الاعزاء الباحثين عن الفائدة
نطرح لكم هذا الكتاب الذي نتمنى لمن يطلع على مضمونة الاستفادة
بناء النفسية الإسلامية وتنميتها
الفهرس
أولاً: تحديد المفاهيم
1- مفهوم الشخصية
2- مفهوم العقلية
3- مفهوم النفسية
4- الأفكار
5- المفاهيم
ثانيا: تكوين النفسية وبناؤها
* تكوين النفسية الإسلامية
* ربط الواقع بالمعلومات
* بعض الأمثلة على ذلك
*ربط المعلومات بالواقع
*هل كون الإسلام المفاهيم عن هذين الطريقين؟
- ورود لفظ التذكّر مع ربط الواقع بالمعلومات
- ورود لفظ التذكر مع ربط المعلومات بالواقع
ثالثا: أساليب الإسلام في إيجاد التصوّر الصحيح للمفهوم
1- ضرب الأمثال
2- التصوير الفني
3- القصص
4- البيئة
5- الترغيب والترهيب
6- القدوة الحسنة
7- التنافس في الخيرات
رابعاً: المحافظة على النفسية وتنميتها
1- إيجاد التقوى لدى الفرد
2- البيئة الصالحة
3- التزود بالثقافة الإسلامية
4- التوبة والاستغفار
5- القربات
6- الدعاء
7- الحث على التدبر والتفكرّ
خامساً: أهم الأفكار التي تسهم في صياغة النفسية صياغة خاصة
عقائد أساسية
العقائد الفرعية
مقاييس
مفاهيم
- أثر العقائد الأساسية في تكوين النفسية
* الإيمان بالله تعالى وصفاته
سادساً: انفصال الفكر عن الشعور
متى ينفصل الفكر عن الشعور؟
سابعاً: مثال على ربط الواقع بالمعلومات
- الخـــوف
- مم يخاف الإنسان؟ وكيف هذّب الإسلام هذا المظهر؟
1- الخوف على الأجل
2- الخوف على الرزق:
3- الخوف على المستقبل
4- الخوف من الأذى
5- الخوف من المجهول
6- الخوف من القوي
7- الخوف على من يعولهم
بناء النفسية الإسلامية وتنميتها
أولاً: تحديد المفاهيم
هناك عدد من المفاهيم التي لا بد من تحديدها قبل البدء في موضوع بناء النفسية وتنميتها، وهي:
- الشخصية
- العقلية
- النفسية
- القاعدة الفكرية
- القيادة الفكرية
- الأفكار والمفاهيم
1- مفهوم الشخصية
لفظ الشخصية مصدر صناعيّ، من كلمة (شخص)، وهو كل جسم له ارتفاع وظهور[1]، وغلب استخدامها على الإنسان دون غيره، مع عدم الامتناع عن استخدامها ومشتقاتها في غير الإنسان، فتطلق على شيء فيه بروز ومُثول وتمّيز عن محيطه.
وقد استخدمها الفلاسفة للدلالة على الذات الواعية لكيانها، المستقلة في إرادتها، ولعل في هذا الاستخدام نقلاً للفظ من الاستخدام المادي والوصف المادي للإنسان من جهة علاقته بمحيطه؛ إلى الاستخدام المعنوي والوصف المعنوي، من جهة أن أكبر ما يميّز الإنسان عن محيطه وعما حوله وعن غيره هو واقعه العقليّ والنفسي، فمع أن الإنسان تميّز في خلقته وهيئته وجسمه عن غيره من المخلوقات المحسوسة، فقال تعالى: (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم)[2]؛ إلا أن تميّزه المعنوي؛ أي تميّزه العقلي والنفسي عن غيره من المحسوسات أكبر وأعظم، فانتقل استخدام اللفظ للدلالة على هذا التميّز، وجرى مجرى الاصطلاح، فصار مصطلحاً يدل على الإنسان بجانبيه العقلي من جهة التفكير والوعي، والنفسي من جهة المشاعر والميول والدوافع السلوكية. وعليه فإن الشخصية عند كل إنسان تتكون من مكوّنين اثنين لا ثالث لهما، هما العقلية والنفسية، ولا دخلَ لشكله من طول وعرض، ولا هيئته من حسن أو قبح، ولا هندامه من تناسق أو عدمه؛ لا دخل لكل هذا في الحكم على شخصية الإنسان، بل الحكم منصبٌّ على كيفية تفكيره، ومجموع ميوله. وإطلاق لفظ الشخصية كمصدر صناعي على الشخص من جهة ما يميّزه، بل أكبر ما يميّزه وهو عقله ومشاعره.
2- مفهوم العقلية
لفظ العقلية مصدر صناعيّ، من كلمة (العقل)، وكلمة العقل تعني التفكير والإدراك، ولكن جعل الكلمة مصدراً صناعياً أضاف إليها معنى جديداً إضافة إلى معنى العقل، وهو كيفية العقل، أي كيف يعقل الأشياء، وهذا الكيفية لا يقصد بها آلية التفكير، لأن هذا هو معنى العقل، وليس العقلية، لأن المشاهدَ المحسوسَ عند الإنسان أنه في تفكيره وحكمه على الأشياء ينطلق من قاعدة فكرية، والقاعدة الفكرية فكرة كلية تسمح ببناء أفكار فرعية عليها، ولذلك سميت قاعدة، مع أنها فكرة، لكن نظراً لكليتها وعمومها صلحت لبناء أفكار أصغر منها عليها. فالاستناد في عملية التفكير إلى قاعدة فكرية تكون أساساً للحكم على الأشياء، أي أساساً لعقلها وإصدار الأحكام عليها؛ هو المقصودُ بالعقلية، فالعقلية تعني كيفية عقل الأشياء، أي اتخاذ قاعدة فكرية للحكم على الأشياء.
فالشخصية الإسلامية تتخذ العقيدة الإسلامية أساساً للتفكير، والحكم على الأشياء فإن أصيبت هذه الشخصية بحادث نظرت إليه على أنه قضاء وقدر، فتقوم بما يترتب على هذه النظرة من صبر واحتساب، وتعلم أنه خير لها. أما الشخصية الرأسمالية فتنظر إلى الحادث على أنه مصيبة؛ وكأنها نهاية الدنيا بالنسبة لها، نظراً لما أصابه من ضرر نتيجة ذلك الحادث، ولكن إن خرجت سالمة من الحادث؛ وأصابها بعض النفع من ورائه أصبحت تنظر إليه على أنه خير، فجعل مقياسه للحكم على الشيء الواحد هو نظرته النفعية البحتة، بخلاف الشخصية الإسلامية التي جعلت العقيدة الإسلامية أساساً للحكم على الحادث، وتحديد الموقف تجاهه.
3- مفهوم النفسية
لفظ النفسية مصدر صناعي، مشتق من لفظ (النفس)، ومع أن لفظ النفس له معانٍ مختلفةٌ في لغة العرب، إلا أن المعنى المقصود هنا هو المتعلق بميول الشخص وصفاته المشاعرية، فيقولون: فلان ذو نفس طيبة؛ إذا كان يحب الخير للآخرين، ويقولون: ذو نفس راقية؛ إذا كان متواضعاً، فيلاحظ في الاستخدام الجوانب المشاعرية من الرضا بالحق، أو الشعور بالكبر، أو التميّز بالحرص والطمع، أو غيره من الأمور التي تكون المشاعر والدوافع محركة لها.
وصياغة المصدر الصناعي من هذا اللفظ اقتضت زيادة في المعنى على المعنى السابق للنفس، جرياً على القاعدة اللغوية (كل زيادة في المبنى تقتضي زيادة في المعنى)، وهو كيفية الارتباط بين المشاعر والقاعدة الفكرية عند الشخص، والأساس الفكري الذي يحوّل تلك المشاعر إلى ميول منضبطة بحسب ذلك الأساس.
والإنسان لديه طاقة حيوية تدفعه للإشباع، وهي الحاجات العضوية والغرائز، وسلوك الإنسان؛ أي أعماله التي يقوم بها هي لإشباع تلك الحاجات العضوية والغرائز، وهذه الدوافع للإشباع إن ارتبطت بقاعدته الفكرية، والمفاهيم المنبثقة عنه صارت ميولاً، وصارت تشكل نفسية الإنسان.
وهو في سلوكه يندفع لإشباع حاجة فطرية، أو مظهر من مظاهر الغرائز عنده، وسلوكه للإشباع يرتبط بمفهوم معين عن هذا الإشباع، ويصبح هذا الاندفاع للقيام بالسلوك منضبطاً بالمفهوم المتعلق به، وإضافة إلى ذلك فإن الاندفاع يكون مصحوباً بشعور معين تجاه السلوك الذي يشبع، فيصبح المفهوم مؤثراً في الإنسان من جانبين:
- الجانب العقلي: أي يحددُ له حكم هذا الإشباع، أيشبعُ بهذه الطريقة أم بغيرها، ويحدّد له موقفه من ذلك الحدث، ونظرته إلى ذلك الشيء، فإن حصل هذا صار له عقلية تتميّز بحسب المفاهيم التي يحملها والقاعدة الفكرة التي انبثقت عنها تلك المفاهيم.
- الجانب النفسي: أي يحددُ له نوعَ الشعور المصاحب للإشباع، من رضا أو غضب، من حب أو بغض، من شوق إليه أو نفور منه، إلى غير ذلك من المشاعر. فإن حصل هذا تكونُ قد تمّت صياغة المشاعر المصاحبة للدوافع والسلوكات الناتجة عنها، فتحولت إلى ميول، وصار له نفسية تتميّز بحسب المفاهيم التي ساهمت في صياغة المشاعر وتحويلها إلى ميول.
فإن اتحدّت المفاهيم التي تسهمُ في صياغة المشاعر وتحويلها إلى ميول، مع المفاهيم التي تحدّد نوع السلوك صار للإنسان شخصيةٌ متميّزةٌ، تحددها القاعدة الفكرية التي انبثقت عنها تلك المفاهيم المتحكمة في الجانبين العقليّ والنفسي، فتصطبغ شخصيته بذلك اللون، فإن كانت المفاهيم إسلامية، وانبثقت عن العقيدة الإسلامية صارت الشخصية إسلامية، وإن كانت المفاهيم رأسمالية، وانبثقت عن العقيدة الرأسمالية صارت الشخصية رأسمالية. وإن لم يحدث ذلك عن شخص معين، كانت شخصيته فوضوية، أو متناقضة.
وإن تمّ ذلك صارت العقيدة بالنسبة له قيادة فكرية، أي تعطي صاحبها مقاييس تقود أحكامَه على الأشياء، ودوافعَه تجاهها، وميولَه نحوها باتجاه معين خاص اقتضته تلك العقيدة، فكانت قيادة، وبما أن أفكاراً محددة تحكمت في ذلك، وانبثقت تلك الأفكار عن قاعدة فكرية هي العقيدة، صارت فكرية، ومن هنا جاء التركيب (القيادة الفكرية).
- الأفكار: جمع فكرة، والفكرة حكمٌ على واقع، وسميت فكرة لأنها نتاج لعملية التفكير، بعد نقل الواقع عن طريق الحس إلى الدماغ، وربطه بالمعلومات السابقة عن ذلك الواقع، فنتاج عملية الربط هو حكم على ذلك الواقع، وهو الفكرة، فقولنا: لا إله إلا الله، فكرة، لأنها حكم على الواقع المحسوس من جهة مخلوقيته، وقولنا: العسل حلو، حكم على واقع العسل، بعد نقله إلى الدماغ عن طريق حاسة الذوق، وربطه بالمعلومات السابقة عن الطعوم، وكانت نتيجة التفكير فكرة أن العسل حلو.
- المفاهيم: المفاهيم هي معاني الأفكار، والمفهوم هو معنى الفكرة، لا معنى ألفاظها وجملها، أي أن يكون للفكرة واقعٌ يدركه الإنسان ويصدقه، وإدراكه لواقع الفكرة إما إدراكاً لها بالحس، وإما إدراكاً لها بالتصور, فإن حصل إدراك واقع الفكرة، وحصل التصديق بواقعها؛ تحوّلت الفكرة إلى مفهوم في ذهن من حصل له ذلك.
ويمكن التعبير عما سبق بما يلي:
يدركه الحس
الفكرة تعبير عن واقع أو يصدقه مفهوم
يتصوره الذهن
ففي مثل قولنا: العسل حلو، هذا القول هو فكرة، وبما أن الحس يدرك حلاوة العسل في الواقع، ويصدق هذا الإدراك، أي يصدّقُ مطابقة هذا القول لواقعه الذي أطلق عليه، فإن هذا القول وهذه الفكرة تتحول إلى مفهوم في ذهن من أدرك ذلك وصدّقه.
ثانيا: تكوين النفسية وبناؤها:
بما أن النفسية هي امتزاج الدوافع والمشاعر بالمفاهيم، وضبطها عند الإنسان بالمفاهيم المتعلقة بها لتحولها إلى ميول تنضبط في ظهورها وإثارتها وطلبها للإشباع بحسب تلك المفاهيم فإنه لا بد لتكون النفسية من إيجاد المفاهيم الصحيحة عن الحياة وعن الأشياء فيها.
وإيجاد المفاهيم الصحيحة عن الحياة وعن الأشياء فيها لا يكون إلا بوجود فكرة كلية عن الكون والإنسان والحياة، عن علاقتها جميعها بما قبلها، وعن علاقتها جميعها بما بعدها، فلا بد من العقيدة الصحيحة لتنبثق عنها المفاهيم الصحيحة التي تتحكم في السلوك، وتتحكم في المشاعر.
والعقيدة الإسلامية هي العقيدة الوحيدة الصحيحة، التي تعطي المفاهيم الصحيحة عن الحياة، إذ هي وحدها التي تقرّ ما في الإنسان من عجز ونقص واحتياج طبيعي، وهي وحدها التي تقنع العقل، وهذان هما مقياسا صحة العقيدة، أي عقيدة.
وسنتناول في الصفحات التالية دور العقيدة الإسلامية في تكوين النفسية وبنائها، ودورها في تنميتها، كونها العقيدة الوحيدة الصحيحة.
تكوين النفسية الإسلامية:
جاءت العقيدة الإسلامية لتعطي الإنسان المفاهيم الصحيحة عنه الحياة، وتوجد له النظام الصحيح الذي ينظم حياته وسلوكه فيها، ومواقفه من كل ما يقع عليه حسّه من أشياء وأحداث، وأعطته جملة من المقاييس يتخذها أساساً للحكم على الأشياء والأفعال والمواقف، والمفاهيم التي تمتزج بمشاعره فتحولها إلى ميول.
وبمعنى آخر؛ تكفلت العقيدة الإسلامية بصياغة عقلية الإنسان ونفسيته لتصنع منه شخصية متميّزة، تسير في أفكارها وسلوكها وميولها سيراً ارتقائياً، تضمن له وجود تلك الشخصية الإسلامية المتميزة، وتضمن له المحافظة عليها، وتضمن له ارتقاءها ونموّها من حسن أحسن، ومن عليٍّ إلى أعلى.
وسيعرض هذا البحث إلى المفاهيم الإسلامية التي توجد النفسية الإسلامية، والمفاهيم التي تضمن له المحافظة عليها، والمفاهيم التي تضمن له الارتقاء به، لكنه سيبدأ بكيفيات إيجاد المفهوم، أي تحويل الأفكار المقصودة إلى مفاهيم تؤثر في حكمه على الأشياء، وتؤثر في دوافعه نحوها، وتؤثر في مشاعره المصاحبة للدوافع.
وقد ورد في البحث أن الفكرة التي تؤثر في العقلية وفي النفسية لا بد أن تتحول إلى مفهوم، وورد أن تحويل الفكرة إلى مفهوم لا يكون إلا بإدراك واقع الفكرة إدراكاً حسياً أو إدراكاً تصورياً، مع التصديق بهذا الإدراك لواقع الفكرة. والإدراك الحسيّ متعلق بالوقائع المحسوسة، أما الإدراك التصوري فمتعلق بالوقائع الغيبية غير المدركة بالحس.
وتكوين النفسية وبناؤها لا يمكن أن يتم جملة واحدة، أو مرة واحدة، بل لا بد أن يتم بالتدريج، وذلك بعد أن يقبل الإنسان بالأساس العقدي الذي سيكوّن على أساسه عقليته، ونفسيته، فيبدأ بتحويل الأفكار والمعلومات التي جاءت بها العقيدة إلى مفاهيم، تفعل فعلَها في أحكامه، وفي ميوله، ويكون ذلك بإحدى طريقتين:
1- ربط الواقع بالمعلومات أو الأفكار
2- ربط المعلومات والأفكار بالواقع
وسيعرض البحث إلى كل واحدة من الطريقتين بالشرح المفصل مع التمثيل.
ربط الواقع بالمعلومات:
يعيش الإنسان في هذا الكون بما فيه من:
- أشياء - أحداث - علاقات
وعليه أن يحدد نظرته تجاه ما يقع عليه حسّه من تلك الأشياء والأحداث والعلاقات، وعليه أن يتخذ موقفاً مما يقع ولا دخل له بوقوعه، وعليه أن يقوم بأعمال لإشباع حاجاته العضوية وغرائزه تتعلق بما حوله، ولا بد للموقف من ميل مصاحب له، فضلاً عن أنه سيثور لديه دافع معين تجاه ما يقع.
كما أنه سيقوم بأعمال وتصرفات تتناسب مع ما يقع عليه حس÷ نتيجة إثارة دوافع معينة تدفعه للقيام بتلك الأعمال.
والطبيعي عند الإنسان أن الإحساس بالواقع يولّدُ عنده فكراً عنه، نتيجة ربط الواقع الذي أحسّه بما لديه من معلومات.
ولكن هذا لا يكفي، بلا لا بد أن يكون هذا الربط متفقاً مع القاعدة الفكرية لديه، حتى يتحقق لديه الانسجام النفسي العقلي، وإلا صارت ميوله مخالفة لمفاهيمه فينشأ القلق لديه.
وعندما يجعل الإنسان العقيدة أساساً للتفكير، أي أساساً لربط الواقع بالمعلومات، فإن تكوّنَ المفهوم سيصير لديه منبثقاً عن الأساس الفكري، وسينتج عن ذلك صياغة الدافع وامتزاجه بالمفهوم، فيتكوّن الميل المناسب لذلك الموقف أو لذلك السلوك.
وإن سار الإنسان في حياته على هذا الأسلوب، أي ربط كل ما يقع عليه حسّه من أشياء وأحداث وعلاقات بالمعلومات التي لديه على أساس العقيدة الإسلامية، أي على أساس المقياس التي أعطته العقيدة لهذا النوع من الأفكار أو الأحكام؛ سار الإنسان في طريق تكوين النفسية بالتدريج، خطوة خطوة، كما يتم إنشاء البناء العظيم لبنة لبنة.
بعض الأمثلة على ذلك:
1- يشاهد الرجلُ المرأةَ، وتشاهد المرأةُ الرجلَ، فينتج عن ذلك إثارة لغريزة النوع لدى كل منهما، فإن انتقل من الإحساس إلى العمل، دون المرور بمرحلة التفكير انحطّ إلى مرتبة الحيوان، أما إن تفكّر، فإنه سيربط هذا الواقع بما لديه عنه من معلومات، ويبني هذا الربط على أساس القاعدة الفكرية التي يحملها، وتحديداً مع المفهوم المتعلق بهذا الواقع، وعليه يحدّد موقفه بناء على المفهوم، أيقوم بالإشباع أم لا يقوم، فمن كانت قاعدته في الربط والقياس العقيدةَ الإسلاميةَ فإنه يصل إلى حكم تحريم النظر إن كان المرئيّ أجنبياً عن الرائي، فيمتنع عن النظر، وبالقيام المتكرر بهذه الآلية في كل مرة يعرض له هذا الواقع فيها تصبح إثارة الدافع مرتبطة بالحكم الشرعي، المنبثق عن القاعدة الفكرية لديه، وتتكون لديه الميول المساعدة على ذلك، والمصاحبة لتلك العملية، من مثل: خشية الله تعالى، وخوف عذابه، والنفور من المعصية، والشوق إلى الجنة.. فيصبر عن المعصية طمعاً في رضوان الله.
2- يرى المال، ويرى الأشياء التي تحتاج إلى المال الذي لا يملكه، فإن كانت قاعدته الفكرية غير العقيدة الإسلامية فإنه في الغالب سيصاب بالحسرة لعدم تمكّنه من تحصيله، بل ربما دفعه الدافع الغريزي إلى القيام بسلوك خاطئ ليحصل المال، ويحقق الرضا. ولكن إن كانت قاعدته في القياس هي العقيدةَ الإسلاميةَ فإنه يربط هذا الواقع بتقسيم الله تعالى للرزق، فيطمئن إلى حكمة الله تعالى في ابتلائه إياه بذلك الابتلاء، ويصبر طمعاً في رضوان الله، وطمعاً بما عند الله تعالى، وما أعده لعباده في الجنة.
3- إن لم يرزقه الله بالبنين؛ فكلما رأى واقعاً متعلقاً بالبنين فإن موقفه سيكون بحسب قاعدته الفكرية، فيصاب بالحسرة إن كان أساسه غيرَ العقيدة الإسلامية، ويرضى ويصبر ويحتسب لما كتبه الله عليه، لإيمانه بأن الله وحده هو الذي يهب البنات ويهب البنين، ويجعل سبحانه وتعالى من يشاء عقيماً.
4- يحتاج إلى المال، فإن كان مقياسه المصلحة اقترض بالربا، وتشكّل الدافع لديه بالرضا عن ذلك، وإن كان مقياسه الحكم الشرعي (الحلال والحرام) تشكّل الدافع لديه بالنفور والكراهية لذلك، فامتنع عن ذلك وبحث عن طريقة شرعية ليوفّر المال.
وهكذا، في كل مرة يعرض فيها الواقع للشخص، ويتخذ الموقف نفسه، ويربط الربط نفسه، يتعزز لديه ارتباط الدافع بالمفهوم، ويتشكل الميل بحسبه، على مستوى الموقف الجزئي الواحد، ويتعدّى إلى المواقف التي تعترضه كافة، فيسير في بناء نفسيته سيراً ارتقائياً.
وفي ربط الواقع بالمعلومات على أساس فكري عقدّي، نذكر هنا دور البيئة المحيطة في تشكيل المفاهيم لدى الشخص، فالبيئة الصالحة والمجتمع الصالح يساعد أفراده على تكوين المفاهيم الصحيحة، ويسهمُ في صياغة الدوافع لدى الأفراد بما يتناسب مع المفاهيم السائدة، وينشئ لديهم الميول الصحيحة المناسبة للأشياء والأحداث والعلاقات.
والبيئة الفاسدة والمجتمع الفاسد يساعد الأفراد على تشكيل المفاهيم الخاطئة، ويصوغ دوافعهم صياغة خاطئة تتناسب مع ما هو سائد في المجتمع، فيقع التناقض بين الأساس الفكري للأفراد وبين المفاهيم والدوافع والميول الناشئة عن تأثير البيئة المحيطة، ولذلك فإنك تجد أكثر الناس قد أصيبوا بالأمراض النفسية المؤدية إلى إحساسهم الدائم بالقلق، وعدم التوافق والانسجام مع النفس، وعدم الرضا عن النفس.
ربط المعلومات بالواقع:
لا يخلو الإنسان من مراحلِ تعلّمٍ يمرّ بها، وكثير من الناس يستخدم طريقة الحفظ والتلقين لما يأخذه من معلومات، فهو وإن كانت هذه الطريقة تصلح مع الإنسان حتى سنّ معينة، وفي أشياء محددة، إلا أنها لا تصلح له بعد تلك السن، ولا في كل الأشياء التي يتعلمها. فإن استمر على الطريقة نفسها بعد بلوغه ورشده فلن يصير راشداً، لأن العبرة بالرشد هي التمييز. ولذلك فإن بعضاً من الأساليب التربوية الحديثة تميل إلى أساليب تبتعد بالمتعلم عن الحفظ والتلقين، كأسلوب التعلم بالممارسة، والتعلم باللعب، والتعلم الذاتي، والتعلم بالاشتراك، وغيرها من الأساليب التي لا تعدو كونَها ربطاً للمعلومات بالواقع، لتكسب هذا الطفلَ أو هذا المتعلمَ هذا الأسلوب من التعلم بشكل مبكر، ولكن السؤال الواجب طرحه هنا: أين الاستناد إلى القاعدة الفكرية في ربط المعلومة بالواقع؟
إن المقصود بربط المعلومات بالواقع هو حين التعلّم، والتعلّم ليس مقصوراً على جلسات العلم، وحلقات الدرس، بل ربما يسمع الشخص معلومة من قناة فضائية، أو يسمعها من شخص، أو يقرأها في قصاصة، وطريقة الإسلام في الدرس تقتضي أخذ المعلومات والأفكار للعمل بها، وهذا يعني أمرين:
1- ربط المعلومات والأفكار بالواقع
2- استناد هذا الربط إلى القاعدة الفكرية
وهذا يعني تكوين المفاهيم، وفيما يتعلق بالنفسية، فهذا يعني امتزاج الدافع بالمفهوم الجديد، وتكوين الميل الصحيح الذي يقتضيه ذلك المفهوم، وهذا أيضاً يتم بالتدريج، وليس مرة واحدة، لأن دراسة الفكرة وربطَها بواقعها مع استنادها إلى القاعدة الفكرية لا بد له من وقت كافٍ حتى يتم تصوّرُ واقعِ الفكرة، وتمثُّـلُـه تصوّراً مستنداً إلى المقياس المنبثق عن القاعدة الفكرية.
إذن لا بد لتكوين النفسية أن تكون طريقة الدرس وطريقة التعلّم لدى المسلم معتمدة على الفهم، ولا نعني الفهم لمعاني الألفاظ والجمل، بل فهم معنى الفكرة، وتصور واقعها، وتصديقه، أي إدراك صحتها عن طريق إدراك مطابقتها لواقعها المحسوس، وبالتالي تصديق تلك الفكرة. هذا إن كانت الفكرة متعلقة بواقع محسوس، أما إن تعلقت الفكرة بواقع غير محسوس، فإن تصديقها المستند إلى صحة أساسها الذي انبثقت عنه يوجد لها تصوراً معيناً، فيجب أن يتطابق هذا التصورُ مع ما تدلُّ عليه الفكرةُ نفسُها وتصديقُ ذلك.
فعندما يدرس المسلم فكرة: النهضة هي الارتفاع الفكري، يربطها بواقعها، فإن أحس مطابقة الفكرة لواقعها الذي تدل عليه، وصدّق تلك المطابقةَ صارت عنده مفهوماً، يؤثر في دوافعه وميوله المتعلقة بتلك الفكرة، من مثل التشوّق إلى النهضة الصحيحة، وعندما يحسّ بوجود شيء في الواقع مطابق لما صار عنده مفهوماً يزداد طمأنينة في قلبه إلى ما يحمل من مفهوم صحيح.
وعندما يدرس الحكم الشرعي المتعلق بالسرقة، يحسّ مطابقته لواقعه، يصير عنده مفهوماً، فيعيد صياغة الدوافع والميول المتعلقة بذلك الواقع لديه لتتناسب مع المفهوم الجديد، وتصبح استجابته النفسية تجاه هذا الواقع مناسبة للعقيدة التي يحمل، والمقياس الذي انبثق عنها وأعطاه ذلك الحكم، فيشمئز من هذا الفعل وينفر منه، ويتذكر عذاب الله تعالى لمن يقوم به، فتصيبه الرعدةُ من خشية الله تعالى والخوف من عذابه.
وعندما يدرس الحكم الشرعي في تحكيم شرع الله تعالى، وأنه لا يكتمل الإيمان إلا به، ويعرف عقوبة العاصي لله تعالى، وعندما يتصوّر عذاب جهنم وما أعدّه الله تعالى للعصاةِ فيها ارتعد قلبه، واقشعرّ جلده، عندما يتذكر كل هذا ويستحضر صورته في ذهنه، يهرع للعمل لتحكيم شرع الله، طالباً رضوان الله تعالى، هارباً من غضبه وعقوبته، فيكون الدافع لديه قوياً للعمل لتحكيم شرع الله تعالى، وتكون مصاحبة لذلك العمل، فيصبح لا يجد ذاته إلا في جلسات الحوار والنقاش والدعوة إلى الله تعالى، وإلى تحكيم شرعه، ويسرع إلى ذلك مقبلاً غير مدبر، مستبشراً بما أعدّه الله تعالى لعباده العاملين من درجات عليا ورضوان من الله أكبر.
هل كون الإسلام المفاهيم عن هذين الطريقين؟
- ربط الواقع بالمعلومات
- ربط المعلومات بالواقع
والجواب عن ذلك: نعم، ورد ذلك في استخدام القرآن الكريم لفظ (التذكّر) ومشتقاته، فقد ورد هذا اللفظ في القرآن ثنتين وخمسين مرة، وورد بالمعاني التالية، كما تدلّ على ذلك اللغة، وأشار إليه المفسرون:
1- العقل
2- التفكر
3- التوبة
4- الاهتداء
5- الإيمان
6- التمييز العقلي
7- الاستجابة
8- الشكر
9- العبرة
وهذه المعاني كلها يجمعها معنى واحد مشترك بينها هو الاستحضار، أي استحضار الصورة الذهنية للأمر المقصود في تلك الآيات، والاستحضار يقتضي تعلّق المفهوم المستحضَر بدافعه والميل المصاحب له.
ولفظ (التذكّر) استخدمه القرآن الكريم بطريقتين مختلفتين:
الأولى: عندما يذكر أمراً كونياً، أو أمراً واقعياً محسوساً يتلوه بإحدى مشتقات التذكر، وهذا يعني ربط الأمر المحسوس بالمعلومات السابقة، مع الاستناد إلى العقيدة.
الثانية: عندما يتحدث عن القرآن الكريم، أو عن فكرة، أو عن حكم شرعي يتلوه بالتذكّر، وهذا يعني ربط المعلومة أو الفكرة بواقعها، مستنداً إلى العقيدة.
ولنوضح ذلك ببعض الأمثلة كل واحدة من تلكما الطريقتين:
أولاً: ورود لفظ التذكّر مع ربط الواقع بالمعلومات
1- قال تعالى: (أولمْ نعمّرْكم فيه ما يتذكّر من تذّكر وجاءكم النذير)، فيقيم سبحانه وتعالى الحجة على الكفار بإعطائهم العمر الكافي للتذكر، العمر بما فيه من أشياء وأحداث وعلاقات، إذ تقتضي ربطها بالمعلومات السابقة لدى الإنسان، وتحديد النظرة إليها، ومع هذا فقد أرسل إليهم النذير الذي يعطيهم القواعد الفكرية الصحيحة لبناء المفاهيم عن الأشياء.
2- قال تعالى: (وهو الذي جعل الليل والنهار خِلْفةً لمن أراد أن يذّكّرَ أو أراد شكوراً) الفرقان/ 62. ففي هذه الآية يخبرنا تعالى عن جعله الليل والنهار يتعاقبان بما فيهما من أحداث وأشياء وعلاقات، وأن في ذلك تذكّراً لمن أراد، فيقوم المسلم بربط ما يشاهده وما يراه بما لديه من معلومات، مع بناء ذلك على العقيدة، ليكوّن مفهوماً جديداً لكل ما رأى وما شاهد، وما مرّ به في الليل أو النهار.
3- قال تعالى: (وهو الذي أرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته، وأنزلنا من السماء ماءً طهوراً، لنحييَ به بلدةً ميتاً ونُسقيَه مما خلقنا أنعاماً وأناسيَّ كثيراً، ولقد صرفنه بينهم ليذكّروا، فأبى أكثر الناس إلا كفوراً)، الفرقان/ 48-52. فتصريف نزول المطر والسقيا، ومشاهدة الناس ذلك، تقتضي التذكّر، أي التفكّر وربط الواقع بالمعلومات المتعلقة به مستنداً إلى القاعدة الفكرية.
4- قال تعالى: (يا بني آدمَ قد أنزلنا عليكم لباساً يواري سوءاتكم وريشاً ولباسُ التقوى ذلك خير، ذلك من آيات الله لعلهم يذّكّرون) الأعراف/ 26. فالتدبر في اللباس والتفكر فيه وربطه بالمعلومات السابقة مبنية على القاعدة الفكرية يشكل مفهوماً جديداً يحمله الإنسان، فيؤثر في سلوكه، وفي دوافعه، وفي ميوله، نتيجة التذكر المطلوب من الآية الحسية.
إلى غير ذلك من النصوص التي استخدمت لفظ التذكر مصحوباً بآية من آيات الله في كونه.
ثانياً: ورود لفظ التذكر مع ربط المعلومات بالواقع:
1- قال تعالى: (كتابٌ أنزلناه إليك مباركٌ ليدبّروا آياته وليتذكّر أولو الألباب) ص/29، ففي هذه الآية الكريمة الحكمة من إنزال القرآن تدبّر آياته تدبّراً مؤدّياً إلى التذكّر، الذي هو الاستحضار، مما يعني ربط ما فيه بواقعه الذي يتحدث عنه، أي أن يدرس القرآن آيةً آيةً، مع ربط كل آية بواقعها، مع الاستناد إلى الأسس الصحيحة المنبثقة عن القاعدة الفكرية.
2- قال تعالى: (سورة أنزلناها وفرضناها وأنزلنا فيها آيات بيناتٍ لعلكم تذكّرون) النور/1. وما أنزل في سورة النور مجموعة من الأحكام الشرعية المتعلقة بالنظام الاجتماعي، مع بعض الأفكار الأخرى، والثمرة المقصودة منها هي التذكّر، أي استحضار الحكم الشرعي مع واقعه الذي نزل لمعالجته، وصياغة الدوافع المتعلقة بالأعمال التي نزل الحكم الشرعي لمعالجتها، وصياغة الميل نحوه، والثمرة هي النفور من الزنا ومن القذف، ومن النظر المحرم،...
3- قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها، ذلكم خير لكم لعلكم تذكّرون) النور/27، فقد ورد لفظ التذكّر هنا بعد حكم شرعي، يستلزم الاستحضار المستلزم لامتزاج الحكم بالدافع وصياغة الميل المصاحب له من حيث الرضا والتسليم.
أساليب الإسلام في إيجاد التصوّر الصحيح للمفهوم:
استخدم الإسلام أساليب كثيرة ومتعددة ليوجد التصوّر الصحيح للمفهوم الذي يريد إعطاءه وتزويد المسلم به، فمن هذه الأساليب:
1- ضرب الأمثال: فقد أكثر القرآن الكريم والسنة المطهرة من ضرب الأمثال، ليصوّر الواقع المتحدث عنه تصويراً أقرب ما يكون إلى الحسّ، لإيجاد المفهوم، ومزجه بدافعه، وصياغة الميل المصاحب له، فقال تعالى: (ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثلٍ لعلهم يتذكّرون) الزمر/27، وقال تعالى: (ويضرب اللهُ الأمثالَ للناس لعلهم يتذكّرون) إبراهيم/ 25.
ومن الأمثلة على ضرب الأمثال في القرآن الكريم، قوله تعالى: (وضرب الله مثلاً كلمةً طيبةً كشجرةٍ طيبةٍ أصلها ثابت وفرعها في السماء..) إبراهيم/ ، فصوّر سبحانه وتعالى الكلمة الطيبة بالشجرة الطيبة ذات الأصل الثابت في الأرض، الممتدة أغصانها في السماء، ليقترن مفهوم الكلمة الطيبة في ذهن المسلم بصورة محببة إلى النفس، تدفع صاحبها إلى تحريها والالتزام بها.
ومن الأمثلة على ضرب الأمثال في السنة، قوله صلى الله عليه وسلم: (مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها، وأصاب بعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا أرادوا الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً فلم نؤذ من فوقنا، فإن تركوهم هلكوا، وهلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا، ونجوا جميعاً). ففي هذا الحديث تمثيل للمجتمع القائم على حدود الله، والمجتمع الواقع في حدود الله، ليربط المفهوم بصورة تقترن به في الذهن، تقوّي المفهوم المطلوب وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والحكم بما أنزل الله.
2- التصوير الفني: كقوله تعالى: (ولا يغتبْ بعضُكم بعضاً، أيحبّ أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهمتوه)، وفي هذا التصوير ما لا يخفى من التنفير من المعصية المقصودة هنا، والقرآن بمثل هذه التصويرات يحبّب الحكم الشرعي إلى المسلم، أو ينفّره من معصية الله تعالى.
3- القصص: قال تعالى: (وكذلك نقصّ عليك من أنباء القرى ما نثبتُ به فؤادك)، وقال تعالى: (لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب)، فاستخدم القرآن الكريم أسلوب سرد قصص الماضين بما فيها من عبر، تسهم في تثبيت قلب الرسول صلى الله عليه وسلم، وحملة الدعوة من بعده.
4- البيئة: عمد الإسلام في أحكامه وتشريعاته ومعالجاته إلى إيجاد بيئة سليمة تؤثر في الفرد وفي الجماعة نحو الصياغة المثلى للنفسية، بحيث لو قصّرت تقوى الفرد عن الارتقاء به، أو عن ثنيه عما يخالف الإسلام فإن في الرأي العام رادعاً له، فيبدو السيء في المجتمع كالشامة السوداء في جلد الثور الأبيض، وهذا يثير في نفس الشخص إحساساً بالنقص والانتقاد من قبل الآخرين، فتصبح البيئة المحيطة بالفرد مساعدة له على صياغة نفسيته الصياغة المثلى والارتقائية، وتجنبه الوقوع في مزالق النفس، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المؤمن مرآة أخيه)، فيرى المسلم بعيني أخيه ما فيه من عيوب ومخالفات فيسعى إلى تصحيحها وتجاوزها.
5- الترغيب والترهيب: استخدم القرآن الكريم أسلوبي الترغيب والترهيب في أكثر أحكامه، مما يثير في نفس المسلم الشوق إلى ما تحبه نفسه، والخوف مما لا تحبه، فقد رغب سبحانه وتعالى بالجنة وما فيها من نعيم مقيم، ورهّب من النار وما فيها من عذاب أليم، مما يجعل الدافع للتقوى، ولالتزام أوامر الله تعالى والبعد عن نواهيه ذاتياً، فيمتنع عن الكسب الحرام منتظراً ما أعده الله له في الجنة، ويمتنع عن النظر الحرام والإشباع الجنسي المحرم متشوقاً إلى الحور العين في الجنة، ويتقرّب إلى الله تعالى هرباً من الوقوع في المعاصي، وهرباً من دخول النار، والأمثلة كثيرة في القرآن الكريم والسنة المطهرة على الترغيب والترهيب، أذكر هنا مثالاً واحداً.
قال تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ {42} مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء {43} وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُواْ رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُم مِّن قَبْلُ مَا لَكُم مِّن زَوَالٍ {44} وَسَكَنتُمْ فِي مَسَـاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ {45} وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ {46} فَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ {47} يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ للّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ {48} وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ {49} سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ {50} لِيَجْزِي اللّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ {51} هَـذَا بَلاَغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُواْ بِهِ وَلِيَعْلَمُواْ أَنَّمَا هُوَ إِلَـهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ {52})، (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ {31} هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ {32} مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ {33} ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ {34} لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ {35}
6- القدوة الحسنة: أوجب الإسلام على المسلم أن يتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم قدوة له في كل أعماله وأقواله، فيتحرى فعل الرسول صلى الله عليه وسلم وقوله، ويلتزم به، لأن طاعة الرسول فيما أوجب تنجي المسلم من عذاب الله، وتقربه من الله تعالى، واتباعه في المندوبات قربة إلى الله تعالى، قال تعالى: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً)، وجعل اتباعه سبباً في محبة الله تعالى للعبد، قال تعالى: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم) آل عمران/ 31.
7- التنافس في الخيرات: حض الإسلامُ المسلمين على التسابق في الخيرات، والتنافس في التقرب إلى الله تعالى، وفي هذا التنافس صقل للنفسية، وارتقاء بها، قال تعالى: (لمثل هذا فليعمل العاملون)، وقال تعالى: (وفي ذلك فليتنافس المتنافسون) المطففين/ 26. وقال تعالى: (سابقوا إلى مغفرة من ربكم، وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله) الحديد/ 21، وقال تعالى: (فاستبقوا الخيرات) البقرة/ 148، والمائدة 48، وقال تعالى: (ومنهم سابق بالخيرات) فاطر/ 32، وقال تعالى: (أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون) المؤمنون/ 61، وقال تعالى: (والسابقون السابقون، أولئك المقربون) الواقعة/ 10.
المحافظة على النفسية وتنميتها:
إن تكوّنَ النفسية الإسلامية الصحيحة عند المسلم لا يعني دوامها واستمرارها بمجرد وجودها، ولأن الإنسان معرضٌ للنسيان والخطأ والتقلب والتغيّر، كما قال صلى الله عليه وسلم: (قلوب العباد على إصبعين من أصابع الرحمن يقلّبها كيف شاء)؛ ولذلك فقد سعت العقيدة الإسلامية إلى إعطاء حاملها أدوات حصانة يستطيع من خلالها المحافظة على المستوى النفسي له، وتنميته، ومنها:
1- إيجاد التقوى لدى الفرد، التي تضمن له السير المتواصل مع انضباط الدوافع والميول، قال تعالى: (إن الذين اتقوا إذا مسّهم طائف من الشيطان تذكّروا، فإذا هم مبصرون) الأعراف/ 201، فالتقوى هنا علةٌ للتذكّر لأنها وصف مفهم للعلية، فالمتقون إن زاغت نفوسهم زيغة، أو خطر لهم خاطر شيطاني سيئ استحضروا المفهوم مع الميل الذي يقتضيه، ويعودون للبصيرة، التي هي هنا السير الفكري على الهدى المستقيم.
وقد وصف الله تعالى القرآنَ الكريمَ بأنه تذكرة للمتقين في قوله تعالى: (وإنه لتذكرة للمتقين)، فالتقوى علّة للتذكر، والتذكر هنا قد يكون من نسيان، أو يكون لاستحضار المفهوم، واستحضار تأثيره في الدوافع والميول.
{لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ {177}
2- البيئة الصالحة: فرض الإسلام على المجتمع الإسلامي صياغة معينة، تبرز فيها وحدة الفكر ووحدة الشعور ووحدة النظام، فقال تعالى: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك في ما شجر بينهم، ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت، ويسلموا تسليما)، فجعل تحكيم المسلمين للرسول صلى الله عليه وسلم مكملاً للإيمان، ولا يكتمل الإيمان إلا به. وقال تعالى: (إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون)، فضمن بهذا الحكم مسير الرأي العام، والعرف العام بحسب أحكام الله، ودون السماح بالمساس بأعراض المسلمين، وجعلها خطاً أحمر لا يجوز تجاوزه. وقال تعالى: (لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم)، وفي هذا سدٌّ لباب الإرجاف، ونشر الإشاعات المثبطة بين المسلمين، بما يضمن وحدة الشعور في الأمة، وضمان سلامة البيئة التي يحياها المسلمون.
وأمر الإسلام المسلم أن يتخير خليله وصديقه، وفرض أن تكون التقوى أساس الصداقة، فقال تعالى: (الأخلاء بعضهم لبعض عدو إلا المتقين)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل).
3- التزود بالثقافة الإسلامية: ولأن النفسية تتكون من ربط المعلومات بالواقع، فيسهم هذا الربط في صياغة النفسية صياغة خاصة، فقد حث الإسلام على طلب العلم، وعلى التعلم، ورفع درجة العلماء، ودرجة طالب العلم، فقال تعالى: (يرفعِ الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات)، وفرّق سبحانه وتعالى بين من يعلم، ومن لا يعلم، فقال سبحانه: (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون؟).
4- التوبة والاستغفار: أقرّ الإسلام الضعف البشري، فقرر ما في الإنسان من نسيان، وخطأ، فتجاوز سبحانه وتعالى عن الإنسان ما وقع منه على سبيل الخطأ، أو على سبيل النسيان، فضلاً عن إقراره لإمكانية المعصية من الإنسان، ففتح لها باب التوبة والاستغفار، فقال صلى الله عليه وسلم: (كل ابن آدم خطّاء وخير الخطائين التوابون)، وقال صلى الله عليه وسلم: (لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، وأتى بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر الله لهم).
5- القربات: جعل الإسلام القربات وسيلة ميسورة للمحافظة على الصلة بين العبد وربه، فقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي يرويه عن ربه: (ما تقرّب إليّ عبدي بشيء أحبَّ إليّ مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرّب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإن أحببته صرت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه).
6- الدعاء: كما جعل الإسلام الدعاء صلة من الصلات القوية بين المسلم وخالقه، مما يجعل الارتباط القلبي بالله تعالى دائمياً، فتبقى المقاييس يقظة عند الإنسان، فلا يكاد يغفل أو ينسى، قال تعالى: (وقال ربكم ادعوني أستجب لكم، إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين)، وقال تعالى: (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعِ إذا دعانِ، فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون).
7- الحث على التدبر والتفكرّ:
أهم الأفكار التي تسهم في صياغة النفسية صياغة خاصة:
كما أن الفكرة الكلية تحل العقدة الكبرى عند الإنسان، فقد جاء الإسلام بمجموعة من المفاهيم، تحل العقد الفرعية عنده، وبالنظر في هذه المفاهيم نجد أنها:
1- عقائد أساسية:
- الإيمان بالله تعالى وصفاته
- الإيمان بأن القرآن كلام الله
- الإيمان بأن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله.
-الإيمان باليوم الآخر
2- العقائد الفرعية:
- الإيمان بالقدر
- الإيمان بالقضاء والقدر
- الإيمان بأن انتهاء الأجل هو السبب الوحيد للموت.
- الإيمان بأن الرزق من عند الله.
- عقيدة التوكل.
- عقيدة الهدى والضلال.
- عقيدة النصر.
3- مقاييس:
- مقياس الخير والشر.
- مقياس النفع والضر.
- مقياس الأفكار.
- مقياس السلوك( الحلال والحرام) .
4- مفاهيم:
- مفهوم السعادة.
- النظرة إلى المال.
- النظرة إلى الولد.
- النظرة إلى الزوج.
- النظرة إلى الآخرين.
أولاً: أثر العقائد الأساسية في تكوين النفسية
1- الإيمان بالله تعالى وصفاته
يحسّ الإنسان بفطرته أنه محدود وناقص ومحتاج ويترتب على هذا الإحساس عجزه الطبيعي لعدم تمكنّه من تجاوز محدوديته، وعدم تمكّنه من إكمال نقصه، وعدم استطاعته بتغطية احتياجه تغطية ذاتية، فيتولد لديه الإحساس بالعجز، وهذا الإحساس طبيعي، أي اقتضته الطبيعة البشرية، وهو مفروض على الإنسان لا يملك له دفعاً، ولا يستطيع له ردّاً أو مقاومة، وإنما هو يحاول سدّ هذا الإحساس بمحاولته أن يؤمّن لنفسه كل ما يضمن له عدم الاحتياج، من مالٍ وطعام ولباس ومساكن، فيظهر لديه دوافع غريزية ناتجة من غريزة البقاء مثل الطمع، لتحصيل أكبر قدر ممكن مما يظنّ أنه يضمن له عدم الاحتياج، وينشأ لديه الحرص لضمان بقاء ما لديه، وتتولّد لديه الأثرة فيقدّم نفسه على غيره فيؤثرها بكل شيء، وهكذا تتولد لدى الإنسان دوافع متعددة تدفعه لتغطية نقصه واحتياجه وعجزه التي تقتضيها غريزة التدين عن طريق دوافع البقاء، فيبقى في قلق دائم وشقاء مستمر، لسعيه الحثيث وراء إشباع التدّين (العجز والنقص والاحتياج والمحدودية) عن طريق دوافع غريزة البقاء.
والحقّ في هذا أن تشبع مظاهر غريزة التدين بالإيمان بالله تعالى، والإيمان بصفاته، أي إشباع غريزة التدين ومظاهرها المختلفة بالمفاهيم الصحيحة لإشباع التدين، وليس عن طريق إشباع غريزة البقاء ودوافعها.
قال تعالى في سورة طه: (فإمّا يأتينّكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضلّ ولا يشقى، ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً..)، فدلت الآية الكريمة على أن من يتّبع هدى الله فإنه لا يضلُّ ولا يشقى، واتباع هدى الله تعالى فرع على الإيمان به، فضمان السير على طريق مستقيم، وخطى واضحة بينة ينتج من اتباع هدى الله، واتباع هدى الله تعالى يحول دون الشقاء.
فالإيمان بالله تعالى يسدّ العجز الطبيعي عند الإنسان، وينتج عنه التقديس الذي يشبع أحاسيس الإنسان بالعجز والنقص والاحتياج والمحدودية، وأنه تعالى وحده بصفاته المطلقة هو الذي يُحتاج إليه لقدرته على كل شيء، وتتم الطمأنينة إلى قيّوميّته تعالى على هذا الكون، وإشرافه المباشر سبحانه وتعالى عليه، وعلى تسيير أموره على أحسن نظام، والاطمئنان والثقة التامة بتدبير شؤون هذا الكون: (ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره)، (يدبر الأمر)، (ومن يدبر الأمر، فسيقولون الله)، (ألا له الخلق والأمر).
فمع إدراك الإنسان أن كل ما يقع في هذا الكون هو بأمر الله تعالى وقدرته وإرادته وتدبيره، يبحث –أي الإنسان- عن تعلّق هذا الأمر به بالنظر في قوله صلى الله عليه وسلم: (عجباً لأمر المؤمن، كل أمره خير له، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، ولا يكون هذا إلا للمؤمن)، فتتحول نظرته إلى ما يقع في هذا الكون أنه الخير له، فيرضى ويطمئن، ويستبعد النظرة العبثية، ويربط كل ما يحدث بمشيئة الله تعالى وحسن تدبيره، فيحمد الله على ما يسرّه مع رضاه به، ويصبر ويحمد الله تعالى على ما لم يسرّه، فيرضى به ويصبر عليه، ويحتسب عواقبه وأجره عند الله تعالى، فيقول: (اللهم آجرني في مصيبتي واخلفني خيراً منها)، فتبقى الطمأنينة مرافقة له في كل أحواله، ولا يكون هذا إلا للمؤمن، كما قال صلى الله عليه وسلم، والعلة في هذا هي الإيمان، كما يدل عليه مفهوم النص.
قال تعالى: (ومن يؤمنْ بالله يهدِ قلبَهُ)، فهذه الآية تضمن لمن يؤمن بالله تعالى هداية قلبه، وقد استخدم القرآن الكريم لفظ (القلب) في مواضع كثيرة تعبيراً عن المشاعر والأحاسيس، كما استخدمه للتأثير النفسي الناتج عن الأفكار والمفاهيم، فقال عن الكفار: (لهم قلوب لا يفقهون بها)، علماً بأن الفقه الذي هو الفهم محله العقل، ولكن نظراً لما يحدث في القلب من طمأنينة قلبية ورضى نفسي مصاحبين للفهم، واستقرار نفسي مرافق للفكرة المبحوثة أو التي تفكّر بها الإنسان. ولما كان الفهمُ سبباً لطمأنينة القلب ورضاه، فاستخدم القرآن الكريم التعبير المجازي، حيث أطلق المسبَّبَ وهو القلب وطمأنينته على السبب الذي هو الفهم والتفكر والعقل.
فهداية القلب هنا –التي هي المشاعر والأحاسيس- يقصد بها صياغة تلك المشاعر والأحاسيس بحسب ما أراد الله سبحانه وتعالى، وذلك لأن الإيمان يقتضي الاتباع والطاعة، والقبولَ والتسليم بما جاء عن الله تعالى، فإن ما جاء به الشرع يضمن صياغة تلك المشاعر والأحاسيس صياغة خاصة تتناسب مع أفكار الشريعة ومفاهيمها، كما تقوم أوامر الله ونواهيه بتفصيلاتها بتركيز تلك الصياغة، فتتحول المشاعر والأحاسيس إلى ميول، وتحوُّلُها إلى ميول يقتضي انضباط إثارتها بالمفاهيم المتعلقة بها، فيرتقي الإنسان بغرائزه وحاجاته العضوية إلى أعلى مرتبة، ويتبعد عن خطر الانحطاط إلى درك الحيوان، فإن رأى أمراً يسبّب الخوف، فإن هذه الرؤيا لن تكون سبباً لخوفه إلا إذا توافقت مع مفاهيمه عن هذا الشيء، فإن كان فيه معصية، فإنه يستحق الخوف، لأن فيه غضبَ الله تعالى وسخطَه، وعذابه، وإن كان خوفاً على رزق لم يؤثر فيه، لاعتقاده بأن رزقه مقسوم من الله تعالى، وهو مطمئن إلى ذلك، فلا ينبض له عرق بخوف أو وجل، وهكذا.
انفصال الفكر عن الشعور
الفكر هو الذي يحدد نوع الشعور، هذا صحيح.
والمقصود هنا بالفكر الفكر الأساسي بما ينبثق عنه من أفكار تتصل بالشعور لتحوله إلى ميل.
ولا تقوم الفكرة بتحويل الشعور إلى ميل إلا إن تحولت إلى مفهوم، والفرق بين الفكرة والمفهوم هو في إدراك معنى الفكرة وإدراك واقعها وتصديق هذا الإدراك، فإن تم ذلك تحولت الفكرة إلى مفهوم في ذهن من أدرك واقعها وصدقه، وبالتالي يسهل اتصالها بالشعور، وتقوم بصياغته وصقله وتحويله إلى ميل.
هذا هو الأصل.
أما المشاهد المحسوس عند بعض المسلمين أنهم مسلمون، لكن كثيراً من الأفكار الإسلامية الأساسية عندهم قد انفصلت عن شعورهم، والسبب؟؟؟
السبب هو أنه هناك مفاهيم أخرى غير منبثقة من العقيدة الإسلامية اتصلت بشعورهم.
فحصل انفصال بين فكرهم الأصلي وشعورهم.
وحتى يتحول الكلام السابق إلى مفهوم يدرك واقعه، ويصدق، أشرح ذلك بالتمثيل:
الأصل في المسلم أن تكون مفاهيمه المؤثرة في سلوكه وشعوره منبثقة عن العقيدة الإسلامية، ومن هذه المفاهيم:
الرزق على الله
هذه الفكرة إن صدّق المسلم معناها، وأدرك واقعها، وصدّق هذا الإدراك تحولت عنده إلى مفهوم، وباستحضارها حين لزومها، أي حين وجود واقع متعلق بها تعمل على إعادة صياغة الشعورات المتعلقة بها، فيصبح المسلم:
- مطمئناً على رزقه ورزق أولاده ومن يعولهم.
- لا يخاف من انقطاع الرزق، لاعتقاده الجازم أن الله هو الرزاق.
- يفك الارتباط في نفسه بين عمله وجهده وسعيه وبين الرزق الذي يأتيه، فيقوم بعمله في حدود أوامر الله تعالى ونواهيه، دون أن يحس بأية خشية أو خوف على تأثير التزامه بحدود الله على رزقه، لأن الرازق هو الله، والآمر والناهي هو الله.
- يبقى مطمئناً على دوام رزقه، سواء رآه ثابتاً أو رآه متغيراً، فلا يخشى المستقبل، ويمقت فكرة مثل فكرة (خبي قرشك الأبيض ليومك الأسود) لاعتقاده الجازم أن كل أيام المؤمن بيضاء، وطمأنينته إلى ذلك.
- كلما رأى واقعاً متعلقاً بالرزق سواء تعلق به أم بغيره تقوى لديه المفهوم، وازداد عنده اتصال المفهوم بالميل، ليصل بمشاعره إلى أرقى مراتب الرقي النفسي الفكري، ويسير من علي إلى أعلى.
سأكتفي الآن بهذا المثال لأقوم بتوظيفه:
كيف يتم تحويل الفكرة إلى مفهوم؟
هناك طريقان لا ثالث لهما، وهما:
أولاً: ربط الواقع بالمعلومات
ثانياً: ربط المعلومات بالواقع
لاحظ أخي الكريم أنه لا بد من ارتباط المعلومة أو الفكرة بواقعها، أو ارتباط واقعها بها، وهذا يعني:
أ- أن الشخص عند دراسته لفكرة (الرزق على الله) يجب أن يربطها بواقعها الذي تتعلق به، فيتناول عدداً من المواقف والحالات ويرقب فيها كون الرزق على الله.
ب- أن الشخص حين مشاهدته لأي واقع يتعلق بالرزق، فعليه استحضار فكرة (الرزق على الله) ويوجد بفكره الارتباط التام بينهما.
ومع دوام الشخص واستمراره في عمل ذلك، يتعمق المفهوم، ويقوى اتصاله بالميل.
ولا بد من جعل العقيدة المحمولة عند الشخص أساساً للربط، وأساساً للتفكير، وذلك بملاحظة انبثاق الفكرة عن العقيدة، والتسليم المطلق بصحة الانبثاق.
وهناك عوامل مؤثرة في قوة تأثير المفهوم أو ضعفه، كالبيئة المحيطة، والتزود بالثقافة الإسلامية، .. وغيرها.
متى ينفصل الفكر عن الشعور؟
في الحقيقة أنه لا انفصال بين الفكر والشعور إلا في حالة الأمراض النفسية الفصامية، لكن الذي يحصل هو انفصال الفكرة الصحيحة المنبثقة عن عقيدة الشخص عن شعوره لاتصال مفهوم آخر غير منبثق عن تلك العقيدة بشعوره.
تطبيق على المثال السابق:
1- تعرض المسلمون لغزو فكري مقيت وشديد لفترة طويلة مما أضعف ارتباط الأفكار الإسلامية الصحيحة بالعقيدة، بل وأدى إلى انفصال عدد من الأفكار الأساسية المؤثرة في الشعور، وحلّ محلها أفكار أخرى منبثقة عن عقيدة أخرى مناقضة للعقيدة الإسلامية، وصارت هي المتصلة بالشعور والمؤثرة فيه.
2- تم تغيير البيئة الإسلامية الصحيحة إلى بيئة غير إسلامية، بيئة فاسدة، فكرها غربي مع الاحتفاظ بالعقيدة الإسلامية، وشعورها غربي مع وجود بعض الميول الإسلامية، ولما صارت البيئة غير إسلامية صار تأثير الأفكار الغربية في النفوس أكثر وأشد.
3- تم فصل المسلمين عن التزود بالثقافة الإسلامية التي تسهم في تعميق المفهوم، وتقوي اتصاله بالعقيدة، وتعزز اتصاله بالشعور، واستعيض عنها بالثقافة الغربية، وتم تزيينها في نفوس الطبقة المثقفة خاصة، وتمت صياغة وسائل الإعلام ومناهج التعليم والرأي العام على ما يوافق الثقافة الغربية.
4- تمت محاربة العاملين المخلصين للإسلام، العاملين على إعادة اتصال الجذور بالبذرة، أي انبثاق المفاهيم الإسلامية الصحيحة عن العقيدة وإعادة تأثيرها في النفوس، ولم يسمحوا لهم بالمشاركة في البيئة المحيطة ولا وفي وسائل الإعلام ولا غيره.
5- تم تنصيب رجال سموهم علماء يحافظون على بعد المسلمين عن ربط أفكارهم بعقيدتهم، ويقومون بتزيين كل ما يأتي من الغرب.
كل هذه العوامل وغيرها أدت إلى انفصال الفكر عن الشعور لدى المسلمين، أي انفصال الأفكار الإسلامية الصحيحة المنبثقة عن العقيدة عن الشعور، فبقي بعض تلك الأفكار على ألسنتهم مع عدم اتصاله بشعورهم، واتصال غيره به، كقول الناس: (الرزق على الله) لكن إن أحس بأي تهديد في عمله، فإن رزقه عملياً يصبح على مسؤوله في العمل، أو على الدولة أو على المصنع الذي يعمل فيه أو ........، وهذا مثال واضح على انفصال الفكر عن الشعور. فتجدهم يقولون إن الرزق على الله، لكن لا بد من الأخذ بالأسباب، وصاغوا لذلك عدداً من المقولات والأمثال التي تؤيد مقولتهم المناقضة لعقيدة الرزق على الله.
يقولون نتوكل على الله، ولا يتجاوز هذا القول ألسنتهم، لأنهم في حقيقة أمرهم يتكلون على جهودهم، وعلى قدراتهم ومهاراتهم، فتجدهم ينظرون لكيفية العمل للتغيير مثلاً، أو المحافظة على الأرزاق وزيادتها والبعد عن قلتها، وتجدهم يخافون من القوي، ويجلونه ويقدسونه... ونسوا أن الله وحده هوخالق الكون والإنسان والحياة، وأنه هو خالق الأسباب، ونسوا أنه لا يقع في هذا الكون شيء بغير إرادة الله....
يقولون باليوم الآخر، ولكنهم يقولون: (ليوم الله بعين الله) [المعذرة لاستخدام العامية، لكني أردت نقل المثل، ويؤثر فيهم الخوف من الحاكم أكثر من الخوف من أهوال اليوم الآخر، وتجدهم يطمعون في مصلحة زائلة بغض النظر عن حكمها الشرعي وينسون ما أعده الله لعباده الصالحين في الجنة.
وهكذا.......
مثال على ربط الواقع بالمعلومات:
سأتناول مظهراً غريزياً لإحدى الغرائز، وأطبق عليه ربط الواقع بالمعلومات الشرعية التي تكفّلت بالامتزاج به، وصياغته الصياغة المبنية على العقيدة، الموافقة للمفاهيم التي تسهم في بناء العقلية، ويتبين دور العقيدة في بناء الشخصية من هذا الجانب، وهو جانب هذا المظهر الغريزي، ثم يمكن بعد ذلك تطبيق هذا المثال على بقية المظاهر الغريزية، والمشاعر المصاحبة لها.
سأنقل في السطور التالية ما ورد في كتاب الفكر الإسلامي لمحمد محمد إسماعيل عن الخوف:
الخـــوف
الخوف مظهر من مظاهر غريزة البقاء، وهو حتمي الوجود في الإنسان لأنه جزء من تكوينه، ووجد فيه فطرة مع وجوده. إلا أنه كباقي مظاهر غريزة البقاء كالسيادة والدفاع والرحمة وغيرها، بل كباقي الغرائز وهي التدين والنوع، لا يظهر إلا بوجود عامل يثيره، وما لم يوجد هذا العامل المثير لا يظهر الخوف مطلقاً. والعامل الذي يثير الخوف هو الذي يثير أي غريزة من الغرائز، وهو إما شيء مادي محسوس، وإما فكر من الأفكار المتصلة به، أو المتعلقة فيه. إلا أنه لا بد أن يكون هذا الشيء المادي أو الفكر مما يدرك أنه يخيف أو مما يشعر وجدانياً أنه يخيف. وما لم يحصل هذا الإدراك أو هذا الشعور لا يحصل الخوف لأن الغريزة لا تتحرك طاقتها ولا تثور إلا إذا كان الشيء قد ارتبطت فيه مشاعر الخوف بإدراك أو بتمييز غريزي. وعلى هذا لا يحصل إلا بوجود ما يثيره وإن كان فطريا قد خلق مع خلق الإنسان .
والخوف مشكلة من المشكلات الخطرة التي تعاني من جرائها الشعوب المنحطة والأمم الضعيفة ما تعاني من الذل والتأخر. والخوف إذا سيطر على شخص أفقده لذة العيش، وأفقده أنبل الصفات، وجعل لديه الارتباك الذهني وعدم القدرة على الحكم على الأشياء، وشل عنده الحافظة وقابلية التمييز .
وأخطر أنواع الخوف الخوف من الأوهام والأشباح. وهذا لا يكون إلا عند ضعاف العقول، إما لأن نمو العقل عندهم لم يكتمل بعد كالأطفال، أو لعدم وجود المعلومات الكافية للربط بالواقع كالجهلة وكل من تنقصه المعلومات بحكم حياته في المجتمع كمعظم النساء، وإما لضعف فطري في أدمغتهم مثل البله والمعتوهين ومن شابههم. وهؤلاء يعالج الخوف لديهم إما بالتعمق معهم في البحث وتقريب الأشياء لإدراكهم، وإما بإعطائهم أفكاراً متصلة بما يخافون منه على أن يكون لهذه الأفكار واقع محسوس لديهم، فإنهم بهذا العلاج يتخلصون من سيطرة الخوف إما بإزالته أو بتخفيفه تدريجياً إلى أن تقلع بقايا مفاهيمه الموجودة في الأعماق .
وهناك نوع من الخوف أقل خطراً من خوف الأوهام، وهو الخوف الناتج عن عدم تقدير الأشياء تقديراً صحيحاً. وذلك أن يرى الإنسان شيئاً ربما كان مخيفاً وربما كان غير مخيف. فقد يرى كلباً نائماً فيظنه كلباً مكلوباً ( مسعوراً ) لأنه سبق أن رأى مثله كلباً مسعوراً فيخاف من أن يمر بالطريق ويهرب منه، ولو تحقق لرأى أنه كلب أليف لا يخيف، وهو نائم لا يشعر بمروره. وقد يرى أسداً في قفص فيخاف أن يقرب من القفص لئلا يخرج إليه الأسد، وقد يزمجر الأسد فيزداد خوفه ويهرب ظناً منه أنه قد يخرج من القفص وهكذا. وأكثر ما يحصل عدم التقدير في الأشياء المعنوية من كتابة مقال أو خطبة في مكان أو محادثة حاكم أو مناقشة صاحب جاه وما شاكل ذلك، فإن عدم تقدير الأشياء تقديراً صحيحاً يسبب له الخوف فيمتنع عن الكتابة أو الخطابة أو المناقشة خوفاً من الأذى .
وهناك نوع من الخوف شائع ناتج عن عدم الموازنة بين ما ينتج من القيام بالعمل وما ينتج من عدم القيام به، وكلاهما يسبب أذى فيؤدي الخطأ في هذه الموازنة إلى الخوف من بسائط الأمور والوقوع في المخاطر، وذلك كالخوف من الحاكم الظالم أن يوقع الأذى بالفرد يؤدي إلى إيقاع الأذى بالأمة وبه نفسه كواحد من الأمة. وكخوف الجندي في ساحة القتال من الموت يؤدي إلى إبادة الجيش كله وهو واحد منه، وكالخوف من السجن في سبيل العقيدة التي يحملها يؤدي إلى ضياع العقيدة منه، وهو أكثر ألماً من السجن أو إضاعة العقيدة من الوجود في الحياة. وهذا الخوف خطر جداً على الأمة ويؤدي إلى المخاطر بل ربما أدى إلى الدمار والهلاك .
إلا أن الخوف نافع ومفيد في بعض الأحيان، ولا بد من وجوده أو من إيجاده، كما هو مضر ومهلك في بعض الأحيان، ولا يجوز أن يوجد ويجب أن يعالج ويزال. فالخوف من الأخطار الحقيقية أمر مفيد، وهو واجب، والاستهتار بها وعدم الخوف منها أمر مضر ولا يجوز أن يكون سواء أكانت أخطاراً على الفرد نفسه أو على أمته، فالخوف في هذه الحالة هو الحارس وهو الحامي، ولذلك كان لا بد من شرح الأخطار المحدقة بالأمة حتى تحسب لها حسابا وتعمل للدفاع عن نفسها وإزالة هذه الأخطار. والخوف من الله ومن عذاب الله أمر مفيد وواجب وهو الحارس والحامي. ولذلك كان لا بد من إثارة الخوف من الله في النفوس، وشرح مقدار عذاب الله على ارتكاب المعاصي وعلى الكفر حتى يتبع الناس دينه ويقوموا بأوامره ويجتنبوا نواهيه، فهذا الخوف ومثله نافع ومفيد ويجب أن يوجد وأن يعمل على إيجاده لأنه هو الحارس والحامي، وهو الذي يضمن سير الإنسان في الصراط المستقيم .
وعلى ذلك فإن الخوف جزء من فطرة الإنسان، والمفاهيم هي التي تثيره في الإنسان وهي التي تبعده عن الإنسان، وهو من أخطر الأمور على الإنسان في نواح كما أنه من أكثرها فائدة في نواح أخرى، فحتى يتقي الإنسان أخطاره ويتمتع بمنافعه وجب عليه أن يحكم به المفاهيم الصادقة وحدها، ألا وهي مفاهيم الإسلام.
مم يخاف الإنسان؟
وكيف هذّب الإسلام هذا المظهر؟
1- يخاف على أجله
2- يخاف على رزقه
3- يخاف على مستقبله
4- يخاف من الأذى
5- يخاف من المجهول
6- يخاف من القوي
7- يخاف على من هو مسؤول عنهم: أسرته وأولاده وأهله..
أولاً: الخوف على الأجل
جبل الإنسان على الخوف من الموت، وعلى حب الخلود، فعالج الإسلام هذا الخوف بما يلي:
1- إيجاد القناعة بأن الموت حق، ولا بد منه لكل إنسان، فيرضى الإنسان به لأن كل إنسان يموت، فهو ليس أحسن من غيره.
2- إيجاد القناعة بأن الله هو الذي كتب الموت على عباده، (الذي خلق الموت والحياة) الملك/2، فيرضى بهذه القناعة قربة إلى الله عز وجل، ويسلّم بما أراده الله سبحانه وتعالى.
3- جعل الإسلام الموت دافعاً لعمل الخير، فإن خطر الموت على بال المسلم، والأصل أن يخطر دائماً؛ تذكّر ما بعد الموت، من أهوال وحساب، فكان دافعاً له للزيادة في التقرب من الله تعالى تفادياً للمخاطر التي بعد الموت، (الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً) الملك/2
4- ربط الإسلام وقت الموت بتقدير الله تعالى، قال تعالى: (نحن قدّرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين على أن نبدّل أمثالكم وننشئكم في ما لا تعلمون) الواقعة/ 60-61.
5- عدّ الإسلام الموتَ العقبة المانعة للمسلم من دخول الجنة، فيرى المسلمُ الموتَ حائلاً دون دخول الجنة، فيستعجل إليه في المواضع التي أمر الله سبحانه وتعالى كمواضع القتال في سبيل الله، وقد ورد عن أحد الصحابة رضوان الله عليهم قوله: (لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة، قال: فرمى بما كان معه من التمر، ثم قاتلهم حتى قتل)، وكان هذا بعد حواره مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما بشره الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه من أهل الجنة. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قرأ آية الكرسي دبر كل صلاة لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموتُ).
6- ربط الإسلام حلول الموت بانتهاء الأجل الذي قدّره الله سبحانه وتعالى على العبد، قال تعالى: (فإذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون)، وسعى إلى أن يغرس في نفوس المؤمنين أن ليس من شيء يؤدي إلى الموت إلا إذا انتهى أجل الإنسان، فلا يخاف الإنسان من عدوه، لاستعداده لملاقاته دون أن يخشى الموت، لأن لموته أجلاً، لا يقربه لقاء العدو، ولا يبعده الجبن والخوف من القتال.
7- صياغة الإسلام نظرة المسلم إلى الموت تجعله يرتقي إلى معالى الأمور دون خوف منه على ما يمكن أن يلقاه في سبيلها، فإذا كان أخطر شيء يهدد الإنسان هو الموت، وقد حلّت هذه العقدة عنده، فلا يعود يخشى شيئاً في سيره نحو معالي الأمور ونحو رضوان الله تعالى، فيقوم بما أمره الله تعالى به دون خوف، وينتهي عما نهاه الله تعالى عنه دون خوف من أحد دونه.
الخوف على الرزق:
الخوف على المستقبل
الخوف من الأذى
الخوف من المجهول
الخوف من القوي
الخوف على من يعولهم
just_f