قصة : موت عبدالرحمن .!؟

    • قصة : موت عبدالرحمن .!؟

      1

      في قريتنا الصغيرة الواقعة على ساحل طويل مُمتد . كانت أمواج البحر عالية ، لا ميناء للقرية ولا أرصفة تحمي قوارب الصيادين .. يبدو للناظر كأنّما أبواب البحر مُفَتّحة من جهاتها الثلاث ، خلا اليابسة ، لكونها مكاناً يعج بالحياة وعِمارة البشر فوقها .. في كل صباح لا تسمع إلا ضجيج الصَيّادين وصراخهم وجَلبة بعضهم ووقْع أقدامهم وهدير ماكينات قواربهم .. بُيوت حارتنا مُكتظة البُنيان ، يُخيّل إليك أنّ البيوت مُتراكبة على بعضها أو رُكّبت فوق بعضها ، قريتنا مكوّنة من تجمّعات صغيرة قريبة من البحر .. تبدو بتجمّعاتها الصغيرة أنها يائسة ومُحبطة ، أو هائمة على امتداد بحر يمدّ لسانه إلى يابستها ، تُرابها ارضٌ مِحْصاةٌ ، تكثر الحصى الصغيرة على ساحلها كأنها تجمّعات أملاح ، تترسّب في مَسالك الحصى ، ذي النتوءات الحادّة وحين تتكسّر أمواجه فوق حُصيّاتها البارزة ، تصير تكسّراتها كأنّما تمنّ بفضلةِ ابتساماتها على يابسة القرية الحصيبة .. هكذا شاء قَدر قريتنا أن تكون كغيوم الصيف مُتفرقة أو مُلتقية أحياناً ، لا يقطع تواصلها إلاّ وادياً أو سلسلة جبلية مرتفعة تتابع كحبلٍ سري غير مُنفصلةٍ عن بعضها وكذا هو الحال في السّهْل ذي الربْوة المنخفضة.. يُخيّل للناظر من على بُعْدٍ ، أنها تكدّست فوقها وتراكمت وازدحمت نُتوءاتها والتحمتْ بها ، كأنها ارتصّت مَبانيها فوق بعض ، أو على تراصّ ببعضها .. تبدو بيوتها كأنها مُقامة على آخر طُوبة من البيت التالي .. طُرقاتها ضيقة جداً ، تكاد لا تكفي لمرور أكثر من شخص وإذا قُدّر أن يكون سميناً بعض الشيء فعليه أن يسير على أحد جَنْبيه .. كأنّما لُزّتْ ببعضها البعض ، والتصقت وتقاربتْ وتجاورتْ ، إنها عنوان عِمارة تأصّلت وتجذّرتْ ، عُرفت من يومئذ بالبيوت القديمة وقد أُطْلقتْ عليها هذه التسميةِ تفرّداً وتميّزاً بعمارتها وعُرفتْ بها حتى يومنا هذا بـ الحارة القديمة ، هكذا سارتْ أنماط عمارة بلادنا كُلها منذ القدم ، في السّهل والجبل ، لا تجد إلا نفس نمط العمارة القديمة إلى أن يقوم المُجدّدون في العِمارة الحديثة بإنشاء حاراتٍ جديدة بأنماطٍ جديدة على أنماطٍ لا تختلف كثيراً عن عبق ماضي عِمارتهم القديمة .. لتبقى التسميات مُتعارف عليها ، الحارة القديمة والحارة الجديدة ، مُسميات توارثناها ، جيلٍ بعْد جيل .. بنفس نمطيّة وتعاطي موروث فنّ العِمارة منذ سالف الأزمان ، حتى لو شاهدت مِثلها في بُقعة أخرى ، لصرخت بقوة هذه عمارة حارة ( . ) فالبُلدان القريبة التي تتجاور معنا في توظيف الموروث المُستمدّ من تاريخنا المُمتد في عُمق جَذْريّة تاريخية مُوغلة الأُسّ تدويناً ومنقولاً وشواهدَ حضاراتٍ تقلّبتْ عليها أزمان وحِقبٍ غابرة ، يومذاكَ كان لبلادنا موطئ قدم فيها ، من عبقِ تلكم الأزمان والحِقَب التي تعاقبتْ عليها .. ولم تزل إلى يومنا هذا ، تُعرّف بها القيَم والسُلوكيات البشرية القائمة باسمها إلى هذه اللحظة ، قيمٌ تجاورتْ مع أُسّ عِمَارة تجذّرتْ عِرْقيتها في عُمق عبقَ عراقتها ، فَقِيَم العِمارة والسلوك التي تركها رجال حارتنا عُرفتْ بهم إلى يومنا هذا .. فما أن تُذكر عِمَارة قديمة ، حتى تُذكرَ عِمارتنا عندها ومعها ، لأنها نابعة من أسّ عمارتنا فلا عِمارة مكانية تتجاور مع أسّ عِمارةٍ غيرها ذات جذور مَتينة ، شاهدةً برقيّها جُلّ الحضارات القديمة التي قرأناها ولا زُلنا نقرؤها في كُتبٍ قيّمة ، لا يأتيها الباطل من بَين يديها ، وهي ثابتة الوجود ، عليّة التمكينْ ..! وهكذا هيَ جميع الحضارات الناشئة من أُسّ حضارة قويّة وقويمة وعميقة غابرة ، حالها كحال عين الماء إذا أردّت معرفة مَنْبع سليله وسيْل جريانه المُتدفّق من أغوار أعماقه ، عليك أن تُوغِل في أُسّ جذوره المُمتدة من السهْل إلى الجبل حتى أعماق منْبعهِ الصحيح ولستَ ببالغٍ تعمّقه مهما توغلتَ فيه أو أوْغلَ الناس فيه .. حاله كحال التمعّن والإيغال في عُروق الشجرة سواءً تفرّقت أو تفرّعت ، وإنْ قُطِعت أطرافها تبقىَ جُذورها قائمةً وشاهدة عليها ..! وهكذا هيَ مَشاهد بيوت حارتنا القديمة وطُرقاتها وعمارتها المتوازنة لا غلوّ فيها ولا إقحام ، فهي مُذ ذلك الامتداد البعيد بأزمنته الغابرة ، تشتمّ ريح مَاضيها وعبق نسائمه فلا تُنسيها توازنها القيَمي والسلوكي ، فقد تتشابه واجهات البيوت وقد تختلف مُبتغيات ساكنيها وطُرّقاتهم ، لكنّ أنماط عِمارتها واحدة ، تسير في تجاورٍ مع سُلوكيات قائمة لا تُنسى ولا تُغيّب إلى يوم الدين .. ما بقيَتْ فلسفتها القيّمة مُتلازمة مع أُسّها القويم .. فـ " الوجوه تتشابه وإن اختلفتْ " نعم قد تختلف في الطريقة المُستوحاة لكنها لا تخرج عن عبق ماضيها التليد الضارب في أعماق الزمن الغابر ، حتى لو تغيّرتْ نُظم الحياة وتطورت مَسيرتها ، تبقى فلسفة عِمارتها لا تتبدّل كثيراً ، فأينما ولّيت وجهك إلى شطرها كأنما تغوص في عُمقٍ أبديّ خالد .
      سِراج ذلكم الشاب ، طويل القامة ، ابيض اللون ، ذي أظافر طويلة مُتسخة .. يقف وقفة الخائف ، ارتصّ على إحدى قوائم بيتنا الصيفي ، بعض هذه البيوت مَبْنيّة من سعف النخيل ، وعُرفاً يُطلق عليها بـ عريش القيض ..! يتبادر إلى الذهن من الوهلة الأولى أن حارتنا على ثلاثة أجزاء ، كُل جزء له أصحاب يختلفون في بيئتهم وإنْ تقاربتْ نُظم الطبيعة بينهم ، فالذين ينصبون عرشان القيض ليسوا أشدّ فقراً عن بقيّة الذين يُجاورنهم ، ذلك لان إنسان حارتنا دأبوا على التنقّل على قدْر توع تضاريس بيتهم المحلية ، يُراوحونها حين تكون خصبةٍ وفي موسم القيض هيَ فترة تنقلهم وانتقالهم ، فموسم نضج ثمرة النخلة تُغريهم ، وهكذا يفعلون ساكني الجبال يلوذون إلى السهول ، وأهل السهل ينزلون إلى الوديان ، وفقَ قاعدة مفادها ، أمطار القيض أقلّ وطئاً واقوم نُضجاً للثمار ، فالحر الشديد عطاء أزلي يتناغم مع فترة الشتاء ومغيب الثمار ، لكن هؤلاء ، ساكني الجبل والسهل والأودية يهتمون بكل غريب ، يُدقّق الواحد فيهم الرجل ويتفحص قسماته كأنه لم ير غيره من قبل ، إلى درجة أن البعض يكاد يجزم من أي حارة هذا القادم ، وإن لم يُصبْها فإنه مُطمئنُ إليه على الأرجح .! أما أؤلئك القاطنين في الوسط ، قلب الحارة ، فأكثرهم أو غالبيتهم خليط من أُناس مُتفرّقة أو هُم خليط من أجناسٍ شتّى ، غالبيتهم تُجّار وباعة بالجُملة والمفْرق ، بينهم مُتجولون ومُتسولين وذي فاقة ، لا تكافل بينهم كثيراً إلا ما ندر كإحدى طرائف حكاويهم وثرثرتهم حين لا يجدوا مُبتاعين ومتسوقين .. لا يهتمون إلا بأنفسهم ولا يعلم الفردَ عن غيره إلا مُجرد سوالف ورفاهية حكاوي لا أكثر ، وبيوتهم مقرونة برغد العيش وشبْع الحال .. وغيرهم يتجاورن مع الأودية أو مداخل ومخارج الجبال وهُم قلّة في عددهم ولكنهم أهل نخوة وقيَمْ لا تُضاهيها قيَم أخرى تتجاور معها .. وأهل حارتنا يأخذون مسلك القريتين ، البحر والجبل ، ذلك لأنها تقع قُبالة البحر وتتكئَ على وادٍ يمتد إلى سلسلة جبال متواصلة بلا انقطاع كحبل سُريّ .. بيوتهم مَبْنية على صُخور أو طُوب محليّ ، فأهل بيوت الجصّ أو بيوت الحجارة ، هُم اقرب نفساً وأَلْيَن جانب من اؤلئك الذي لا يتجاورن إلى البحر كُلياً أو لا تربطهم يابسته عن قُرب، طيبتهم فطرية، وجميلهم إنساني ، ومَسْلكهم وفق عادات ألفوها كالكرم والنجدة والشهامة والعِزّة والإباء والشموخ .. حارتنا كبيرة ، تشملْ ، الجبل والسّهل والوادي والبحر ، قِيْل عنها أطول رأساً يمتد طولها كلسان أفعى متوجسة عَرضها كبطْن مُشبّع بقوة الجبال يَميل إلى جبروت البحر ويحنو كدفء السّهْل وليونة هذا البطْن كمجرى الوادي حين يتساقط على نتوءات الحَصى ، فيظهر صوته باسماً ، مُشرقاً ، يتهجّد بشلالاته المائية فيصبّ في البحر ، كأنما يرسم لوحة بانورامية ، طبيعية خالدة كخلود سِحْر البحر العظيم .. يبدو للناظر إلى صُورتها الكُلية ، كرسم مائلٍ إلى الانحدار ، وجبالها كأنها تَسْجد في البحر وحَلْق يابستها مفتوحاً على بحرها ، لا تختلف كثيراً عن بقيّة الحارات المُجاورة ، رغم تشابهها في قِيَمها وسُلوكها وبعض انحدارات جبالها ويابستها ، بمعنى يتشابه وجه الحارات وإن اختلفت في رسْمها وخفايا امتدادها ، وقد حَمله الكثيرون على قوة وصلابة وعزيمة رجالٌ كان دأبهم العِزّة والشموخ ، جار البحر عليهم فجاوروه وظنّت اليابسة عليهم فأقاموا عليها مدنٌ بقيتْ شاهدة على عِمارتهم عليها .. وطالت عليهم خُصومات العيش وخَطْبِ صلاح أمكنتهم فكانوا ذو فضل كبيرٍ ، حملوا أُنْفتهم على رؤوسهم وجعلوا من دربتهم بذلاً وعطاءً لكل غال ونفيس .. في هذا الوقت الذي كانت مُعظم الحارات مُتفرقة على نمطٍ قبليّ ساد كثير من المُجتمعات وطال حارتنا بلا شك ، لكنّ رجالنا نجحوا حين أيقنوا أن التمدّن والتحضّر لا يأتي إلا وفقَ تقارب وتآلف الحيوات .. احدهم تشاورَ مع الذي إلى جانبه :
      - أخشى أن يُصيب رجالنا عَنتاً شديداً بسبب هذا الشاب الكسير ، فلربما به حالة من حُزن أو قد اكتسب مأثماً حوّل حالته إلى هذا الانكسار .. وعلينا أن نَفْهم أنّ إرضاء المُتعنّت صَعب جداً ، فإياكم وتُخرجون إليه بطريقة القصْد ، فتزداد حالته إلى سُوءٍ ومشقّة .!
      يسأله احد الصبية :
      - من أنت .؟!
      فغطّى وجهه كالخائف مُرتبكاً، وجلاً ، وبدا كأنه يترقّب .. قال احدهم كان طيباً :
      - اتركوه وشأنه .؟ سكت ثم عقّب ، المجتمع اليومَ يعيش زمنٍ قاسٍ قد اعتلّتْ فيه القيَم وتغيّرتْ فيه المعايير ، وتبدّلتْ المفاهيم الأخلاقية ، واختلّتْ فيه موازين العلاقات ، كُلّ العلاقات حتى النفسية والاجتماعية وتلوّنتْ بألوان لا تعرف فيها الناصحَ أو الذي يحتاج إلى النصح .. وهذا الشاب لا يخلو من واقع مُهين أودى بحالته هذه إلى انكسار ، فصار شائناً ، فدبّ ما شانَهُ فطبعَ على خلّةٍ اعتلّتْ وبلغتْ إلى مُستوى عُروقه ، ففاضتْ شَأْواً في عِرْقه . وابتلى به جسده .. ألا ترون كيف هي أظافره قد اتسختْ ووجهه كئيباً ونفسه وجلة . فإياكم أن تزيدوه بُغضاً فيكم .. أو تشبّوا النّار على ما هجعت إليه نفسه ، فإنّ حاجته الآنَ ، أن تخمدوا ما شَأَنَ به ، فقد لا يحتمل أكثر من ذلك ولا يستطيع كظمَ غيظه ، إنْ أنتُم أوقدتموها في صَدره ، فلربما تكونون مقصداً .!
      قال أخر:
      - صدقت ، إنّ أخلاقيات الزمن الجميل قد ولّت وذهبتْ بغير رجعة ، بل لا رجعة فيها البتّه .. وأقول ذلك لأن الحيوات القادمة في تسارع كبير بالغة الأثر في السُّلوك وفي الأنماط المعيشية ، ولسوف نرى في قادم الأيام تأثراً بالغاً بالمادّة ، عندها تنحسر القيَم ، وتطغى المادة بقوّتها على كل شيء .!
      قال ثالث :
      - نعم إني أرى حالته ، كأنما نخرته الظروف القاسية من كل حَدب وصوب ، ولمْ يبقيَ غير رجل مُشتّت البُغيات وأفكاره في حالة مَكسورةٍ يُرثى لها ، وأراهُ ـ أيضاً ـ أنّ نفسيته أخذت تنهش " ساسَ " هُدوئه ، إني أُشبهها كرمّة البيت لا تدعه حتى يتهشّم .
      كانت هذه الليلة ، ليلة دخلة ابن عمّي ، مساء الأربعاء أو ليلة الخميس هي ليلة زفافه ، فبعض الناس هُنا يسيرون على نهجٍ رتابةٍ هشّة كتصديق النجوم والبحث عن توافق الحظ فيها ويُسمونها بـ " المنزلة " وكذا الحال هو عند البعض من قُرى حارتنا الكبيرة ، يهتم كثيراً بليلة دُخوله بمن اختارها شريكة له وبالتشاور مع أهله إنْ لم يكونون هُم الذين اختاروا له هذه الشريكة ، لأنهم يظنون أنها شريكتهم في مُستواهُم المعيشي وفي وضعهم الاجتماعي ، ولا تزال مُجتمعاتنا تنتهج نفس الطريقة ، إلى يومنا هذا ، إلا قليل منهم . فهذه الليلة هي ليلة الخميس كما هو مُتعارف في حُسبةٍ تقليدية متوارثة لدينا، انه بعد غياب نهار اليوم ويأتي الليل فإن الليل يُعد من اليوم التالي، وحسب الحُسبة التقليدية فإنّ هذه الليلة كانتْ بعد غياب نهار يوم الأربعاء ، لتكون ليلة الخميس هي الليلة التي نحن في لَيْلها. !

      الكاتب :
      حمد الناصري ، عُماني .. للقصة بقية .
      لن تستقيم الحياة إن لمْ يستقم عليها الانسان .!
      لن يُحبّ الله أحداً إلا إذا أحبّ الانسان غيره بصدق ..!!
      الحُبّ الحقيقي تتدفّق عاطفته كما يتدفّق الماء من أعلى قِمّة.!
    • المتذوق كتب:

      كل التوفيق لروعة قلمك أستاذ حمد ،،،،

      شكراً أخي المتذوّق
      ع تواصلك ومتابعتك .
      تحياتي
      لن تستقيم الحياة إن لمْ يستقم عليها الانسان .!
      لن يُحبّ الله أحداً إلا إذا أحبّ الانسان غيره بصدق ..!!
      الحُبّ الحقيقي تتدفّق عاطفته كما يتدفّق الماء من أعلى قِمّة.!