
طابور آيفون 6 أمام مكتبة كتب ..!
جريدة الرؤية
تداول في وسائل التواصل الاجتماعية " الفيس بوك " و " تويتر " منذ وقت قريب ، خبر مع صورة شاهدة فنحن في عصر الصورة بامتياز ، الخبر يكتب والصورة تثبت ما يقوله الخبر بأن المئات من السعوديين أمام مكتبة " جرير " .. لوهلة حين تقرأ هذا الخبر تتفاجأ وتفرح في داخل نفسك لا سيما حين تكون قارئا أو كاتبا ، فإن الفرح يتمدد في قلبك الصغير ، ولا يذهب حيز تفكيرك سوى أن هؤلاء المزاحمون أمام مكتبة معروفة ببيع الكتب ونشرها يترقبون في طابور عريض لاستقبال كتاب جديد صادر حديثا ، وهذه الحادثة تذكرك كقارئ شغف يلاحق كل كتاب جديد من مكان إلى آخر بــــ " ظاهرة ثقافية " غدت عادة في دول أوروبا وأمريكا وبعض الدول آسيا ، حين يحتشد آلاف من القراء لينال كل منهم نسخته قبل أن تنفذ من كتاب الصادر حديثا لكاتب يحب أن يقرأ له ، أو يسعى لأن يقرأ عنه ، أو يقرأ له ؛ لأنه ببساطة يرى العالم بكل خرائبه ومآسيه وكوارثه وجمالياته ونبله وخيره في كتاب يفر منه وإليه ، كما حدث في اليابان حين اصطف مئات من القراء حتى ساعات الفجر الأولى متلهفين لشراء النسخة الأولى من رواية الكاتب الياباني " هاروكي موراكامي " الجديدة أمام مكتبة في طوكيو ، كما اصطف أيضا قراء رواية " هاري بوتر " صدور الجزء الأخير من الرواية ، وقراء آخرين تزاحموا لنيل نسخة من رواية " الرمز المفقود " للروائي " دان براون " .. فيالها من ظاهرة ثقافية ، ويا لها من عادة مدهشة ، ويا له من مشهد يخطف الأنفاس ، حين تشاهد أو تسمع أو تقرأ بأن أفرادا من شعبك أو جنسك أو قبيلتك أو من مذهبك – حسب التصنيف الديني – السائد للناس حاليا ، على الرغم من أنك ضد هذا التصنيف تماما بل ضد كل ما يخضع الإنسان للتصنيفات ؛ لينسفوا المفهوم الحقيقي للبشر في كونهم سواسية كأسنان المشط ، لكن هذا لا يتوافق ومصالح كثير من الأشرار في هذا العالم ، أولئك الذين هم عشاق التصنيف وأعداء كل من يلغي التصنيف ..!
تلقي بعقد التصنيفات خلف ظهرك ، وتحلم كخيالي بأن العالم القادم يسعى إلى تصنيف البشر على أساس أنهم قراء وغير قراء ، عشاق الكتب وأعداء الكتب ، أفرادا لا تعرفهم وليس لك صلة بهم ، ولكن الجامع الوحيد بينك وبينهم هو حب القراءة وشراء كتاب ..!
في السعودية ترى المشهد نفسه ، وترى الحشد الذي سبق ورأيته وقرأت عنه في الصحف ووسائل التواصل الاجتماعية حين تداولوا صور مئات من القراء ينتظرون كتابا ، أجل لا بد وأنهم في انتظار صدور الطبعة الأولى من هذا الكتاب الذي يستقبلونه طازجا ؛ من هو هذا الكاتب العربي المحظوظ يا ترى أو الكاتبة المحظوظة ..؟ من يمكن أن يؤخر نومه حتى الساعة 12 تمام منتصف الليل سوى قراء مجانين أمثالك ..؟! هكذا تفكر لوهلة ، لكن مهلا جلّ توقعاتك ككقارئ تسقط في خيبة مريرة ، حين تكمل قراءة بقية الخبر المتداول والذي يقول بأن أولئك السعوديين متزاحمون أمام مكتبة " جرير " لشراء iphone6 ..!
تلملم خيبتك الكسيرة ، وتؤمن كقارئ أن ليس جميع الناس على سجية واحدة ، ولا تجمعهم الاهتمامات نفسها ، بل أنت أكثر الذين يؤمنون بالعبارة التي تقول : " لولا اختلاف الأذواق لبارت السلع " ..!
لكنك في الوقت نفسه يقظ تماما لاختلاف توجهات الناس وسعيهم الحثيث تجاه ما تجلبه لهم التقنيات الحديثة من أجهزة منوعة ، وفي مجالات شتى ، وأنت نفسك تولي اهتماما ببعض أنواع تلك الأجهزة المفيدة ، ولست ضد انفتاح الناس على العالم ، ولكنك ضد هذا اللهاث الغريب لدى بعض الأفراد في - الوقت الحاضر - إلى مراكمة الأجهزة في بيوتهم وسياراتهم وفي كل مكان يكونون متواجدين فيه ؛ لمجرد استعراضها أمام الآخرين ، لمجرد أنه يوحي للعالم بأنه إنسان حضاري ، وأن أفراد أسرته حضاريون كذلك ، حين يهدي طفلا من أطفاله دون الثالثة جهازا الكترونيا مهما بدت استخداماته ، ثم يلتقط له صورة ليكمل مسلسل استعراضاته في الانستغرام بغية التباهي بطفله الحضاري ..!
*ولم يفكر قط أن طفله المسكين يحتاج إلى أب حقيقي يهتم به لا أن يهديه جهازا يحل محله ؛ لأنه كأب ليس لديه متسع من الوقت فهو مشغول في عمله أو مع أجهزته الخاصة حين يتواجد في البيت ، الطفل الذي يحتاج إلى حنان الأم واهتمامها المسؤول ، لكنه حين يولد هذا الطفل في عصرنا التقني ماذا يجد حوله ..؟ مجموعة أجهزة وألعاب الكترونية غزت أول وأهم أعوام انفتاحه على العالم ، فهو ما يزال في الأعوام الأولى من طفولته ، تلك الأعوام لا يدرك كثير من الآباء مدى خطورتها وأهميتها في حياة طفلهم ، تلك الأعوام الأولى هي التي تبلور شخصيته كإنسان بالغ حين يكبر ، ويعتقدون أن مجموعة من الأجهزة يمكن لها أن تصنع لهم طفل المعجزة ..!
تعود وتستعيد خبرات العالم الآخر وأفكارهم الحكيمة في تنشئة الأطفال ، فتقرأ أن في أمريكا عندما يدلف الصغار إلى أسرتهم لا سيما في أعوامهم الأولى ، فإن كتابا لابد أن يكون موجودا إلى جوار دمية الدب الشهيرة ، ووقت الاستحمام تجد كتابا بلاستيكيا جنبا إلى جنب مع اللعب التي تأخذ شكل المراكب والسفن في حوض الاستحمام مع الصغار ، وشيئا فشيئا يعتاد الأطفال ذلك ، وينتهي بهم الأمر إلى قبول الكتب باعتبارها جزءا مهما لا يتجزأ من حياتهم *؛ فالآباء في الولايات المتحدة يعرّفون أطفالهم بالحضور المرتبط بالكتب ..!
وتقرأ أن في اليابان يخصصون للطفل غرفة مليئة بأجهزة وأدوات وأشياء مختلفة في مجالات شتى منها التقنية و الفن و القراءة وغيرها ، كل تلك الأشياء يجمعونها في غرفة واحدة ثم يراقبون توجهات طفلهم إلى أن تتجه ؛ ليقوموا بتنميتها له ..!
أما في دولنا العربية ، فإن معظم الآباء للأسف يضعون في يدي طفلهم جهازا يستهلك جل وقته ، ولا فائدة تذكر سوى أنه ينتقل من لعبة إلى أخرى ، وما من غاية سوى أن ينشغل الطفل فلا يسبب إزعاجا لوالديه* المشغولين بأجهزتهم ..!
سرعان ما يضجر الصغير ويسعى إلى تحطيم الجهاز الذي يرافقه حتى فراش نومه ، فهي في النهاية آلة ولا تحكي له قصصا بصوت أمه أو أبيه ما قبل النوم ، ولا تطبطب على حزنه حين يبكي ، ولا تمنحه الحب والحنان حين يكون في أمس الحاجة إلى حضن أم وقبلة من أب ..!
أعتقد أن لدى كل منا ما يكفيه من أجهزة ، وحان الوقت لنستعيد حياتنا قليلا التي أصبح العالم التقني يسلبها رويدا رويدا ..!
ليلى البلوشي