شرفات صحفية تطل على سماء عيسى -
عاصم الشيدي -
شرفة 1
كانت الساعة تشير إلى السابعة من مساء أمس الأول عندما بدأ كتّاب ومثقفون عمانيون يبحثون عن مبنى الجمعية العمانية للكتاب والأدباء.. كل منهم يتصل بالآخر يسأل عن الموقع ليتفاجأ برد «ليس السائل بأعلم من المسؤول». ولم تكد الساعة تشير إلى السابعة والنصف إلا وكانت قاعة الجمعية العمانية للكتاب والأدباء قد امتلأت عن آخرها بالحضور.. كان القاص والإعلامي محمد اليحيائي يجلس في الصف الأمامي في أول حضور له للجمعية ويجلس بالقرب منه الصحفي حاتم الطائي، وكذلك الحال بالنسبة للشاعر محمد الحارثي، وحمد الصبحي وصالح العامري وآخرين يزورون الجمعية للمرة الأولى. عبدالله حبيب غالب المرض وحضر إلى الجمعية وكان سليمان المعمري يساعده في التحرك نحو القاعة. كانت الأمسية التي على وشك أن تبدأ استثنائية بالنسبة للجميع.. أو أن المحتفى به فيها استثنائي… كان الشاعر سماء عيسى هو نجم الأمسية وهو النقطة التي جذبت عشرات الحضور إلى قاعة الجمعية بعضهم يدخلها لأول مرة.. ويبدو أن سليمان المعمري الذي قدم الأمسية قد انتبه إلى هذه النقطة عندما اقتبس من الشاعر زاهر الغافري مقولة كان قد قالها عن سماء عيسى «لم تترك فعالية وجدتها أصيلة إلا وسعيت للمشاركة فيها، ذلك لأنك لا تبحث سوى عن الجوهر، عن ذلك الأصيل الضارب في الجذور، الذي تراهن عليه طبقات عبر طبقات، تراكما عبر تراكم مهما كان ضئيلا، ليشكل الوعي الثقافي ولتورق شجرة المعرفة عبر دأب صبور لكنه صادق». ولأن سماء عيسى كان حاضرا في كل تلك المحافل، ولأنه لم ينتج إلا الأصيل فإن الجميع جاءوا يبحثون معه عن الأصيل.. وينظروا من نفس الشرفة التي كان ينظر منها، يراقب منها أمهاته العديدات.. والتي وثقهن في كتابه «شرفة على أرواح أمهاتنا» الذي احتفت به الجمعية في أمسيتها.
شرفة 2
بدأت الأمسية الاحتفائية حينما قرأ سماء عيسى ثلاثة نصوص من مجموعته السردية «شرفة على أرواح أمهاتنا».. بدا صوت سماء عيسى هادئا وخفيضا كأنه آتٍ من عصور سحيقة.. ولم يخف الحس الجنائزي الذي سيطر على صوت سماء، والذي كان متناغما مع ثيمات الموت والحزن التي طغت على نصوص المجموعة وأثار لاحقا الكثير من الاستفسارات.
شرفة 3
بعد ذلك قرأ الشاعر عبدالله حبيب شهادة حول صديقه الأحب سماء عيسى حملت عنوان «سماء عيسى: اللقاء الأول وفيه بالكامل».. ورغم أن التقنية قد خانت عبدالله حبيب فلم يجد شهادته إلكترونيا كما كان يتوقع لكن الحضور اكتشفوا أن ذاكرة حبيب لا تزال قوية وحاضرة بقوة عندما أخذ يقرأ شهادته من الذاكرة. تحدثت شهادة عبدالله حبيب عن أول معرفة وأول لقاء بينه وبين سماء عيسى، اللقاء الذي كان محوريا وأبديا.
قال عبدالله حبيب: «إذا كان الإبداع يرتبط بالمخيلة فإن في بداية تعرفي إلى سماء عيسى ما هو أكثر من الخيال (وقد جودل كثيراً وبإقناع شديد انه يحدث أحياناً على أرض الواقع ما هو أكثر غرابة من الأدب الغرائبي نفسه). وقد كان في ذلك اللقاء الأول الكثير من الشعر بالتأكيد بما يليق بسماء الذي كتب أول قصيدة نثر في عمان أكثر مما يليق بي، لدرجة ان تصديق حدوث الأمر على النحو الذي حدث به سيكون صعباً على الكثيرين، لكن حسبنا اننا – سماء وأنا – نعرف ونتذكر على مر الأيام والسنين وتلاحق الأحياء والأموات أن ما حدث قد تم بذلك الشكل الغريب. وفي هذا الاحتفاء بتدشين كتابه «شرفة على أرواح أمهاتنا» أشعر أن عليَّ كمن يبوح بسر أن أتحدث عن بداية تعرفي إلى سماء عيسى. في هذا سأتحدث عن شيئين: الأول سأسميه «التمهيد للقاء الأول»، والثاني سأدعوه «اللقاء الأول».
وأضاف حبيب وكأنه يتحدث عن لقاء جرى أمس «قبل أكثر من ثلاثين سنة كنت مثل كثير من العمانيين أعمل في دولة الإمارات.وفي واحدة من فترات خدمتي كنت أعمل في شعبة من شعب المديرية العامة لشؤون الأفراد اسمها شعبة التقاعد العسكري في القيادة العامة للقوات المسلحة، وهي شعبة تعنى بإجراءات كل من تنتهي علاقته بالجيش لمختلف الأسباب.
وفي أحد أيام فترة خدمتي تلك كان على مكتبي طَنٌّ مُطَنَّنٌ من الملفات المحالة من الجهات الأربع، وكنت أقوم بوظيفتي الروتينية حين وصلتُ إلى ملف لأحد المستقيلين مُحالاً من المديرية العامة للثقافة العسكرية. فتحت الملف لأجد ان اسم المستقيل هو «عيسى حمد عيسى الطائي»، وان مهنته هي «مدرِّس»، وانه عماني الجنسية. أصبت بالفضول لسببين: الأول هو ان الشخص من عائلة الطائي، ما جعلني أربطه بالراحل عبدالله الطائي الذي كنت قد قرأت شيئاً من تجربته، وبالتالي فقد خمنت انه من نفس العائلة. وثانياً لأن «صاحب العلاقة» مدرِّس جعلني باعتباري عمانياً أشعر بالفخر، حيث انه على الرغم من ان العمانيين كانوا الجنسية الغالبة في ذلك الجيش خلال ذلك الوقت فقد كان معظمنا يعمل في مهن «دنيا»: جنوداً أو سائقين أو عمال تنظيف. أما هذا «العيسى» العماني فيعمل مدرِّساً جنباً إلى جنب مع أشقائنا المصريين أو الأردنيين أو الفلسطينيين المؤهلين، ما جعل شعوري بالزهو في مكانه. وعلى من يسمع هذا الكلام أن يحاول التفكير بحساسية ومعطيات تلك المرحلة».
يواصل عبدالله حبيب حديثه: «ظل اسم عيسى حمد الطائي في ذاكرتي لمدة، لكنه بدأ في التلاشي بالتدرج إذ لم يحدث في الحياة ما يعضد وجوده في الذاكرة. لكن بعد حوالي سنة من ذلك حدث شيء غريب آخر هو «اللقاء الأول» بسماء عيسى. ذات يوم اثنين، قبل أكثر من ثلاثين سنة شاءت «المصادفة» أن تنشر لي الصحافة الإماراتية ثلاث مواد في نفس اليوم، ومنها قصتي القصيرة «العائد متوحداً بالترتيلة الزرقاء». كنت في إجازة طبية في ذلك اليوم، ولذلك فإني ارتأيت أن أزور صديقي الكاتب اليمني الراحل سعيد محمد دُحَيْ. في حوالي العاشرة من صباح ذلك اليوم ضغطت على زر جرس الشقة، لكن المرحوم سعيد دحي لم يكن موجوداً هناك، بل خرج لي شخص حاسر الرأس يرتدي دشداشة عمانية بيضاء ويدخن سيجارة. بمجرد أن فتح الباب ورأيت وجهه قلت في نفسي: «هذا شخص رأيته في مكان ما من قبل»!. اقتضت طبيعة المجاملات أن يصطحبني ذلك الشخص إلى غرفة الجلوس («تفضل، تفضل»)!. وفي غرفة الجلوس رمقت المنضدة بنظرة لأفاجأ بوجود المطبوعات الثلاث التي نشرت نصوصي الثلاثة في نفس اليوم وهي مفتوحة على الصفحات ذاتها التي نشرت فيها المواد، فشعرت بارتباك شديد.
كنت أرمق كل شيء وأنا مرتاب من كل شيء، وكان هو يرمقني أيضاً. لكني بحلول ذلك الوقت أدركت نسبياً انني أمام نفس «العيسى» الذي أنهيت إجراءات استقالته بالسرعة التي يستحقها شخص عماني لا أعرفه لكني كنت فخوراً بأنه مدرس في جيش الامارات قبل حوالي سنة.ومع ذلك فقد كان الوضع مربكاً أكثر مما ينبغي وغير مريح أبداً بالنسبة لظروفي. لذا فقد حسمت الأمر ووقفت استعداداً للانصراف وقلت: «آسف أنا مضطر أروح. من فضلك قول للأخ سعيد انه شخص اسمه عبدالله حبيب جاك وما حصَّلك». قال لي: «أه، انته فلان؟!. أنا والله شكيت انك فلان من أول ما شفتك. إيش رايك نجلس شويه ونشرب قهوه وندخّن سيجارة سيجارتين مع بعض؟»، وسحب سماء لفافة من علبة سجائره الـ «دنهل». فكرت بسرعة ثم أردفت: «طبعاً، طبعاً، بكل سرور، بس اسمح لي أنزل شويه تحت حتى أجيب علبة سجايري من السيارة. انا ما أدخن «دنهل. أنا أدخن مارلبورو».
ويواصل عبدالله حبيب في شهادته «بدأنا في الحديث عن الأدب، وأبدى سماء ملاحظات نقدية حول نصوصي الثلاثة التي كان قد قرأها قبل وصولي.لكن بعد حوالي ساعة من الحديث حول الأدب إذا بالكلام ينجرف بسلاسة وعفوية نحو منطقة أخرى «محظورة» لا يتحدث فيها اثنان إلا بعد أن يكونا قد عرفا بعضهما البعض عن قرب لمدة طويلة أنجبت الثقة. بدأ كل منا يروز الآخر، ويختبره، ويماطله بالكلام، والنظرات، والتعليقات، والتعقيبات التكتيكية. كان من الواضح لكلينا ان ثمة شيئا فيه الكثير من المحبة العميقة والخطر الشديد قد ابتدآ ولا يمكن إيقافهما أو تغيير مسارهما. لم تتدرج ثقتي بسماء من القليل إلى الكثير كما يحدث في العلاقات بين البشر،ولم أعرفه قليلاً ولا كثيراً حتى أصل إلى تلك الدرجة. كلا، ففي تلك النظرة ولدت الثقة كبيرة دفعة واحدة. ومنذ تلك النظرة البعيدة لم تزد تلك الثقة ولم تنقص، ولن تزيد ولن تنقص فهذا بالضبط ما هو مكتوب لها: دفعة واحدة، مرة واحدة، لن تزيد ولن تنقص. كانت الساعة قد بلغت حوالي الثانية ظهراً حين اقترحت عليه تناول الغداء في مطعم يمني مجاور. كنا –سماء وأنا — نحكي عن كل شيء مع الشاي والسجائر بعد الغداء بأقصى ما يمكن من الإريحية والتلقائية.
ويختتم عبدالله حبيب ورقته بالقول مخاطبا سماء عيسى «سماء عيسى: لن أراجع نفسي في إبداعك، وصداقتك، وإنسانيتك، ورفاقيتك. وشكراً جزيلاً لوجودك معنا على هذه الأرض».
شرفة 4
بعد عبدالله حبيب كان دور الحديث للشاعر عوض اللويهي الذي قدم ورقة بعنوان «قراءة في شرفة على أرواح أمهاتنا للشاعر سماء عيسى».
وركزت ورقة عوض اللويهي على أربع ثيمات، الثيمة الأولى ركزت على الشرفة، الشرفة التي كان يطل منها سماء عيسى على أرواح أمهاتنا. وحاول في البداية ان يبحث عن معناها في اللغة وفي الدارج العماني. لكنه بعد قليل وجد نفسه يبحث عن الشرفة في ثنايا النص حيث اكتشف أن معظم النصوص قائمة على وجود شرفة يطل منها الكاتب أو بطل النص على الآخرين. وتنوع المعادل الموضوعي للشرفة، فهي تظهر احيانا كأنها شباك وأحيانا نقاب امرأة، وأحيانا الطلل المتداعي. ثم بعد ذلك انتقل عوض اللويهي لبحث صورة الأمومة في نصوص المجموعة حيث تعدد الأمهات في النص فلا نكاد نقف عند أم واحدة فالعمة أم والخالة أم والجدة ام، ولا تقتصر الأمومة على البشري بل إن النص بحسب عوض اللويهي يؤنسن حالة الأمومة التي عند الحيوانات كما هو عند النعامة في احد النصوص، بل إن فعل الأمومة يتعدى من الكائن البشري حين تصبح شاة «أسمى» كواحدة من الأسرة بفعل الخالة التي تعتني بها في القرية. ثم يتطرق عوض إلى بحث صورة الفقد بين القرية والمدينة. وتبدو صورة الفقد في المدينة أشد وحشة وألما. ثم تبع الورقة صور ودلالات الموت في المجموعة هذه الثيمة وقف عليها لاحقا المتداخلون في الأمسية الذين رأوا أن نصوص سماء عيسى الشعرية أو السردية أو اشتغالاته الأخرى لا تكاد تفارقها.
شرفة 5
بعد ذلك بدأت المداخلات من الحضور والتي بدأها الكاتب محمد اليحيائي وكان السؤال موجها إلى عبدالله حبيب بالتحديد: أين تقرأ تأثير سماء عيسى على التجربة الشعرية اللاحقة في عُمان؟
فكان أن رد عبدالله حبيب.. سماء عيسى يغمط حقه دائما، هو أول من كتب قصيدة النثر في عمان ولكن هو من كرس الجهل بهذه الريادة. ولكن سماء عيسى في مقابل ذلك يمارس أبوية، بالمعنى الايجابي، وهو يتبنى الكثير من الشعراء الشباب ويجلس معهم ويراجع معهم ما يكتبوه، دون أن ينعكس حضوره عليهم. لكن عبدالله حبيب تحدث عن تجربة الشاعر عبدالله البلوشي الذي تأثر بتجربة سماء عيسى ولكن دون أن يستنسخها.
بعد ذلك تحدث مبارك الجابري ووجه سؤاله لعوض اللويهي وكان سؤاله: لدينا مجموعة سردية لسماء عيسى ما مدى انعكاس سماء عيسى الشاعر في هذه التجربة السردية؟
فكان رد عوض أن تجربة سماء عيسى السردية والشعرية والمسرحية متداخله، مشيرا ان تجربته تتماس أيضا مع الفن التشكيلي ومع السينما والمسرح، وسماء عيسى يحاول الولوج إلى تجربة الكتابة الرؤيوية التي تحمل نفسا يتقارب مع الشعر، ولكن سماء عيسى دائما يحاول الاستفادة من كل ذلك في كتابة نصه.
ثم سأل جاسم الطارشي والذي تحدث عن سماء عيسى القارئ.. فهو كما قال ناسك متعبد في محراب الكتابة والقراءة. مطالبا أن يقدم قراءات في الكتب العمانية التي قرأها.. فرد سماء إن شاء الله، ليتدخل بعد ذلك سليمان المعمري ويقول ان سماء عيسى شارك في برنامج كتاب اعجبني وقدم 22 كتابا كلها كتب عمانية. ثم تحدثت فاطمة الشيدي التي قالت «منذ بداية قراءتنا لسماء عيسى ونحن نعتقد أنه يربي فينا الألم والحزن، سماء عيسى محصور في فضاءات القرية والموت والوجع، إلى أي مدى يريد سماء ان يكرس هذه الفكرة رغم أنه خرج من القرية في فترة مبكرة وفي حياته أفراح تستحق أن يكتب عنها».
وهو ما وافق عليه سماء عيسى لكنه قال إن كل كاتب في الأرض محاصر بثيمات معينة لا يستطيع الفكاك منها. محمد الحارثي انطلق أيضا من سؤال فاطمة الشيدي إلا أنه رأى أن ثيمة الموت التي ينطلق منها سماء عيسى تدعو دائما إلى الحياة.. ثم دعاه إلى الحياة وقال له: لك فيها متسع يا سماء، كذلك طلب منه أن يوسع أفق قراءة الميثولوجيا.
شرفة 6
استمرت الأمسية في نقاش جميل بين سماء عيسى وبين حضور الامسية. فكانت ليلة استثنائية ورائعة.. ومحلقة في سماوات سماء.
عاصم الشيدي -
شرفة 1
كانت الساعة تشير إلى السابعة من مساء أمس الأول عندما بدأ كتّاب ومثقفون عمانيون يبحثون عن مبنى الجمعية العمانية للكتاب والأدباء.. كل منهم يتصل بالآخر يسأل عن الموقع ليتفاجأ برد «ليس السائل بأعلم من المسؤول». ولم تكد الساعة تشير إلى السابعة والنصف إلا وكانت قاعة الجمعية العمانية للكتاب والأدباء قد امتلأت عن آخرها بالحضور.. كان القاص والإعلامي محمد اليحيائي يجلس في الصف الأمامي في أول حضور له للجمعية ويجلس بالقرب منه الصحفي حاتم الطائي، وكذلك الحال بالنسبة للشاعر محمد الحارثي، وحمد الصبحي وصالح العامري وآخرين يزورون الجمعية للمرة الأولى. عبدالله حبيب غالب المرض وحضر إلى الجمعية وكان سليمان المعمري يساعده في التحرك نحو القاعة. كانت الأمسية التي على وشك أن تبدأ استثنائية بالنسبة للجميع.. أو أن المحتفى به فيها استثنائي… كان الشاعر سماء عيسى هو نجم الأمسية وهو النقطة التي جذبت عشرات الحضور إلى قاعة الجمعية بعضهم يدخلها لأول مرة.. ويبدو أن سليمان المعمري الذي قدم الأمسية قد انتبه إلى هذه النقطة عندما اقتبس من الشاعر زاهر الغافري مقولة كان قد قالها عن سماء عيسى «لم تترك فعالية وجدتها أصيلة إلا وسعيت للمشاركة فيها، ذلك لأنك لا تبحث سوى عن الجوهر، عن ذلك الأصيل الضارب في الجذور، الذي تراهن عليه طبقات عبر طبقات، تراكما عبر تراكم مهما كان ضئيلا، ليشكل الوعي الثقافي ولتورق شجرة المعرفة عبر دأب صبور لكنه صادق». ولأن سماء عيسى كان حاضرا في كل تلك المحافل، ولأنه لم ينتج إلا الأصيل فإن الجميع جاءوا يبحثون معه عن الأصيل.. وينظروا من نفس الشرفة التي كان ينظر منها، يراقب منها أمهاته العديدات.. والتي وثقهن في كتابه «شرفة على أرواح أمهاتنا» الذي احتفت به الجمعية في أمسيتها.
شرفة 2
بدأت الأمسية الاحتفائية حينما قرأ سماء عيسى ثلاثة نصوص من مجموعته السردية «شرفة على أرواح أمهاتنا».. بدا صوت سماء عيسى هادئا وخفيضا كأنه آتٍ من عصور سحيقة.. ولم يخف الحس الجنائزي الذي سيطر على صوت سماء، والذي كان متناغما مع ثيمات الموت والحزن التي طغت على نصوص المجموعة وأثار لاحقا الكثير من الاستفسارات.
شرفة 3
بعد ذلك قرأ الشاعر عبدالله حبيب شهادة حول صديقه الأحب سماء عيسى حملت عنوان «سماء عيسى: اللقاء الأول وفيه بالكامل».. ورغم أن التقنية قد خانت عبدالله حبيب فلم يجد شهادته إلكترونيا كما كان يتوقع لكن الحضور اكتشفوا أن ذاكرة حبيب لا تزال قوية وحاضرة بقوة عندما أخذ يقرأ شهادته من الذاكرة. تحدثت شهادة عبدالله حبيب عن أول معرفة وأول لقاء بينه وبين سماء عيسى، اللقاء الذي كان محوريا وأبديا.
قال عبدالله حبيب: «إذا كان الإبداع يرتبط بالمخيلة فإن في بداية تعرفي إلى سماء عيسى ما هو أكثر من الخيال (وقد جودل كثيراً وبإقناع شديد انه يحدث أحياناً على أرض الواقع ما هو أكثر غرابة من الأدب الغرائبي نفسه). وقد كان في ذلك اللقاء الأول الكثير من الشعر بالتأكيد بما يليق بسماء الذي كتب أول قصيدة نثر في عمان أكثر مما يليق بي، لدرجة ان تصديق حدوث الأمر على النحو الذي حدث به سيكون صعباً على الكثيرين، لكن حسبنا اننا – سماء وأنا – نعرف ونتذكر على مر الأيام والسنين وتلاحق الأحياء والأموات أن ما حدث قد تم بذلك الشكل الغريب. وفي هذا الاحتفاء بتدشين كتابه «شرفة على أرواح أمهاتنا» أشعر أن عليَّ كمن يبوح بسر أن أتحدث عن بداية تعرفي إلى سماء عيسى. في هذا سأتحدث عن شيئين: الأول سأسميه «التمهيد للقاء الأول»، والثاني سأدعوه «اللقاء الأول».
وأضاف حبيب وكأنه يتحدث عن لقاء جرى أمس «قبل أكثر من ثلاثين سنة كنت مثل كثير من العمانيين أعمل في دولة الإمارات.وفي واحدة من فترات خدمتي كنت أعمل في شعبة من شعب المديرية العامة لشؤون الأفراد اسمها شعبة التقاعد العسكري في القيادة العامة للقوات المسلحة، وهي شعبة تعنى بإجراءات كل من تنتهي علاقته بالجيش لمختلف الأسباب.
وفي أحد أيام فترة خدمتي تلك كان على مكتبي طَنٌّ مُطَنَّنٌ من الملفات المحالة من الجهات الأربع، وكنت أقوم بوظيفتي الروتينية حين وصلتُ إلى ملف لأحد المستقيلين مُحالاً من المديرية العامة للثقافة العسكرية. فتحت الملف لأجد ان اسم المستقيل هو «عيسى حمد عيسى الطائي»، وان مهنته هي «مدرِّس»، وانه عماني الجنسية. أصبت بالفضول لسببين: الأول هو ان الشخص من عائلة الطائي، ما جعلني أربطه بالراحل عبدالله الطائي الذي كنت قد قرأت شيئاً من تجربته، وبالتالي فقد خمنت انه من نفس العائلة. وثانياً لأن «صاحب العلاقة» مدرِّس جعلني باعتباري عمانياً أشعر بالفخر، حيث انه على الرغم من ان العمانيين كانوا الجنسية الغالبة في ذلك الجيش خلال ذلك الوقت فقد كان معظمنا يعمل في مهن «دنيا»: جنوداً أو سائقين أو عمال تنظيف. أما هذا «العيسى» العماني فيعمل مدرِّساً جنباً إلى جنب مع أشقائنا المصريين أو الأردنيين أو الفلسطينيين المؤهلين، ما جعل شعوري بالزهو في مكانه. وعلى من يسمع هذا الكلام أن يحاول التفكير بحساسية ومعطيات تلك المرحلة».
يواصل عبدالله حبيب حديثه: «ظل اسم عيسى حمد الطائي في ذاكرتي لمدة، لكنه بدأ في التلاشي بالتدرج إذ لم يحدث في الحياة ما يعضد وجوده في الذاكرة. لكن بعد حوالي سنة من ذلك حدث شيء غريب آخر هو «اللقاء الأول» بسماء عيسى. ذات يوم اثنين، قبل أكثر من ثلاثين سنة شاءت «المصادفة» أن تنشر لي الصحافة الإماراتية ثلاث مواد في نفس اليوم، ومنها قصتي القصيرة «العائد متوحداً بالترتيلة الزرقاء». كنت في إجازة طبية في ذلك اليوم، ولذلك فإني ارتأيت أن أزور صديقي الكاتب اليمني الراحل سعيد محمد دُحَيْ. في حوالي العاشرة من صباح ذلك اليوم ضغطت على زر جرس الشقة، لكن المرحوم سعيد دحي لم يكن موجوداً هناك، بل خرج لي شخص حاسر الرأس يرتدي دشداشة عمانية بيضاء ويدخن سيجارة. بمجرد أن فتح الباب ورأيت وجهه قلت في نفسي: «هذا شخص رأيته في مكان ما من قبل»!. اقتضت طبيعة المجاملات أن يصطحبني ذلك الشخص إلى غرفة الجلوس («تفضل، تفضل»)!. وفي غرفة الجلوس رمقت المنضدة بنظرة لأفاجأ بوجود المطبوعات الثلاث التي نشرت نصوصي الثلاثة في نفس اليوم وهي مفتوحة على الصفحات ذاتها التي نشرت فيها المواد، فشعرت بارتباك شديد.
كنت أرمق كل شيء وأنا مرتاب من كل شيء، وكان هو يرمقني أيضاً. لكني بحلول ذلك الوقت أدركت نسبياً انني أمام نفس «العيسى» الذي أنهيت إجراءات استقالته بالسرعة التي يستحقها شخص عماني لا أعرفه لكني كنت فخوراً بأنه مدرس في جيش الامارات قبل حوالي سنة.ومع ذلك فقد كان الوضع مربكاً أكثر مما ينبغي وغير مريح أبداً بالنسبة لظروفي. لذا فقد حسمت الأمر ووقفت استعداداً للانصراف وقلت: «آسف أنا مضطر أروح. من فضلك قول للأخ سعيد انه شخص اسمه عبدالله حبيب جاك وما حصَّلك». قال لي: «أه، انته فلان؟!. أنا والله شكيت انك فلان من أول ما شفتك. إيش رايك نجلس شويه ونشرب قهوه وندخّن سيجارة سيجارتين مع بعض؟»، وسحب سماء لفافة من علبة سجائره الـ «دنهل». فكرت بسرعة ثم أردفت: «طبعاً، طبعاً، بكل سرور، بس اسمح لي أنزل شويه تحت حتى أجيب علبة سجايري من السيارة. انا ما أدخن «دنهل. أنا أدخن مارلبورو».
ويواصل عبدالله حبيب في شهادته «بدأنا في الحديث عن الأدب، وأبدى سماء ملاحظات نقدية حول نصوصي الثلاثة التي كان قد قرأها قبل وصولي.لكن بعد حوالي ساعة من الحديث حول الأدب إذا بالكلام ينجرف بسلاسة وعفوية نحو منطقة أخرى «محظورة» لا يتحدث فيها اثنان إلا بعد أن يكونا قد عرفا بعضهما البعض عن قرب لمدة طويلة أنجبت الثقة. بدأ كل منا يروز الآخر، ويختبره، ويماطله بالكلام، والنظرات، والتعليقات، والتعقيبات التكتيكية. كان من الواضح لكلينا ان ثمة شيئا فيه الكثير من المحبة العميقة والخطر الشديد قد ابتدآ ولا يمكن إيقافهما أو تغيير مسارهما. لم تتدرج ثقتي بسماء من القليل إلى الكثير كما يحدث في العلاقات بين البشر،ولم أعرفه قليلاً ولا كثيراً حتى أصل إلى تلك الدرجة. كلا، ففي تلك النظرة ولدت الثقة كبيرة دفعة واحدة. ومنذ تلك النظرة البعيدة لم تزد تلك الثقة ولم تنقص، ولن تزيد ولن تنقص فهذا بالضبط ما هو مكتوب لها: دفعة واحدة، مرة واحدة، لن تزيد ولن تنقص. كانت الساعة قد بلغت حوالي الثانية ظهراً حين اقترحت عليه تناول الغداء في مطعم يمني مجاور. كنا –سماء وأنا — نحكي عن كل شيء مع الشاي والسجائر بعد الغداء بأقصى ما يمكن من الإريحية والتلقائية.
ويختتم عبدالله حبيب ورقته بالقول مخاطبا سماء عيسى «سماء عيسى: لن أراجع نفسي في إبداعك، وصداقتك، وإنسانيتك، ورفاقيتك. وشكراً جزيلاً لوجودك معنا على هذه الأرض».
شرفة 4
بعد عبدالله حبيب كان دور الحديث للشاعر عوض اللويهي الذي قدم ورقة بعنوان «قراءة في شرفة على أرواح أمهاتنا للشاعر سماء عيسى».
وركزت ورقة عوض اللويهي على أربع ثيمات، الثيمة الأولى ركزت على الشرفة، الشرفة التي كان يطل منها سماء عيسى على أرواح أمهاتنا. وحاول في البداية ان يبحث عن معناها في اللغة وفي الدارج العماني. لكنه بعد قليل وجد نفسه يبحث عن الشرفة في ثنايا النص حيث اكتشف أن معظم النصوص قائمة على وجود شرفة يطل منها الكاتب أو بطل النص على الآخرين. وتنوع المعادل الموضوعي للشرفة، فهي تظهر احيانا كأنها شباك وأحيانا نقاب امرأة، وأحيانا الطلل المتداعي. ثم بعد ذلك انتقل عوض اللويهي لبحث صورة الأمومة في نصوص المجموعة حيث تعدد الأمهات في النص فلا نكاد نقف عند أم واحدة فالعمة أم والخالة أم والجدة ام، ولا تقتصر الأمومة على البشري بل إن النص بحسب عوض اللويهي يؤنسن حالة الأمومة التي عند الحيوانات كما هو عند النعامة في احد النصوص، بل إن فعل الأمومة يتعدى من الكائن البشري حين تصبح شاة «أسمى» كواحدة من الأسرة بفعل الخالة التي تعتني بها في القرية. ثم يتطرق عوض إلى بحث صورة الفقد بين القرية والمدينة. وتبدو صورة الفقد في المدينة أشد وحشة وألما. ثم تبع الورقة صور ودلالات الموت في المجموعة هذه الثيمة وقف عليها لاحقا المتداخلون في الأمسية الذين رأوا أن نصوص سماء عيسى الشعرية أو السردية أو اشتغالاته الأخرى لا تكاد تفارقها.
شرفة 5
بعد ذلك بدأت المداخلات من الحضور والتي بدأها الكاتب محمد اليحيائي وكان السؤال موجها إلى عبدالله حبيب بالتحديد: أين تقرأ تأثير سماء عيسى على التجربة الشعرية اللاحقة في عُمان؟
فكان أن رد عبدالله حبيب.. سماء عيسى يغمط حقه دائما، هو أول من كتب قصيدة النثر في عمان ولكن هو من كرس الجهل بهذه الريادة. ولكن سماء عيسى في مقابل ذلك يمارس أبوية، بالمعنى الايجابي، وهو يتبنى الكثير من الشعراء الشباب ويجلس معهم ويراجع معهم ما يكتبوه، دون أن ينعكس حضوره عليهم. لكن عبدالله حبيب تحدث عن تجربة الشاعر عبدالله البلوشي الذي تأثر بتجربة سماء عيسى ولكن دون أن يستنسخها.
بعد ذلك تحدث مبارك الجابري ووجه سؤاله لعوض اللويهي وكان سؤاله: لدينا مجموعة سردية لسماء عيسى ما مدى انعكاس سماء عيسى الشاعر في هذه التجربة السردية؟
فكان رد عوض أن تجربة سماء عيسى السردية والشعرية والمسرحية متداخله، مشيرا ان تجربته تتماس أيضا مع الفن التشكيلي ومع السينما والمسرح، وسماء عيسى يحاول الولوج إلى تجربة الكتابة الرؤيوية التي تحمل نفسا يتقارب مع الشعر، ولكن سماء عيسى دائما يحاول الاستفادة من كل ذلك في كتابة نصه.
ثم سأل جاسم الطارشي والذي تحدث عن سماء عيسى القارئ.. فهو كما قال ناسك متعبد في محراب الكتابة والقراءة. مطالبا أن يقدم قراءات في الكتب العمانية التي قرأها.. فرد سماء إن شاء الله، ليتدخل بعد ذلك سليمان المعمري ويقول ان سماء عيسى شارك في برنامج كتاب اعجبني وقدم 22 كتابا كلها كتب عمانية. ثم تحدثت فاطمة الشيدي التي قالت «منذ بداية قراءتنا لسماء عيسى ونحن نعتقد أنه يربي فينا الألم والحزن، سماء عيسى محصور في فضاءات القرية والموت والوجع، إلى أي مدى يريد سماء ان يكرس هذه الفكرة رغم أنه خرج من القرية في فترة مبكرة وفي حياته أفراح تستحق أن يكتب عنها».
وهو ما وافق عليه سماء عيسى لكنه قال إن كل كاتب في الأرض محاصر بثيمات معينة لا يستطيع الفكاك منها. محمد الحارثي انطلق أيضا من سؤال فاطمة الشيدي إلا أنه رأى أن ثيمة الموت التي ينطلق منها سماء عيسى تدعو دائما إلى الحياة.. ثم دعاه إلى الحياة وقال له: لك فيها متسع يا سماء، كذلك طلب منه أن يوسع أفق قراءة الميثولوجيا.
شرفة 6
استمرت الأمسية في نقاش جميل بين سماء عيسى وبين حضور الامسية. فكانت ليلة استثنائية ورائعة.. ومحلقة في سماوات سماء.