قصة كفاح تشارلز جوديير، الذي طوع المطاط الطبيعي – ج2 - shabayek

    • قصة كفاح تشارلز جوديير، الذي طوع المطاط الطبيعي – ج2 - shabayek

      لهذه التدوينة جزء سابق يجب أن تقرأه قبلها على هذا الرابط.
      هذه العثرة والكبوة كانت موجعة ومؤلمة، فحتى الأصدقاء الذين نسوا تاريخ تشارلز المالي وكانوا يفكرون في استثمار مالهم مع تشارلز ليتوسع، عادوا أدراجهم وتوقفوا عن مساعدته وعن إمداده بالمكونات الكيميائية التي احتاجها ليعالج هذا العيب في التصنيع. استمرت الحلقات تضيق عليه حتى بدأ تشارلز يبيع أثاث المنزل ليشتري لقمة الخبز التي تقيم أوده وعائلته، وكأن كل هذا لا يكفي، فجأة مات ابنه الوحيد دون سابق إنذار.
      لولا أن تشارلز رجل قوي إيمانه، لكان فقد اهتمامه وأعلن انهزامه أمام لطمات الأيام الموجعة. تقبل تشارلز أقداره بقلب مؤمن، وتقبل كذلك أن على عاتقه تقع مسؤولية علاج مشاكل المطاط لتستفيد منه البشرية. تعبيرا عن التزامه الشديد بهذا الهدف، نقل تشارلز عائلته لتقيم في مكان آخر، وارتحل هو إلى نيويورك، ليقيم مع صديق استقبله في بيته وسمح له باستخدام معمله، بينما سمح له صديق آخر باستخدام المكونات الكيمائية التي تلزمه في تجاربه. كانت الخطوة الأولى على سلم النجاح هي التخلص من لزوجة المطاط، لكن كان هناك أشياء أخرى يجب التخلص منها بدورها.

      هذه الخطوة التي تنم عن الشغف العميق بالهدف، أدت بتشارلز لأن يبتكر طريقة تصنيع ألواح رفيعة من المطاط، لا تتأثر كثيرا أو سريعا بحرارة الجو أو برودته، ويمكن تطويعها في استخدامات عديدة. الغريب أن جهود تشارلز هذه نالت استحسان العالم الخارجي وبدأ الكثيرون يتحدثون عن انجازاته، خاصة المجلات العلمية، حتى أنه حصل على خطاب تقدير من الرئيس الأمريكي. رغم ذلك، لم يكن المنتج بلا عيوب، إذ اكتشف تشارلز بالصدفة أن سقوط مجرد نقطة حمض على منتجه كانت كفيلة بأن تعود به لسابق عهده من الذوبان والالتصاق والرائحة الكريهة. كان هذا الاكتشاف دليلا على أن مرحلة البحث العلمي لم تنتهي بعد، بل يجب الاستمرار فيها. عندها اتفق تشارلز مع مرجل / فرن يبعد 3 أميال عن مسكنه في نيويورك ليختبر مزيجه من المطاط، ولذا كان يعد المزيج الكيميائي ويسير إلى الفرن ليختبر كل مزيج وهكذا المرة تلو المرة.
      كان التعامل اليومي عن قرب مع المركبات الكيميائية والأحماض ذا ثمن باهظ دفعه تشارلز من صحته، حتى أنه ذات مرة كاد أن يموت مختنقا نتيجة انبعاث الغازات من أحد التفاعلات الكيمائية التي بدأها، إلا أن المقابل كان مزيجا كيمائيا ذا طبقة صلبة تقي المطاط من العوامل الخارجية وتساعده على الحفاظ على قوامه وتحمل بعض الحر والبرد. هذا المزيج كان كافيا لبدء عملية تصنيع الملابس والأحذية والمنتجات المعتمدة على المطاط. استمر النجاح لفترة أطول بقليل هذه المرة، الأمر الذي شجع تشارلز على بناء مصنع كبير في نيويورك، ونقل عائلته لتقيم معه، وبدا وكأن الحياة تبتسم.
      ما هي إلا شهور قليلة حتى حلت أزمة اقتصادية بأمريكا، يسمونها هلع عام 1837، والذي يعود إلى انفجار فقاعة عقارية وانهيار أسعار تصدير القطن وتشديد شروط الاقتراض في انجلترا، الأمر ألذي أدى إلى انكماش مالي ساعد عليه شعور الناس بالهلع وبدأ الاقتصاد الأمريكي يدخل في مرحلة انكماش شديد استمرت قرابة 3 سنوات. هذا الهلع نتج عنه توقف الناس عن الشراء فخسرت المحلات والشركات فسرحت العاملين وهوت أسعار كل الأصول وكانت أزمة مالية اقتصادية مماثلة لما شهدناه منذ سنوات. خسر تشارلز كل شيء في هذه الأزمة، حرفيا كل شيء يملكه، المصنع والبيت والمال، حتى عاد معدما فقيرا لا يملك شيئا.
      ما العمل؟ لم ييأس تشارلز، ولم يجد أمامه سوى العودة إلى تلك الشركة التي سبق وعرض عليها نسخة أفضل من منتجها المطاطي فطلبت منه حل مشاكل المطاط، حيث وجد في مالك الشركة نعم الصديق والرفيق، والذي أقرضه المال وأعطاه الاحترام الذي يستحقه مخترع مجاهد مثل تشارلز. في عام 1838، التقى تشارلز بصاحب مصنع كان يستخدم طريقة جديدة لتجفيف المطاط. أخذ تشارلز يفكر في تفاصيل هذه الطريقة، والتي كانت بدائية بعض الشيء، لذا استمر في تطويرها حتى توصل إلى الطريقة الصحيحة لجعل المطاط يقاوم الحرارة والبرودة والأحماض. لقد فعلها أخيرا!
      نعم، كانت هذه الخطوة هي الحل الأمثل، لكن حين أعلن تشارلز للعالم عن اكتشافه هذا، لم يكن هناك أحد مقتنعا بما يكفي لتمويل تصنيع اختراعه هذا، فكلامه هذا سبق وسمعوه من قبل لكن دون جدوى! مرة أخرى، استمر تشارلز في العمل لتصنيع منتجات من المطاط تقاوم الحر والبرد والحمض، بمفرده وبمساعدة عائلته، حتى نال منهم الفقر وشرب عليهم وأكل. لم يتوقف الحظ السيئ عن مطاردة تشارلز، فبعد سنوات من العمل المضني تمكن من العثور على شركة وافقت على تصنيع المطاط وفق المزيج الأخير، لكن ما أن فعلت حتى خسرت الشركة كل شيء وأفلست وتوقفت عن العمل. بعدها، وافق إخوة وأقارب تشارلز على أن يقوموا هم بتصنيع منتجات المطاط وفق مزيج تشارلز في مصنع لهم ينتج الصوف.
      هذه المرة توقفت الأيام عن معاركة تشارلز، إذ كانت المنتجات الأولية من الجودة حتى أنها شجعت تشارلز على تسجيل براءة اختراع لطريقته هذه في معالجة المطاط الطبيعي في عام 1844، وكانت هذه هي نهاية عناد الأيام لتشارلز. حسنا، ليس تماما، إذ فجأة انتشر اسم مخترع بريطاني اسمه هانكوك، توصل لذات الطريقة في معالجة المطاط التي توصل إليها تشارلز، الأمر الذي منعه من تسجيل براءة اختراعه في انجلترا. بسبب بعض التعقيدات التقنية، فاز هانوك بأحقيته في تسجيل براءة اختراع معالجة المطاط في بريطانيا.
      تحسنت الأمور كثيرا وبشكل عام مع تشارلز، فبدأ يستخدم قانون إشهار الإفلاس التجاري مما منع عنه السجن وفاء للديون إلا أنه لم يحتاج إليه، وبدأت الأرباح الوفيرة تعرف طريقه ما جعله يسدد جميع ديونه السابقة، ويجزل العطاء لكل من سبق وسانده ووقف معه، كما أنه بلغ درجة متقدمة من الخبرة العلمية، الأمر الذي مكنه من تحسين مزيجه وتطويعه لمختلف الاستخدامات التجارية والصناعية، ما زاد من عوائده، الأمر الذي سمح له بتأليف كتاب وضع فيه خلاصة خبراته مع المطاط.
      في صيف 1860 توفى تشارلز، وبعد وفاته بأربعة عقود تأسست الشركة التي حملت اسم جوديير، ولا تزال تعمل حتى اليوم. من يتحمل ضربات الأيام، ويستمر واقفا في معاركه معها، هذا الشخص تكون له الضحكة الأخيرة، والغلبة والنصر، مثل تشارلز جوديير. هذه القصة في رأي الخاص هي من أصعب قصص النجاح التي كتبت عنها، فالرجل تلقى الضربة تلو الضربة، ودخل السجن وخرج، وقاسى صنوف الفقر هو وعائلته، وربح أشياء وخسر كل شيء، أكثر من مرة، ودفع الثمن من صحته ومن شبابه، لكنه نال مراده وحقق ما خرج من أجله.
      تعبت كثيرا في تخليص أحداث هذه القصة، وتجاوزت عن تفاصيل أخرى حتى لا أطيل عليك، لذا أرجو أن تنتفع بما في هذه القصة من أفكار وتحفيز، فقد يمر العمر قبل أن تعثر على أخرى مثلها.
      المزيد من التفاصيل عن حياة هذا الرجل هنا.