بعد سؤال الغياب.. وتهمة البروج العاجية شرفات يسأل:-
تحقيق ـ عاصم الشيدي -
نشر الكاتب والصحفي الأمريكي نيكولاس كريستوف قبل شهرين تقريبا مقالا في جريدة نيويورك تايمز استحث فيه أساتذة الجامعات للاقتراب من المجتمع ومن الناس أكثر، طالبا منهم النزول من أبراجهم العاجية والاقتراب من الجماهير أكثر، والمشاركة في الإجابة على الأسئلة الكبرى التي تمر بالمجتمع في لحظاته الحاسمة. ولقي المقال الذي كانت جريدة عمان قد ترجمته فورا صدى كبيرا في الصحف والمجلات الأمريكية وكتبت حوله الكثير من الردود.. بل إنه تحول إلى قضية شغلت الأكاديميين والمثقفين في أمريكا وفي أوروبا. ورغم ترجمة المقال كما ذكرنا سابقا ونشره في جريدة عمان، ورغم أن البعض يعتبر مشهد غياب الأكاديميين في عمان أكبر بكثير عنه في أمريكا وغيرها إلا أن المقال مرّ مرورا عابرا كما تمر الكثير من الكتابات والمقولات والأطروحات دون أن يلتفت إليها أحد وكأنها لا تعنينا من قريب أو بعيد.
ولأن قلة الأكاديميين تجعل غيابهم لا يحتمل، على حد تعبير أحد المشاركين في التحقيق، فإننا حملنا الكثير من الأسئلة التي تمركزت حول ثيمة “الغياب” وطرحناها عليهم. فكان أن جاءت ردودهم متباينة في توصيف ذلك الغياب، لكنها تتفق على أن خدمة المجتمع متحققة لا شك في صورة مختلفة كثيرة. فيما اعتبر البعض أن مؤسساتهم تلعب دورهم في ذلك الغياب؛ لأن خدمة المجتمع لا تعطى حقها في بنود الترقية كما ينبغي، ولا يبدو أنها تتوافق مع الأهمية التي يطرحها التحقيق لحضور الأكاديمي في المشهد المجتمعي.
في البدء يتحدث الدكتور عبدالله الكندي عميد كلية الآداب بجامعة السلطان قابوس حول السؤال المحوري في التحقيق “مشاركة الأكاديميين في الحراك الثقافي وفي تشكل وعي المجتمع” ليرى أنها قد تكون قضية وقد لا تكون أبدا. وعندما سألنا الدكتور الكندي المزيد من التوضيح قال: مشاركة المثقف في المشهد واسهامه في تشكل وعي مجتمعه ليست حكرا على من يمتهنون وظيفة أكاديمي. دعنا نتفق أيضا أنه في سيرورة التاريخ كلها، في مجتمعنا وفي المجتمعات الخارجية، أن الحراك الثقافي نشاط يقوم به أشخاص بمواصفات معينة قد لا ينخرطون في أي نشاط أكاديمي، بل إن الشواهد تقول إن كثيرا من الأسماء المهمة في النقد وفي الإبداع بشكل عام والكتابات التحليلية لا تنسب إلى أساتذة جامعات.. إن حدث أن يكون الأكاديمي عنده صفة اضافية أنه منخرط في النشاط الثقافي فذلك رائع.. ولكن محاولة التضييق في زاوية معينة أننا نتوقع من أساتذة الجامعات أن يكون لهم نشاط أقوى، أو نقول بطريقة غير مباشرة أن هؤلاء هم من يمتلك المعرفة ويمتلك العمق فيها.
يصمت عميد كلية الآداب قليلا قبل أن يعود للقول: طبعا أنا لا أدافع عنهم ولا أقلل من مكانتهم ولكني أنظر الى حراك ثقافي ينخرط فيه الجميع دون استثناء: الأكاديميون والمعلمون والصحفيون أو أي فرد من أفراد المجتمع.
يستطرد الدكتور الكندي في توضيح فكرته أكثر فيقول: حتى في مصر، النشاط الثقافي يشترك فيه أساتذة الجامعات بدرجة متساوية وربما بدرجة أقل من أشخاص لا ينتمون للجامعات. ويعطي الكندي مثالا بالروائي جمال الغيطاني فهو: ليس أستاذ جامعي، ولكنه ظل قائما على تحرير جريدة أخبار الأدب ويشكل حضورا في المشهد الثقافي المصري.. جابر عصفور ربما يجمع بين الحسنيين. يضيف الكندي: المسألة إذن ليست قانونا أو قاعدة أن الأكاديمي هو المثقف الوحيد، نعم لا بد أن يكون كل أكاديمي مثقف ولكن ليس العكس.
سألت الكندي كيف تستشعر تفاصيل المشكلة في عُمان إذن؟ فكان رده:
في عمان لا نستطيع أن نتخيل أو نتحمل غياب هذه الفئة القليلة ممن لديهم تأسيس وقراءة علمية ومنهجية.. بالمنطق نحن مجتمع صغير والمرتجى من هذه القلة أن يكون حضورهم أكبر بكثير.
ويؤكد الدكتور الكندي أن هناك أكاديميين لديهم مرحلة تأسيس أكاديمي احترافية في مجالاتهم ويؤدون دورهم بشكل احترافي في مجال التدريس والبحث العلمي ولكن تبدو صيغة مشاركتهم مع المجتمع تنويريا غير مطروحة.. عملهم الاحترافي متحقق، رغم أن لدينا بندا أساسيا في الجامعة وفي كل المؤسسات وهو خدمة المجتمع. ونحن نقول أن خدمة المجتمع كلما كانت أكثر جودة وأكثر عمقا وانتشارا كلما حققت لصاحبها المزيد من الحضور. وصور خدمة المجتمع متنوعة وكثيرة منها المشاركة في الصحف وفي البرامج التلفزيونية والإذاعية وفي المعارض الفنية وغيرها الكثير.
إذن أين تكمن المشكلة؟
يبدو أنه لا يدرك الكثير من الأساتذة طبيعة ما يمكن تقديمه، لدينا أساتذة أدب ونقد واجتماع واعلام ولكن ليس كلهم منخرطون في المشهد، طريقة الأداء ليست حاضرة في الذهن، هو يعتقد أن وظيفته الاحترافية يؤديها “التدريس والبحث العلمي” ولا زيادة.. رغم أننا نقول أن تلك الزيادة مطلوبة وهي التي نريدها.
سألت الدكتور مرة أخرى: ولكن دكتور هناك من يرى أن هذه الزيادة التي تتحدث عنها لا يعتد بها في الترقية الأكاديمية “وهي أيضا نفسها الترقية المادية” للأساتذة؟
لن أقول أنها لا يعتد بها لأن لدي الأوراق الخاصة بالإجراءات، وخدمة المجتمع بند من بنود الترقية، نعم درجته أقل ولكنه كبند غير ملغي. وأنا أرى أن الأكاديمي يمكن أن يعيد أنتاج أبحاثه العلمية الرصينة المنشورة في الدوريات المحكمة ويختصرها ويبسطها ويعيد نشرها في الصحف اليومية والمجلات.
لكن يبدو (والحديث ما زال للكندي) أن بعضنا لا يعرف أن الوسط الثقافي والمجتمعي يحتاج إلى تلك الكتابات العلمية حتى يوعى بها.
ويستطرد عميد كلية الآداب بالقول: لكن لو انحصر النقاش في العلوم الانسانية تكون أهون، ولكن ليدنا قطاعات علمية ومعرفية أخرى، وأنا أراهن أن ما ينشره اساتذة الاقتصاد ويحللون فيه المجالات الاقتصاد المختلفة ويحللون نظريات وينشرونه في المجلات الاقتصادية المتخصصة المجتمع لا يعرف عن تلك الدراسات أي شيء، ولا يعرف عما ينتجه أساتذة العلوم الهندسية وعلوم الطب والكيمياء رغم أن كل ذلك يمكن أن يتحول إلى قضايا يعاد انتاجها بما يتناسب مع لغة الصحف اليومية.
لا مقارنة بين عُمان وأمريكا
يبدأ الدكتور محمد المحروقي الأستاذ بجامعة نزوى بتعقيب حول ما ورد في ترويسة التحقيق من إشارة إلى وضع الأكاديميين في الجامعات الأمريكية. وأنهم متقوقعون في أبراج عاجية ولا يسهمون في المشهد اليومي في الحياة الأمريكية. يقول الدكتور المحروقي:بعيدا عن صحة تلك التهمة من عدمها، وهي في اعتقادي موجودة لدى الكثرة من الأكاديميين الغربيين، أرى من الظلم الفاحش مقارنة الوضع عندنا في عمان بالوضع في أمريكا التي تجاوزتنا بسنين ضوئية. وما حققته على الصعيد الأكاديمي كبير جدا تكل عيوننا من النظر إليه فضلا عن مسامتته.
الأمر الآخر الذي أراد المحروقي أن يلفت إليه الانتباه عند الحديث عن دور الأكاديمي العماني السلبي أو الإيجابي “أن علينا أن نستحضر عددهم مقارنة بالعدد العام للشعب العماني. إنهم قلة قليلة جدا جدا مقارنة بالمجتمع. للأسف فإن السياسات العليا لم تتجه للتكثير من الأكاديميين العمانيين، وإنما خلقت آليات لتقليص العدد. انظر إلى الأقسام الأكاديمية بجامعة السلطان قابوس مثلا وقارن بين نسبة العمانيين إلى الأجانب ستجدها قليلة جدا. فعلينا قبل أن نحسب الأثر أن ننظر إلى الكم.
لكن الدكتور المحروقي عندما يصل إلى الحديث عن سؤال التحقيق الأساسي وهو حضور الأكاديميين في المشهد الثقافي المجتمعي في عمان يقول أن تعميم غيابهم تعميم غير صحيح تماما. “فمع قلة العدد المشار إليها أعلاه هناك أسماء لها دور مهم جدا في الحراك الثقافي في عمان. مخلصون ومجتهدون ويضحون بـ”مصالح” أكاديمية لصالح تنشيط الوعي الثقافي الخامل في البلد. وهذه فرصة لتوضيح مهمة الأكاديمي الأساسية”.
يضيف المحروقي: “عمل الأكاديمي يرتكز على ثلاث ركائز غير متساوية في الأهمية. ولكي يتحصل الأكاديمي على الترقية العلمية ويستتبعها من زيادة مادية عليه أن يكون ناشطا في البحث العلمي والنشر في المجلات العلمية المحكمة. وللعلم فإن نشر الكتب لا يعد أمرا مهما جدا في ترقية الأكاديمي. والركيزة الثانية هي التدريس لمستويات البكالوريوس والمستويات العليا والإشراف على رسائل الماجستير والدكتوراه. والركيز الثالثة الأضعف وهي خدمة المجتمع بالمحاضرات والنشر في الصحافة وما إلى ذلك. إذن التواصل مع المجتمع مهم للأكاديمي لكن ليس بالصورة الكبيرة. وهنا أعود للإشارة إلى تلك الفئة المخلصة التي قدّمت مصلحة المجتمع على مصلحة الذات. وإذا أردت مثالا على مشاركة الأكاديميين في المشاريع الثقافية انظر إلى مجلة نزوى. وقد قامت على مشاركات مجموعة معروفة بالاسم من الأكاديميين العمانيين. انظر النادي الثقافي والمحاضرات والندوات المقدمة من نفس الفئة تقريبا، وانظر إلى المنتدى الأدبي وغير ذلك.
ما أريد قوله (والكلام ما زال للمحروقي) أن هناك في حدود العدد القليل من الأكاديميين العمانيين أسماء بذلت وما تزال تبذل جهودا لا يمكن غمطها. في المقابل هناك فئة أيضا غير فاعلة لا على المستوى البحثي الأكاديمي ولا على مستوى خدمة المجتمع. وهي موجودة وينبغي رسم الآليات لتحريكها من ركودها. للأسف فإن الجامعة لا تطبق معايير صارمة في البحث العلمي والنشر والتفاعل المجتمعي. هي فئة تعتبر الحصول على الدكتوراه “برستيج” . ويكتفون من مضمون الشهادة باللقب وذلك “البرستيج”.
ومن جامعة نزوى إلى جامعة السلطان قابوس كلية الآداب قسم الإعلام بالتحديد حيث نلتقي بالدكتور عبيد الشقصي رئيس القسم لنطرح عليه مجموعة من الأسئلة ونستمع إلى وجهة نظره.
يبدأ الشقصي حديثه بالقول أن الأكاديمي فرد من أفراد المجتمع ومن الصعب أن يكون بعيدا عنه. بل يؤكد أنه من الصعوبة أن نقول أنه بعيد عن المجتمع دون أن نحدد بالتحديد عن أي شيء مبتعد فيه، هل مبتعد عن المؤسسات الإعلامية أم مؤسسات المجتمع المدني أم المؤسسات الثقافية..
ويضيف: من الصعب أن نلقي أحكاما بعواهنها جزافا بدون أن نتحقق من نسبة مقربة أو استطلاع حقيقي فإذا كان من كتب المقال (يعني الكاتب الأمريكي) أو أن هذا الشعور الموجود عند أفراد المجتمع مبني على ملاحظات وجدوا من خلالها عدم وجود الأكاديمي في هذه المؤسسات فبالتالي سيدخلنا في إطار البحث عن الأسباب، أما إذا كانت انطباعات لا تقوم على رؤية واقعية فربما لا يعتد بها.
أقول للدكتور لكن الجميع يتحدث عن هذا الغياب!!
فيرد الشقصي: كان ودي أن يرصد أحد البرامج الحوارية في الإذاعة والتلفزيون ويرى الأفراد والمؤسسات التي ينتمي لها هؤلاء الأكاديميون، ويرى الكتاب الذين يكتبون في الصحف هل هم اكاديميون أم لا، وينظر إلى اللجان الكثيرة المتشكلة في الوزارات والمؤسسات الثقافية ويرى عدد الأكاديميين.
يرد الدكتور الشقصي على مكالمة ويتحدث عن مشاركة بحثية لصالح مؤسسة إعلامية تتمحور حول خدمة المجتمع وبعد أن يغلق الهاتف ينظر إلىّ ويبتسم وكأن لسان حاله يقول “هل رأيت”.
ثم يواصل حديث: ما أعلمه حقيقة هو أن الأكاديميين حاضرون، واعطيك من واقع تجربة شخصية، الأكاديمي حاضر في النادي الثقافي، وكنت نائب رئيس النادي الثقافي، وعندي إضافة إلى ذلك عضوية في أربع لجان على مستوى الوزارات، وأكتب بشكل شهري على مستوى الصحف، وأقوم بإجراء بحوث لصالح المجتمع أضافة إلى اعباء التدريس والبحث العلمي هنا في الجامعة.
فقلت للدكتور: هذه ربما حالة يمكن أن نعتبرها فردية او قليلة.
فكان أن رد بالقول: ما دام ليس لدينا مقياس دقيق وعلمي فلا نستطيع أن نحتكم إلى الانطباعات. الكثير من يظهرون يحملون لقب دكتور. لكن دعني أقول لك أنه ليس كل أكاديمي مؤهل أنه يظهر أو يتعامل مع وسائل الاتصال، وليس كل أكاديمي كاتب صحفي جيد، وليس كل أكاديمي محاور جيد، ولكنه مدرس جيد. هم لا يمتلكون هذا، ولذلك لا نحملهم ما لا طاقة لهم به، ويمكن لو ظهر لسقط.
ويتحدث الدكتور عبيد الشقصي عن أشكال خدمة المجتمع بالنسبة للأكاديميين ويرى أن الكثير منها غير منظورة إعلاميا أو أنها غائبة عن عموم المجتمع ولكن عدم معرفتها لا يعني عدم وجودها.. ولذلك يرى الشقصي أهمية الاحتكام إلى السير الذاتية للاكاديميين؛ لأنها تعطي مؤشر لما يقوم به الأكاديمي لمجتمعه.
وفي الختام سألت الدكتور إن كان هو شخصيا راض عن المشهد، وعن غياب الأكاديميين عن ان يكون لهم رأي في الكثير من الأطروحات التي يطرحها المجتمع فكان أن رد: ” السؤال هل هذه المراجعة تتم بطلب أو بدون طلب”. قلت له “لا. كواجب من الباحث للمجتمع”. فقال مرة أخرى: “هل وسائل الإعلام تعطي هذه المساحة وتفرد في صفحاتها لهذه المراجعة؟ وهل استعانت بمجموعة من الباحثين وبعد ذلك اعتذر الاكاديميون عن ذلك؟”
يصمت الشقصي للحظات ثم يعود للحديث “كلامك فيه جزء من الصحة وأقول ليس كل الاكاديميين يقومون بهذا الدور”. ما أريد أن أقولها أن الكثير من الأكاديميين عندما تنظم فعالية معظم المؤسسات تراعي كل شيء في تلك الفعالية إلا أن المحاضر، وهو غالبا أكاديمي، آخر من يهتم به ويراعى. ثم لماذا في هذا السياق لا نتحدث عن المكافأة التي تقدمها الصحف لهؤلاء الذين يفترض أن يراجعوا المقولات التي يطرحها المجتمع ويراجعوا الكتب التي تصدر فيه، ألا تعتقد أن هذه قضية أيضا تستحق الطرح.
ليسوا في سلة واحدة
تبدأ الدكتورة جوخة الحارثي الأستاذة بقسة اللغة العربية بكلية الآداب بجامعة السلطان قابوس حديثها بتحفظ على السؤال، فهي لا ترى أن الأكاديميين يوضعون في سلة واحدة، خاصة في عُمان. وتوضح الدكتورة بالقول أن لدينا في عمان أطياف متعددة من الأكاديميين: فبالنسبة للكليات العلمية ينخرط كثير من الأكاديمين في مؤسسات المجتمع وبعضهم يدير شركات خاصة مرتبطة بشكل مباشر بالمجتمع، أما بالنسبة للأكاديميين في الكليات الإنسانية فهناك بالطبع بعض الأكاديميون الذين لا يهمهم إلا التدريس وأداء الوظيفة وهذا موجود ولكن لا يمكن تعميمه.
تصمت الدكتورة جوخة قليلا قبل أن تعود للقول: من ناحية أخرى برزت في عُمان أسماء عدد من الأكاديميين انخرطوا في خدمة المجتمع ولم يتوانوا عن الكتابة في الصحافة الداخلية والخارجية. تواصل الحارثية توضيح فكرتها بإعطاء بعض الأمثلة: بعضهم يقيم حلقات عمل في المراكز والمؤسسات والمدارس وهي أعمال معظمها بدون مقابل، كما يشاركون في أنشطة وفعاليات وإدارة المؤسسات الثقافية مثل المنتدى الأدبي والنادي الثقافي، ولا ننس أن الذين شاركوا في كتابة الموسوعة العمانية هم من الأكاديميين، والأكاديميون هم من يحكمون نتائج المسابقات الثقافية، وهم من يتعاونون بتقديم الاستشارات للوزارات المختلفة، ولكن الإعلام غائب عن جهودهم.
عندما قلت للدكتور جوخة الحارثي أننا نادرا ما نقرأ لهؤلاء مقالات في الصحفي اليومية أو حتى الدوريات يتناولون فيها قضايا المجتمع ويراجعون الكتب الصادرة ويردون على الكثير من الأطروحات التي تحتاج إلى الرأي الأكاديمي قالت: هذا صحيح أتفق معك في مسألة النشر. أعني النشر الصحفي فهو يحتاج إلى حضورهم، خاصة وأن في دول خليجية مجاورة يتصدر الأكاديميون مشهد النشر الثقافي والمشاركة. ولذلك أرى أن لدينا نقصا في هذا الجانب، ولكن عندما نفكر في النشر لا نفكر في تخصص واحد، نفكر في اختصاصات متعددة جدا. وهناك شيء آخر يتصل بالصحافة نفسها، المكافآت في الصحافة العمانية ضعيفة جدا إن وجدت أصلا، وهناك خيط مفقود بين الكثير من الأكاديميين وبين الصحافة فهم لا يكادون يعرفون طريقها وكيفية التواصل معها. ولذلك أرى أن على الصحافة أن تسعى إليهم في طريق كسر الحاجز.
رغم عقبات المؤسسات.. ليسوا كتلة واحدة
من جانبها تتحدث الدكتورة فاطمة الشيدي الأستاذة في الجامعة العربية المفتوحة بمسقط عن سؤال التحقيق، فترى أن الأكاديميين ليسوا كتلة كاملة أو حزمة يمكن التعامل معها بشكل جمعي عام، الفردانية الإنسانية هي التي عليها أن تؤخذ في الحسبان رغم الحالة العامة التي يمكن النظر إليها بشكل كلي، فهناك أكاديميون يشتغلون ـ رغم الانشغالات التدريسية والعقبات المؤسساتية ـ على صناعة الوعي الجمعي النوعي، وتشكيل فكر المجتمع الحر بالمشاركة الفاعلة في نشاطاته واهتماماته وأطروحاته الاجتماعية والثقافية المتجددة؛ سواء بشكل فردي من خلال كتابة المقالات، والقراءات، والمراجعات النقدية والمتابعة الواعية والحثيثة لكل ما يدور في الحقلين الاجتماعي والثقافي لمجتمعاتهم من ظواهر تستحق التمحيص والتدقيق والتفكير. أو من خلال الاسهام في نشاط المؤسسات الحكومية والمدنية بين الفينة والأخرى.
وتضيف الشيدية أن الأكاديميين قد يشكلون حضورا لافتا وفارقا أحايين كثيرة، وبالطبع هناك من هم بعيدون تماما عن الحضور والمشاركة والملاحظة أو حتى الاهتمام بالمجتمع وأنشطته وتوجهاته وتغيراته الإنسانية والفكرية المتجددة، لذا تجدهم يدورون في مداراتهم الخاصة، وعملهم الأكاديمي البحت (التدريس) خارج أي اهتمام أو مشاركة، وبالتالي يمكن وصفهم بأنهم يعيشون فعلا في أبراج عاجية، وربما هم محتجزون في أوهامهم وأفكارهم المتبناة نتيجة تراكمات فكرية وإنسانية معينة.
لكن الدكتورة فاطمة الشيدي تعود لتقول أن الفكرة ليست ظاهرة كبيرة في مجتمعنا العربي لصغر حجم ودور الأكاديمي في صناعة التوجه الفكري للمجتمع أصلا، أو بناء الوعي أو تجديده، فغالبا السياسة والإعلام هما من يحركان المجتمع وليس الأكاديمي أو المؤسسة الأكاديمية البعيدة عن هذه الأدوار غالبا، ضمن المنظومة العامة لوعي المجتمعات بجهاتها السياسة والجمعية، وبالتالي صدقت المؤسسة الأكاديمية ذلك، ونأت بنفسها عن الاضطلاع بأدوار جبارة وفارقة في تشكيل الوعي وصناعة الإنسان.
لكن مع الإصرار على أن هذه الظاهرة موجودة أو على الأقل هناك الكثيرون يشعرون بها تقول الدكتورة فاطمة: “إذا سلمنا – جدلا- بهذه الفكرة، (أي بعد الأكاديمي عن المساهمة في صناعة الوعي الجمعي والمشاركة في أنشطة المجتمع) فلا يمكن التعامل مع معطياتها الخارجية فقط، بل هناك أسباب كثيرة وكبيرة معلنة وخفية وراء بعد أو تحجيم دور الأكاديمي، ومنها السياسة التي لا تريد له أو للمؤسسة الأكاديمية دورا كبيرا أو أكثر من التدريس، والمجتمع الذي لا يهتم بهذا الدور أصلا ولا يسعى إليه، ولا يهتم بما ينتج الأكاديمي والمثقف من أفكار، ومطارحات ومناظرات للسائد من الافكار الجمعية أو حتى مواجهتها ومصادمتها بغرض زعزعتها وتغييرها أحيانا كثيرة، وبالطبع يتحمل الأكاديمي عبئا كبيرا في ذلك، فهناك الأكاديمي المأخوذ “ببرستيج” الحالة الأكاديمية، ويتحرك بخيلاء وزهو يمنعه من المشاركة والانخراط في هموم المجتمع وقضاياه، والتعاطي المباشر مع مشكلاته وحركاته ووعيه، وهناك الأكاديمي المحبط نوعا ما من كل شيء والمتقوقع على نفسه وفكره وعمله وتدريسه، وتتحمل المؤسسة الأكاديمية الكثير من العبء لتحجيم دور الأكاديمي في تشكيل وعي المجتمع، وتقليل قدرته على العطاء الاجتماعي، فقد لا تؤمن هي ذاتها بضرورة المشاركة الفاعلة للأكاديمي في المجتمع، وأثره في التغيير والتقدم، وقد لا تمنحه الكثير من الوقت أو توفر له بعض الفراغ ليذهب في المساهمة بصناعة مشروع وعي اجتماعي، أو تثقيفي أو مشاركة فاعلة في صناعة الإنسان والوعي.
وبالتالي تختلف الظاهرة حسب زاوية الرؤية، والفكرة وإن كانت لا تخلو من الكثير من الصحة، إلا أن الأسباب المشكلة لها كثيرة وعميقة، وتحتاج الكثير من التفكيك والتحليل الموضوعي، تماما كالكثير من الظواهر الثقافية والاجتماعية المطروحة على الساحة”.
من جانبها توافق الدكتورة عائشة الدرمكية الأستاذة بالجامعة العربية المفتوحة بمسقط على فكرة غياب الأكاديميين عن مشهد تشكل وعي المجتمع، وترى أن هناك مجموعة كبيرة منهم بعيدون فعلا عن الحراك المجتمعي والثقافي ،وهم في ذلك يحتجون بانشغالاتهم وكثرة التزاماتهم التدريسية ، وهذا في الحقيقة هاجس لدى مجموعة كبيرة من الزملاء . إلاَّ أننا أيضا لا نريد التعميم هنا ؛ إذ هناك مجموعة أخرى من الأكاديميين ممن يحاول رغم انشغالاته أن يقدم ما يستطيع خدمة للمجتمع . وترى الدرمكية وهي تتحدث عن غياب أساتذة الجامعات عن مشهد النشر الصحفي أن الإشكال يكمن في ذلك المفترق بين العمل الأكاديمي والعمل الثقافي العام ، فبعض الباحثين لا يريد أن يشتغل في العمل الثقافي بحجة أن ما ينتجه هنا لا يدخل ضمن شروط الترقية الأكاديمية ، ولهذا فإنه لا يريد كما يقول بعضهم (يضيع وقته) ، بينما هناك في الحقيقة من يوازن بين العملين فيعمل في بحوثه الأكاديمية وفي متابعاته ومشاركاته الثقافية .
وتضيف: ولعلنا في مثل هذا الموضع نشارككم هذا الهم الكبير ؛ فكثير ما نناقش مثل تلك الحاجة الملحة للزملاء الأكاديميين المتخصصين في مجالات مهمة في المجتمع ، وكثيرا ما نحتاج لبعضهم للمشاركة في الندوات أو الملتقيات غير أنه يعتذر بحجة أنه عمل لا يضاف إلى رصيده الأكاديمي ، وهنا بدلا من المطالبة والمناداة والمناجاة أقترح أن تتم مراجعة أسس الترقية الأكاديمية فلا يتم الاقتصار على البحوث المنشورة في المجلات المحكمة أو المشاركة في المؤتمرات والندوات التابعة لمؤسسات أكاديمية وإنما يجب أن يضاف إليها تلك الأنشطة البحثية المتنوعة التي يخدم فيها الباحث مجتمعه ، على الرغم من أن (خدمة المجتمع) بند مهم في التقييم إلاَّ أنه لا يعوَّل عليه في الترقية .
لكن الدرمكية تعود وتقول: أن الأكاديمي شخصية عليها مسؤولية كبيرة تجاه المجتمع، وليست مهمته الاهتمام بعمله والانكفاء على مجتمعه الصغير داخل الجامعات ، بل واجب عليه أن يخدم مجتمعه ووطنه بما يستطيع ولا ينتظر بعد ذلك المقابل المتمثل في الترقية وغيرها ، إذ يمكن أن يوازن بين المجتمع والعمل بما يقدره الله عليه .
وهي توافق أيضا على فكرة أن الأكاديميين اتخذوا من مؤسساتهم أبراجا عاجية لا يخرجون منها.
وتقول أن “هناك مجموعة قليلة تلك التي تندمج مع المؤسسات الثقافية المتنوعة في السلطنة مقارنة بالكثير ممن لا يشاركون ولا يتلمسون السبيل إلى ظواهر المجتمع ، وربما هناك أسماء لا نعرفها أبدا لأنها لا تشارك في المجتمع ولا تخرج إلى الشارع الإنساني ، وهذا في الحقيقة ليس في عمان وحسب بل هو ظاهرة على مستوى العالم كله ؛ ولقد كنت في الأسبوع الماضي أتحدث ضمن مشاركتي في ملتقى السرد الخليجي في مداخلة لي في نقاش دار في هذا الخصوص وكنَّا نتساءل (أين النقاد؟!) الأكاديميون الذين تمتلئ بهم الجامعات وهم لا يعرفون جديد الكتاب والأدباء !!!!”.
بل أن الدكتورة عائشة الدرمكية تذهب إلى القول: “لم أسمع عن مشروع بحثي في الجامعات .. غير أن هناك بوادر محفزة فيما تعقده الجامعات والكليات من ندوات مهمة للمجتمع كالملتقى شبه السنوي الذي تعقده الجامعة العربية المفتوحة ، وندوات كلية الآداب بجامعة السلطان قابوس ، وما تقدمه جامعة نزوى وجامعة صحار في هذا الجانب . فهي جميعاً بوادر مهمة على اقتراب المؤسسات الجامعية من روح المجتمع ومناقشة ظواهره ومشكلاته ، أو تعزيز وتحليل ودراسة أنواعه الأدبية وهكذا.
تحقيق ـ عاصم الشيدي -
نشر الكاتب والصحفي الأمريكي نيكولاس كريستوف قبل شهرين تقريبا مقالا في جريدة نيويورك تايمز استحث فيه أساتذة الجامعات للاقتراب من المجتمع ومن الناس أكثر، طالبا منهم النزول من أبراجهم العاجية والاقتراب من الجماهير أكثر، والمشاركة في الإجابة على الأسئلة الكبرى التي تمر بالمجتمع في لحظاته الحاسمة. ولقي المقال الذي كانت جريدة عمان قد ترجمته فورا صدى كبيرا في الصحف والمجلات الأمريكية وكتبت حوله الكثير من الردود.. بل إنه تحول إلى قضية شغلت الأكاديميين والمثقفين في أمريكا وفي أوروبا. ورغم ترجمة المقال كما ذكرنا سابقا ونشره في جريدة عمان، ورغم أن البعض يعتبر مشهد غياب الأكاديميين في عمان أكبر بكثير عنه في أمريكا وغيرها إلا أن المقال مرّ مرورا عابرا كما تمر الكثير من الكتابات والمقولات والأطروحات دون أن يلتفت إليها أحد وكأنها لا تعنينا من قريب أو بعيد.
ولأن قلة الأكاديميين تجعل غيابهم لا يحتمل، على حد تعبير أحد المشاركين في التحقيق، فإننا حملنا الكثير من الأسئلة التي تمركزت حول ثيمة “الغياب” وطرحناها عليهم. فكان أن جاءت ردودهم متباينة في توصيف ذلك الغياب، لكنها تتفق على أن خدمة المجتمع متحققة لا شك في صورة مختلفة كثيرة. فيما اعتبر البعض أن مؤسساتهم تلعب دورهم في ذلك الغياب؛ لأن خدمة المجتمع لا تعطى حقها في بنود الترقية كما ينبغي، ولا يبدو أنها تتوافق مع الأهمية التي يطرحها التحقيق لحضور الأكاديمي في المشهد المجتمعي.

يصمت عميد كلية الآداب قليلا قبل أن يعود للقول: طبعا أنا لا أدافع عنهم ولا أقلل من مكانتهم ولكني أنظر الى حراك ثقافي ينخرط فيه الجميع دون استثناء: الأكاديميون والمعلمون والصحفيون أو أي فرد من أفراد المجتمع.
يستطرد الدكتور الكندي في توضيح فكرته أكثر فيقول: حتى في مصر، النشاط الثقافي يشترك فيه أساتذة الجامعات بدرجة متساوية وربما بدرجة أقل من أشخاص لا ينتمون للجامعات. ويعطي الكندي مثالا بالروائي جمال الغيطاني فهو: ليس أستاذ جامعي، ولكنه ظل قائما على تحرير جريدة أخبار الأدب ويشكل حضورا في المشهد الثقافي المصري.. جابر عصفور ربما يجمع بين الحسنيين. يضيف الكندي: المسألة إذن ليست قانونا أو قاعدة أن الأكاديمي هو المثقف الوحيد، نعم لا بد أن يكون كل أكاديمي مثقف ولكن ليس العكس.
سألت الكندي كيف تستشعر تفاصيل المشكلة في عُمان إذن؟ فكان رده:
في عمان لا نستطيع أن نتخيل أو نتحمل غياب هذه الفئة القليلة ممن لديهم تأسيس وقراءة علمية ومنهجية.. بالمنطق نحن مجتمع صغير والمرتجى من هذه القلة أن يكون حضورهم أكبر بكثير.
ويؤكد الدكتور الكندي أن هناك أكاديميين لديهم مرحلة تأسيس أكاديمي احترافية في مجالاتهم ويؤدون دورهم بشكل احترافي في مجال التدريس والبحث العلمي ولكن تبدو صيغة مشاركتهم مع المجتمع تنويريا غير مطروحة.. عملهم الاحترافي متحقق، رغم أن لدينا بندا أساسيا في الجامعة وفي كل المؤسسات وهو خدمة المجتمع. ونحن نقول أن خدمة المجتمع كلما كانت أكثر جودة وأكثر عمقا وانتشارا كلما حققت لصاحبها المزيد من الحضور. وصور خدمة المجتمع متنوعة وكثيرة منها المشاركة في الصحف وفي البرامج التلفزيونية والإذاعية وفي المعارض الفنية وغيرها الكثير.
إذن أين تكمن المشكلة؟
يبدو أنه لا يدرك الكثير من الأساتذة طبيعة ما يمكن تقديمه، لدينا أساتذة أدب ونقد واجتماع واعلام ولكن ليس كلهم منخرطون في المشهد، طريقة الأداء ليست حاضرة في الذهن، هو يعتقد أن وظيفته الاحترافية يؤديها “التدريس والبحث العلمي” ولا زيادة.. رغم أننا نقول أن تلك الزيادة مطلوبة وهي التي نريدها.
سألت الدكتور مرة أخرى: ولكن دكتور هناك من يرى أن هذه الزيادة التي تتحدث عنها لا يعتد بها في الترقية الأكاديمية “وهي أيضا نفسها الترقية المادية” للأساتذة؟
لن أقول أنها لا يعتد بها لأن لدي الأوراق الخاصة بالإجراءات، وخدمة المجتمع بند من بنود الترقية، نعم درجته أقل ولكنه كبند غير ملغي. وأنا أرى أن الأكاديمي يمكن أن يعيد أنتاج أبحاثه العلمية الرصينة المنشورة في الدوريات المحكمة ويختصرها ويبسطها ويعيد نشرها في الصحف اليومية والمجلات.
لكن يبدو (والحديث ما زال للكندي) أن بعضنا لا يعرف أن الوسط الثقافي والمجتمعي يحتاج إلى تلك الكتابات العلمية حتى يوعى بها.
ويستطرد عميد كلية الآداب بالقول: لكن لو انحصر النقاش في العلوم الانسانية تكون أهون، ولكن ليدنا قطاعات علمية ومعرفية أخرى، وأنا أراهن أن ما ينشره اساتذة الاقتصاد ويحللون فيه المجالات الاقتصاد المختلفة ويحللون نظريات وينشرونه في المجلات الاقتصادية المتخصصة المجتمع لا يعرف عن تلك الدراسات أي شيء، ولا يعرف عما ينتجه أساتذة العلوم الهندسية وعلوم الطب والكيمياء رغم أن كل ذلك يمكن أن يتحول إلى قضايا يعاد انتاجها بما يتناسب مع لغة الصحف اليومية.
لا مقارنة بين عُمان وأمريكا

الأمر الآخر الذي أراد المحروقي أن يلفت إليه الانتباه عند الحديث عن دور الأكاديمي العماني السلبي أو الإيجابي “أن علينا أن نستحضر عددهم مقارنة بالعدد العام للشعب العماني. إنهم قلة قليلة جدا جدا مقارنة بالمجتمع. للأسف فإن السياسات العليا لم تتجه للتكثير من الأكاديميين العمانيين، وإنما خلقت آليات لتقليص العدد. انظر إلى الأقسام الأكاديمية بجامعة السلطان قابوس مثلا وقارن بين نسبة العمانيين إلى الأجانب ستجدها قليلة جدا. فعلينا قبل أن نحسب الأثر أن ننظر إلى الكم.
لكن الدكتور المحروقي عندما يصل إلى الحديث عن سؤال التحقيق الأساسي وهو حضور الأكاديميين في المشهد الثقافي المجتمعي في عمان يقول أن تعميم غيابهم تعميم غير صحيح تماما. “فمع قلة العدد المشار إليها أعلاه هناك أسماء لها دور مهم جدا في الحراك الثقافي في عمان. مخلصون ومجتهدون ويضحون بـ”مصالح” أكاديمية لصالح تنشيط الوعي الثقافي الخامل في البلد. وهذه فرصة لتوضيح مهمة الأكاديمي الأساسية”.
يضيف المحروقي: “عمل الأكاديمي يرتكز على ثلاث ركائز غير متساوية في الأهمية. ولكي يتحصل الأكاديمي على الترقية العلمية ويستتبعها من زيادة مادية عليه أن يكون ناشطا في البحث العلمي والنشر في المجلات العلمية المحكمة. وللعلم فإن نشر الكتب لا يعد أمرا مهما جدا في ترقية الأكاديمي. والركيزة الثانية هي التدريس لمستويات البكالوريوس والمستويات العليا والإشراف على رسائل الماجستير والدكتوراه. والركيز الثالثة الأضعف وهي خدمة المجتمع بالمحاضرات والنشر في الصحافة وما إلى ذلك. إذن التواصل مع المجتمع مهم للأكاديمي لكن ليس بالصورة الكبيرة. وهنا أعود للإشارة إلى تلك الفئة المخلصة التي قدّمت مصلحة المجتمع على مصلحة الذات. وإذا أردت مثالا على مشاركة الأكاديميين في المشاريع الثقافية انظر إلى مجلة نزوى. وقد قامت على مشاركات مجموعة معروفة بالاسم من الأكاديميين العمانيين. انظر النادي الثقافي والمحاضرات والندوات المقدمة من نفس الفئة تقريبا، وانظر إلى المنتدى الأدبي وغير ذلك.
ما أريد قوله (والكلام ما زال للمحروقي) أن هناك في حدود العدد القليل من الأكاديميين العمانيين أسماء بذلت وما تزال تبذل جهودا لا يمكن غمطها. في المقابل هناك فئة أيضا غير فاعلة لا على المستوى البحثي الأكاديمي ولا على مستوى خدمة المجتمع. وهي موجودة وينبغي رسم الآليات لتحريكها من ركودها. للأسف فإن الجامعة لا تطبق معايير صارمة في البحث العلمي والنشر والتفاعل المجتمعي. هي فئة تعتبر الحصول على الدكتوراه “برستيج” . ويكتفون من مضمون الشهادة باللقب وذلك “البرستيج”.
ومن جامعة نزوى إلى جامعة السلطان قابوس كلية الآداب قسم الإعلام بالتحديد حيث نلتقي بالدكتور عبيد الشقصي رئيس القسم لنطرح عليه مجموعة من الأسئلة ونستمع إلى وجهة نظره.

ويضيف: من الصعب أن نلقي أحكاما بعواهنها جزافا بدون أن نتحقق من نسبة مقربة أو استطلاع حقيقي فإذا كان من كتب المقال (يعني الكاتب الأمريكي) أو أن هذا الشعور الموجود عند أفراد المجتمع مبني على ملاحظات وجدوا من خلالها عدم وجود الأكاديمي في هذه المؤسسات فبالتالي سيدخلنا في إطار البحث عن الأسباب، أما إذا كانت انطباعات لا تقوم على رؤية واقعية فربما لا يعتد بها.
أقول للدكتور لكن الجميع يتحدث عن هذا الغياب!!
فيرد الشقصي: كان ودي أن يرصد أحد البرامج الحوارية في الإذاعة والتلفزيون ويرى الأفراد والمؤسسات التي ينتمي لها هؤلاء الأكاديميون، ويرى الكتاب الذين يكتبون في الصحف هل هم اكاديميون أم لا، وينظر إلى اللجان الكثيرة المتشكلة في الوزارات والمؤسسات الثقافية ويرى عدد الأكاديميين.
يرد الدكتور الشقصي على مكالمة ويتحدث عن مشاركة بحثية لصالح مؤسسة إعلامية تتمحور حول خدمة المجتمع وبعد أن يغلق الهاتف ينظر إلىّ ويبتسم وكأن لسان حاله يقول “هل رأيت”.
ثم يواصل حديث: ما أعلمه حقيقة هو أن الأكاديميين حاضرون، واعطيك من واقع تجربة شخصية، الأكاديمي حاضر في النادي الثقافي، وكنت نائب رئيس النادي الثقافي، وعندي إضافة إلى ذلك عضوية في أربع لجان على مستوى الوزارات، وأكتب بشكل شهري على مستوى الصحف، وأقوم بإجراء بحوث لصالح المجتمع أضافة إلى اعباء التدريس والبحث العلمي هنا في الجامعة.
فقلت للدكتور: هذه ربما حالة يمكن أن نعتبرها فردية او قليلة.
فكان أن رد بالقول: ما دام ليس لدينا مقياس دقيق وعلمي فلا نستطيع أن نحتكم إلى الانطباعات. الكثير من يظهرون يحملون لقب دكتور. لكن دعني أقول لك أنه ليس كل أكاديمي مؤهل أنه يظهر أو يتعامل مع وسائل الاتصال، وليس كل أكاديمي كاتب صحفي جيد، وليس كل أكاديمي محاور جيد، ولكنه مدرس جيد. هم لا يمتلكون هذا، ولذلك لا نحملهم ما لا طاقة لهم به، ويمكن لو ظهر لسقط.
ويتحدث الدكتور عبيد الشقصي عن أشكال خدمة المجتمع بالنسبة للأكاديميين ويرى أن الكثير منها غير منظورة إعلاميا أو أنها غائبة عن عموم المجتمع ولكن عدم معرفتها لا يعني عدم وجودها.. ولذلك يرى الشقصي أهمية الاحتكام إلى السير الذاتية للاكاديميين؛ لأنها تعطي مؤشر لما يقوم به الأكاديمي لمجتمعه.
وفي الختام سألت الدكتور إن كان هو شخصيا راض عن المشهد، وعن غياب الأكاديميين عن ان يكون لهم رأي في الكثير من الأطروحات التي يطرحها المجتمع فكان أن رد: ” السؤال هل هذه المراجعة تتم بطلب أو بدون طلب”. قلت له “لا. كواجب من الباحث للمجتمع”. فقال مرة أخرى: “هل وسائل الإعلام تعطي هذه المساحة وتفرد في صفحاتها لهذه المراجعة؟ وهل استعانت بمجموعة من الباحثين وبعد ذلك اعتذر الاكاديميون عن ذلك؟”
يصمت الشقصي للحظات ثم يعود للحديث “كلامك فيه جزء من الصحة وأقول ليس كل الاكاديميين يقومون بهذا الدور”. ما أريد أن أقولها أن الكثير من الأكاديميين عندما تنظم فعالية معظم المؤسسات تراعي كل شيء في تلك الفعالية إلا أن المحاضر، وهو غالبا أكاديمي، آخر من يهتم به ويراعى. ثم لماذا في هذا السياق لا نتحدث عن المكافأة التي تقدمها الصحف لهؤلاء الذين يفترض أن يراجعوا المقولات التي يطرحها المجتمع ويراجعوا الكتب التي تصدر فيه، ألا تعتقد أن هذه قضية أيضا تستحق الطرح.
ليسوا في سلة واحدة

تصمت الدكتورة جوخة قليلا قبل أن تعود للقول: من ناحية أخرى برزت في عُمان أسماء عدد من الأكاديميين انخرطوا في خدمة المجتمع ولم يتوانوا عن الكتابة في الصحافة الداخلية والخارجية. تواصل الحارثية توضيح فكرتها بإعطاء بعض الأمثلة: بعضهم يقيم حلقات عمل في المراكز والمؤسسات والمدارس وهي أعمال معظمها بدون مقابل، كما يشاركون في أنشطة وفعاليات وإدارة المؤسسات الثقافية مثل المنتدى الأدبي والنادي الثقافي، ولا ننس أن الذين شاركوا في كتابة الموسوعة العمانية هم من الأكاديميين، والأكاديميون هم من يحكمون نتائج المسابقات الثقافية، وهم من يتعاونون بتقديم الاستشارات للوزارات المختلفة، ولكن الإعلام غائب عن جهودهم.
عندما قلت للدكتور جوخة الحارثي أننا نادرا ما نقرأ لهؤلاء مقالات في الصحفي اليومية أو حتى الدوريات يتناولون فيها قضايا المجتمع ويراجعون الكتب الصادرة ويردون على الكثير من الأطروحات التي تحتاج إلى الرأي الأكاديمي قالت: هذا صحيح أتفق معك في مسألة النشر. أعني النشر الصحفي فهو يحتاج إلى حضورهم، خاصة وأن في دول خليجية مجاورة يتصدر الأكاديميون مشهد النشر الثقافي والمشاركة. ولذلك أرى أن لدينا نقصا في هذا الجانب، ولكن عندما نفكر في النشر لا نفكر في تخصص واحد، نفكر في اختصاصات متعددة جدا. وهناك شيء آخر يتصل بالصحافة نفسها، المكافآت في الصحافة العمانية ضعيفة جدا إن وجدت أصلا، وهناك خيط مفقود بين الكثير من الأكاديميين وبين الصحافة فهم لا يكادون يعرفون طريقها وكيفية التواصل معها. ولذلك أرى أن على الصحافة أن تسعى إليهم في طريق كسر الحاجز.
رغم عقبات المؤسسات.. ليسوا كتلة واحدة

وتضيف الشيدية أن الأكاديميين قد يشكلون حضورا لافتا وفارقا أحايين كثيرة، وبالطبع هناك من هم بعيدون تماما عن الحضور والمشاركة والملاحظة أو حتى الاهتمام بالمجتمع وأنشطته وتوجهاته وتغيراته الإنسانية والفكرية المتجددة، لذا تجدهم يدورون في مداراتهم الخاصة، وعملهم الأكاديمي البحت (التدريس) خارج أي اهتمام أو مشاركة، وبالتالي يمكن وصفهم بأنهم يعيشون فعلا في أبراج عاجية، وربما هم محتجزون في أوهامهم وأفكارهم المتبناة نتيجة تراكمات فكرية وإنسانية معينة.
لكن الدكتورة فاطمة الشيدي تعود لتقول أن الفكرة ليست ظاهرة كبيرة في مجتمعنا العربي لصغر حجم ودور الأكاديمي في صناعة التوجه الفكري للمجتمع أصلا، أو بناء الوعي أو تجديده، فغالبا السياسة والإعلام هما من يحركان المجتمع وليس الأكاديمي أو المؤسسة الأكاديمية البعيدة عن هذه الأدوار غالبا، ضمن المنظومة العامة لوعي المجتمعات بجهاتها السياسة والجمعية، وبالتالي صدقت المؤسسة الأكاديمية ذلك، ونأت بنفسها عن الاضطلاع بأدوار جبارة وفارقة في تشكيل الوعي وصناعة الإنسان.
لكن مع الإصرار على أن هذه الظاهرة موجودة أو على الأقل هناك الكثيرون يشعرون بها تقول الدكتورة فاطمة: “إذا سلمنا – جدلا- بهذه الفكرة، (أي بعد الأكاديمي عن المساهمة في صناعة الوعي الجمعي والمشاركة في أنشطة المجتمع) فلا يمكن التعامل مع معطياتها الخارجية فقط، بل هناك أسباب كثيرة وكبيرة معلنة وخفية وراء بعد أو تحجيم دور الأكاديمي، ومنها السياسة التي لا تريد له أو للمؤسسة الأكاديمية دورا كبيرا أو أكثر من التدريس، والمجتمع الذي لا يهتم بهذا الدور أصلا ولا يسعى إليه، ولا يهتم بما ينتج الأكاديمي والمثقف من أفكار، ومطارحات ومناظرات للسائد من الافكار الجمعية أو حتى مواجهتها ومصادمتها بغرض زعزعتها وتغييرها أحيانا كثيرة، وبالطبع يتحمل الأكاديمي عبئا كبيرا في ذلك، فهناك الأكاديمي المأخوذ “ببرستيج” الحالة الأكاديمية، ويتحرك بخيلاء وزهو يمنعه من المشاركة والانخراط في هموم المجتمع وقضاياه، والتعاطي المباشر مع مشكلاته وحركاته ووعيه، وهناك الأكاديمي المحبط نوعا ما من كل شيء والمتقوقع على نفسه وفكره وعمله وتدريسه، وتتحمل المؤسسة الأكاديمية الكثير من العبء لتحجيم دور الأكاديمي في تشكيل وعي المجتمع، وتقليل قدرته على العطاء الاجتماعي، فقد لا تؤمن هي ذاتها بضرورة المشاركة الفاعلة للأكاديمي في المجتمع، وأثره في التغيير والتقدم، وقد لا تمنحه الكثير من الوقت أو توفر له بعض الفراغ ليذهب في المساهمة بصناعة مشروع وعي اجتماعي، أو تثقيفي أو مشاركة فاعلة في صناعة الإنسان والوعي.
وبالتالي تختلف الظاهرة حسب زاوية الرؤية، والفكرة وإن كانت لا تخلو من الكثير من الصحة، إلا أن الأسباب المشكلة لها كثيرة وعميقة، وتحتاج الكثير من التفكيك والتحليل الموضوعي، تماما كالكثير من الظواهر الثقافية والاجتماعية المطروحة على الساحة”.

وتضيف: ولعلنا في مثل هذا الموضع نشارككم هذا الهم الكبير ؛ فكثير ما نناقش مثل تلك الحاجة الملحة للزملاء الأكاديميين المتخصصين في مجالات مهمة في المجتمع ، وكثيرا ما نحتاج لبعضهم للمشاركة في الندوات أو الملتقيات غير أنه يعتذر بحجة أنه عمل لا يضاف إلى رصيده الأكاديمي ، وهنا بدلا من المطالبة والمناداة والمناجاة أقترح أن تتم مراجعة أسس الترقية الأكاديمية فلا يتم الاقتصار على البحوث المنشورة في المجلات المحكمة أو المشاركة في المؤتمرات والندوات التابعة لمؤسسات أكاديمية وإنما يجب أن يضاف إليها تلك الأنشطة البحثية المتنوعة التي يخدم فيها الباحث مجتمعه ، على الرغم من أن (خدمة المجتمع) بند مهم في التقييم إلاَّ أنه لا يعوَّل عليه في الترقية .
لكن الدرمكية تعود وتقول: أن الأكاديمي شخصية عليها مسؤولية كبيرة تجاه المجتمع، وليست مهمته الاهتمام بعمله والانكفاء على مجتمعه الصغير داخل الجامعات ، بل واجب عليه أن يخدم مجتمعه ووطنه بما يستطيع ولا ينتظر بعد ذلك المقابل المتمثل في الترقية وغيرها ، إذ يمكن أن يوازن بين المجتمع والعمل بما يقدره الله عليه .
وهي توافق أيضا على فكرة أن الأكاديميين اتخذوا من مؤسساتهم أبراجا عاجية لا يخرجون منها.
وتقول أن “هناك مجموعة قليلة تلك التي تندمج مع المؤسسات الثقافية المتنوعة في السلطنة مقارنة بالكثير ممن لا يشاركون ولا يتلمسون السبيل إلى ظواهر المجتمع ، وربما هناك أسماء لا نعرفها أبدا لأنها لا تشارك في المجتمع ولا تخرج إلى الشارع الإنساني ، وهذا في الحقيقة ليس في عمان وحسب بل هو ظاهرة على مستوى العالم كله ؛ ولقد كنت في الأسبوع الماضي أتحدث ضمن مشاركتي في ملتقى السرد الخليجي في مداخلة لي في نقاش دار في هذا الخصوص وكنَّا نتساءل (أين النقاد؟!) الأكاديميون الذين تمتلئ بهم الجامعات وهم لا يعرفون جديد الكتاب والأدباء !!!!”.
بل أن الدكتورة عائشة الدرمكية تذهب إلى القول: “لم أسمع عن مشروع بحثي في الجامعات .. غير أن هناك بوادر محفزة فيما تعقده الجامعات والكليات من ندوات مهمة للمجتمع كالملتقى شبه السنوي الذي تعقده الجامعة العربية المفتوحة ، وندوات كلية الآداب بجامعة السلطان قابوس ، وما تقدمه جامعة نزوى وجامعة صحار في هذا الجانب . فهي جميعاً بوادر مهمة على اقتراب المؤسسات الجامعية من روح المجتمع ومناقشة ظواهره ومشكلاته ، أو تعزيز وتحليل ودراسة أنواعه الأدبية وهكذا.