تجمدت يدي فوق حروف الرسالة ، تفحصت العنوان بسرعة ." الجمهورية العربية السورية" محافظة الحسكة – رأس العين يصل ليد الآنسة تيودورا .
تيودورا ،ويتخطف قلبي في إثرها ، شعرها المتطاير فوق كتفين نحيلين وقامة قصيرة ، ابتسامتها الدافئة تنير وجهها الطفو لي الصغير ، يداها الناعمتان تضمان كتبها الجامعية إلى صدرها المرتعش من الركض .
ــ لو سمحت ، أليس هذا هو الباص المتجه إلى الحسكة ؟!
وتغوص غمازتان رائعتان أسفل عينيها العسليتين الصافيتين ، ويتلعثم لساني متمتما :
ــ نعم يا آنسة .
وصعدتْ بارتباك واضح ، وصعدت خلفها ، عندما وصلنا الحسكة توجهت إلى محطة القطار ، قطعتْ تذكرة ذهاب إلى حلب ، وجلستْ على كرسي خشبي تنتظر موعد المغادرة . كانت عيناي تتبعانها بذهول ، نسيت معه الهدف الذي جئت من أجله إلى مدينة الحسكة ، وفي غمرة ذهولي انتبهت إلى صوت صافرة القطار ، ورأيتها تنهض بسرعة حاملة حقيبتها وكتبها دون أن تنتبه لوقفتي الذاهلة أمامها ، ارتطمت بها ، ارتعش قلبي في ضلوعي ، سقطت كتبها وابتسمت بصفاء :
ــ لا تهتم الأمر بسيط حصل خير ..
لملمت كتبها وتوجهت إلى القطار ، رأيتها وراء إحدى النوافذ تحاول رفع حقيبتها لتضعها في المكان المخصص دون أن تتمكن من ذلك ... لمحت حمرة الورد في خديها ... اقترب منها شاب ليساعدها ، عدت خائباً أجر أذيال الهزيمة ،لِمَ لم أكلمها ؟...لِمَ لم أسألها عن اسمها ؟ لم أضعت هذه اللحظة المنعمة التي رفّت فيها ابتسامتها كملاك غسل قلبي من أحزانه وهمومه ؟ .. بتّ أترقبها كل جمعة في موقف الباص المتجه إلى الحسكة ،إلى أن عرفتها ، عرفت أنها تدرس الأدب العربي في حلب ، وتسكن المدينة الجامعية ، وبتّ أتابع أخبارها حتى حفظت كل طباعها ، وعرفت ما تحب وتكره ، ورحت أحسد كل ما يحيط بها ، حتى تمنيت لو أتسرب مع الهواء إلى فتحتي الأنف الصغيرتين ، متغلغلا في الرئتين ، ملامسا نبض القلب ، أرقد كل ليلة بجانب السرير أحرس الملاك النائم ،أغطيه أسحب الكتب من تحت يدها ، أطفئ الضوء ، ثم أخرج من النافذة المفتوحة مع الخيوط الفضية لضوء القمر.
في الصباح أسمع فيروز معها ،أصنع فنجان القهوة , وأتمنى لو أستطيع أن أحشر نفسي بين طرف الفنجان وشفتيها !
أخرج إلى الطريق الترابي على دراجتي الهوائية ، أنتظر مرورها .أربع سنوات دراسية قضتها في حلب ، وقلبي يتمزق . ألفان وثلاث مائة يوم مجموع الأيام التي غابت فيها عن البلدة ريثما أنهت دراستها الجامعية ، كنت أعد ما تبقى من الأيام كي تصبح قريبة من العين . أصعد معها إلى غرفتها في الوحدة الثانية من المدينة الجامعية ،أرتب السرير الضيق معها ، أمسح المرآة ، أنضد الكتب على الطاولة الصغيرة ، أضع دلة القهوة فوق موقد الغاز الصغير ، ولكني لم أتمكن يوما من شرب القهوة معها!
أرافقها صباحا على الدرج ماراً بكلية العلوم أعبر معها الحديقة الصغيرة المحيطة بكلية الآداب أتابع المحاضرات بجانبها في مدرج الجاحظ وقاعة سامي الدهان ، كانت تصعد الدرجات قفزاً ورغم قصر قامتها ونحولها لم أرها يوما ترتدي كعبا عاليا، كانت أحذيتها الرياضية الخفيفة تثير استغرابي، كل ما فيها ناعم وخجول .
ورغم تعليمي المتوسط ، تابعت معها ما تدرسه ، لكن ما لم أستطع هضمه تلك اللغة العبرية المقيتة ، ورغم أن دراسة الشعراء أمتعتني ، إلا أني كنت أموت غيظا من سيبويه ولا أفهم شيئا من تعقيداته النحوية . فلم أكن أفرق بين جمع المذكر السالم وجمع التكسير لكني أحببت كل شيوخ النحو كرمى لعينيها العسليتين اللتين تضحكان ببراءة فتغوص أسفلهما غمازتان رائعتان ،و تتمتم شفتاها بنعومة :
ــ لا عليك ، الأمر بسيط .
لم أكن أجرؤ على الاقتراب منها ،كان الفارق الثقافي بيننا يخيفني وكنت أغار من كل زميل لها في الكلية , ومن أي شاب من المحتمل أن تتعرف عليه وتبتسم له , أو لعلها تحبه !؟ كنت أتبعها إلى حلب كلما سنحت لي الفرصة ولم تسعدني برؤيتها سوى مرتين . طفت في الأولى شوارع حلب كلها ــ وكما تفعل ــ نزلت من الكلية إلى ساحة سعد الله الجابري ماراً بالمحافظة ، لكني لم أجد فائدة من اللف على المكتبات ! قطفت كمشة ياسمين من العرائش التي تزين بيوت المحافظة، كنت أحلم أن تغفو هذه الكمشة على صدرها , وأن أقترب منها مغمضاً عيني، لاصقا أنفي بالزهرات البيضاء الناعمة وأغفو فوق صدر يرتعش . لكني تهت في طرقات لا أعرفها .. وذبلت زهرات الياسمين بين أصابعي .
وكانت المرة الثانية بعد انتهاء امتحانات السنة الرابعة , رأيتها تخرج مع مجموعة من البنات و الشباب يضحكون بصوت عال , وتكتفي هي بابتسامة تضيء وجهها الطفولي العذب ،باتجاه مقصف الوحدة الثانية . ساروا وأنا في إثرهم ، على طاولة في الزاوية جلسوا وجلست قبالتهم ، كنت أخمن أني سأرى غريمي في هذه الجلسة الختامية، لكني وجدت مجموعة بنات تدمع أعينهن للفراق . كانت إحداهن تبكي , والأخرى تضغط جبينها بعصبية , والثالثة تسرح ببصرها خارج النافذة وهي تبتسم ، وبينهن شاب على ما يبدو يحاول تلطيف الجو بطرق لا تضحك أحداً غيره . أمام المقصف تبادلن قبلات وداع سريعة , ذهبت كل واحدة في طريق , ورأيتها تركض وحيدة باتجاه غرفتها .
عادت أخيراً ، بعد أربع سنوات من الانتظار المر، توزع ابتسامتها على الحقول والطرقات وتزرع الدروب بخطواتها الرقيقة كخطوات عصفور صغير, تمس الأرض بشفافية واتزان ويتطاير شعرها المسحوب بشريط حرير له عقدة على شكل وردة . لم أرها يوما تربطه ، أو ترفعه ــ كما في الصورة التي حصلت عليها أخيراً ــ تنورة واسعة مكسرة , تختفي روحي بين طياتها ، وبلوزة قطنية صفراء فاتحة كلون أزهارها المفضلة , ورغم أنها كانت تسمع فيروز تغني كل صباح :
" بقطفلك بس هاالمرة , عبكرة بس , شي وردة حمرا "
إلا أني لم أر وردة حمراء على شباكها أو شرفتها يوما . انتظرت طويلا كي أعرف وجه غريمي أو صورته دون فائدة ، أحاديث متناثرة في البلدة عن شخص تحبه "كان مدرسا معها وربما زميلا لها . ربما طبيبا لا أدري ,لكنه خريج جامعة مثلها . له نفس أفكارها وثقافتها , و إلا كيف أحبته ؟!
كنت أحاول جاهداً معرفة أخبارها ، معرفة الحقيقة، حقيقة ذلك الحب منها, لكني أصدم بكلام من حولي وخاصة زملائي في العمل :
ــ ما بالك , أبو محمد دائما تسرح في ملكوت الله , أُترك البنية وشأنها، ليست من ملتك , ولن ترضى بك يوما.
وأمي تقول :
ــ بني يا قرة عيني "اللي ما بياخد من ملتو, بيموت بعلتو " كانت أمي تتلهف على تزويجي من فتاة تكون لي سكنا، وتنجب لي أبناء يملؤون علي البيت , وتقر بهم عيناً قبل موتها !
لكني لم أستطع أن أحقق لها هذه الأمنية ، وكنت أصرخ :
ــ وما المانع, ما المانع لم أشعر يوماً بالفرق ولست أول من أحب من غير دينه لست أول من يتزوج مسيحية .
ويواسيني ناظم الغزالي بصوته الشجي الحزين, يشق نياط القلب، ويفتح الجراح حتى آخرها ."سمراء من قوم عيسى "وكنت أردد معه :
وقلت للنفس أي الضرب يؤلمك , ضرب النواقيس أم ضرب النوى ... قيسي .
ألصق المسجل الصغير بأذني، وأمسح دموعا مالحة ستؤذى خضرة الحقول لو نزلت ! وعند المساء أراها وراء الستارة تقرأ ناظم حكمت , وتهمس شفتاها " أجمل الأيام تلك التي لم أعشها بعد!
أخذتْ قلما وورقة وكتبتْ :
عزيزتي معك حق، لقد كنت أعيش أزمة صعبة, لقد اعتقدت أني أحبه لكنه خرج مع صديقة لي, رغم تأكيده لي أني حبه الوحيد . ابتعدت بصمت دون كلمة عتب واحدة . انكفأت على داخلي ألوم نفسي ، نعم ألومها وأتحسر على سنوات جميلة مضت من عمري في وهم كبير اسمه الحب. لكني أؤمن أن الأيام القادمة ستجعل جراحي تلتئم وسيعود إلي, فما زلت أحبه, ولا أستطيع وأد مشاعري تجاهه , وسيكون المستقبل أجمل فأجمل الأيام تلك التي لم نعشها بعد.
10 /نيسان /1987 /
كانت الصبايا يتراكضن حولها كالفراشات ساعة الانصراف من المدرسة . وهي توزع ابتسامتها الهادئة عليهن مرفقة بالنصائح والإرشادات حول الدراسة ,كانت تبدو أصغرهن ! والجميع يحبها , لكن شيئاً واحداً كان يزعجني في طريقها إلى المدرسة وهو ملازمة شقيقها جورج لها فقد كان مدرسا في نفس المدرسة يذهبان معا كل صباح , يترافقان في الطريق المؤدي إلى الحقول , وكنت أستغرب أيضا هذه الصداقة وأقول في نفسي لعل الثقافة تجعل المرء إنسانا مختلفا , كان يحدثها عن كتاب ومسرحيين أجانب لم أحفظ شيئا من أسمائهم المعقدة, وعن المدرسة , ومشاكلها وهموم الطالبات وأشياء أخرى, لكني لم ألمح وجه غريمي في أحاديثهما أبدا .
وجاءها رد الرسالة لوح بها زميلي فوزي مشيراً إشارة ذات مغزى وغمز بعينه قائلا :
ــ يبدو أنك ستعرف أخيراً,لا يوجد اسم المرسل على الظرف .
اختطفتها يدي كالعادة دسستها في جيبي . مساءً أحضرت إبريق الشاي وفنجانين وشمعة وجلست أقرأ .
مساء الحب
مساء الخير أيتها الوردة الوادعة .. مساء معجون بالنرجس والياسمين . مساء الحب , مساء أيامنا الماضية الرائعة.
كيف حالك ؟ لعلك بخير بعد الأزمة الأخيرة . لكن أرجوك عزيزتي ، رائحة الاستسلام مهينة في حديثك ، وقد عرفتك صاحبة مواقف صلبة ، أنت من قال إن المسيح علمكم التسامح، لكني أرفض أن تديري له خدك الأيسر ليصفعك من جديد , هذا ضعف لا أحب أن يظهر منك, أحبي نفسك أولا , ارحميها مما هي فيه , فهو غير جدير بمجرد التفكير فيه ابتسمي للحياة أرجوك , واسمعي فيروز "لا أنت حبيبي ولا ربينا سوا "تذكرين أيام الجامعة , كلية الآداب , صوت سيلفا وهي تغني"نامي يا زغيرة تا نغفى عالحصيرة"؟!كنا نضحك, كيف تستطيع الصغيرة النوم على الحصيرة ؟ وكيف ستحلم بالأب الذي سيأتي حاملا الليمون ، والبيارة سرقت ؟!
وعندما كانت سيلفا تشدو" نحنا والقمر جيران "كانت ضحكة نهى تفرقع :
ــ العمى ، قمر ، وفي عز الظهر ؟ دخان السيجارة لا يجد فتحة للخروج منها في هذا المكان الشاعري فكيف بقمرك يا سيلفا .؟
وتعب نفسا عميقا, وعندما يأخذ الحديث منحىً ذا شجون, ننفلت من المكان المقيت طالبين العشب على المرتفع الملاصق للكلية.
أظنك ابتسمت الآن ,وفهمت ما أرمي إليه, أرجو أن نبقى والقمر جيران ،لا تقطعي أخبارك عني .
إبتسام 20 / أيار / 1987
ذات صباح رأيت وجهها شاحبا بلون القميص الذي ترتديه, ولكن الابتسامة الكبيرة تملأ وجهها كالعادة . كان قلبي يتمزق . أريد معرفة ما بها, ولكني لم أجرؤ كان جورج سداً منيعا يقف في طريقي رغم دماثته ولطفه الذي أكتسبه من أخته, أظن الأمر كذلك لا يعقل أن يكون لطيفا ما لم تكن هي أخته , هممت بمصارحته أكثر من مرة ، لكن يداً صلبة كانت توقفني في منتصف الطريق : ((إلى أين إنها تحب رجلا آخر, لن تحصد سوى الخيبة ! )) في المساء أغلقت النافذة أطفأت النور, أرخت الستارة وجلست تكتب في الظلام. وكنت أسمع هسيس دموعها يتنفس بين السطور.
عزيزتي :
ربما كنت أظنه حبا ذاك الذي فتح مزلاج القلب , وولج الشرايين دون استئذان , كنت أراه في سطور رسول حمزاتوف , في أنغام جبران , كان يقرأ معي " مديح الظل العالي " ويناقشني في القضية ويسمعني مارسيل خليفة , تسكعنا, كثيرا في شوارع حلب وحدائقها تناقشنا كثيرا في الحرية والإرادة , الموت والحياة , لكننا ما تحدثنا يوما عن عدد الأولاد ولون الستائر . وشكل شرفات منزلنا المشترك ، ولا تطرقنا إلى نوع الفرح الذي سنقيمه, ولا أين سنقضي شهر العسل ! كان الحب بيننا مسلماً به , لم يكن بحاجة لنقاش, كان لي وكنت له , تلك الطقوس كانت وليدة مرحلة انتهت وصحوت على عمق الجرح الذي سببه لروحي, وفهمت أن الحب ليس أمراً مسلماً به ويحتاج لوضع النقط فوق الحروف .
لكني مازلت أحبه فـ " المحبة لا تعرف عمقها إلا ساعة الفراق " . شيء ما يتعبني يجعلني عصبية ومضطربة , سأنزل إلى حلب قريباً لزيارة الطبيب , وقبل سفري سأخبرك لنلتقي ...
تيودورا 26 تموز /1987
ازدادت تيودورا شحوباً , وغاصت ابتسامتها الواسعة العذبة... لم أعد أسمعها تهمس :
ــ بسيطة لا تهتم الأمر لا يستحق –حصل خير ....
كانت عيناي تلتهمان سطورها بجوع وشغف غريبين , لدرجة أدمنت فيها تلك الحروف المرصوفة بعناية , وذلك الخط البسيط المنسجم مع السطور . كنت أتابع كتباً وأشعاراً وثقافة متنوعة تصلني دون أن أطلبها في رسائل الحبيبة , وأتذكر المرحوم أبي :
ــ ليس لدي القدرة على تعليمك يا محمود , يكفيك ما نلته من التعليم , فابحث عن عمل تكسب منه رزقك وتتزوج .
كلمات أبي تطعنني فقد بحثت عن الرزق, ووجدت الوظيفة, ولم أتزوج مع أن من حولي ينادونني أبا محمد , يوميا أوزع البريد أنقل الأخبار. لكن أحداً لم يكتب لي يوما . ولم أتلق رسالة خاصة أحتفظ بها ، وأكتفي برسائلها أقرأ حروفها المنضدة بشغف , أعيد لصقها وأضعها في البريد. بعد عودتها من حلب آخر مرة كنت أرى ظلا لدموع ناشفة حول عينيها , وكآبة تتربع على عرش الابتسامة الرقيقة. لم تعد تيودورا طفلة ! وما عادت العذوبة تنسكب مع العسل من عينيها , واختفت الغمازتان إلى غير رجعة .
وعلى دراجتي الهوائية كنت أسير خلفها في الطريق المؤدي إلى المدرسة ذاهبا إلى عملي كالعادة. وهى مطرقة متألمة, وكنت أتحرق لأعرف ما بها, وجاء الجواب على تساؤلاتي في آخر رسالة كتبتها .
عزيزتي
ربما تكون هذه أخر رسائلي إليك , فبعد التحاليل والصور الشعاعية تبين لي أني أعاني من مرض عضال، ولم يكن الأمر مجرد التهاب في الحنجرة كما ظهر في التحاليل الأولى , ويبدو أن الدواء الذي أتناوله لم يجد نفعا, فقد أخبرني الطبيب أن الجراحة ضرورية, لكن تعلمين ما معنى الجراحة في مثل هذه الحالة , مصاريف بدون فائدة , لأن المرض لن يتم شفاءه نهائياً ، وسيمد الموت ذراعه بعد الجراحة ليسحبني إلي أرضه الرحبة ، أنا إنسانة مؤمنة بالله ، وأسلم روحي إليه راضية " أبانا الذي في السموات ليتقدس اسمك اغفر لنا خطايانا لأننا نحن نغفر لكل من يذنب إلينا " اعتني بنفسك، اذكريني ، اسمعي فيروز كل صباح ، اشربي قهوتي ، عودي إلى كتبي ، وسترين وجهي بين السطور .
تيودورا / 30 أيلول / 1987 / الثانية عشرة ليلاً
كانت هذه آخر رسالة كتبتها ، لم تعد ترد على الرسائل التي تصلها ، ولم تعد تفتح النافذة مساءً ، ولم أعد أسمع أغاني فيروز تنسكب كحديقة فل بيضاء من نافذتها . ولا استطعت التسرب من شقوق الباب لأنظر على أية حالةٍ أصبحت .
ومرّ تشرين وهي تذوي ، عصفت رياح كانون بما بقي لها من لونٍ في بشرتها الغضة . ولأول مرة رأيتها ترتدي تنورة رمادية اللون ضيقة ، ولأول مرة لم أجد ابتسامتها الكبيرة تزين وجهها وهي تخطو بحزم نحو مدرستها محتضنة دفاترها وكتبها تشدها إلي صدرها الضعيف بقوة لا تناسبها ، غير عابئة بزهور آذار التي بدأت تجتاح الحقول بمهرجان من الألوان الزاهية ، وأنفاسها تضطرب في صعود وهبوط قاسيين . على الطريق الترابي نفسها التي كانت تمر فيها كل صباح . اصطفت تلميذاتها يحملن زهورها المفضلة ، كانت عينا نيسان تدمع غاسلةً أكاليل الورد التي تعانق خشب تابوتها البني بحنان !
وفوقه كانت ابتسامتها ترفُّ :
ــ لا عليك ، حصل خير .
دائماً ورغم كل شيء ، يحصل خيراً ! لا إشكالات مادامت الحياة مقبلة ، وما دام العمر لم ينته بعد ، لكنها انتهت وما زلت ألمح شفتيها تتمتمان " أجمل الأيام تلك التي لم نعشها بعد " انتهت ، وتوقف بحثي عن وجه غريمي إلي الأبد .
وأستفيق من ذهولي على صوت زميلي في العمل :
ــ هه ، محمود ، أين أنت ، ألن توزع بريد اليوم ؟!
تحسست يدي الرسالة ، وفي غفلةٍ من عيون الحاضرين دسستها في جيبي .
في المساء كعادتي ، أحضرت إبريق الشاي ، وفنجانين ، أشعلت شمعة كئيبة وجلست ، إلا أني تذكرت أنّه لم يعد هناك حاجة لأفتح الرسالة عن طريق البخار ، مادامت لن تصلها ، وستكون الرسالة الوحيدة التي أحتفظ بها في حياتي ، رغم أنها لم تكن لي .
مزقت المغلف ، فتحت الورقة المطوية بيدٍ مرتعشة ، تابعت عيناي الدامعتان السطور بفضول
عزيزتي تيودورا :
سامحيني ، لم أعرف أني أموت في زهورك الصفراء ، وأن النرجس يعيش منذ الأزل في مائي ، وأني أحبك كل هذا الحب ، إلا بعد أن لسعتني سياط الغربة بألسنتها الحادة . لم أكن سعيداً مع زوجتي ، وقد انفصلنا منذ عام . انتظري عودتي ، سأعود في تموز القادم ، وسأجدك عشتار كما كنت دائماً ، تمدين جذورك في تربتي ، فتخضرُّ حقولي من جديد .
الياس / بون / 20 أيار / 1988
وعلى الغلاف كانت عبارة بخط منمق تسخر مني " وشكراً لموزع البريد "
تموز /2000
ابتسام إبراهيم تريسي
هوامش :
(1) قصيدة للشاعر الفلسطيني محمود درويش .
(2) من قصيدة للشاعر والأديب اللبناني المهجري : جبران خليل جبران .
(3) إنجيل متى / 9 - 13
[/size]
تيودورا ،ويتخطف قلبي في إثرها ، شعرها المتطاير فوق كتفين نحيلين وقامة قصيرة ، ابتسامتها الدافئة تنير وجهها الطفو لي الصغير ، يداها الناعمتان تضمان كتبها الجامعية إلى صدرها المرتعش من الركض .
ــ لو سمحت ، أليس هذا هو الباص المتجه إلى الحسكة ؟!
وتغوص غمازتان رائعتان أسفل عينيها العسليتين الصافيتين ، ويتلعثم لساني متمتما :
ــ نعم يا آنسة .
وصعدتْ بارتباك واضح ، وصعدت خلفها ، عندما وصلنا الحسكة توجهت إلى محطة القطار ، قطعتْ تذكرة ذهاب إلى حلب ، وجلستْ على كرسي خشبي تنتظر موعد المغادرة . كانت عيناي تتبعانها بذهول ، نسيت معه الهدف الذي جئت من أجله إلى مدينة الحسكة ، وفي غمرة ذهولي انتبهت إلى صوت صافرة القطار ، ورأيتها تنهض بسرعة حاملة حقيبتها وكتبها دون أن تنتبه لوقفتي الذاهلة أمامها ، ارتطمت بها ، ارتعش قلبي في ضلوعي ، سقطت كتبها وابتسمت بصفاء :
ــ لا تهتم الأمر بسيط حصل خير ..
لملمت كتبها وتوجهت إلى القطار ، رأيتها وراء إحدى النوافذ تحاول رفع حقيبتها لتضعها في المكان المخصص دون أن تتمكن من ذلك ... لمحت حمرة الورد في خديها ... اقترب منها شاب ليساعدها ، عدت خائباً أجر أذيال الهزيمة ،لِمَ لم أكلمها ؟...لِمَ لم أسألها عن اسمها ؟ لم أضعت هذه اللحظة المنعمة التي رفّت فيها ابتسامتها كملاك غسل قلبي من أحزانه وهمومه ؟ .. بتّ أترقبها كل جمعة في موقف الباص المتجه إلى الحسكة ،إلى أن عرفتها ، عرفت أنها تدرس الأدب العربي في حلب ، وتسكن المدينة الجامعية ، وبتّ أتابع أخبارها حتى حفظت كل طباعها ، وعرفت ما تحب وتكره ، ورحت أحسد كل ما يحيط بها ، حتى تمنيت لو أتسرب مع الهواء إلى فتحتي الأنف الصغيرتين ، متغلغلا في الرئتين ، ملامسا نبض القلب ، أرقد كل ليلة بجانب السرير أحرس الملاك النائم ،أغطيه أسحب الكتب من تحت يدها ، أطفئ الضوء ، ثم أخرج من النافذة المفتوحة مع الخيوط الفضية لضوء القمر.
في الصباح أسمع فيروز معها ،أصنع فنجان القهوة , وأتمنى لو أستطيع أن أحشر نفسي بين طرف الفنجان وشفتيها !
أخرج إلى الطريق الترابي على دراجتي الهوائية ، أنتظر مرورها .أربع سنوات دراسية قضتها في حلب ، وقلبي يتمزق . ألفان وثلاث مائة يوم مجموع الأيام التي غابت فيها عن البلدة ريثما أنهت دراستها الجامعية ، كنت أعد ما تبقى من الأيام كي تصبح قريبة من العين . أصعد معها إلى غرفتها في الوحدة الثانية من المدينة الجامعية ،أرتب السرير الضيق معها ، أمسح المرآة ، أنضد الكتب على الطاولة الصغيرة ، أضع دلة القهوة فوق موقد الغاز الصغير ، ولكني لم أتمكن يوما من شرب القهوة معها!
أرافقها صباحا على الدرج ماراً بكلية العلوم أعبر معها الحديقة الصغيرة المحيطة بكلية الآداب أتابع المحاضرات بجانبها في مدرج الجاحظ وقاعة سامي الدهان ، كانت تصعد الدرجات قفزاً ورغم قصر قامتها ونحولها لم أرها يوما ترتدي كعبا عاليا، كانت أحذيتها الرياضية الخفيفة تثير استغرابي، كل ما فيها ناعم وخجول .
ورغم تعليمي المتوسط ، تابعت معها ما تدرسه ، لكن ما لم أستطع هضمه تلك اللغة العبرية المقيتة ، ورغم أن دراسة الشعراء أمتعتني ، إلا أني كنت أموت غيظا من سيبويه ولا أفهم شيئا من تعقيداته النحوية . فلم أكن أفرق بين جمع المذكر السالم وجمع التكسير لكني أحببت كل شيوخ النحو كرمى لعينيها العسليتين اللتين تضحكان ببراءة فتغوص أسفلهما غمازتان رائعتان ،و تتمتم شفتاها بنعومة :
ــ لا عليك ، الأمر بسيط .
لم أكن أجرؤ على الاقتراب منها ،كان الفارق الثقافي بيننا يخيفني وكنت أغار من كل زميل لها في الكلية , ومن أي شاب من المحتمل أن تتعرف عليه وتبتسم له , أو لعلها تحبه !؟ كنت أتبعها إلى حلب كلما سنحت لي الفرصة ولم تسعدني برؤيتها سوى مرتين . طفت في الأولى شوارع حلب كلها ــ وكما تفعل ــ نزلت من الكلية إلى ساحة سعد الله الجابري ماراً بالمحافظة ، لكني لم أجد فائدة من اللف على المكتبات ! قطفت كمشة ياسمين من العرائش التي تزين بيوت المحافظة، كنت أحلم أن تغفو هذه الكمشة على صدرها , وأن أقترب منها مغمضاً عيني، لاصقا أنفي بالزهرات البيضاء الناعمة وأغفو فوق صدر يرتعش . لكني تهت في طرقات لا أعرفها .. وذبلت زهرات الياسمين بين أصابعي .
وكانت المرة الثانية بعد انتهاء امتحانات السنة الرابعة , رأيتها تخرج مع مجموعة من البنات و الشباب يضحكون بصوت عال , وتكتفي هي بابتسامة تضيء وجهها الطفولي العذب ،باتجاه مقصف الوحدة الثانية . ساروا وأنا في إثرهم ، على طاولة في الزاوية جلسوا وجلست قبالتهم ، كنت أخمن أني سأرى غريمي في هذه الجلسة الختامية، لكني وجدت مجموعة بنات تدمع أعينهن للفراق . كانت إحداهن تبكي , والأخرى تضغط جبينها بعصبية , والثالثة تسرح ببصرها خارج النافذة وهي تبتسم ، وبينهن شاب على ما يبدو يحاول تلطيف الجو بطرق لا تضحك أحداً غيره . أمام المقصف تبادلن قبلات وداع سريعة , ذهبت كل واحدة في طريق , ورأيتها تركض وحيدة باتجاه غرفتها .
عادت أخيراً ، بعد أربع سنوات من الانتظار المر، توزع ابتسامتها على الحقول والطرقات وتزرع الدروب بخطواتها الرقيقة كخطوات عصفور صغير, تمس الأرض بشفافية واتزان ويتطاير شعرها المسحوب بشريط حرير له عقدة على شكل وردة . لم أرها يوما تربطه ، أو ترفعه ــ كما في الصورة التي حصلت عليها أخيراً ــ تنورة واسعة مكسرة , تختفي روحي بين طياتها ، وبلوزة قطنية صفراء فاتحة كلون أزهارها المفضلة , ورغم أنها كانت تسمع فيروز تغني كل صباح :
" بقطفلك بس هاالمرة , عبكرة بس , شي وردة حمرا "
إلا أني لم أر وردة حمراء على شباكها أو شرفتها يوما . انتظرت طويلا كي أعرف وجه غريمي أو صورته دون فائدة ، أحاديث متناثرة في البلدة عن شخص تحبه "كان مدرسا معها وربما زميلا لها . ربما طبيبا لا أدري ,لكنه خريج جامعة مثلها . له نفس أفكارها وثقافتها , و إلا كيف أحبته ؟!
كنت أحاول جاهداً معرفة أخبارها ، معرفة الحقيقة، حقيقة ذلك الحب منها, لكني أصدم بكلام من حولي وخاصة زملائي في العمل :
ــ ما بالك , أبو محمد دائما تسرح في ملكوت الله , أُترك البنية وشأنها، ليست من ملتك , ولن ترضى بك يوما.
وأمي تقول :
ــ بني يا قرة عيني "اللي ما بياخد من ملتو, بيموت بعلتو " كانت أمي تتلهف على تزويجي من فتاة تكون لي سكنا، وتنجب لي أبناء يملؤون علي البيت , وتقر بهم عيناً قبل موتها !
لكني لم أستطع أن أحقق لها هذه الأمنية ، وكنت أصرخ :
ــ وما المانع, ما المانع لم أشعر يوماً بالفرق ولست أول من أحب من غير دينه لست أول من يتزوج مسيحية .
ويواسيني ناظم الغزالي بصوته الشجي الحزين, يشق نياط القلب، ويفتح الجراح حتى آخرها ."سمراء من قوم عيسى "وكنت أردد معه :
وقلت للنفس أي الضرب يؤلمك , ضرب النواقيس أم ضرب النوى ... قيسي .
ألصق المسجل الصغير بأذني، وأمسح دموعا مالحة ستؤذى خضرة الحقول لو نزلت ! وعند المساء أراها وراء الستارة تقرأ ناظم حكمت , وتهمس شفتاها " أجمل الأيام تلك التي لم أعشها بعد!
أخذتْ قلما وورقة وكتبتْ :
عزيزتي معك حق، لقد كنت أعيش أزمة صعبة, لقد اعتقدت أني أحبه لكنه خرج مع صديقة لي, رغم تأكيده لي أني حبه الوحيد . ابتعدت بصمت دون كلمة عتب واحدة . انكفأت على داخلي ألوم نفسي ، نعم ألومها وأتحسر على سنوات جميلة مضت من عمري في وهم كبير اسمه الحب. لكني أؤمن أن الأيام القادمة ستجعل جراحي تلتئم وسيعود إلي, فما زلت أحبه, ولا أستطيع وأد مشاعري تجاهه , وسيكون المستقبل أجمل فأجمل الأيام تلك التي لم نعشها بعد.
10 /نيسان /1987 /
كانت الصبايا يتراكضن حولها كالفراشات ساعة الانصراف من المدرسة . وهي توزع ابتسامتها الهادئة عليهن مرفقة بالنصائح والإرشادات حول الدراسة ,كانت تبدو أصغرهن ! والجميع يحبها , لكن شيئاً واحداً كان يزعجني في طريقها إلى المدرسة وهو ملازمة شقيقها جورج لها فقد كان مدرسا في نفس المدرسة يذهبان معا كل صباح , يترافقان في الطريق المؤدي إلى الحقول , وكنت أستغرب أيضا هذه الصداقة وأقول في نفسي لعل الثقافة تجعل المرء إنسانا مختلفا , كان يحدثها عن كتاب ومسرحيين أجانب لم أحفظ شيئا من أسمائهم المعقدة, وعن المدرسة , ومشاكلها وهموم الطالبات وأشياء أخرى, لكني لم ألمح وجه غريمي في أحاديثهما أبدا .
وجاءها رد الرسالة لوح بها زميلي فوزي مشيراً إشارة ذات مغزى وغمز بعينه قائلا :
ــ يبدو أنك ستعرف أخيراً,لا يوجد اسم المرسل على الظرف .
اختطفتها يدي كالعادة دسستها في جيبي . مساءً أحضرت إبريق الشاي وفنجانين وشمعة وجلست أقرأ .
مساء الحب
مساء الخير أيتها الوردة الوادعة .. مساء معجون بالنرجس والياسمين . مساء الحب , مساء أيامنا الماضية الرائعة.
كيف حالك ؟ لعلك بخير بعد الأزمة الأخيرة . لكن أرجوك عزيزتي ، رائحة الاستسلام مهينة في حديثك ، وقد عرفتك صاحبة مواقف صلبة ، أنت من قال إن المسيح علمكم التسامح، لكني أرفض أن تديري له خدك الأيسر ليصفعك من جديد , هذا ضعف لا أحب أن يظهر منك, أحبي نفسك أولا , ارحميها مما هي فيه , فهو غير جدير بمجرد التفكير فيه ابتسمي للحياة أرجوك , واسمعي فيروز "لا أنت حبيبي ولا ربينا سوا "تذكرين أيام الجامعة , كلية الآداب , صوت سيلفا وهي تغني"نامي يا زغيرة تا نغفى عالحصيرة"؟!كنا نضحك, كيف تستطيع الصغيرة النوم على الحصيرة ؟ وكيف ستحلم بالأب الذي سيأتي حاملا الليمون ، والبيارة سرقت ؟!
وعندما كانت سيلفا تشدو" نحنا والقمر جيران "كانت ضحكة نهى تفرقع :
ــ العمى ، قمر ، وفي عز الظهر ؟ دخان السيجارة لا يجد فتحة للخروج منها في هذا المكان الشاعري فكيف بقمرك يا سيلفا .؟
وتعب نفسا عميقا, وعندما يأخذ الحديث منحىً ذا شجون, ننفلت من المكان المقيت طالبين العشب على المرتفع الملاصق للكلية.
أظنك ابتسمت الآن ,وفهمت ما أرمي إليه, أرجو أن نبقى والقمر جيران ،لا تقطعي أخبارك عني .
إبتسام 20 / أيار / 1987
ذات صباح رأيت وجهها شاحبا بلون القميص الذي ترتديه, ولكن الابتسامة الكبيرة تملأ وجهها كالعادة . كان قلبي يتمزق . أريد معرفة ما بها, ولكني لم أجرؤ كان جورج سداً منيعا يقف في طريقي رغم دماثته ولطفه الذي أكتسبه من أخته, أظن الأمر كذلك لا يعقل أن يكون لطيفا ما لم تكن هي أخته , هممت بمصارحته أكثر من مرة ، لكن يداً صلبة كانت توقفني في منتصف الطريق : ((إلى أين إنها تحب رجلا آخر, لن تحصد سوى الخيبة ! )) في المساء أغلقت النافذة أطفأت النور, أرخت الستارة وجلست تكتب في الظلام. وكنت أسمع هسيس دموعها يتنفس بين السطور.
عزيزتي :
ربما كنت أظنه حبا ذاك الذي فتح مزلاج القلب , وولج الشرايين دون استئذان , كنت أراه في سطور رسول حمزاتوف , في أنغام جبران , كان يقرأ معي " مديح الظل العالي " ويناقشني في القضية ويسمعني مارسيل خليفة , تسكعنا, كثيرا في شوارع حلب وحدائقها تناقشنا كثيرا في الحرية والإرادة , الموت والحياة , لكننا ما تحدثنا يوما عن عدد الأولاد ولون الستائر . وشكل شرفات منزلنا المشترك ، ولا تطرقنا إلى نوع الفرح الذي سنقيمه, ولا أين سنقضي شهر العسل ! كان الحب بيننا مسلماً به , لم يكن بحاجة لنقاش, كان لي وكنت له , تلك الطقوس كانت وليدة مرحلة انتهت وصحوت على عمق الجرح الذي سببه لروحي, وفهمت أن الحب ليس أمراً مسلماً به ويحتاج لوضع النقط فوق الحروف .
لكني مازلت أحبه فـ " المحبة لا تعرف عمقها إلا ساعة الفراق " . شيء ما يتعبني يجعلني عصبية ومضطربة , سأنزل إلى حلب قريباً لزيارة الطبيب , وقبل سفري سأخبرك لنلتقي ...
تيودورا 26 تموز /1987
ازدادت تيودورا شحوباً , وغاصت ابتسامتها الواسعة العذبة... لم أعد أسمعها تهمس :
ــ بسيطة لا تهتم الأمر لا يستحق –حصل خير ....
كانت عيناي تلتهمان سطورها بجوع وشغف غريبين , لدرجة أدمنت فيها تلك الحروف المرصوفة بعناية , وذلك الخط البسيط المنسجم مع السطور . كنت أتابع كتباً وأشعاراً وثقافة متنوعة تصلني دون أن أطلبها في رسائل الحبيبة , وأتذكر المرحوم أبي :
ــ ليس لدي القدرة على تعليمك يا محمود , يكفيك ما نلته من التعليم , فابحث عن عمل تكسب منه رزقك وتتزوج .
كلمات أبي تطعنني فقد بحثت عن الرزق, ووجدت الوظيفة, ولم أتزوج مع أن من حولي ينادونني أبا محمد , يوميا أوزع البريد أنقل الأخبار. لكن أحداً لم يكتب لي يوما . ولم أتلق رسالة خاصة أحتفظ بها ، وأكتفي برسائلها أقرأ حروفها المنضدة بشغف , أعيد لصقها وأضعها في البريد. بعد عودتها من حلب آخر مرة كنت أرى ظلا لدموع ناشفة حول عينيها , وكآبة تتربع على عرش الابتسامة الرقيقة. لم تعد تيودورا طفلة ! وما عادت العذوبة تنسكب مع العسل من عينيها , واختفت الغمازتان إلى غير رجعة .
وعلى دراجتي الهوائية كنت أسير خلفها في الطريق المؤدي إلى المدرسة ذاهبا إلى عملي كالعادة. وهى مطرقة متألمة, وكنت أتحرق لأعرف ما بها, وجاء الجواب على تساؤلاتي في آخر رسالة كتبتها .
عزيزتي
ربما تكون هذه أخر رسائلي إليك , فبعد التحاليل والصور الشعاعية تبين لي أني أعاني من مرض عضال، ولم يكن الأمر مجرد التهاب في الحنجرة كما ظهر في التحاليل الأولى , ويبدو أن الدواء الذي أتناوله لم يجد نفعا, فقد أخبرني الطبيب أن الجراحة ضرورية, لكن تعلمين ما معنى الجراحة في مثل هذه الحالة , مصاريف بدون فائدة , لأن المرض لن يتم شفاءه نهائياً ، وسيمد الموت ذراعه بعد الجراحة ليسحبني إلي أرضه الرحبة ، أنا إنسانة مؤمنة بالله ، وأسلم روحي إليه راضية " أبانا الذي في السموات ليتقدس اسمك اغفر لنا خطايانا لأننا نحن نغفر لكل من يذنب إلينا " اعتني بنفسك، اذكريني ، اسمعي فيروز كل صباح ، اشربي قهوتي ، عودي إلى كتبي ، وسترين وجهي بين السطور .
تيودورا / 30 أيلول / 1987 / الثانية عشرة ليلاً
كانت هذه آخر رسالة كتبتها ، لم تعد ترد على الرسائل التي تصلها ، ولم تعد تفتح النافذة مساءً ، ولم أعد أسمع أغاني فيروز تنسكب كحديقة فل بيضاء من نافذتها . ولا استطعت التسرب من شقوق الباب لأنظر على أية حالةٍ أصبحت .
ومرّ تشرين وهي تذوي ، عصفت رياح كانون بما بقي لها من لونٍ في بشرتها الغضة . ولأول مرة رأيتها ترتدي تنورة رمادية اللون ضيقة ، ولأول مرة لم أجد ابتسامتها الكبيرة تزين وجهها وهي تخطو بحزم نحو مدرستها محتضنة دفاترها وكتبها تشدها إلي صدرها الضعيف بقوة لا تناسبها ، غير عابئة بزهور آذار التي بدأت تجتاح الحقول بمهرجان من الألوان الزاهية ، وأنفاسها تضطرب في صعود وهبوط قاسيين . على الطريق الترابي نفسها التي كانت تمر فيها كل صباح . اصطفت تلميذاتها يحملن زهورها المفضلة ، كانت عينا نيسان تدمع غاسلةً أكاليل الورد التي تعانق خشب تابوتها البني بحنان !
وفوقه كانت ابتسامتها ترفُّ :
ــ لا عليك ، حصل خير .
دائماً ورغم كل شيء ، يحصل خيراً ! لا إشكالات مادامت الحياة مقبلة ، وما دام العمر لم ينته بعد ، لكنها انتهت وما زلت ألمح شفتيها تتمتمان " أجمل الأيام تلك التي لم نعشها بعد " انتهت ، وتوقف بحثي عن وجه غريمي إلي الأبد .
وأستفيق من ذهولي على صوت زميلي في العمل :
ــ هه ، محمود ، أين أنت ، ألن توزع بريد اليوم ؟!
تحسست يدي الرسالة ، وفي غفلةٍ من عيون الحاضرين دسستها في جيبي .
في المساء كعادتي ، أحضرت إبريق الشاي ، وفنجانين ، أشعلت شمعة كئيبة وجلست ، إلا أني تذكرت أنّه لم يعد هناك حاجة لأفتح الرسالة عن طريق البخار ، مادامت لن تصلها ، وستكون الرسالة الوحيدة التي أحتفظ بها في حياتي ، رغم أنها لم تكن لي .
مزقت المغلف ، فتحت الورقة المطوية بيدٍ مرتعشة ، تابعت عيناي الدامعتان السطور بفضول
عزيزتي تيودورا :
سامحيني ، لم أعرف أني أموت في زهورك الصفراء ، وأن النرجس يعيش منذ الأزل في مائي ، وأني أحبك كل هذا الحب ، إلا بعد أن لسعتني سياط الغربة بألسنتها الحادة . لم أكن سعيداً مع زوجتي ، وقد انفصلنا منذ عام . انتظري عودتي ، سأعود في تموز القادم ، وسأجدك عشتار كما كنت دائماً ، تمدين جذورك في تربتي ، فتخضرُّ حقولي من جديد .
الياس / بون / 20 أيار / 1988
وعلى الغلاف كانت عبارة بخط منمق تسخر مني " وشكراً لموزع البريد "
تموز /2000
ابتسام إبراهيم تريسي
هوامش :
(1) قصيدة للشاعر الفلسطيني محمود درويش .
(2) من قصيدة للشاعر والأديب اللبناني المهجري : جبران خليل جبران .
(3) إنجيل متى / 9 - 13
[/size]