
لا تذكرُ الثورة الفرنسيّة في التاريخ إلا وتذكر ماري انطوانيت التي تناول سيرتَها مؤرخُو العالم .. ولم تحدث ثورة بعدَ الثورة الفرنسية في العالم إلا ذُكِرَتِ الثورة الفرنسية كمثال على تحقق قيم "الإخاء والعدالة" التيْ نجحتْ تلك الثورة في تحقيقها ..
ولم تخلُ الثورات العربيّة من استحضَار رمُوز هذهِ الثورة وأبرزها ماري انطوانيت .. التيْ جسّدت شخصيّة عدوّ الثورة .. والديكتَاتورة التيْ كانت غارقة في ملذّاتها وحفلاتها ومقامرَاتها في الوقت الذي كانَت المجاعة تجتاحُ فرنسا ..
والعبارَة الشهيرة التيْ نسبتْ لماري انطوانيت حينَ وقفت من على شرفات قصرِ فرساي والجماهِير الفرنسية تنادي "نريدُ الخبز ، نريدُ الخبز"* وسألت كبير خدمها قائلة ً: لماذا يريدُ الناسُ خبزاً؟ فأجابها: لأنهم لا يستطيعُون شراءه أيها الملكة! فردّت عليه بقمّة اللامبالاة والجهل: "إذا لم يجدوا خبزاً دعهم يأكلون الكعك"! ..
الكثير من المؤرخين لاحقاً أشاروا إلى أنّ هذهِ العبارة غير حقيقيّة وأنّ القصّة مفبركة وذلك لأنّ الملكة حينَ كانَت الجماهير تزحف إلى قصر فيرساي .. كانت قد حمَلت متاعها هي وعائلتها وهربت إلى قصر تويلري بعيداً عن اضطرابات الجماهير الغاضبة ..
لكنّ الجدل حولَ هذهِ القصّة لم يخفف يوماً من حماس الجماهير الغاضبة في العالم أجمع من استحضار هذهِ العبارة التيْ كانت دائماً تضرب في انفصال المسؤول والحاكم عن واقع الشّعب وجهلهِ التّام بما يدور في شوارعِ العامّة وأحاديثهم ..
الجهل الذي أبدتهُ ماري انطوانيت بواقع رجلِ الشارع الفرنسيّ ، كانَ حاضراً في صورٍ وأشكالٍ مختلفة فالأحاديث لم تخفت بعدُ حول فواتير الشراء الباهظة التيْ أنفقتها زوجَة الرئيس بشّار الأسد في شراء التحف الثمينة من متاجر بريطانيا في الوقتِ التيْ كانتِ الدبابات تجتاحُ شوارع درعا وآلاف العائلات السوريّة تنزح إلى الحدود التركيّة طلباً للمعونة والمساعدة .. والقصص حول اللحظات الأخيرة لهربِ زين العابدين من تونس والكنوز التي حملتهَا زوجتهُ معها أثناء استقلالهما الطائرة إلى السعوديّة لا تزال مستعرة .. "كراتين" من الأوراق النقديّة .. وَ"حمولات" من الذهب والمجوهرات التي لم تتسعْ لها الطائرة .. ومتاع "امبراطُوري" ضخم لم تتوقفِ الروايات عن سردهِ ..
هذهِ نماذج عربيّة بسيطة جداً من ماري انطوانيت الفرنسيّة .. في الخليج حيثُ نشطت التكنولوجيا وساهمَت في اطلاعنا على الجانبِ الآخر من المجتمع الخليجي "المترف" ، الكثير من التسريبات هنا وهناك .. تسريبات عن "حمّالة صدر" قيمتها أكثر من 100ألف ريال عُماني لأميرة خليجيّة .. وعن سيّارة مرسيدس صنعتْ خصيصاً لأمير خليجي وزيّنت من الداخل بالذهبِ الخالص بمليون ريالٍ ونصف ..
وعن إعلان مطعم كافالي في دُبيّ عن ثريّ سعوديٍ اشترى زجاجة شمبانيا قيمتها 52ألف ريال عُماني اجترعها أثناء عشاءٍ تناولهُ مع رفاقه ..
الناسُ تتداولُ هذهِ القصص أحياناً بالسخريَة وأحياناً بالغضب غير أنّ قصصاً كهذهِ توضحُ لنا ما يدورُ في "العالم العلويّ" الذي أغرقت فيه ماري انطوانيت نفسها لتنعزلَ عن معاناةِ الشعب بلْ وتتمادَى في عنادها لعلّ أبرز القصص التيْ تصوّر عجرفتها حينَ أتى إليها الكونت دي ميرباو ليخبرها أنّ الشعب بدأ يتداولُ قصص حفلاتها الفاخرة وإنفاقها المسرف بالسخط فما كانَ منها إلا أن قادتهُ لحمامٍ كان يصنعهُ لها آنذاك أشهرُ نحّاتي ومجوهراتيي باريس لتسأله: ما رأيكَ بهذا الحمّام يا كونت؟! هل يوجدُ مثلهُ في أوروبا؟
ولا غروَ أنّ ماري انطوانيت تحدّثت بتلك الصورة إذ أنّه بعد مرورِ أكثر من قرنين على الثورة الفرنسيّة إلا أنّ مجوهراتها وأطقمها الثمينة لا تزال تعرضُ في متاحف العالم أجمع .. ولا تزال مقتنياتها ملك كثيرٍ من أثرياء العالم ومن أحفاد وصفائها ووصيفاتها اللاتي أغدقت عليهنّ بالحلي والمجوهرات الثمينة..
أنا نفسي .. ورغم كوني من الطبقة المتوسطة البعيدَة تماماً عن بذخ الأسر الثريّة جداً في عمان تذكّرتُ ماري انطوانيت في كثيرٍ من الأحيان لمصادفتِي نماذجَ تشبهها .. لأنّ ماري انطوانيت حينَ أطلقت عبارتها عن الكعك لم تكنْ تعبّر فقط عن تعاليها وجهلها بل كانتْ تعبّر عن ضيق رؤيتها وقصُور حلولها لمشاكلَ عميقة يعانيها الشعب .. عبارتها كانت تعبّرُ عن الجدار الاسمنتيّ الذي أحاطت نفسهَا بهِ فمنعها عن إدراك مشاكل الشعب ..
لقد تذكرتُ ماري انطوانيت وأنا أستمعُ لمقابلة تلفزيونية كانَ يتحدث فيها عضوُ مجلسٍ شورى بطريقة عجيبَة للغاية عن لجوء الناس للتسوّل والشحاتة في عُمان قائلاً للمذيعة: نحن والحمدلله الأوضاع طيبة واجد عندنا .. ومستوى المعيشة تحسّن والرواتب ارتفعت! لقد شعرتُ حينها ب"الغيظ" من حديث سعادة العضو وفكّرت في كيفيّة وضع حلول حقيقية لأزماتنا إن كان هذا حديثُ ممثلينا الذينَ انتخبناهم!!
شعرتُ بـ"الغيظ" وأنا أستمعُ للمسؤول الذي كانَ يحدّثني عن "حمّامهِ" المطليّ بالذّهب .. وبالغيظ وأنا أستمعُ لزميلتي التي تحدّثني عن بيت "المسؤول" الذي طلبَ أن تصمّم له في بيته الجديد "نافورة" تنزل من الطابق الثالث لطابقه الأرضيّ ..
شعرتُ بالحرقة أكثر .. حينَ قابلتُ عضو مجلس شورى سابق في اجتماع عملٍ كانَ يريدُ العضو "المليونير" أن نصمّم له مرسى ليخوتهِ مع شريكه رجلِ الأعمال السعوديّ .. لقائي بالعضو السّابق كانَ قصيراً جداً ولكنّه حمل في طيّاته "فكراً متعجرفاً" وَ"لغة أنانيّة ووقحة" حينَ استطردَ في الحديثِ عن سيّارته التي صنعَتْ خصيصاً له في ألمانيا .. وعن رقمهَا المميّز .. حينَ استطرد في الحديث بشكلٍ سيء عن عُمان وحكومتها وأغدق المديح والثناء على "أولاد زايد وَمشاريعهم ورؤيتهم الاقتصاديّة" .. ذكّرني بماري انطوانيت وهو يوجّه ب"اصبعه" إلى نعالهِ قائلاً: راتب الجندي العمانيّ ما يسوى قيمَة نعالي!
نعم .. كنتُ مضطرّة لسماعه وأنا أفكّر كيفَ أننا ساهمنا كمواطنينَ –باستلام رشوةٍ أو تعصبٍ قبليّ- في صعُود "ماري انطوانيتات عمانيين" إلى واجهتنا الشعبيّة العمانيّة في مجلس الشورى لنتيح الفرصة لأمثال هؤلاء ليقرروا عنا مصير وطننا ..
قصُور النظرة وضيق الأفق والانعزال عن مشاكل الشعب وأهمها المكابرة والعجرفة.. أدّى بماري انطوانيت إلى المقصلة .. واليوم وبعدَ 200 عاماًً لا يزال الفرنسيّون يحتفلون بثورة الباستيل كعيدٍ وطنيّ لفرنسا .. فرنسا بعد الثّورة ..
قصّة ماري انطوانيت ينبغي أن تكونَ حاضرةً دائماً في أذهاننا لأننا نرى نماذج كثيرةً منها حولنا من المسؤولين وصنّاع القرار.. نماذج قد تكونُ أقلّ تعجرفاً من ماري أو أكثر .. وقد تكونُ أكثر ضيقاً في الأفق أو أقلّ لكنّها تعبّر دائماً عن أنّ المسؤول لن يقدّم أيّ حلٍ لمشاكلنا وقضايانا إذا لم ينزل إلى الشارع ويعرفها .. ولن يقدّم لنا حلولا حقيقيّة لأزماتنا إذا لم ينزل من برجهِ العاجيّ ويستمع إلى شعبهِ! ولابدّ أن يخرجَ الشّعب ليحتج ويعترضُ وهو يشاهدهُ يقدم على تصرّفات "مغيظة" وسياساتٍ باذخة ومسرفَة تضربُ بعرضِ الحائط المشاكل الماديّة التيْ تخنقُ الأسرَ العمانيّة .. إنهَا معادلَة أسهل بكثيرٍ من معادلة الخبز والكعك التي اقترحتها الملكة الفرنسيّة .. ولكنّ من الصعب على عقلياتٍ كثيرة لدينا استيعابها وقد حجبَ عنهم الجدار الاسمنتيّ معاناةَ الناسِ وهمومهم!