أنا كفيف - ibdaat-qalam

    • أنا كفيف - ibdaat-qalam

      وقعت عيني على عدنان في اللحظة التي ترجلت فيها من سيارتي فحياني بابتسامة صافية، استطاعت أن تبعث الطمأنينة الفورية إلى روحي، وكأنه كان يدرك حالة الارتباك التي كنت أمر بها في تلك اللحظة، فهي المرة الأولى التي التقي فيها بالمكفوفين الصغار، أو بالأحرى أول لقاء يجمعني بهم وجها لوجه، وكنت خائفة من أن يبدر مني تصرف قد يجرح شعورهم أو أن أقول عبارة في غير محلها، وهو ما حدث فعلا، لكنني تفاجأت بروح الفتية العالية إذ يبدو أنهم قد اعتادوا على هفواتنا نحن المبصرين في التعامل معهم، وكأنهم مختلفون عنا، ترجلت من سيارتي وتوجهت إلى حيث يقف عدنان مع الصبية يتدرب معهم على بعض الحركات التي تعلموها في الحصة السابقة من حصص تقنيات التنفس التي جئت للمشاركة فيها، لم يلتفت لي كلية وكأنه نسي أنني كنت موجودة فقد كان منهمكا مع الفتية، اتخذت لي مكانا بقربهم وجلست أتأملهم حتى انتهى التدريب وحينها فقط التفت إلى عدنان مرة أخرى، ونبه الفتية لوجودي، مطالبا إياهم بتحيتي تحية (تليق بي)، لكن التحية التي حصلت عليها كانت أكثر بكثير مما استحقه، لدهشتي الشديدة اندمجت سريعا مع الفتية، وكمن التقى بأصدقاء قدامى، بدأنا في حوار غلبت عليه روح الفكاهة، وقد ضحكت ليلتها كما لم أضحك من قبل، وكأن الفتية كانوا يتوقعون ربكتي تلك، فبدأوا في طمأنتي بأنه لا بأس أن أكون (مختلفة) عنهم، فهم سيتقبلون هذا الاختلاف، حتى عندما خانني التعبير ودعوت لهم بأن يكونوا ضباطا ذات يوم أسوة بوالد ليث الذي كان يحدثني عنه بفخر، جاء رد حمد تلقائيا ومازحني قائلا (أستاذة أنا كفيف لا يمكن أن أصبح ضابطا في يوم من الأيام)، رددت على الفور ومرة أخرى بدون تفكير: من قال لك هذا الكلام؟ طبعا تستطيع، انت تستطيع أن تكون ما تشاء، أدرك حمد بأنني أكذب، فأمثاله يعتمدون اعتمادا كليا على حاسة السمع بعد أن فقدوا حاسة البصر، رغم أنه لم يكن يتطلب الأمر حاسة سمع قوية ليدرك المرء حينها أنني كنت أكذب، كنت أعرف ذلك، وأدركه رفقائي الصغار، كنت خجلة من الاعتراف لهما بأن كلامهما في محله، وأنه لا مكان لأمثالهم في مناصب عليا في بلادنا، ففئة المعوقين – وأتمنى أن أكون مخطئة في عبارتي هذه – غير محسوبين في خططنا التنموية، على الأقل بالقدر الذي يكفي، وأقصى ما يحلم به المعوق – إن كان محظوظا – هو وظيفة عامل بدالة أو موظف استقبال، مهما بلغت درجة عبقريته، ومهاراته، وإصراره، رغم أن النظام الأساسي للدولة ينص على أن (المواطنين سواسية)، لكن التطبيق الفعلي يستثني ذوي الإعاقة من هذا التعريف، تعمل بلادنا جاهدة على تمكين المرأة في كل المجالات، ونصنف من ضمن الدول الأكثر تقدما في هذا المجال، لكن لا نعترف في بياناتنا بأننا استثنينا فئة (ذوات الإعاقة) من خطط التمكين، فهن غير محسوبات، رغم أنني وأنا أتأمل هؤلاء الفتية وهم ينفذون تعليمات المدربة بدقة، وروح معنوية عالية وثقة يفتقدها الكثير من المبصرين، كنت أرى شخصيات متقدة الذكاء بشكل كبير، وقد اعتادوا على العيش في الظلام بحيث إنهم وجدوا طرقهم الخاصة في ممارسة أنشطتهم، أستأذن عدنان الصغار ليأخذني في جولة في مرافق المعهد، الذي كان يستعرضها معي بفخر وشت بها نبرات صوته، وكان يتحرك بجذل طفولي لا بد أن رفقة الصغار قد أكسبته إياه، لم يكن مجرد معهد ما رأيت، فهو عالم بحد ذاته، عالم يضج بالحياة، ويسوده الحب والعطاء سواء من القائمين عليه، أو المقيمين فيه أو العاملين به، فلا يستطيع من يتجول في أرجائه إلا أن يستشعر الطاقة الإيجابية التي تحملها تلك الغرف التي تعج بالحياة، خانني التعبير كثيرا، وبدوت على درجة عالية من السذاجة وأنا أستكشف المرافق والمعدات، لكن عدنان ورفاقه كانوا يجيبون عن أسئلتي بكثير من التفهم، في غرفة طباعة الكتب بلغة برايل استعرض معي الفتية العاملين بها جهازهم الجديد الذي زود به المعهد مؤخراً ووفر عليهم الكثير من الجهد والوقت، وإن كان هؤلاء الشباب ما زالوا يعملون حتى ساعات متأخرة من الليل في سباق مع الزمن من أجل مراجعة وطباعة المناهج لتكون جاهزة قبل بداية العام الدراسي القادم، والتي تضم إلى جانب الكتب الخاصة بالمكفوفين، كتب ضعاف البصر من الملتحقين بالمعهد أو المدارس العامة من أؤلئك الذين فضل أولياء أمورهم أن يلحقوهم بها، أكتب هذه المقالة صباح يوم الخميس لأرسلها إلى صحيفة (عُمان) بداية الأسبوع، فيفاجئني عدد هذا الصباح بخبر عن قيام هيئة حماية المستهلك بطباعة قانون حماية المستهلك بطريقة (برايل) للمكفوفين الذين ذكر الخبر بأن عددهم في السلطنة يصل إلى ما يربو على الواحد والعشرين ألفا ومائتي كفيف، يعيشون بيننا وأقصى ما يطلبونه هو أن تتم معاملتهم كأفراد متساوين مع المبصرين في الحقوق والواجبات، وأنهم ليسوا مختلفين بقدر ما هم متشابهون معنا في مشاعرهم، وأحلامهم، وطموحاتهم، وقدراتهم، بل إنهم يتفوقون علينا في الكثير منها، فقط حق المساواة هو ما تطالب به هذه الفئة!