تعريف المكي والمدني من القرآن :
ناقش علماء القرآن تعريف المكي والمدني ، واتخذبعضهم زمان النزول أساساً للتعريف ، وجعل تاريخ الهجرة حداً فاصلاً . واستند بعضهمإلى مكان النزول في صياغته للتعريف .
التعريف بحسب الزومان : المكي ما نزل قبل الهجرة ، والمدنيما نزل بعدها ، سواء بمكة أم المدينة ، عام الفتح أو عام حجة الوداع ، في سفر أوحضر (1) . وروى هذا التعريف عن يحيى بن سلام البصري المفسر ( ت 200 ه ) حيث قال :" ما نزل بمكة وما نزل بطريق المدينة قبل يبلغ النبي صلى الله عليه وسلمالمدينة ، فهو المكي ، وما نزل على النبي في أسفاره بعد ما قدم المدينة فهو منالمدني
" (2) وهذا التعريف المشهور في كتب علوم القرآن .
التعريف بحسبالمكان : الكي ما نزل بمكة ولو بعد الهجرة ، والمدني ما نزل بالمدينة (3) وقسم هبةالله بن سلامة المفسر البغدادي ( ت 410 ه ) المكي على قسمين ، هما : المكي الأول ،وهو ما نزل في مكة قبل الهجرة والمكي الأخير : وهو ما نزل فيها بعد الفتح (4) .
كيف نعرف أن هذه سورة مكية وتلك سورة مدنية ؟
الإجابة كانت بالرواية كما رويالحديث بالروايات وكما روت القراءات بالرواية ونجد الآن في القرآن الكريم صفة لكلسورة ، هذه مكية وهذه مدنية ، ونجد في السورة الواحدة ما هو مكي وما هو مدني ،وأرى أن المكي ما نزل بمكة والمدني ما نزل بالمدينة ، ويظل بين العلماء جدل في بعضالسور التي نزلت في أمكنة خارج مكة والمدينة كسورة الفتح ، أو الآيات التي نزلت فيبدر ، وقد رأى بعض الباحثين تقسيم الدور المكي إلى أدوار وتقسيم الدور المدني إلىأدوار وليس من هذه البحوث ما يضر ؟ كماكان لهم تعريفات مختلفة فمنهم من رأى إن المكي كل ما نزل قبل الهجرة والمدني مانزل بعد الهجرة ، ومنهم من يقول : ما كان خطابا لأهل مكة فهو المكي ، وما كانخطابا لأهل المدينة فهو المدني .
صورمن آرائهم : قال الماوردي في سورة النساءهي مدنية إلا آية واحدة
(1) الزركشي : البرهان 1 /178 .
(2) الداني : كتاب البيان ص 132
(3) الزركشي : البرهان 1 / 178 .
(4) الناسخ والمنسوخ ص 322 _ 323
نزلت بمكة في عثمانبن طلحة حين أرد النبي صلى الله عليه وسلم أن يأخذ مفاتيح الكعبة ويسلمها إلىالعباس فنزلت " إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها " .
_ قال بعضهم :يا أيها الناس أينما نزلت فهي مكية لأنها تخاطب أهل مكة و " يا أيها الذين آمنوا" مدنية ، وهكذا .
_ وقال آخرون: كل سورة فيها قصص الأنبياء مثل قصة موسى أو إبراهيم أو يوسف أو عيسى _ عليهمالصلاة والسلام _ فهي مكية .
إذن : يوجدآراء اجتهادية ونحن الآن نأخذ بما كان رأي الأكثرية في تصنيف السور كما في كتابالله اليوم .
أهمية معرفة السور المكية والسور المدنية :
لهذا البحثالتاريخي في تحديد وقت نزول سور القرآن فوائد يذكرها العلماء في مجال الدراساتالقرآنية منها (1) :
أ_ تتوقف معرفة الآيات الناسخة والمنسوخة على معرفة ما نزلأولاً ، قال النحاس " وإنما نذكر ما أنزل بمكة لأن فيه أعظم الفائدة في الناسخوالمنسوخ ، لأن الآية إذا كانت مكية ، وكان فيها حكم ، وكان في غيرها حكم غيره نزلبالمدينة ، عُلِمَ أن المدينة نسخت المكية "(3) .
ب_ ساير نزول القرآن تاريخ الدعوة ، وترتيب السور ترتيباًزمنياً يمكننا من تصور تاريخ السيرة تصوراً أكثر جلاء ووضوحاً ، في ضوء الآياتالقرآنية الكريمة ، والقرآن من هذه الناحية يعتبر المرجع الأصيل لدراسة السيرةالنبوية .
ج_ إن تتبع السور المكية والسورالمدنية والنظر في موضوعاتها وأسلوبها يكشف عن المنهج الذي رسمه القرآن للدعوة فيمراحلها المختلفة ، فكانت موضوعات السور المكية تتحدث عن قضية العقيدة خاصة وتعددتصور عرضها ، في أسلوب قوي مؤثر ، لأنه كان يخاطب أُناساً غلب عليهم الشرك وفسادالعقيدة ، فلما استقرت العقيدة الصحيحة في قلوب الجماعة المؤمنة التي تكونت فيالمدينة عندها أنزل الله تعالى الفرائض والحدود في أسلوب متمهل مترسل يناسب مخاطبةالقلوب المؤمنة .
تحديد السور المكية والسور المدنيةوترتيبها :
(1) مناع القطان : مباحث في علوم القرآنص 59 .
(2) الناسخ والمنسوخ ص 214 ، وينظر : الحارثالمحاسبي : فهم القرآن ص 394 .
لم يعد ممكناً ترتيب القرآن على تواريخ تنزلاته ، لطولالمدة التي نزل فيها وتعدد مرات نزول الوحي ، وتنوع الظروف التي ينزل فيها ،وترتيب القرآن في سورة على نحو آخر غير ترتيب النزول ، وقد سأل ابن سيرين عكرمةمولى ابن عباس أَلفوه الأَولَ فالأَولَ ؟ فقال عكرمة لو اجتمعت الإنس والجن على أنيؤلفوه ذلك التأليف ما استطاعوا (1) . لكن علماء القرآن من الصحابة والتابعينتمكنوا من تحديد السور المكية والسور المدنية وأن يرتبوها ترتيباً تقريبياً حسبأوقات نزولها ، معتمدين في ذلك على نزول أول السورة ، كما روي عن ابن عباس أنه قال: " كانت إذا نزلت فاتحة سورة بمكة كتبت بمكة ، ثم يزيد الله فيها ما يشاء(2) " .
وقد نقلالمؤلفون في علوم القرآن عدداً من الروايات في ذكر السور المكية والمدنية ، منقولةعن الصحابة والتابعين ، مثل الرواية المنقولة عن عبدالله بن عباس (3) ، وأبيالشعثاء جابر بن زيد (4) ، والحسن البصري (5) ، وقتادة بن دعامة السدوسي (6) ،ومجاهد بن جبر المكي (7) ، وعلي بن طلحة(8) . وهذه الروايات متقاربة في مضمونها ، ويتفق أكثرها على أن عدد السور المدنيةثمان وعشرون سورة ، والمكية ست وثمانون سورة .
وننقل هنا مقطعاً من الرواية المنقولة عنعبدالله بن عباس وهي : (9) "وكان أول ما أنزل من القرآن : اقرأ باسم ربك ، ثم: ن والقلم ، ثم : يا أيها المزمل ، ثم : يا أيها المدثر ، ثم : تبت يدا أبي لهب ، ثم : إذا الشمس كورت، ثم : سبح باسم ربك الأعلى ... ثم أنزل بالمدينة سورة البقرة ، ثم الأنفال ، ثم :آل عمران ، ثم : الأحزاب ، ثم : الممتحنة ، ثم : النساء ، ثم : إذا زلزلت ، ثم :الحديد ، ثم : القتال ، ثم : الرعد ، ثم الرحمن ، ثم : الإنسان ، ثم : الطلاق ، ثم: لم يكن ، ثم : الحشر ، ثم : إذا جاء نصر الله ، ثم : النور ، ثم : الحج ، ثمالمنافقون ، ثم : المجادلة ، ثم : الحجرات ، ثم : التحريم ، ثم : الجمعة ، ثم :التغابن ، ثم : الصف ، ثم : الصف ،
(1) ابن الضريس : فضائل القرآن ص 76 .
(2) ابن الضريس : فضائل القرآن ص 73 .
(3) المصدر نفسه ، والسيوطي : الاتقان1/26 .
(4) الداني : البيان ص 133 .
(5) البيهقي : دلائل النبوة 7/142 ،والسيوطي :الاتقان 1/25 .
(6) الحارث المحاسبي : فهم القرآن ص 395.
(7) ابن النديم : الفهرست ص 28 .
(8) الداني : كتاب البيان ص 134 .
(9) ابن الضريس : فضائل القرآن ص 75 ،والسيوطي : الاتقان 1/26 .
ثم : الفتح ، ثم المائدة ، ثم : التوبة ، فذلك ثمان وعشرونسورة " .
طرق معرفة كل من المكي والمدني :
قال القاضيأبو بكر الباقلاني ت 403 ه (1) : "إنما يرجع في معرفة المكي والمدني إلى حفظالصحابة والتابعين .
ولم يرد عنالنبي صلى الله عليه وسلم في ذلك قول ، لأنه لم يؤمر به ، ولم يجعل الله علم ذلكمن فرائض الأمة " أ ه .
وقد ورد عن (ابن عباس ) وغيره عد المكي والمدني .
مميزاتكل من المكي ، والمدني :
وبيان ذلك أنالمميزات تتعلق بأسلوب القرآن الكريم ، فالأسلوب المكي يختلف عن الأسلوب المدني .
كما أنالمميزات تتعلق بالمضمون ، فالسور المكية مضمونها مغاير في الغالب لمضمون السورالمدنية .
وإليك تفصيلالكلام على ذلك .
(أ) مميزات السور المكية :
تتميز السور المكية على المدنيةبأمور منها :1_ عناية آي السورة بالدعوة إلىالمقصد الاسمى من الدين ، وهو الإيمان بالله تعالى وتوحيده ، والاعتقاد بأنه تعالىموصوف بكل كمال ، ومنزه عن كل نقص ، والإيمان برسالة النبي صلى الله عليه وسلم ،وبرسلة من سبقه من الرسل والإيمان بملائكة الله تعالى ، وكتبه ، واليوم الآخر ،وما فيه من بعث ونشور وحساب ، وجزاء ، ونعيم ، وعقاب ، مع إثبات ذلك كله بأدلةالكون ، وبراهن العقل . ثم النعي على المشركين ، وإبطال شبههم ، وتفنيدمزاعمهم ، وتسفيه
(1) هو : محمد بن الطيب بن محمد بن جعفر، أبو بكر الباقلاني من كبار العلماء الكلام ، وكان موصوفا بجودة الاستنباط ،وسرعة الجواب ، له عدة مصنفات ت403 ه : انظر : وفيات الأعيان 1_609 وتاريخ بغداد5_379 . أحلامهم بعكوفهم على عبادة أصنام لاتملك لأنفسها _ فضلا عن غيرها _ نفعاً ولا ضراً . 2_ تتحدث آي السور المكية عن المثالب المشركينالبغيضة ، وعاداتهم المنكرة ، من مقتل بغير حق ، وأود البنات ، وأكل مال اليتامىظلماً إلى غير ذلك من الموبقات ، مع تحذيرهم منها ، ووعيدهم على ارتكابها ، وهذابحسب الغالب ، إذ قد توجد آيات في سورة مشتملة على ما ذكرنا .3_ تتضمن آيات السور المكية الحث على التحلي بأصولالفضائل وأمهات المكارم ، من الصدق في الحديث ، والصبر على المكاره ، وحسن علىالمعاملة ، التواضع ولين الجانب ، وطهارة القلوب ، والأمر بالمعروف والنهي عنالمنكر ، إلى غير ذلك من الفضائل . وهذا بحسب الغالب أيضاً ، إذ قد توجد آياتفي سور مدنية مشتملة على بعض ما ذكرنا (1) .(ب) مميزات السور المدنية :1_دعوة أهل الكتابين : اليهود ، والنصارى ، إلى الانضواء تحت لواء الإسلام ، وإقامةالبراهين على فساد عقيدتهم ، وبعدهم عن الحق والصواب ، وتحريفهم كتب الله تعالى .2_ اشتمال السور المدنية على الإذنبالجهاد ، وبيان أحكامه ، لأن الجهاد لم يشرع إلا بالمدينة .3_ تتضمن السور المدنية بيان قواعدالتشريع التفصيلية ، والأحكام العملية في العبادات والمعاملات ، والفرائض ، وأحكامالحدود ، وأنواع القوانين : المدنية _ والجنائية _ والاجتماعية _ وأحكام الأحوالالشخصية ونظام الأسرة ، إلى غير ذلك من دقائق التشريع الإسلامي .4_ اشتمال السور المدنية على أحوالالمنافقين ، ومواقفهم من الدعة المحمدية ، وتوقيف الرسول صلى الله عليه وسلم علىجلبة أمرهم وما يكنون له من حسد ، وعداوة ، وذلك أن المنافقين لم تنشأ جماعتهم إلافي " المدينة المنورة " حيث
(1) انظر : تاريخ المصحف ص 104_ 105. ومعالقرآن الكريم ص 153 . قويت شوكة المسلمين ، وأصبح ضعاف الإيمانيخشون المسلمين من جهة ، ويخشون الكفار من جهة أخرى ، فالحديث عن المنافقين إذاإنما كان بعد الهجرة النبوية (1) .5_ من مميزات الآيات المدنية طولهافي الغالب الأعم .الخاتمة : ينبغي أن يعلم أن الحكم على السورة بأنهامكية يصدق بحالتين : الأولى : أن يكون جميع آياتها مكية، مثل : سورة " المدثر " فإنآياتها كلها مكية باتفاق .الثانية : أن يكون معظم آياتها" مكية " مثل " سورة " النحل " فإنها مكية ما عدا الآياتالثلاث في آخرها من قوله تعالى :" وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ماعوقبتم به " إلى آخر السورة (2) فإنها مدنية . كما أنه ينبغي أن يعلم أن الحكم على السورةبأنها مدنية يصدق بحالتين أيضاً : الأولى : أن يكون جميع آياتها مدنية، مثل : سورة " النور " . الثانية : أن يكون معظم آياتها مدنية ، مثل : سورة " محمد " صلى الله عليه وسلم فإنهاكلها مدنية إلا قوله تعالى : "وكأين من قرية هي أشد قوة منقريتك التي أخرجتك أهلكناهم فلا ناصر لهم " (3) .دنية إلا قوله تعالورة بأنها مدنية فإنها مكية ، لنزولها حين خروج النبي عليهالصلاة والسلام من مكة مهاجراً إلى المدينة المنورة .
(1) انظر : تاريخ المصحف ص 105 ، ومعالقرآن الكريم ص 163_164 .(2) سورة النحل 126_128 .(3) سورة محمد 13 . المراجع:1_ محاضرات في علوم القرآنالدكتور غانم قدوري الحمددار عمار2_ الارتباط بين اللغة والدينتأليف الدكتور كامل جميل لويلالطبعة الأولى1410ه _ 1991م3_ تاريخ القرآن الكريمتأليف الدكتور محمد سالم محيسن الطبعة الثانية1414ه
ناقش علماء القرآن تعريف المكي والمدني ، واتخذبعضهم زمان النزول أساساً للتعريف ، وجعل تاريخ الهجرة حداً فاصلاً . واستند بعضهمإلى مكان النزول في صياغته للتعريف .
التعريف بحسب الزومان : المكي ما نزل قبل الهجرة ، والمدنيما نزل بعدها ، سواء بمكة أم المدينة ، عام الفتح أو عام حجة الوداع ، في سفر أوحضر (1) . وروى هذا التعريف عن يحيى بن سلام البصري المفسر ( ت 200 ه ) حيث قال :" ما نزل بمكة وما نزل بطريق المدينة قبل يبلغ النبي صلى الله عليه وسلمالمدينة ، فهو المكي ، وما نزل على النبي في أسفاره بعد ما قدم المدينة فهو منالمدني
" (2) وهذا التعريف المشهور في كتب علوم القرآن .
التعريف بحسبالمكان : الكي ما نزل بمكة ولو بعد الهجرة ، والمدني ما نزل بالمدينة (3) وقسم هبةالله بن سلامة المفسر البغدادي ( ت 410 ه ) المكي على قسمين ، هما : المكي الأول ،وهو ما نزل في مكة قبل الهجرة والمكي الأخير : وهو ما نزل فيها بعد الفتح (4) .
كيف نعرف أن هذه سورة مكية وتلك سورة مدنية ؟
الإجابة كانت بالرواية كما رويالحديث بالروايات وكما روت القراءات بالرواية ونجد الآن في القرآن الكريم صفة لكلسورة ، هذه مكية وهذه مدنية ، ونجد في السورة الواحدة ما هو مكي وما هو مدني ،وأرى أن المكي ما نزل بمكة والمدني ما نزل بالمدينة ، ويظل بين العلماء جدل في بعضالسور التي نزلت في أمكنة خارج مكة والمدينة كسورة الفتح ، أو الآيات التي نزلت فيبدر ، وقد رأى بعض الباحثين تقسيم الدور المكي إلى أدوار وتقسيم الدور المدني إلىأدوار وليس من هذه البحوث ما يضر ؟ كماكان لهم تعريفات مختلفة فمنهم من رأى إن المكي كل ما نزل قبل الهجرة والمدني مانزل بعد الهجرة ، ومنهم من يقول : ما كان خطابا لأهل مكة فهو المكي ، وما كانخطابا لأهل المدينة فهو المدني .
صورمن آرائهم : قال الماوردي في سورة النساءهي مدنية إلا آية واحدة
(1) الزركشي : البرهان 1 /178 .
(2) الداني : كتاب البيان ص 132
(3) الزركشي : البرهان 1 / 178 .
(4) الناسخ والمنسوخ ص 322 _ 323
نزلت بمكة في عثمانبن طلحة حين أرد النبي صلى الله عليه وسلم أن يأخذ مفاتيح الكعبة ويسلمها إلىالعباس فنزلت " إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها " .
_ قال بعضهم :يا أيها الناس أينما نزلت فهي مكية لأنها تخاطب أهل مكة و " يا أيها الذين آمنوا" مدنية ، وهكذا .
_ وقال آخرون: كل سورة فيها قصص الأنبياء مثل قصة موسى أو إبراهيم أو يوسف أو عيسى _ عليهمالصلاة والسلام _ فهي مكية .
إذن : يوجدآراء اجتهادية ونحن الآن نأخذ بما كان رأي الأكثرية في تصنيف السور كما في كتابالله اليوم .
أهمية معرفة السور المكية والسور المدنية :
لهذا البحثالتاريخي في تحديد وقت نزول سور القرآن فوائد يذكرها العلماء في مجال الدراساتالقرآنية منها (1) :
أ_ تتوقف معرفة الآيات الناسخة والمنسوخة على معرفة ما نزلأولاً ، قال النحاس " وإنما نذكر ما أنزل بمكة لأن فيه أعظم الفائدة في الناسخوالمنسوخ ، لأن الآية إذا كانت مكية ، وكان فيها حكم ، وكان في غيرها حكم غيره نزلبالمدينة ، عُلِمَ أن المدينة نسخت المكية "(3) .
ب_ ساير نزول القرآن تاريخ الدعوة ، وترتيب السور ترتيباًزمنياً يمكننا من تصور تاريخ السيرة تصوراً أكثر جلاء ووضوحاً ، في ضوء الآياتالقرآنية الكريمة ، والقرآن من هذه الناحية يعتبر المرجع الأصيل لدراسة السيرةالنبوية .
ج_ إن تتبع السور المكية والسورالمدنية والنظر في موضوعاتها وأسلوبها يكشف عن المنهج الذي رسمه القرآن للدعوة فيمراحلها المختلفة ، فكانت موضوعات السور المكية تتحدث عن قضية العقيدة خاصة وتعددتصور عرضها ، في أسلوب قوي مؤثر ، لأنه كان يخاطب أُناساً غلب عليهم الشرك وفسادالعقيدة ، فلما استقرت العقيدة الصحيحة في قلوب الجماعة المؤمنة التي تكونت فيالمدينة عندها أنزل الله تعالى الفرائض والحدود في أسلوب متمهل مترسل يناسب مخاطبةالقلوب المؤمنة .
تحديد السور المكية والسور المدنيةوترتيبها :
(1) مناع القطان : مباحث في علوم القرآنص 59 .
(2) الناسخ والمنسوخ ص 214 ، وينظر : الحارثالمحاسبي : فهم القرآن ص 394 .
لم يعد ممكناً ترتيب القرآن على تواريخ تنزلاته ، لطولالمدة التي نزل فيها وتعدد مرات نزول الوحي ، وتنوع الظروف التي ينزل فيها ،وترتيب القرآن في سورة على نحو آخر غير ترتيب النزول ، وقد سأل ابن سيرين عكرمةمولى ابن عباس أَلفوه الأَولَ فالأَولَ ؟ فقال عكرمة لو اجتمعت الإنس والجن على أنيؤلفوه ذلك التأليف ما استطاعوا (1) . لكن علماء القرآن من الصحابة والتابعينتمكنوا من تحديد السور المكية والسور المدنية وأن يرتبوها ترتيباً تقريبياً حسبأوقات نزولها ، معتمدين في ذلك على نزول أول السورة ، كما روي عن ابن عباس أنه قال: " كانت إذا نزلت فاتحة سورة بمكة كتبت بمكة ، ثم يزيد الله فيها ما يشاء(2) " .
وقد نقلالمؤلفون في علوم القرآن عدداً من الروايات في ذكر السور المكية والمدنية ، منقولةعن الصحابة والتابعين ، مثل الرواية المنقولة عن عبدالله بن عباس (3) ، وأبيالشعثاء جابر بن زيد (4) ، والحسن البصري (5) ، وقتادة بن دعامة السدوسي (6) ،ومجاهد بن جبر المكي (7) ، وعلي بن طلحة(8) . وهذه الروايات متقاربة في مضمونها ، ويتفق أكثرها على أن عدد السور المدنيةثمان وعشرون سورة ، والمكية ست وثمانون سورة .
وننقل هنا مقطعاً من الرواية المنقولة عنعبدالله بن عباس وهي : (9) "وكان أول ما أنزل من القرآن : اقرأ باسم ربك ، ثم: ن والقلم ، ثم : يا أيها المزمل ، ثم : يا أيها المدثر ، ثم : تبت يدا أبي لهب ، ثم : إذا الشمس كورت، ثم : سبح باسم ربك الأعلى ... ثم أنزل بالمدينة سورة البقرة ، ثم الأنفال ، ثم :آل عمران ، ثم : الأحزاب ، ثم : الممتحنة ، ثم : النساء ، ثم : إذا زلزلت ، ثم :الحديد ، ثم : القتال ، ثم : الرعد ، ثم الرحمن ، ثم : الإنسان ، ثم : الطلاق ، ثم: لم يكن ، ثم : الحشر ، ثم : إذا جاء نصر الله ، ثم : النور ، ثم : الحج ، ثمالمنافقون ، ثم : المجادلة ، ثم : الحجرات ، ثم : التحريم ، ثم : الجمعة ، ثم :التغابن ، ثم : الصف ، ثم : الصف ،
(1) ابن الضريس : فضائل القرآن ص 76 .
(2) ابن الضريس : فضائل القرآن ص 73 .
(3) المصدر نفسه ، والسيوطي : الاتقان1/26 .
(4) الداني : البيان ص 133 .
(5) البيهقي : دلائل النبوة 7/142 ،والسيوطي :الاتقان 1/25 .
(6) الحارث المحاسبي : فهم القرآن ص 395.
(7) ابن النديم : الفهرست ص 28 .
(8) الداني : كتاب البيان ص 134 .
(9) ابن الضريس : فضائل القرآن ص 75 ،والسيوطي : الاتقان 1/26 .
ثم : الفتح ، ثم المائدة ، ثم : التوبة ، فذلك ثمان وعشرونسورة " .
طرق معرفة كل من المكي والمدني :
قال القاضيأبو بكر الباقلاني ت 403 ه (1) : "إنما يرجع في معرفة المكي والمدني إلى حفظالصحابة والتابعين .
ولم يرد عنالنبي صلى الله عليه وسلم في ذلك قول ، لأنه لم يؤمر به ، ولم يجعل الله علم ذلكمن فرائض الأمة " أ ه .
وقد ورد عن (ابن عباس ) وغيره عد المكي والمدني .
مميزاتكل من المكي ، والمدني :
وبيان ذلك أنالمميزات تتعلق بأسلوب القرآن الكريم ، فالأسلوب المكي يختلف عن الأسلوب المدني .
كما أنالمميزات تتعلق بالمضمون ، فالسور المكية مضمونها مغاير في الغالب لمضمون السورالمدنية .
وإليك تفصيلالكلام على ذلك .
(أ) مميزات السور المكية :
تتميز السور المكية على المدنيةبأمور منها :1_ عناية آي السورة بالدعوة إلىالمقصد الاسمى من الدين ، وهو الإيمان بالله تعالى وتوحيده ، والاعتقاد بأنه تعالىموصوف بكل كمال ، ومنزه عن كل نقص ، والإيمان برسالة النبي صلى الله عليه وسلم ،وبرسلة من سبقه من الرسل والإيمان بملائكة الله تعالى ، وكتبه ، واليوم الآخر ،وما فيه من بعث ونشور وحساب ، وجزاء ، ونعيم ، وعقاب ، مع إثبات ذلك كله بأدلةالكون ، وبراهن العقل . ثم النعي على المشركين ، وإبطال شبههم ، وتفنيدمزاعمهم ، وتسفيه
(1) هو : محمد بن الطيب بن محمد بن جعفر، أبو بكر الباقلاني من كبار العلماء الكلام ، وكان موصوفا بجودة الاستنباط ،وسرعة الجواب ، له عدة مصنفات ت403 ه : انظر : وفيات الأعيان 1_609 وتاريخ بغداد5_379 . أحلامهم بعكوفهم على عبادة أصنام لاتملك لأنفسها _ فضلا عن غيرها _ نفعاً ولا ضراً . 2_ تتحدث آي السور المكية عن المثالب المشركينالبغيضة ، وعاداتهم المنكرة ، من مقتل بغير حق ، وأود البنات ، وأكل مال اليتامىظلماً إلى غير ذلك من الموبقات ، مع تحذيرهم منها ، ووعيدهم على ارتكابها ، وهذابحسب الغالب ، إذ قد توجد آيات في سورة مشتملة على ما ذكرنا .3_ تتضمن آيات السور المكية الحث على التحلي بأصولالفضائل وأمهات المكارم ، من الصدق في الحديث ، والصبر على المكاره ، وحسن علىالمعاملة ، التواضع ولين الجانب ، وطهارة القلوب ، والأمر بالمعروف والنهي عنالمنكر ، إلى غير ذلك من الفضائل . وهذا بحسب الغالب أيضاً ، إذ قد توجد آياتفي سور مدنية مشتملة على بعض ما ذكرنا (1) .(ب) مميزات السور المدنية :1_دعوة أهل الكتابين : اليهود ، والنصارى ، إلى الانضواء تحت لواء الإسلام ، وإقامةالبراهين على فساد عقيدتهم ، وبعدهم عن الحق والصواب ، وتحريفهم كتب الله تعالى .2_ اشتمال السور المدنية على الإذنبالجهاد ، وبيان أحكامه ، لأن الجهاد لم يشرع إلا بالمدينة .3_ تتضمن السور المدنية بيان قواعدالتشريع التفصيلية ، والأحكام العملية في العبادات والمعاملات ، والفرائض ، وأحكامالحدود ، وأنواع القوانين : المدنية _ والجنائية _ والاجتماعية _ وأحكام الأحوالالشخصية ونظام الأسرة ، إلى غير ذلك من دقائق التشريع الإسلامي .4_ اشتمال السور المدنية على أحوالالمنافقين ، ومواقفهم من الدعة المحمدية ، وتوقيف الرسول صلى الله عليه وسلم علىجلبة أمرهم وما يكنون له من حسد ، وعداوة ، وذلك أن المنافقين لم تنشأ جماعتهم إلافي " المدينة المنورة " حيث
(1) انظر : تاريخ المصحف ص 104_ 105. ومعالقرآن الكريم ص 153 . قويت شوكة المسلمين ، وأصبح ضعاف الإيمانيخشون المسلمين من جهة ، ويخشون الكفار من جهة أخرى ، فالحديث عن المنافقين إذاإنما كان بعد الهجرة النبوية (1) .5_ من مميزات الآيات المدنية طولهافي الغالب الأعم .الخاتمة : ينبغي أن يعلم أن الحكم على السورة بأنهامكية يصدق بحالتين : الأولى : أن يكون جميع آياتها مكية، مثل : سورة " المدثر " فإنآياتها كلها مكية باتفاق .الثانية : أن يكون معظم آياتها" مكية " مثل " سورة " النحل " فإنها مكية ما عدا الآياتالثلاث في آخرها من قوله تعالى :" وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ماعوقبتم به " إلى آخر السورة (2) فإنها مدنية . كما أنه ينبغي أن يعلم أن الحكم على السورةبأنها مدنية يصدق بحالتين أيضاً : الأولى : أن يكون جميع آياتها مدنية، مثل : سورة " النور " . الثانية : أن يكون معظم آياتها مدنية ، مثل : سورة " محمد " صلى الله عليه وسلم فإنهاكلها مدنية إلا قوله تعالى : "وكأين من قرية هي أشد قوة منقريتك التي أخرجتك أهلكناهم فلا ناصر لهم " (3) .دنية إلا قوله تعالورة بأنها مدنية فإنها مكية ، لنزولها حين خروج النبي عليهالصلاة والسلام من مكة مهاجراً إلى المدينة المنورة .
(1) انظر : تاريخ المصحف ص 105 ، ومعالقرآن الكريم ص 163_164 .(2) سورة النحل 126_128 .(3) سورة محمد 13 . المراجع:1_ محاضرات في علوم القرآنالدكتور غانم قدوري الحمددار عمار2_ الارتباط بين اللغة والدينتأليف الدكتور كامل جميل لويلالطبعة الأولى1410ه _ 1991م3_ تاريخ القرآن الكريمتأليف الدكتور محمد سالم محيسن الطبعة الثانية1414ه
روح الانْسَان مِثل الزّهورْ ،
كُلمَا ذَكر اللهْ أزهَر وَانشَرح صَدرهْ ،
وَكلمَّا غَفل عَن ذكْرِ الله ذَبل وَأنقَبضَ صَدرَهُ. ...