النظرية الاسلامية لتفسير ظاهرة الانحراف
لا تقتصر النظرية الاسلامية على تحليل اسباب ودوافع الاجرام فحسب ،
بل تقدم علاجاً لمشكلة الانحراف في المجتمع الانساني ،
يختلف اختلافاً جوهرياً عن العلاجات التي قدمتها النظريات الغربية
. فنظرية « الانتقال الانحرافي » تفشل في معالجة الانحراف بسبب ايمانها بان الانحراف ليس الا ظاهرة اجتماعية طبيعية يصعب ضبطها والسيطرة عليها .
ونظرية « القهر الاجتماعي » تفشل هي الاخرى في معالجة اسباب الانحراف لانها تعزيه الى انعدام العدالة الاجتماعي دون ان تقدم علاجاً واضحاً يضمن من خلاله انشاء مجتمع نظيف ، قائم على اساس احترام الانسان ، واستثمار العلاقات الانسانية بشكل ايجابي في منع الانحراف . ولا شك ان تجاهل هذه النظريات لانحرافات الطبقة الغنية في النظام الاجتماعي يجعهلها أكثر بعداً عن تحليل الواقع الاجتماعي العملي . حتى ان علاقة الرحم والقرابة والمعتقد والانغماس الاجتماعي التي نادت بها نظرية « البضبط الاحتماعي » من اجل ردع الانحراف وضبط المنحرفين لم يؤد ثماره المرجوة ، لقصور النظام الجنائي الرأسمالي وعدم احاطته بدقائق النفس الانسانية . واخيراً فشلت نظرية « الالصاق الاجتماعي » في تفسير ظاهرة الانحراف المستور الذي يتحقق دون الصاق تهمة معينة بالمنحرف .
وربما يعزى نجاح النظرية الاسلامية في تحليلها ومعالجتها لظاهرة الانحراف الاجتماعي الى اربعة اسباب رئيسية ،
لم تلتفت اليها النظريات الغربية الأربع ، وهي ، الاول : العدالة الاجتماعية والاقتصادية التي جاء بها
الاسلام وحاول نشرها بين الافراد . الثاني : العقوبة الصارمة ضد المنحرفين كالقصاص والدية والتعزير .
الثالث : المساواة التامة بين جميع الافراد امام القضاء والشريعة في قضايا العقوبة والتأديب والتعويض .
الرابع : المشاركة الجماعية في دفع ثمن الجريمة والانحراف ،
كالزام عاقلة المنحرف دفع دية القتيل عن طريق الخطأ ، ودفع دية القتيل الذي لا يعرف قاتله من بيت المال .
فعلى الصعيد الاول : نادى الاسلام بالعدالة الاجتماعية واعتبرها الاساس في بناء المجتمع السليم من الانحرافات الشخصية ،
القائمة على الاساس الاقتصادي او السياسي ، كالغصب والسرقة والاعتداء على حقوق الآخرين .
ووضع طرقاً عديدة لتضييق التفاوت الحاصل بين الطبقات الاجتماعية ، منها : تقرير ان للفقراء حقاً في اموال الاغنياء ،
ومنها : ان على فائض الثروة النقدية والحيوانية والزراعية والمعدنية ضريبة ثابتة تذهب لمنفعة الفقراء وسد حاجاتهم الاساسية ،
غير ذلك من المنافع والاسباب التي تمنع الطبقية في المجتمع ولكنها تساعد على انشاء درجات متفاوتة ضمن طبقة واحدة تسودها العدالة الاجتماعية .
وعلى الصعيد الثاني شرع الاسلام اقصى العقوبات بحق المنحرفين فاوجب القصاص في جرائم القتل والجراح والشجاج ، حيث انزل عقوبة الموت في قتل العمد ،
واوجب قصاص ما دون النفس وهو انزال ضرر مماثل تماماً للضرر الذي الحقه الجاني بالمجنى عليه ،
واوجب الدية في قتل الخطأ وشبه العمد ، وقدرها بالف دينار ذهب او نحوها مما قدر من الابل والانعام والبقر والحلل .
وبين الشارع موارد ومقادير ديات الاعضاء والمنافع
والشجاج والجراح واسقاط الجنين عند تواجد الشروط .
واوجب الكفارة في قتل المؤمن عمداً ، وفي قتل الخطأ المحض ، وقتل شبه العمد توبة خالصة لله مع توفر الشروط .
واوجب الدفاع عن النفس حتى لو انجر الى قتل المهاجم ، ولكنه في نفس الوقت ، حرم التعدي مع امكان الدفع . وفي الغصب
اوجب رد المغصوب الى مالكه واوجب ضمان اليد بمعنى ان المغصوب اذا تلف ، فعلى الغاصب دفع بدله . واجاز التسلط على مال الغاصب لرد قيمته المغصوبة وسماها بالمقاصة .
واوجب قطع اليد في السرقة اذا بلغ النصاب وهو ربع دينار ذهب ، وكان السارق هاتكاً للحرز ومرتكباً سرقته سراً .
واوجب الحدود في الزنا برجم المحصن والمحصنة ، وقتل الزاني بذات محرم والزاني بأمرأة مكرهاً لها ، والجلد والرجم معاً بالشيخ والشيخة الزانين .
واوجب الحد في اللواط وفيه القتل ، وفي السحق مائة جلدة ، وفي القيادة خمس وسبعون جلدة ، وفي القذف ثمانون جلدة ، وفي شرب المسكر ثمانون جلدة .
وبكلمة ، فقد صنف الاسلام الانحراف الى اربعة اصناف ، وهي اولاً : جرائم الاعتداء على النفس وما دونها وفيها القصاص او الدية مع الشروط .
ثانياً : جرائم ضد الملكية وفيها القطع ، والمقاصة ، ووجوب رد المغصوب . ثالثاً : الجرائم الخلقية ، وفيها الرجم والقتل والجلد .
رابعاً : جرائم ضد النظام الاجتماعي ، كالمحاربة والاحتكار ونحوها وفيها التعزير او الغرامة .
واوجب في الديات غير المقدرة شرعاً الارش او الحكومة .
وهذه الاحكام الشرعية هدفها الردع اكثر من الانتقام ،
حتى ان القصاص الذي يبدو ظاهراً ، قضية انتقامية يؤدي في الواقع دوراً اساسياً في
ردع الانحراف وتأديب المنحرفين ، فانزال الاذى المماثل بالجاني امضى تأثيراً من عقوبة السجن ،
التي يؤمن بها النظام القضائي الرأسمالي . والسارق الذي تؤدبه الشريعة الاسلامية بقطع يده
يعتبر اكثر انتاجاً من السارق الذي يقبع في سجون النظام الرأسمالي سنوات عديدة معطلاً طاقته الانتاجية ومستهلكاً موارد النظام الاجتماعي .
وما ان يخرج الى اجواء الحرية مرة أخرى حتى يرتكب انحرافاً مماثلاً لذلك الذي ادخله السجن اول مرة .
وعلى الصعيد الثالث ، فان الاسلام نادى بالمساواة بين الافراد في العقوبة والتعويض . فالسارق مع توفر الشروط يقطع حتى لو كان يشغل اعلى وظيفة سياسية في الدولة . والزاني مع توفر الشروط يقام عليه الحد كائنا من كان . ولا يستثنى احد لسبب طبقي او وراثي من اقامة الحدود الشرعية .
وهنا يكمن الفرق بين النظامين التشريعي الاسلامي والقضائي الرأسمالي .
ففي حين يفلت مجرمو الطبقة الرأسمالية من قبضة القضاء باستئجار اقوى المحامين المتمرسين بلوي عنق القانون ،
يصون التشريع الاسلامي النظام القاضاي من عبث الاصابع البشرية التي يدفعها الهوى والطموح الشخصي .
وبعد اربعة عشر قرناً من الزمان ، لم يستطع مقنن واحد ، اياً كان مذهبه ، من تغيير حكم الله في قطع السارق او قتل القاتل المتعمد او جلد الزانية والزاني .
ولا شك ان الاسلام لا يقر تشكيل هيئة برلمانية لمحاكمة السراق الاغنياء ، كما يفعل النظام التشريعي الرأسمالي في الولايات المتحدة ،
بل ان الحاكم الشرعي ، هو الذي ينفذ حكم الله بجميع المنحرفين ، اغنياء كانوا ام فقراء .
وفي غير الاحكام المقدرة يعاقب القاضي في النظام الاسلامي بالتعزير او الارش ، حيث ان له صلاحية تقدير
العقوبات التي لم تحدد في النصوص الشرعية . اما الشركات التجارية المدانة من قبل الحاكم الشرعي لاسباب جرمية ،
فان اصحابها ، حسب النظام القضائي الاسلامي ، هم المسؤولون عنها شرعاً وهم الذين يتحملون العقوبة كاملة ،
على نقيض النظام الر أسمالي الدي يحمل الشركة المدانة بصفتها المؤسسية كل المسؤولية القضائية ،
فيفتح الباب لاصحاب الشركات بالافلات من قبضة القانون والعقاب .
ولا شك ان الافراد جميعاً بمختلف الوانهم وهيئاتهم متساوون امام الشارع الاسلامي ، فالاسود والابيض والاصفر سواسية كالمشط في مثولهم امام الحاكم الشرعي وانزال العقاب بهم ، او تبرئتهم . بل ان الشارع يعاقب من يميز على اساس اللون ، او يتعدى حدود القصاص ، ويلزمهم بدفع مقدار التعدي . وعقوبة السرقة مهما كان حجمها بعد بلوغ النصاب وتوفر الشروط ، هي القطع ، على نقيض قانون النظام الرأسمالي الذي يحدد عقوبة سجن اشد في السرقات الكبيرة ، ولكن السجن بمساوئه التي ذكرناها لا يردع المنحرفين . ولا يضمن السارق في القانون الرأسمالي ما تلف بالسرقة بينما عليه الضمان والرد في التشريع الاسلامي .
ولابد ان نذكر هنا ، ان النظرية الاسلامية قد ميزت الانحراف بانواعه وطرقه المتعددة ، واعتبرت فيه الاسباب الموجبة . فاخذت الاضطراب العقلي ، وعدم البلوغ مثلاً بعين الاعتبار في انشاء الحكم على القاتل . وميزت بين قتل العمد ، وقتل الخطأ ، والقتل الشبيه بالخطأ وافردت لكل واحد منها حكماً خاصاً . واعطت الشريعة للاحداث والصبيان فرصة لعلاج انحرافهم بدل انزال العقاب بهم . وهذا نقيض ما يقوم به النظام
القضائي الرأسمالي ، فهو يجرم الاحداث وينزل بهم عقوبة الموت ، ويلصق تهمة الاضطراب بالمنحرفين الاغنياء حتى يفلتوا من قبضة القانون . وفي الوقت نفسه ، يلصق تهمة الاضطراب العقلي بعقلاء الفقراء حتى يبعدهم عن الساحة السياسية ويبقي افراد الطبقة الرأسمالية في مواقعهم المسيطرة على اطراف النظام الاجتماعي .
وعلى الصعيد الرابع ، فان الاسلام شجع المشاركة الجماعية في دفع الانحراف بطرق عديدة منها ، اولاً : ان ولي الامر مسؤول شرعاً عن دفع الدية اذا ارتكب من يتولاه انحرافاً يستوجب دفع تلك الغرامة . ثانياً : ان العلاقة الاسرية التي اكد عليه الاسلام تساهم من خلال التعاون والتآزر على اصلاح الفرد المنحرف في الاسرة . ثالثاً : العاقلة ، وهم العصبة من قرابة الاب كالاخوة والاعمام واولادهم ، التي تتحمل دية القتل الخطأ ، ودية الجناية على الاطراف ونحوها . وقيل في العاقلة ، ان على الغني منهم عشرة قراريط ، اي نصف دينار . والمدار في كل ذلك من الفرد في المجتمع الاسلامي لا يعيش منعزلاً عن الرابطة الاجتماعية ، فالافراد ملزمون بالتعاون فيما بينهم لدرء الانحراف الاجتماعي . لان ذلك الانحراف اذا لم يكلفهم نفساً بشرية او اذى يعتد به فانه يكلفهم اموالاً تفرض عليهم في باب العاقلة . وهم بذلك ملزمون اخلاقياً ، بارشاد واصلاح ذويهم اصلاحاً ينتفع به مجتمعهم الانساني بكافة اطرافه وحدوده المترامية .
« السجن » في النظرية الاسلامية
ولا يحمل السجن عقوبة رادعة في النظرية الاسلامية فيما يتعلق بجرائم القتل ولجراح والشجاج والسرقة والزنا واللواط والسحق والقيادة والقذف وشرب المسكر والمحاربة وغيرها . بل تتعين عقوبة القصاص بالقتل والجروح ، والدية مع تواجد الشروط ، والقطع والتعزير والارش والنفي والجز والكفارة والمقاصة والجلد في غير ذلك . ومع انه لا يشكل الاساس في نظام العقوبات ، الا ان « السجن » في النظام الاسلامي له دور في معالجة بعض انواع الانحرافات الاجتماعية .
ومنها ان المرأة « لا تقتل بالردة ، انما تحبس دائماً على تقدير امتناعها من التوبة ، فلو تابت قبل منها ، وان كان ارتدادها عن فطرة عند الاصحاب » (1) . والسارق للمرة الثالثة يحبس مؤبداً بعد أن تقطع يده اليمنى في المرة الاولى ، ورجله اليسرى في المرة الثانية . وفي حالة اعانة شخص لآخر على قتل ثالث ، يقتل المباشر ويحبس المعين على القتال مؤبداً ، كما ورد في قول الامام جعفر بن محمد (ع) : ( لا يخلد في السجن الا ثلاثة : الذي يمسك على الموت يحفظه حتى يقتل والمرأة المرتدة عن الاسلام ، والسارق بعد قطع اليد والرجل ) (2) . وقوله ايضاً (ع) عندما سئل عن رجل امر رجلاً بقتل آخر فقتله ؟ : ( يقتل به الذي قتله ، ويحبس الآمر بقتله في الحبس حتى يموت ) (1) ،
وقد اخذ هذه الروايات الكثير من الفقهاء .
وعلى صعيد آخر ، وردت روايات اخرى في وجوب حبس الفساق من العلماء ، والجهال من الاطباء ، والمفاليس من الاكرياء وهم المتكاسلون عن العمل . (2) وكذلك ورد سجن الغاصب ، ومن اكل مال اليتيم ظلماً ، ومن اؤتمن على امانة فذهب بها . ولو صحت هذه الروايات ، فان هذا اللون من العقوبات يعتبر حبس تعزير وليس حداً من الحدود .
وكان « النبي (ص) يحبس في تهمة الدم ستة ايام ، فان جاء اولياء المقتول بثبت والا خلى سبيله » (3) . وورد ايضاً ان علياً (ع) كان يحبس في الدين ، فاذا تبين له حاجة وافلاس خلى سبيله حتى يستفيد مالاً » (4) .
ويحبس الكفيل حتى يحضر المكفول ، بمعنى انه اذا تكلف شخص باحضار آخر ، ولم يحضره في الوقت المعين فللمكفول له ان يحبس الكفيل عند الحاكم ، حتى يحضر المكفول ، لان « الامام الصادق (ع) قال : جيء برجل الى امير المؤمنين علي (ع) قد كفل بنفس رجل فحبسه ، وقال له : اطلب صاحبك » (5) .
والظاهرة من مجمل الروايات المذكورة ، ان حد السجن مؤبد في الموارد التي تناولتها الروايات ، ومؤقت في موارد أخرى ، وان التعزير والارش محدد بحكم الحاكم الشرعي . فالمدار اذن في نظام العقوبات
الاسلامي ، ان السجن ليس عقوبة اساسية لردع الافراد عن الانحراف الاجتماعي ، بل انه عقوبة مساندة للعقوبات الاساسية الفورية كالقصاص والحدود والديات والارش على اختلاف انواعها ، وازمان دفعها . على عكس نظام العقوبات الرأسمالي ، الذي جعل السجن ، المصدر الرئيسي والساحة الحقيقية لمعالجة الانحراف . ولابد ان يعترف دعاة النظام القضائي الرأسمالي اليوم ، بفشلهم في جعل السجون ساحة العقوبات الاساسية لمعالجة الانحراف وتقويم المنحرفين ، لان ثلاثة ارباع المنحرفين الذين يطلق سراحهم من السجون الرأسمالية بعد اتمام مدد عقوباتهم ، يرتكبون جرائم جديدة ، مساهمين بذلك في هدر الاموال التي صرفت عليهم لتأديبهم في تلك المؤسسات الردعية .
اما فكرة تعليق العقوبة في نظام العقوبات الرأسمالي ، وهو أن يكون للمنحرف عمل معين يرتزق منه ، شرط ان يتعهد بعدم ارتكابه جريمة أخرى ، فانه يمثل ظلماً للضحية ، وانتصاراً للظالم على المظلوم . لأن هذا النوع من العقوبات لا يتناسب مع حجم الجناية المرتكبة اولاً ، ولا يمثل ردعاً يعتد به ضد الانحراف ثانياً . في حين ان الاسلام بنظامه الجنائي لا يقتلع جذور الانحراف والجريمة والفساد فحسب بل يلزم الجاني او عاقلته بتحمل المسؤولية كاملة اذا لم ينفذ القصاص ، واضعاً المجتمع وجهاً لوجه امام مسؤولياته التاريخية في حفظ النظام الاجتماعي وعلاقات افراده الانسانية .
just_f