حبيب رمان - omandaily

    • حبيب رمان - omandaily

      قصة قصيرة -
      “الحب ليس بيت شعر عابراً، ليس أغنية، ليس اللوعة المؤكدة للفراق، ليس التشظي والتبدد والفناء في الآخر، الحب ليس مكابدة المكابدة، ليس الذهاب إلى آخر الجنون والعودة منه في لحظة غامرة، الحب ليس العذاب والعذوبة، الحب ليس هذا، الحب كل هذا وزيادة، الحب هو سر الوجود الأعظم ، حيث استحالة الإدراك والاستدراك “.
      وجدت هذه العبارة مدونة بخط يدك على بطن الغلاف الأخير لطوق الحمامة، فوضعته كبداية لهذا النص.
      ربما كان عليّ أن أتريث، فهذه كتابة مشغولة بالتشظي الأقرب إلى تلك اللحظة التي رشقت فيها ندفة ثلج زجاج كوة الطائرة حيث أجلس، وقد تركتك في لندن مشغولاً بحب امرأة أخرى التقيتها مصادفة في مكتبة الجامعة وقررت أنها من تريد رفيقة.
      لحظة ارتطام ندفة الثلج تلك، تفتت الكريستال على الزجاج ، تحولها إلى تشكيلات صغيرة ومتناثرة، تشكيلات بديعة وكاملة في جمال هندستها.
      لكنني أحسست في قذفة الكريستالات تلك، بأن شيئاً ما في داخلي يشبهها، تلك الرشقة، تلك المواجهة الصامتة بين الصلب والأملس الواثق وبين كينونتي الهشة المتداعية لحظتها، كان في تلك الرشقة ما يشبه حالتي، ذلك الارتطام الحاد والقوي، ذلك الدوي الصامت للمعنى عندما يكتمل.
      ” هل اكتمل المعنى؟”
      لست أدري.
      منذ تلك اللحظة العابرة قبل عشر سنوات وأنا أحاول لملمة هذا التبعثر وأعيد بناء ما تبقى.
      لذا كان عليّ أن أجد مفتتحاً يليق بالنص .
      فلأحاول مرة ثانية إذاً،،
      عندما كانت الطفلة نائمة في حضن جدتها، حكت لها الحكاية:
      ” أذيه وين بنية يتيمة سمها حبيبة تعيش مع أمها العمياء، شافها ولد السلطان وهي تستقي من طوي الغربية، عجبته وتبعها لبيتهم وخطبها من أمها، وأمها العمياء خبرت جارتها تجهزها وتزفها على ود السلطان، والجارة جهزت بنتها وزفتها . حبيبة ركضت تبغى تدخل الصفة وهي تصرخ وراهم ،أنا حرمتك، أنا حرمتك، أنا حرمتك….
      العروس الجديدة سكرت الباب عليها وانقطع كفها وماتت، الجارة عقت بالكف في مقصورة الوزير، والكف نضرت منه رمانة عودة وداخل الرمانة كبرت بنية”
      “و يوم وحدة كان الوزير يتمشى مع بناته السبع في المقصورة، شافوا الرمانة العودة، قالن البنات فتكها باه حالنا، والأب فتكها ويوم قحفوها طلعت منها بنية في ثياب عرسها، لكن كفها اليمين مقطوعة”
      ” بنات الوزير رحمنها وبدين يسألنها أسئلة وهي ما تتكلم، قالن حال أبوهن نبغاها معنا، وخاوينها وسمينها حْبيب رمان ”
      ” وفي يوم عزم الوزير ود السلطان حال الغدى والعصر مشى معه في المقصورة وهم يمشيوا شاف البنيات السبع ومعهن حْبيب رمان، البنيات سلمن على ود السلطان وحْبيب رمان ما سلمت ويوم سألها عن اسمها ما جاوبته، وأبوها الوزير نهرها بعينه لكنها ما تحركت من مكانها”
      “ود السلطان سأل الوزير عن خبر حْبيب رمان فخبره الوزير عن قصة حبة الرمان العودة بو نضرت فمقصورتهم وأن البنية طلعت منها وكفها مقطوعة”
      ” ود السلطان لزم يعرف القصة منها وحْبيب رمان شرطت يفرش المقصورة زوالي لين حيت شجرة الرمان ويجاب لها ملة فيها حل الحليل”
      ” جلس ود السلطان على السرير مقابل حْبيب رمان والوزيروبناته حيتهم، فنطقت حْبيب رمان وبدت تخبره قصتها
      وكل ما قالت شي، سألت حل الحليل:
      - ما صح يا حل الحليل؟
      فيجاوبها الصوت من الملة:
      - صح يا بنت الوزير، زوجش مدكي ونايم على السرير.
      وكذا حتى أكملت حبيب رمان قصتها.
      ” الحب – أعزكم الله – أوله هزل وآخره جد”
      كنت تقول لي أن مفتتح ابن حزم الأندلسي لكتابه ” طوق الحمامة في الألفة والألآف” ما هو إلا تبرؤ شكلاني من الحب وانغماس حقيقي فيه عبر تقص لأسمائه العظمى ومراتبه المقدسة هي استدراج بليغ ليس إلا، استدراج للعشاق كي يبحثوا عن المتشابه من أحوالهم وتقصي ما قارب من أوجاعهم.
      هو قول بذل الحب وتذلل المحب وهو تعظيم له، فهذا الذل الذي يستجلب طلب العزة من رب العزة لا سواه، ما هو إلا مطلب الحب وإحدى مراتبه، هو البكاء والتذلل بين يدي المحبوب، هو طلب المغفرة عن جرم لم يرتكب، هو الحب، الذي يكون أوله هزل وآخره جد.
      هل كان أوله هزلاً فعلاً؟ هل كان آخره جداً؟ أم أننا عبثنا بالبدايات والنهايات حتى نتمرد على سطوة طوق الحمامة؟
      لم نعد معاً، أعرف ذلك.
      لكنني أحب أحياناً أن أتوهم أنك ما زلت هناك في انتظاري على كوب القهوة و قطعة الكيك بالشوكولاتة، التي ندعي أنها لا تحتوي أكثر من 70 كالوري لأن النادلة الفلبينية قالت ذلك ولأن الأمر يروق لشهيتنا.
      في المقهى الصغير في الجزء الخلفي من البلازا في مدينة السلطان قابوس الذي لم يعد سرياً منذ أن اعتدنا دعوة أصدقائنا لملاقاتنا فيه، وحيث تقف النادلة الفلبينية في مئزرها الأصفر وابتسامتها التي ظننا أنها لا تفنى، نلتقي أنا وأنت.
      محتفين بالسر ولذة كيك الموز بالقرفة في الصباحات، وكيك الشوكولاتة في المساء.
      نخرج من المقهى بأصابع متشابكة، أصابعي تحتفظ ببقايا الشوكولاتة التي ألحسها عن حواف الصحن، وأصابعك القوية تشد على أصابعي لتمنعني من لحسها.
      - تتصرفين كطفلة.
      - أحب لحس العالق من الشوكولاته.
      تمسك أطراف أصابعي وتلحس الشوكولاته.
      - أناني أنت…
      أقولها وأنا أداري خجلي بالمزاح.
      تترك يدي وأصابعي متدلية في الفراغ، أشعر بالجاذبية تسحب أطراف أصابعي.
      - ربما.
      وتمضي وحدك، وأنا واقفة كالعمياء أنتظرك في وسط الممر المظلل بخيالات الشجر، أنتظر أن تعود لتشبك أصابعك بأصابعي التي أفلتها مغمسة ببقايا الشوكولاتة، لكنك لا تفعل، أسرع باتجاهك، تلتفت، وتلتقطني بين ذراعيك، تقطف قبلة سريعة وتفلتني.
      - مجنون أنت.
      تشد قبضتك على يدي وتسحبني خلفك
      - لست طفلة
      تستدير، في عينيك هدوء.
      تحيطني بذراعيك وتضمني، قريبة أنا من قلبك في تلك اللحظة،قريبة جداً.
      الممر مظلل بعتمة الأشجار الكثيفة، خيوط الضوء تأتي خافتةً من المصابيح البعيدة. نمشي لا نتبادل الكثير من الكلام، أريد لهذا الممر أن يكون لا نهائياً،لهذه اللحظة التي أنا فيها معك كثافة الوجود، أنا كلي وكلك أنت هنا.
      ابن حزم أنهى كتابه في وصف حالات الحب ومراتبه والتحذير منه، وحْبيب رمان لم يخطر لها أن تسأل ولد السلطان المتكئ على السرير، كيف اختلط عليه الأمر؟ كيف دخل ببنت الجارة التي لا تشبهها، كيف لم يعرف أنها ليست عروسه؟ أنها ليست الفتاة التي لحق بها إلى كوخها المتواضع وخطبها من أمها.
      كيف قبل بنت الجارة التي قدمت له ولم يسأل عنها ، ولم يتعرف عليها حتى بعد أن رآها بين بنات الوزير.
      هل أحبها حقاً؟ أم عطف على فقرها فكانت كل الفقيرات سواء؟
      هل أخبرتك لم يعد المقهى موجوداً؟ فصاحبته حولته إلى محل لبيع العباءات والنادلة الفلبينية صارت المحاسبة ولم تعد تجيد الابتسام.
      أما طوق الحمامة الذي نسيته في عهدتي واحتفظت أنا به طوال عشر سنوات فقد أهديته لصديقة أرادت أن تعرف شيئاً عن الحب، وندفة الثلج التي تفتت على زجاج كوة الطائرة لم تعد أكثر من تناظر زوايا وتقابل أضلع، وحْبيب رمان تركت ابن السلطان متكئاً على سريره يناجي حل الحليل، ومستعطفاً جدتي كي تقدم لي تفسيراً لكل قصوره عن الحب .