جو غريب - جديد عبدالله المهيري

    • جو غريب - جديد عبدالله المهيري

      كنت ولا زلت أحرص على رؤية الشمس عصر كل يوم، وكنت أستغرب من الجو لأنني أتوقع جواً ساخناً رطباً خانقاً يجعلني أضطر إلى الاستحمام خلال عشر دقائق لكنه جو لا بأس به، لن أقول لطيف أو جميل بل لا بأس به، يمكن تحمله، وفي الظل يكون أفضل بقليل.

      ظننت أنني الوحيد الذي أشعر بذلك لكن وافقني على ذلك الأهل وآخرون، الجو فعلاً لا بأس به وفي الليل يكون لطيفاً لدرجة تكفي لكي يستمتع أحدنا بالجلوس خارجاً إلا إن كنت من جيل المكيفات الذين يرون في القليل من الحر شراً يجب الفرار منه بأي وسيلة.

      في هذا الجو هناك شيء ما يذكرني بدبي وذكريات الطفولة في دبي، في كل صيف تقريباً كنا نذهب إلى دبي ونقضي فيها وقتاً طويلاً، أعني شهر أو شهرين وهذا معظم إجازة الصيف، ودبي في ذكرياتي غير دبي التي تعرفونها اليوم، دبي في ذكرياتي كانت مسطحة أكثر فلا بنايات عالية إلا مركز التجارة العالمي الذي كان في ذلك الوقت طويلاً جداً واليوم أصبح قزماً مقارنة ببنايات أخرى حوله.

      جميرا كانت منطقة شعبية خالية من المراكز التجارية والمناطق السياحية، المحلات المتوفرة في ذلك الوقت كان يديرها الهنود والإيرانيون ولا زال بعضها موجوداً حتى اليوم، كانت هناك مساحات كبيرة من الرمل الأبيض تمتد من الشاطئ إلى "السكيك" بين المنازل، أذكر جلسات الناس بين هذه المنازل، في العصر يجتمعون حول أكواب الشاي والقهوة ويتبادلون السوالف حتى اقتراب أذان المغرب ويعود كل منهم إلى منزله، الناس في ذلك الوقت أكثر تواصلاً مما هم عليه الآن وهذا ليس مقتصراً على دبي فقط بل في كل مكان.

      لدينا في المنزل العشرات من الصور من هذه الفترة وأنا أطالب أهلي بأن أحصل عليها لكي أضعها في الشبكة لكن بلا فائدة، هناك دائماً عذر ما يؤجل الموضوع، سأحاول مرة أخرى، لسبب ما أريد تجميع شتات الذكريات، هل هو الحنين للماضي؟ ربما، لا شك الماضي كان أبسط بكثير من الحاضر وفي جوانب كان أفضل بكثير من الحاضر.

      قبل عامين أو ثلاثة كنت في دبي مع أخي وزرنا بيت عمتنا فأخبرته أنني أريد كذلك زيارة بيت عمتي القديم فهو ما زال موجوداً، بيت صغير من طابق واحد تحيط به الرمال البيضاء كما أذكر ولا أنسى نوافذه الخشبية الزرقاء وفي وسطه ساحة رملية صغيرة وبيضاء بل ناصعة البياض ونقية من الشوائب، كم كنت أحب المشي فيها حافياً.

      اكتشفت أن بيت عمتي القديم لا يبعد كثيراً عن بيتها الجديد إلا بمسافة مشي دقائق قليلة وكانت هذه مفاجأة إلا أن المفاجأة الأكبر كانت عندما أخبرته أنني أريد زيارة بيت جدتي القديم كذلك، أذكر تماماً الشارع الذي يجب أن نسير فيه ففي الماضي كنت مع العائلة الكريمة وأبي رحمه الله نسير في هذا الشارع في كل مرة نذهب فيها إلى دبي، نزور عمتي أولاً ثم جدتي، كانت المسافة بينهما كبيرة وهناك إشارة مرورية يجب أن نتوقف عندها ثم نعود في نفس الشارع ونسير مسافة لنصل إلى بيت جدتي.

      لكن مع أخي هذا لم يحدث، كانت المسافة إلى الإشارة قصيرة جداً وكان عقلي يردد "لحظة لحظة لحظة .. في شيء غريب!" كنت أنظر إلى بيت عمتي ثم أنظر إلى الجانب الآخر فأرى محلات تجارية خلفها تماماً بيت جدتي القديم ثم أعود للنظر إلى بيت عمتي، هذا غير معقول! أين المسافة الطويلة التي تفصل بينهما؟ أذكر أنني كنت أمشيها وأحتاج لوقت طويل لفعل ذلك والآن أكتشف أنهما قريبان من بعضهما البعض، الفرق أن ذاكرتي لا زالت تتذكر المسافة عندما كنت طفلاً صغيراً والآن أنا أكبر حجماً وسناً والمسافات أصبحت أقصر بكثير.

      هذا كان درساً لي لن أنساه، الصغار لديهم إدراك مختلف تماماً للعالم من حولهم، المسافات والوقت تبدو لهم أطول مما يراه الكبار، الدقيقة تمضي سريعاً للكبير لكنها كالساعة للصغير، لعل هذا ما يجعلنا نظن أن اليوم أصبح قصيراً والوقت يمضي سريعاً لأننا نتذكر في طفولتنا كيف كان اليوم طويلاً ويمكننا فعل الكثير فيه.

      الجو لم يكن عذراً نستخدمه عندما كنا صغاراً، في الصباح سنلعب ونلهو ونركض وإذا تعبنا سنعود إلى المنزل لنستريح ثم نكرر الأمر مرة أخرى في العصر، أما الظهيرة فهو وقت مشاهدة التلفاز أو النوم والتلفاز في ذلك الوقت كان مملاً وكنت أستمتع بذلك، لا زلت أذكر كيف كنت أقرأ جريدة التلفاز أو ما يسمى تيليتيكست.

      دخلنا الآن في يوليو والجو أصبح فعلاً حار ورطب، لم يمنعني ذلك من ممارسة الرياضة ليلاً في الحر والرطوبة، ولن أنكر أنني أكره ذلك لكن لا بد من إجبار النفس على ما تكره، إن لم أستمر في ممارسة الرياضة سيعود وزني إلى ما كان عليه وسيعود الكسل والخمول، لذلك أمارس الرياضة بغض النظر عن الجو، وجزئياً أفهم معاناة العمال في هذا الجو الخانق، أعانهم الله.



      المصدر : مدونة عبدالله المهيري