عن أبِي .. الذيْ ليسَ من زماننا

    • خبر
    • عن أبِي .. الذيْ ليسَ من زماننا

      AyshaAlseefi كتب:

      "شهرٌ من الموتِ يا أبي .. شهرٌ من صحبَة التراب"
      زرتُكَ قبلَ أيامٍ يا أبي مع اخوَتي سليمَان وماجد .. سووا قبرَك ورتّبوا حجارته .. لم أتمكّن من البكاء ولم أجرُؤ على مغادرةِ السيارة حتى أشار عليّ سليمان بأن آتي .. لا يزالُ الفقدُ طرياً .. نظرتُ إلى قبرٍ حفر بجانبك وقد أعدّ لاستقبال جثّة مؤجلة .. قلتُ لهم إذن هذه هي مساحة حياتنا حتّى قيامتنا .. قالا لي: لا .. بل تلك هي مساحتك .. نظرتُ إلى أدنى القبر فوجدتُ مساحة ضيّقة لا تقاس إلا بالسنتيمترات.. قالوا لي: هي تلك حجرة القبر .. دهشتُ وتداعى إليَّ حديثُ الناس عن صغرِ مساحات غرف بيتي الجديد.. أربع أمتار في أربع أمتار .. يقول الناس لي: أوه غرفة صغيرة!
      سنعيشُ فيها عشرين أو ثلاثين عاماً .. ولكننا سنعيش قروناً ودهوراً إلى قيامتنا هنا .. نعم! لم أتمكن من البكاء .. استغرق سليمَان في الحديث عن الرّوح ومكامنها وأنها سرّ الجسد وعوالم الأرواح.. وعن تجلي الرّوح وتجربة مغادرة الجسد والعودَة إليه .. قال كلاماً كثيراً .. ولكنني كنتُ أفكر: هل متَّ حقاً؟
      هل تعرفُون كيف يحضرُ الألم؟ إنه ليسَ اللحظة التي تودّع فيها ميّتك إلى الأبد .. إنها اللحظات التي يحدّثك فيها أحدهم عن أبيك وينهي حديثه بـ: الله يرحمه .. الدهشة التي تنتابك فورَ سماعك الجملة!
      إنها اللحظة التي تستيقظ فيها وسط العتمة في منتصف الليلِ وتشعرُ برغبةٍ شديدة في الارتماء في حضن أبيك
      إنها اللحظة التي تدخلُ فيها إلى المنزل قاصداً غرفته بفعلِ العادة .. وتتذكر لحظتها أنه غادرَ إلى الأبد ..
      إنها اللحظات التي تستعيدُ فيها موقفاً ما وتتساءل: لماذا لم أفعل كذا؟ لمَ لمْ أسألهُ عن كذا؟ ليتني قلتُ لهُ أنني ....
      اللحظاتُ الأكثر ألماً هي تلك التي تحاولُ فيها استيعاب فكرَة الرحيل الكبير .. اللحظة التي يهيّأ لك أنه سيدخل عليكَ من الباب .. اللحظة التي يطعنكَ أحدهم بقولهِ: المرحوم أبوك .. (أبوي مات؟) تحدثّ نفسك
      اللحظة التي تتلعثمُ فيها حين يفاجئك أحدهم بتعزيتك ولا تعرفُ كيف تردّ عليهم
      أعترفُ أنني لم أعرف أبي كثيراً .. وربما اقتربتُ منه أكثر عندما بدأ يتخلّى عن قناع صرامته ويعُود إلى أصلهِ: ذاتهِ الرقيقة اللينة .. كانَ أبي رقيقاً كثيرَ البكاء في السنوَات الأخيرة ..
      أقرأ عليهِ كتاب إحياء علوم الدين للغزالي فيجهش بالبكاءِ لمقطعٍ عابر .. أخبرهُ أن ذلك اليوم هو يومِ هجرَة النبي مع حبيبهِ أبي بكر إلى المدينَة فيبكي .. أقولُ لهُ أني ذهبتُ إلى العمرة وحمَلتُ عنهُ سلاماً إلى نبيهِ محمّد فيبكي ..
      أقولُ لهُ: أبي ، أتعرفُ كم بنتاً لديك؟ يردّ علي: لا .. أقولُ لهُ: عشرُ بناتٍ يا أبي .. فيبكِي ..
      أقولُ له: وأنا دلّوعة البنات أصغرهنّ! فيضحَك ..
      قبلَ رمضانَين لم يعد بمقدرَة والدِي الصيام لاعتلالِ صحّته .. حاولَ الصيامَ أوّل رمضان فازداد حالهُ سوءاً وحذّرنا الأطباءُ من تداعيَات صيامهِ ..
      قلنا لهُ: لا تصُم يا أبي .. أنت معذُور ..
      فيبكِي وهو يقول: ولكنَّ الجنّة غالية .. ترى الجنّة غالية يا أولادي!
      لقد كتبتُ عن كلّ أحد ولم أستطِع الكتابَة عن أبي.. لم يكُن بمقدوري ذلك لخوفِي منْ أن أخدشَ عزلتهُ التي اختارهَا لنفسه في حياتهِ .. أو يقال عنهُ سخّر ابنتَه لمديحه وهوَ الأبعد ما يكُون عن السعي ورَاء المديح .. أما وقد استغنى اليَوم عن الدنيا وجاهها وسلطانها وريائِها فقد آن أن أحكي لكم القليل عنه .. كان ببساطةٍ رجلاً من غير زماننا ..
      أريدُ أن أخبركم عن أبي أحمَد ، الرّجل الذي كثيراً ما كتبت عنهُ في مقالاتي .. كثير التصدّق حتى قالَ النّاس أنهُ يأخذ من "أموال الديوان" ليوزعها على الناس وما ذلك لسخاءٍ منه بل أعطيةٍ من الحكومة .. ذلكَ كانَ أبي ..
      في السنوَات الأخيرة ازدادَ عددهم حتّى كان جرسُ بيتنا لا ينام طوالَ أيّام رمضان.. وبلغَ الأمرُ بهِ ذات رمضان أن ازداد عدد المحتاجين عما لديهِ من المَال .. فاقترضَ من أحد اخوتي لكي لا يحرم أحداً من صدقتهِ .. نعم ، كانَ يقترضُ ليتصدّق .. ذلكَ هو أبي
      من المصَادفاتِ المؤلمة التي حدثَت يومَ وفاتهِ كانت حينَ كتبت أختي في مجمُوعة العائلة أنها سجّلت ابنتها في مدرسَة القرآن التي بناها جدّها..
      كلّ مرةٍ تلتقيها معلّمة القرآن لابدّ أن تقول ذات العبارة: كان تراب السيارات يعفرنا إلين جا محمد بن ماجد وحسن علينَا .. عساه بجنة عرضها السماوات والأرض ..
      سأحدّثكم عن أبي .. أبي الذي كانَ إذا وجد طريقاً ضيقاً ذهب إلى ما جاورهُ من أراضٍ واشترى من أصحابهَا أمتاراً للسبيلِ لتوسعَة الطريقِ للنّاس .. أبي الذيْ كانَ يجمعُ ماله طوال العام لينفقهُ في رمضَان .. أبي الذي كانَ الناس يأتونهُ لتمويلِ مشاريع خيريّة مرةً في عمان وافريقيا وماليزيا .. لم يفكّر يوماً في حضورِ أيّ افتتاحٍ لها.. كانُوا يجلبُون لهُ صورَ تنفيذها وافتتاحها وكنّا في كثيرٍ من الأحيان نشكّك بصدقهَا فيردّ بهدوء: إن كانَت أموالي بلغتهم فالحمدلله وإن لم تبلغهم فقد بلغَ أجرها عندَ الله ..
      كنتُ أعدّ ملابسهُ للعيد .. أكويها وأبخّرها ، كانَ لديه مصرّ واحد للأعياد لا أذكرُ أنه تغيّر منذ عهدتهُ قطّ وفي كثيرٍ من الأحيانِ لا أجدُ دشداشةً له.. لم يكن يكترثُ يوماً لذلك ولذا فقد كانَ أحد إخوتي يتولى خياطَة دشداشة له من أجل هذه المناسبات .. أبي الذي عبرَ إحسانهُ القارات لم يكنْ يكترثُ ليقتني دشداشة واحدَة جديدَة للعيد! هكذا كانَ أبي
      سأخبركُم عن أبي الذي قضيتُ 12 عاماً من عُمري وأنا أجلسُ خلفَ بابِ مجلس العلم الذي كانَ يقيمهُ مع طلابهِ كلّ ليلة .. كل يومٍ أضعُ حقيبتِي عند باب المجلس وأنهمكُ في حلّ دروسي وواجباتي وأنا أستمعُ بينَ الحينِ والآخر لأحاديثه وشروحاتهِ ..  لم تكن الكثيرُ من الكتبِ التي يقرؤُونها تستهويني لكنني أزعُم أنّ حصيلتي اللغويَة لم تكن لتتشكّل دونها .. حينَ بلغتُ السابعَة بدأ معي دروسَ تعلّم القرآن رفقَة أشقائي.. لم يمرّ يومٌ واحدٌ دونَ أن نقيمَ الدرسَ .. كنّا نتململُ أحياناً فيقرأ علينا هذهِ الآية: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ" .. الآن أكثر من أيّ وقتٍ مضَى يتداعَى إليّ صوتهُ وهو يقرأ هذهِ الآية .. فأجهشُ بالبكاء!
      كانَ أبي شديد الصرَامة ، لكنّه لم يضربنِي قط .. نظرةٌ واحدةٌ منه كانت كافيَة لكسري .. أنا لم أعرفِ اليتم قطّ .. ولكنني أعرفُ اليَومَ ما يعنيهِ عبدالله حبيب حينَ يقولُ أنّ اليتمَ لا يعرفُ عمراً .. لقد كبرتُ ولكنّ اليتم في قلبي هوَ يتمُ ابنةِ الثالثة التي لا تعرفُ في الحياةِ من سندٍ إلا أبويها .. لقد ذهبَ أبي
      في آخرِ أيّامهِ بدأ والدي يفقدُ ذاكرتهُ وعوضَ ذلكَ تعُود إليهِ الذاكرة القديمة ..
      دخلنَا عليهِ فوجدناه يبكي وحينَ سألنَاهُ ما الذي يبكِيهِ قال: أريدُ أمّي
      قلنا له: أمّك متوفاة
      فاشتدّ نحيبه وهو يقول: كارثة! مصيبة..
      ابنُ الثمانين يبكِي أمّه التي ماتت قبل نصفِ قرن .. إنهُ اليتم الذي لا يعرفُ عمراً
      لا أريدُ أن أحزنَ عليك يا أبي .. لأنني أعرفُ في داخلي أنكَ بخيرٍ وفي نعمةٍ من الله .. وأعرفُ أنكَ أخذت من الحياة قسطاً كبيراً وأنك أنتَ وحدكَ من اخترتَ طريقتكَ هذه الحياة حتّى لقيت ربّك.. لا أريدُ أن أحزنَ وعوضَ ذلك أريدُ أن أحتفي بحياتك .. كنتَ عابراً سريعاً على الحياةِ .. زاهداً عنها .. سيكبرُ أبنائي ولن يعرفُوك ، ولكنني سأحدّثهم عنكَ كثيراً وأكثر من ذلك فسأكملُ ما استطعتُ رحلَة الإحسانِ والعطاءِ التي كانتْ عنوان حياتِك .. في رحيلكَ لازمنا طوالَ فترةِ العزاء أشخاصٌ لم نعرفهم يوماً .. لكنّهم كانوا يعرفونك .. يعرفُون إحسانك ..
      لا أريدُ أن أحزنَ يا أبي .. ولكنْ أن أعلّم أبنائي قيمَ العطاءِ التي علّمتنا إيّاها في زمنِ الشحّ والطمعِ هذا ..
      عساكَ يا أبي في دارٍ خيرٍ من دارِك .. دار الأنبياء الذينَ رأيتَهُم في مناماتك وحدثتنا سعيداً عنهُم .. لقدِ استغنيتَ اليَوم عن كلّ شيء .. تاركاً لنا ليالي الأرقِ الطويلة ، تداعي الذكريَات المضنِي ، اللهاثَ وراءَ تفاصيل الحيَاة الصّغيرة
      أستودعكَ الله يا أبي .. أستودعكَ الله يا حبيبي ..
      Source: ayshaalsaifi.blogspot.com/2016/02/blog-post.html