Source: atheer.om/archives/27271/%d8%b…%d9%84%d8%b6%d8%ad%d9%83/Atheer News كتب:
محمّد الهادي الجزيري
عَوَى الذئبُ فاستأنستُ بالذئبِ إذ عَوَى
وَصَوَّتَ إنسانٌ فكدتُ أطيرُ.
الأحيمر السعدي
كم جرعة من المعرفة تلزم الإنسان ليحقّق كينونته أثناءإقامته الخاطفة في الأرض، كم جرعة ليفتكّ مكانا ومكانة في زحمة الآخرين؟ وهل الإدمان ضررٌ محض حتّى إن كان هوسا بالثقافة والعلم والفنون؟ ثمّ ألا يمكن أن تكون السعادة في الضفّة الأخرى من عزلة المثقّف اختياريّة كانت أو اضطراريّة؟ ألا يمكن ان تكون هناك حيثيتحصّن القطيع بالجهل واللامبالاة ضدّ الصداع اليوميّ الذي يتخبّط فيه نزر من الناس اختصروا الحياة ولخّصوها في أكوام من الكتب وقائمات من الموتى ” الخالدين ” ؟
تلك هذه بعض الأسئلة الحارقة التي تثيرها فينا رواية ” ذئب البراري ” لهرمان هسة ، في طوافها طوال التعلّة الحكائيّة واللعبة السرديّة بالنفس البشريّة وما يعتمل فيها من نزوع إلى الذئبيّة وتشبّث بالمشاعر الإنسانيّة وفي مقدّمتها الحبّ والصداقة ومشاركة الناس أحزانهم وأفراحهم بعيدا عن ضجّة المعارف وهلوسة “الأنا العالمة”…
كُتبت الرواية في فترة حرجة من مسيرة الإنسانيّة، ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، في مناخ عالمي يطغى عليه القلق والخوف والترقّب، وتتفشّى فيه الدعوات الطافحة بكره الآخرين وبشوفينيّة متوثّبة، مهووسة بفكرة تفوّق “الأنا” و”النحن” على الإنسانيّة جمعاء. ومن هذه الزاوية يمكننا القول إنّ ” ذئب البراري ” وثيقة تاريخيّة في قالب إبداعيّ ، اقتنصت لنا تفاصيل اجتماعيّة وهواجس ثقافيّة ومشاحنات سياسيّة ذات صلة بعشرينيات القرن الماضي، كان لها دور حاسم في تحويل وجهة العالم إلى ما هو عليه اليوم، فالرواية تنقل لنا مرض عصر بعينه واحتقان مثقّف تلك الحقبة وتململه،ولكنّ احتقان الأمس هو ذاته احتقان اليوم، وكأنّ قدرنا أن نظلّ ندور حول البئر ذاتها، تماما مثل “جمل برّوطة” بعينيه المعصوبتين. ألا ترفع هذه الرواية الغشاوة عن أعيننا قليلا؟ أليست أسباب التململ أمس هي نفسها أسباب التململ اليوم في عالم نسمه زيفًا بالعالم الجديد؟ إنّها الهواجس ذاتُها والأسئلة ذاتها والحرائق ذاتُهاوالتجاذبات الدوليّة ذاتُها والأفكار العنصريّة ذاتُهاوالأطماع الجليّة لرأس المال المتوحّش ذاتُها، وآه من “ذاتُها” هذه، التي جعلت شعار الواحد منّا: “هاتها، لا أرى غير أرض تصرّ على ضمّ ذاتي إلى ذاتِها”.
“ذئب البراري”: عمل سرديّ باهر من أبرز سماته النفاذه في مرحلته الزمنيّة الحرجة والتغلغل في ما وراء الصمت، ولكنّه لا يتنازل عن أدبيّته، شأن الإنسان الّذي لا يودّ التنازل عن ذئبيّته إلى الآن، فجلّ ما يطرحه ” ذئب البراري ” أسئلةٌ لم تزل متلبّسة بالكائن الإنسانيّ الممزّق بين ذئبيته وتوحّشه وما يطمح إلى بلوغه من كمال وسكينة … ، أسئلة تنتقل بكلّ وهجها من جيل إلى آخر، من مثقّف عاش ما بين حربين رهيبتين إلى مثقّفين يتوغّلون في القرن الواحد والعشرين زمرةً من الغرباء المهمّشين المغيّبين بشتّى الوسائل عن عصرهم ومجتمعهم….
تطرّق هرمان هسة بإسهاب نسبيّ إلى ثنائيّة الإنسان والذئب داخل الكائن البشريّ، لكنّ الذئبيّة التي تلبّس بها بطل الرواية كان المراد منها تحقيق الحريّة الفرديّة والاستقلال النفسيّ والفكريّ، فعداؤه لمجتمعه ونقمته عليه ، لم ينتجا ذئبا مولعا بالدم وتائقا للقتل، بل إنّ “هاري هاللر” لجأ إلى غياهب نفسه الموحشة رفضا للطقس العام المهيمن على مجتمعه وعلى العالم، الطقس المشحون بالكراهيّة والتحريض على إلغاء الآخر، وقد عبّر هيسه في أكثر من فقرة على لسان بطل روايته عن رفضه للحرب واشمئزازه من الداعين لها والمحفّزين عليها:
” ..أثناء احتدام الحرب كنت أناهضها، وبعد انتهائها رحت بين وقت وآخر أستشير السكينة والصبر والإنسانيّة(…) وقاومت الشوفينيّة القوميّة التي كان صوتها يغدو في كلّ يوم أكثر غلوّا وجنونا وانغلاقا “
من الواضح إذن أنّنا أمام ” ذئب ” هارب من وليمة دم ، تنبّأ بالحرب الرهيبة القادمة وخيّر وحشة العزلة على المشاركة في الجريمة الكبرى ، لكنّه لم ينج تماما من مشاعر عدوانيّة كاحتقار عيّنة من أصدقائه ومعارفه القدامى والرغبة في إهانتهم إلى أن قاده نفوره منهم إلى مقاطعة العالم برمّته باستثناء صديقة تظهر لتختفي،وصاحبة منزل استأجره، وبعض الأشباح والأطيافالمتقاطرين من عالم الكتب والوحشة والهلوسة ..
إلى جانب رسمها للمجتمع الألماني في حقبة العشرينيات وتشريح علله وأمراضه المستفحلة، تغوص بنا الرواية في باطن الإنسان وتنقل لنا بإبداعيّة عالية صراعا محموما بين الجمال والبشاعة، بين الحبّ والكراهيّة، بين الانفتاح على الآخر والانغلاق التامّ في وجهه، لا أحد من هذين الضدّين يركن إلى مهادنة الآخر ، فالذئب ممثّل الشقّ الأوّل لا يفوّت فعلا نبيلا وجميلا يقوم به الجانب المشرق في الشخصية دون أن يسخر منه ويحقّره ، والشقّ الثاني يتربّص بضدّه ويحاصره بشتّى طرق التأنيب، هازئًا بعزلته التي تزداد ضيقا يوما إثر آخر، إضافة إلى سؤال الموت الذي يحضر بقوّة في منعطفات الرواية، والرغبة الجامحة في وضع حدّ للضياع داخل الحلقة المغلقة المسمّاة حياة ..
سيرى قارئ هذه الرواية نفسه في مواقف كثيرة أوردها السارد في اقتفائه لتشرّد الشخصيّة الرئيسة الباحثة عن معنى للوجود ، وهذه ميزة كلّ أثر إبداعيّ خالد، إذ أنّ هرمان هسة أوغل في الذات الإنسانيّة في المطلق على غرار روايات عظيمة أخرى، مثل ” الجريمة والعقاب ” لديستوفسكي و” الساعة الخامسة والعشرون ” لقسطنطين جيورجيو ، أو ” قطار الليل إلى لشبونة ” لباسكال مرسييه، و”ظلّ الريح” لكارلوس زافون، وغيرها من الأعمال السرديّة الخالدة بفضل تحقيقها الشرط الإبداعي وتغلغلها في صميم بصرف النظر عن الحقبة الزمنيّة التي ينتمي إليها.
سيجد إنسان اليوم المهدّد بموجات التوحّش والتطرّف والانغلاق ومقت الآخر، صوتا يمثّل هواجسه ومخاوفه، ووجها يشبهه في غربته ووحشته ، إنّ ما اعتمل في باطن”هاري هاللر” من اضطرابات نفسيّة عاصفة وما عاشه من خيبات وآلام، وحتّى ما اكتشفه من نعم الحبّ ووصفاته السحريّة ، يحدث لأغلب المحشورين اليوم في الغابات المدنيّة التي تُطلق عليها جزافا أسماء “أوطان”و”دول”، وما هي في الحقيقة غير أطر لصراع محموم بين قوى مستضعفة وقوى جائرة وشديدة الجشع ، هذا ما تفضحه الرواية وتعرّيه دون السقوط في تقريريّة فجّة أو خطاب أجوف، فقدر المبدع أن يخلق من جرحه وردة ، لا أن يعتنق الصراخ فيزيد العالم ضجيجا ……
في منعطف حاسم لمجريات الرواية وحياة هاري هاللر تظهر المرأة بقوّة داخل غيمة هذا المثقّف المنعزل الغارق في الكآبة والرتابة والمحاط بالهواجس الفظيعة، وبانبثاق الأنثى من خرائب عمره تنقلب حياته رأسا على عقب،وتتفّتح في وجهه العابس أبواب ونوافذ على الحياة بكلّ مباهجها، تتجلّى له المرأة معلنة كلّ أنوثتها وسحرها ، تشرق “هرمينه” فجأة في لحظة داكنة من وجوده البائس، كان على وشك الانتحار حين تفّتحت بين يديه وتلبّست بأدوار عديدة ، منها دور الرفيقة ذات الصدر الرحب التي لا تكلّ من سماع هلوساته، ومنها دور الأمّ الودود الآمرة الحريصة على تنفيذ أوامرها دون أن تذبل الابتسامة على محيّاها، وفي الحقيقة إنّ لهذه المرأة أفضالا كثيرة على ذئب البراري فهي التي ستبعث الإنسان فيه ، ستدفع جسده المتكلّس في حلبات الرقص وتبثّ فيه النبض من جديد ، وستستدرجه إلى التفاعل مع موسيقى مغايرة لمقدّساته الموسيقية ولروائع قدّيسيه من أمثال موتسارت وهايدن وغيرهما من عباقرة الموسيقى الكلاسيكيّة، لكنّ الهديّة الكبرى التي ستمنّ بها عليه هذه “المرأة الهديّة”في حدّ ذاتها، ستكون ماريا تلك الفتاة الرائعة، شديدة النبض عميقة الحسّ، تلك الضاجّة حياة ورغبة وشبقا، والمتدفّقة حسنا وحميميّة ودفئا. لكم يذكّرني تأثير هذه الفتاة المدهشة بالمرأة الغاوية التي روّضت أنكيدو وجعلت من الوحش الهادر فيه إنسانا بفضل فعل الحبّ….، ولكن لا أحد من البطلين، بطل الرواية وبطل الملحمة، استطاع أن يعود إلى عالمه الأوّل، فقد اكتسح “هاري هاللر” ظمأ عارم للّذة والحبّ واعتراه شكّ عظيم في ماهية حياته وجدواها بين أكوام الكتب وأرواح كاتبيها، في حين أنكرت وحوش البريّة أنكيدو حين شمّت رائحة المرأة فيه ..، والسؤال الأبديّ الذي تلقيه علينا الرواية بطريقة فريدة وراقية، ألا بدّ من المرأة لنصالح الحياة ونقبلها كما كانت وكما ستكون؟، الجواب صريح وواضح لدى هرمان هيسه وعلى لسان بطل روايته : جسد المرأة الرهيف أثقل من متون الأوّلين والآخرين في ميزان الحياة وأكثر فصاحة من أيّ كائن آخر، كتابا كان أو قطعة موسيقيّة أو قصيدة أو لوحة تملأ الدنيا وتشغل الناس:
” خلال تلك الليلة وأنا بجوار ماريا لم يردني الكثير من النوم ، لكنّ نومي كان عميقا وترين عليه السكينة كإغفاءة طفل”
” أيّ وهم كانت شخصيتي السابقة تعيث فيه، لقد كانت حفنة من القدرات والاهتمامات التي حدث أن كنت منيعا بها تستحوذ على كلّ اهتمامي،…. هكذا عشت تاركا كلّ ما تبقّى منّي ليغدو عماء من الإمكانيات والغرائز والدوافع، وجدت أنّها تشكّل عائقا وأطلقت عليها اسم ذئب البراري “
أعتقد أنّ من أسباب صمود هذه الرواية في وجه الزمن ومحافظتها على توهّجها ..نجاحها في سبر أغوار النفس البشريّة في المطلق والتوغّل في ذات ” المثقّف ” بصرف النظر عن زمانه ومكانه، إذ من الواضح أنّ مرضه واحد وإن كانت تمظهراته مختلفة حسب شكل الإقامة على ظهر هذا الكوكب المذهول ، لذلك فـ” ذئب البراري ” كما كتب المؤلف في عتبة الكتاب، رواية لا تدعو إلى الموت والدمار، بل على العكس تماما، فهي تؤدّي إلى الشفاءوالتوغّل في الحياة ، لعبتنا الأبهى رغم عنفها وخطورتهاوفخاخها الكثيرة …
” ذات يوم سوف يتحسّن أدائي في اللعبة، ذات يوم سوف أتعلّم كيف أضحك..”
شارك هذا المقال:
ذات يوم سأتعلّم الضحك
- خبر
-
مشاركة