقصت للنِّصف، وبسذاجةِ الطّفولةِ وذكائِها قرّر توزيع ما تبقّى في القِلادة لكي لا يبدو الفارِق كبيرا بين قبل وبعد الانتشال. سريعا خرج بعد صيده الثّمين من التِّينِ المجفّف، خبّأ ما تبقّى في خزانة كُتُبه، وانضمّ إلى مائِدة الغداء الّتي نودِي لها, وفي نفسه كما جاء في الرواية كان يردد: "كلّهم ذوي وجوه مُشرِقة كريمة يطغى عليها الحبور وأنا فقط المُجرِم الوحيد، جلست يائِسا بينهم وحيدا غير ذي قيمة خائِفا من كلِّ نظرةٍ ودودة، ما زال طعمُ التِّينِ في فمي، هل أغلقت باب غرفة النّوم في الطّابِق الأعلى ؟ هل أغلقت الدُّرج؟" تأخّر الطِّفل عن درسِ الرِّياضة لانشغالِه بهاجِس الذّنب وسرقته، تفاقمت الفِكرة في ذِهنه إلى أن سيطرت عليهِ تماما، ولم يستطع الفكاك منها أبدا، ففي كُل لحظة يتوقّع أنّ المُصيبة حلّت وأنّ والدهُ اكتشف جريمته، فيبدأ سيناريو العِقاب والتّأنيب. لم يستطع كبح جِماح ذاك العذاب، فخرج من البابِ الخلفي هارِبا، ابتعد كثيرا عن المنزِل، وكان كلّما ابتعد يظن أنّه قريب وبالإمكان الوصول إليه .. اِبتعد كثيرا لكن أعادهُ شِجارٌ حدث بينه وأحد زُملائِه، شجارٌ فجّر فيه الطِّفل جامَ غضبِه وقلقِه وطاقتِه، عاد بعد ذلِك إلى المنزِلِ في وقتٍ متأخِّرٍ ملطّخا بالدّمِ ممزَّق الثِّياب ..عاينتهُ أمّه واعتنت بِهِ ..وانتهى اليوم.. تخلّل يومهُ ذلِك الكثير من الإحساس بالذّنب وتمنِّي الموت والحِقد على الكِبار، وكُره الأب وحبِّهِ في آن...في اليوم التّالي والّذي كان يوم أحد.. استيقظ الطِّفل بمزاجٍ أفضل بكثيرٍ من يوم الأمس، إذ كان وقع الإحساس بالذّنب أقل على روحِه. تناول إفطارهُ مع والديهِ وأخواتِه، وذهب للكنيسةِ معهم، كان الهاجس يتردد عليه بحدّة أقل، غذ يقول: "كنتُ أطوي يدي كذِبا، وأتّخِذ الوضع التّقي كُفرا" كان يوما في مجمله خفيفا استعاد فيهِ الكثير من الحياة، بعد عودتِه من الكنيسة دخل لغرفتِه يسقى النّباتات ويرعى الفراشات. وفجأة فُتِح باب الغُرفة، لم يكترِث في بادِئ الأمر بذلِك غير أنّه حالما أحال رأسه ليرى الدّاخِل تفاجئ بوالِده.. تعاقبت على روحِهِ مشاعِر كثيرة كان قد تحلّل من أكثرِها، ولم يشأ لها أن تُعاد ثانيةً، فكرِه والدهُ "حدّقتُ في أبي مصعوقا ، لقد كرهته، لمَ لمْ يأتِ البارِحة؟.. فلستُ الآن مهيّأ لذلِك" تقدّم الأبُّ باتِّجاه خزانة الكُتُب، وأخرج عدّة أقراص من خلف الكُتُب.. وسأل الطِّفل عن مصدرِها.. تفنّن الطِّفل في ابتداع قصّةً التِّين، فأخبر والدهُ أنّه اشتراها وصاحبه من أحد المتاجِر، وعن المال قال أنّه اشتراها بما جمعهُ هو وصديقه من "بنك التّوفير" الّذي كان بالمقرُبة من الطِّفل في غُرفتِه، وعن قيمة التِّينِ واسم المحل أجاب الطِّفل بتفنُّن .. طلب الأب من طِفله أن يرتدي قبّعته ليذهبا للمتجرِ، فيتأكّدا من صِدقِ ما يقول.. تناول الطِّفل قبّعته، لكنّه استأذن والده للدّخولِ إلى الحمّام لدقائِق .. تمنّى الطِّفل أن يموت أو تحدُث مُعجزة تُثني والدهُ عن هذِه الخطّة، لكنّ شيئا من ذلِك لم يحدُث "لو كان باستطاعتي أن أموت الآن، مكثت دقيقة فاثنتين، لم يكُن ذلِك مُجديا". دقائِق وخرج لوالِده.. ذهبا للمتجرِ.. في الطّريق تذكّر الطِّفل أنّها يومُ أحد، أي أنّ المتجر مُغلق.. سُرعان ما حدّث والدهُ بذلِك.. وببرودٍ وهُدوءٍ موجِع تدارك الأب.. أن حسنا لا بأس سنذهب إلى بيتِ صاحِب المتجر. في الطّريق حاول الطِّفل الحِفاظ على رباطةِ جأشِهِ ..وقريبا من منزِل صاحِب المتجر .. توقّف الطِّفلُ عن الحِراك ..فتوقّف الأبُ مستفسِرا .. قال الطِّفل أنّه لن يدخُل لمنزِلِ صاحب المتجر، فهم الأبُّ الأمر.. وعادا أدراجهما .. صبرُ الأب وهدوئِه كانا يُعذِّبانِ روح الطِّفل تمنّى لو عنّفه، لو ضربه، لو فعل فيه أي شئ، فهذا الهُدوء والصّبر يشدُّ من أعصابِهِ ويزيد من توتُّرِه.. ويقوِّي الإحساس بالذّنب، و كُره الطِّفل لوالِده، فكما جاء على لسان الطفل: "..لقد كان مهذّبا أكثر مما ينبغي، وصالِحا أكثر مما ينبغي، لا يُخطِئ أبدا.. كان يجعلني دائِما أشعُر أنِّي ضئيلٌ بائِس" حالما وصلا إلى المنزِل .. كان الأبُّ إلى ذلِك الوقت مُحتفِظا بهدوئِهِ.. سأل الطِّفل وأجابه بإيماءةٍ من رأسِه.. عوقِب الطِّفلُ بالاحتجازِ في غُرفةٍ مُغلقة، ولكن العقوبة فقدت جُزء من هيبتها ، فقد تعرّف الطِّفلُ في تِلك الغُرفة المُظلِمة المُغلقة على مجموعة من الكُتُب راح يقرأ فيها. جاءت الرواية كلّها عبارة عن مونولوج داخلي للطّفل، يسرد فيه الهواجس التي تعاقبت عليه حيال الموقف، وكتدليل على المقاربة بين السّلطتين جاء في الرواية على لسان الطفل: "..يا إلهي ..تلك كانت رائِحة القسوةِ والقضاء والمسؤوليّة.. رائِحةُ الأبِ والرّب"، كما كان يرى الطّفل في التعاليم التي يملونها عليه وفي رغباته المكبوتة تناقضًا يُلقي بظلاله على تقييمه لذاته "إذ كانت منذُ ذلِك الوقت التِباسا في تقدير قيمتي وتذبذبا بين الثّقةِ بالنّفسِ وانعدامِ الهمّةِ، بين ازدراء مثاليٍّ للعالم وحبِّ الملذّات المألوف"، ويعنِّف نفسه في موضعٍ آخر قائِلا: "..لأنّهم كانوا يعرفون مشاكساتي الصّبيانية فحسب، ولم يعرفوا عن فسادي" يحكي الطّفل في بعض السّطور طبيعة تعامل الكبار مع الأطفال، وكيف يفسّرها الأطفال، وكيف تؤثِّر مثل تلك التعاملات على نفسياتهم:" فالكبار كانوا يتصرّفون وكأنّ العالم بلغ الكمال وكأنّهم أنصاف آلهة، أمّا نحنُ الصِّغار فلسنا سوى حثالة ..." وأيضًا " لقد سننتَ قوانين لا أحد ستطيع الالتزام بها، وخُلِق الكِبار ليجعلوا الحياة جحيما لنا نحنُ الأولاد" في هواجس الطّفل ومخاوفه تتعمّق "قلب طفل" في علم النّفس وتأثير المحيط على نفسيّة الأطفال خاصةً المقرّبين منهم، الملفت في الأمر أنّ الأم في "قلب طفل" كانت بردًا وسلامًا على قلب الطّفل ورغم ذلك هيبة الأب وطلب اللجوء إليه كان أكثر ما يعزِّز الطّفل، إذ يقول في السّطر السادس عشر: "... ولكن الحصول عليها من الأب يُضفي عليها قيمة أكبر، إذ أنّها تعني سلاما مع الضّمير الرّادع، ومُصالحة وميثاقا جديدا مع القوى الخيِّرة"، يرى الطّفل في والده انعكاسًا لصورة المؤمن في ربّه، فهو يقول: "...فباستطاعته_أي والده_ رؤية كُل شئ..." في خوف الطّفل من المواجهة انعكاساتٌ أُخرى، فهاهو يحدِّث نفسهُ بالموت في قوله: "ولكن لنفترِض أنِّي لم أعد إلى البيت؟ في النِّهاية قد يحدُث لي أمر ما، قد يُدقّ عُنقي أو أغرق أو أسقُط تحت عجلات القِطار، وعندها سيكون كل شئ مختلِفا، عندها سيحملونني إلى البيت، وسيكون كل شخص هادِئا خائِفا باكيا، وسيشعرون جميعا بالأسفِ ولن يُقال أي شئٍ عن التِّينِ أبدا"، كما أنه عنّف نفسه في مواضع أُخرى وتمنّى الموت: ".. رغبة جامِحة مُهلِكة تملؤني، ولم أُفكِّر وأرغب وأشتاق لشئ سوى أن تحطّمني العاصِفة الرّعديّة في الحال، وأن تنزل بي المُحاكمة وأن يصبح الرّعب حقيقةً وينتهي خوفي الشّديد". يختصر هيرمان هسّه حالة الطّفل وما تناوب عليه من هواجس وأفكار في حملته على لسان الطّفل: "قد تكون هي المرة الأولى في حياتي التي شعرتُ فيها، إلى حد الفهم والوعي تقريباً كيف أن كائنين بشريين حسنا النوايا يستطيعان تعذيب بعضهما تماماً وكيف يكون في قضية كهذه كل الكلام وكل المحاولات الحكيمة وكل العقل مجرد إضافة جرعة من السم وخلق عذابات جديدة وفتح جروح جديدة وارتكاب أخطاء جديدة، كيف يكون ذلك ممكناً، لكنه كان ممكناً، إذ كان يحدث، وهو جنون وسخف وتهور مناف للعقل لكنه كان كذلك"



      المصدر : مدونة بدرية العامري