هديه صلى الله عليه وسلم في الجنائز

    • هديه صلى الله عليه وسلم في الجنائز




      كان هديُه صلى الله عليه وسلم في الجنائز أكملَ الهدي، مخالفاً لهدي سائر الأمم، مشتمِلاً على الإِحسان إلى الميت ومعاملته بما ينفعه في قبره ويوم معاده.

      وعلى الإِحسان إلى أهله وأقاربه، وعلى إقامة عبودية الحي لِلَّه وحدَه فيما يُعامل به الميت‏.

      ‏وكان مِن هديه في الجنائز إقامةُ العبوديةِ للربِّ تبارك وتعالى على أكمل الأحوال، والإِحسان إلى الميت، وتجهيزه إلى اللّه على أحسن أحواله وأفضلِها.

      ووقوفه ووقوف أصحابه صفوفاً يحمَدون اللّه ويستغفرون له، ويسألون له المغفرةَ والرحمةَ والتجاوزَ عنه.

      ثم المشي بين يديه إلى أن يُودِعُوهُ حفرته، ثم يقوم هو وأصحابه بين يديه على قبره سائلين له التثبيت أحوجَ ما كان إليه.

      ثم يتعاهدُه بالزيارة له في قبره، والسلام عليه، والدعاء له كما يتعاهدُالحيُّ صاحِبَه في دار الدنيا‏.

      فأول ذلك‏:‏ تعاهدُه في مرضه، وتذكيرُه الآخرة، وأمرُه بالوصية، والتوبة، وأمرُ مَنْ حضره بتلقينه شهادة أن لا إله إلا اللّه لتكون آخر كلامه.

      ثم النهى عن عادة الأمم التي لا تؤمِنُ بالبعث والنُّشور، مِن لطم الخدُود، وشقِّ الثياب، وحلقِ الرؤوس، ورفع الصوت بالنَّدب، والنِّياحة وتوابع ذلك‏.



      وسَنَّ الخشوعَ للميت، والبكاءَ الذي لا صوت معه، وحُزْنَ القلب.

      وكان يفعل ذلك ويقول‏:‏ ‏(‏تَدْمَعُ العينُ وَيَحْزَنُ القَلبُ وَلاَ نَقولُ إلا ما يُرضِي الرَّبَّ‏)‏‏.

      وسَنَّ لأمته الحمد والاسترجاعَ، والرضى عن اللّه، ولم يكن ذلك منافياً لدمع العين وحُزنِ القلب.

      ولذلك كان أرضى الخلقِ عن اللّه في قضائه، وأعظمهم له حَمداً، وبكى مع ذلك يوم موت ابنه إبراهيم رأفة به، ورحمة للولد، ورِقَّة عليه.

      والقلبُ ممتلئ بالرَضى عن اللّه عز وجل وشكره، واللسانُ مشتغل بذِكره وحمده‏.

      وكان من هديه صلى الله عليه وسلم الإِسراعُ بتجهيز الميت إلى اللّه، وتطهيره، وتنظيفِه، وتطييبه، وتكفيِنه في الثياب البيض.

      ثم يؤتى به إليه، فيُصلِّي عليه بعد أن كان يُدعى إلى الميت عند احتضاره، فيُقيم عنده حتى يقضي، ثم يحضر تجهيزه، ثم يُصلِّي عليه، ويشيِّعه إلى قبره،

      ثم رأى الصحابةُ أن ذلك يشقُ عليه، فكانوا إذا قضى الميتُ، دعوه، فحضر تجهيزه، وغسله، وتكفينَه‏.‏

      ثم رأوا أن ذلك يشقُّ عليه، فكانوا هم يُجهِّزون ميتهم، ويحملونه إليه صلى الله عليه وسلم على سريره، فيُصلي عليه خارِج المسجد‏.

      ولم يكن من هديه الراتب الصلاةُ عليه في المسجد، وإنما كان يُصلي على الجنازة خارج المسجد، ورُبما كان يصلي أحياناً على الميت في المسجد.

      قال الخطابي‏:‏ وقد ثبت أن أبا بكر وعمر رضي اللّه عنهما صُلِّىَ عليهما في المسجد، ومعلوم أن عامة المهاجرين والأنصار شهدوا الصلاة عليهما، وفي تركهم الإِنكار الدليلُ على جوازه.

      ‏والصواب ما ذكرناه أن سُنَّته وهديه الصلاةُ على الجنازة خارج المسجد إلا لعذر، وكلا الأمرين جائز، والأفضل الصلاة عليها خارج المسجد‏.‏ واللّه أعلم‏.


      وكان من هديه صلى الله عليه وسلم تسجيةُ الميت إذا مات، وتغميضُ عينيه، وتغطيةُ وجهه وبدنه.

      وكان رُبما يُقبِّل الميت كما قبَّل عثمانَ بن مظعون وبكى وكذلك الصِّدِّيقُ أكبَّ عليه، فقبَّله بعد موته صلى الله عليه وسلم‏.‏

      وكان يأمر بغسل الميت ثلاثاً أو خمساً، أو أكثر بحسب ما يراه الغاسِل، ويأمر بالكافور في الغسلة الأخيرة.

      وكان لا يُغسَل الشهَداءَ قَتلَى المعركة، وذكر الإِمام أحمد، أنه نهى عن تغسيلهم، وكان ينزع عنهم الجلودَ والحديدَ ويَدفِنُهم في ثيابهم، ولم يُصلِّ عليهم‏.‏

      وكان إذا مات المُحرِمُ، أمر أن يُغسل بماء وسِدْر، ويُكفن في ثوبيه وهما ثوبا إحرامه‏:‏ إزاره ورداؤه، وينهى عن تطييبه وتغطية رأسه.

      وكان يأمر من ولي الميتَ أن يُحسن كفنه، ويُكفنه في البياض، وينهى عن المغالاة في الكفن، وكان إذا قصَّرَ الكفنُ عن سَتر جميع البدن، غطَّى رأسه، وجعل على رجليه من العُشب‏.


      وكان إذا قُدِّم إليه ميت يُصلِّي عليه، سأل‏:‏ هل عليه دَين، أم لا‏؟‏ فإن لم يكن عليه دَين، صلَّى عليه، وإن كان عليه دين، لم يصل عليه، وأذِن لأصحابه أن يُصلوا عليه.

      فإن صلاته شفاعة، وشفاعتُه موجبة، والعبد مرتَهَنٌ بدَينه، ولا يدخل الجنة حتى يُقضى عنه.

      فلما فتح اللّه عليه، كان يُصلي على المدِين، ويتحمَّل دينه، ويدع ماله لورثته.

      فإذا أخذ في الصلاة عليه، كبر وحَمِدَ اللّه وَأَثنَى عَليْهِ، وصلى ابن عباس على جنازة، فقرأ بعد التكبيرة الأولى بفاتحة الكتاب جهراً، وقال‏:‏ ‏(‏لِتَعْلَمُوا أنها سُنَّة‏).

      ‏وكذلك قال أبو أُمامة بنُ سهل‏:‏ إنَّ قراءة الفاتحة في الأولى سنَّة‏.‏

      وذكر أبو أمامة بنُ سهل، عن جماعة من الصحابة، الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة على الجنازة.

      وروى يحيى بن سعيد الأنصاري، عن سعيد المقبُري، عن أبي هريرة، أنه سأل عُبادَة بنَ الصامت عن الصلاة على الجنازة فقال‏:‏ أنا واللَّهِ أُخبرُك‏؛

      تبدأ فتكبِّر، ثُمَّ تُصلِّي على النبي صلى الله عليه وسلم، وتَقُول‏:‏ اللَّهُمَّ إنَّ عَبْدَكَ فَلاناً كَانَ لا يُشْرِكُ بِك وَأَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ، إنْ كَانَ مُحْسِناً، فَزِدْ في إحسَانِهِ، وإنْ كَانَ مُسِيئاً، فَتَجَاوَزْ عَنْهُ، اللَّهُمً لاَ تَحْرِمْنَا أَجْرَهُ، وَلاَ تُضِلَّنَا بَعَدَهُ‏.

      ومقصودُ الصلاة على الجنازة‏:‏ هو الدعاء للميت، لذلك حفظَ عن النبي صلى الله عليه وسلم، ونُقِلَ عنه ما لم يُنقل مِنْ قراءة الفاتِحة والصلاة عليه صلى الله عليه وسلم‏.

      فحُفِظَ من دعائه‏:‏ ‏(‏اللَّهُمَّ اغفِرْ لَهُ، وارْحَمْهُ، وعَافِهِ، واعَفُ عَنهُ، وَأَكْرِمْ نُزُلَه، وَوَسِّعْ مَدْخَلَه، واغْسِلْهُ بِالمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالبَرَدِ، ونَقِّهِ مَنَ الخطَايَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الأبْيَضُ مِنَ الدَّنَسِ، وأَبْدِلْهُ دَارَاً خَيْراً مِنْ دَارِه، وَأَهْلاً خَيْراً مِنْ أَهْلِهِ، وَزَوجاً خَيْراً مِنْ زَوْجِهِ، وأَدْخِلْهُ الجَنةَ، وَأَعِذْهُ مِن عَذَابِ القَبْرِ وَمِنْ عَذَابِ النَارِ‏)‏‏.

      وحُفِظَ من دعائه‏:‏ ‏(‏اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِحَيِّنَا، وَمَيِّتِنَا، وَصَغِيرِنَا، وكَبِيرِنَا، وَذَكَرِنَا، وأُنْثَانَا، وَشَاهِدِنَا وَغَائِبنَا، اللَّهُمَّ مَنْ أَحيَيْتَهُ مِنَّا، فأَحْيهِ عَلَى الإِسْلاَم، وَمَنْ تَوفَّيْتَهُ مِنَّا، فَتَوَفَّه عَلَى الإِيمَانِ، اللَّهُمَّ لا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُ، وَلاَ تَفتِنَّا بَعْدَهُ‏)‏‏.

      وحُفِظَ مِن دعائه‏:‏ ‏(‏اللَّهُمَّ إنَّ فُلانَ بْنَ فُلانٍ في ذِمَّتِكَ وَحَبْلِ جِوَارِكَ، فَقِهِ مَنْ فِتْنَةِ القَبْرِ، وَمِنْ عَذَابِ النَّار، فأَنْتَ أَهْلُ الوَفَاءِ وَالحَق، فَاغفِرْ لَهُ وَارْحَمهُ، إنَّكَ أَنْتَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ‏)‏‏.

      وحُفِظَ مِن دعائه أيضاً‏:‏ ‏(‏اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبهَا، وَأَنْتَ خَلَقْتَهَا، وَأَنتَ رَزَقْتَهَا، وأَنْتَ هَدَيْتَهَا للإِسْلامِ، وَأَنْتَ قَبضْتَ رُوحَهَا، وتَعْلَمُ سِرَّهَا وَعَلانِيَتَهَا، جئْنَا شفَعَاءَ فَاغفِرْ لَهَا‏)‏‏.

      وكان صلى الله عليه وسلم يأمر بإخلاص الدعاء للميت.

      وكان يُكبرِّ أربعَ تكبيرات، وصح عنه أنه كبَّر خمساً، وكان الصحابة بعده يُكبِّرون أربعاً، وخمساً، وستاً، فكبَّر زيد بن أرقم خمساً، وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم كبرها، ذكره مسلم‏.

      وكبر علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه على سهل بن حُنيف ستاً، وكان يُكبر على أهل بدر ستاً، وعلى غيرهم من الصحابة خمساً، وعلى سائر الناس أربعاً، ذكره الدارقطني‏.

      وكان أصحاب معاذ يُكبِّرون خمساً، قال علقمة‏:‏ قلتُ لعبد اللّه‏:‏ إن ناساً من أصحاب معاذ قدموا من الشام، فكبَّروا على ميت لهم خمساً، فقال عبد اللّه‏:‏ ليسَ على المِّيت في التكبير وقتٌ، كبِّر ما كبَّرَ الإِمام، فإذا انصرفَ الإمام فانصرِفْ‏.


      وأما هديه صلى الله عليه وسلم في التسليم من صلاة الجنازة‏.‏ فروي عنه‏:‏ إنه كان يسلِّم واحدة‏.‏ وروي عنه‏:‏ أنه كان يسلم تسليمتين‏.

      وأما رفع اليدين، فقال الشافعي‏:‏ ترفع للأثر، والقياس على السنة في الصلاة.

      فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه في كل تكبيرة كبَّرها في الصلاة وهو قائم‏.

      قلت‏:‏ يريد بالأثر ما رواه عن ابن عمر، وأنس بن مالك، أنهما كانا يرفعان أيديهما كلما كبَّرا على الجنازة.

      ويذكر عنه صلى الله عليه وسلم، أنه كان يرفع يديه في أول التكبير، ويضع اليمنى على اليسرى، ذكره البيهقي في السنن‏.


      وكان من هديه صلى الله عليه وسلم إذا فاتته الصلاة على الجنازة، صلى على القبر.

      فصلى مرة على قبر بعد ليلة، ومرة بعد ثلاث، ومرة بعد شهر، ولم يُوقت في ذلك وقتاً‏.

      قال أحمد رحمه اللّه‏:‏ من يشكُّ في الصلاة على القبر‏؟‏‏!‏ ويُروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، كان إذا فاتته الجنازةُ، صلى على القبر من ستة أوجه كُلُها حِسَان.

      فحدَّ الإِمام أحمد الصلاة على القبر بشهر، إذ هو أكثر ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى بعده، وحدَّه الشافعي رحمه الله، بما إذا لم يَبْلَ الميت.

      ومنع منها مالكٌ وأبو حنيفة رحمهما اللّه إلا لِلوليِّ إذا كان غائباً‏.

      وكان من هديه صلى الله عليه وسلم، أنه كان يقومُ عند رأس الرجل وَوَسْطِ المرأة‏.


      وكان من هديه صلى الله عليه وسلم الصلاةُ على الطفل، فصح عنه أنه قال‏:‏ ‏(‏الطِّفْل يُصَلى عَلَيْهِ‏)‏‏.
      ‏‏
      قال أحمد بن أبي عبدة‏:‏ سألتُ أحمد‏:‏ متى يَجِبُ أن يُصلى على السِّقط‏؟‏ قال‏:‏ إذا أتى عليه أربعة أشهر، لأنه يُنفخ فيه الروح‏.

      قلتُ‏:‏ فحديث المغيرة بن شعبة ‏(‏الطفل يُصلى عليه‏)‏‏؟‏ قال‏:‏ صحيح مرفوع، قلتُ‏:‏ ليس في هذا بيانُ الأربعة الأشهر ولا غيرها‏؟‏ قال‏:‏ قد قاله سعيد بن المسيِّب‏.

      فإن قيل‏:‏ فهل صلى النبيُّ صلى الله عليه وسلم على ابنه إبراهيم يوم مات‏؟‏ قيل‏:‏ قد اختلف في ذلك.

      فقالت طائفةٌ‏:‏ استغنى ببنوة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن قُرْبة الصلاة التي هي شفاعة له، كما استغنى الشهيد بشهادته عن الصلاة عليه‏.

      وقالت طائفة أخرى‏:‏ إنه مات يوم كسفت الشمس، فاشتغل بصلاة الكسوف عن الصلاة عليه‏.

      وقالت طائفةٌ‏:‏ لا تعارض بين هذه الآثار، فإنه أمر بالصلاة عليه، فقيل‏:‏ صُلِّي عليه، ولم يُباشرها بنفسه لاشتغاله بصلاة الكسوف.

      وقيل‏:‏ لم يُصل عليه، وقالت فرقة‏:‏ رواية المثبت أولى، لأن معه زيادة علم، وإذا تعارض النفي والإِثبات، قُدَم الإِثبات‏.



      وكان من هديه صلى الله عليه وسلم، أنَّه لا يُصلِّي على مَن قتل نفسه، ولا على مَنْ غَلَّ من الغنيمةُ‏.

      واختلف عنه في الصلاة على المقتُولِ حداً، كالزاني المرجوم، فصح عنه أنه صلى الله عليه وسلم صلى على الجهنية التي رجمها.

      فقال عمر‏:‏ تُصلِّي عليها يا رسولَ الله وقد زَنَتْ‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لو قُسِمَتْ بين سَبْعِينَ مِن أهْلِ المَدِينَةِ لَوَسِعَتْهم، وهَل وَجَدْتَ تَوْبَةً أفْضَلَ مِنْ أَنْ جَادَتْ بِنَفْسِهَا لله تعالى‏)‏‏.‏ ذكره مسلم‏.‏

      زاد المعاد لابن القيم
      المجلد الأول
      516/490

      • القرآن جنتي
    • *تابع: هديه صلى الله عليه وسلم في الجنائز*

      وكان صلى الله عليه وسلم إذا صلَّى على ميت، تبِعه إلى المقابر ماشياً أمامه‏.

      وهذه كانت سنة خلفائه الراشدين مِن بعده، وسنَّ لمن تبعها إن كان راكباً أن يكون وراءها، وإن كان ماشياً أن يكون قريباً منها، إمَّا خلفها، أو أمامها، أو عن يمينها، أو عن شمالها‏.‏

      وكان يأمر بالإِسراع بها، حتى إن كانوا ليَرمُلُون بها رَمَلاً.

      قال ابن مسعود رضي اللّه عنه‏:‏ سألنا نبينا صلى الله عليه وسلم عن المشي مع الجنازة، فقال‏:‏ ‏(‏ما دُونَ الخَببِ‏)‏ رواه أهل السنن.

      وكان يمشي إذا تَبعَ الجنازة ويقول ‏(‏لم أكُن لأَركَبَ والمَلائِكَةُ يَمْشون‏)‏‏.‏ فإذا انصرف عنها، فربَّما مشى، وربَما ركِب‏.

      وكان إذا تَبِعها، لم يجلِسْ حتى تُوضع، وقال ‏(‏إذا تَبِعتُم الجِنَازَة، فلا،‏:‏ تَجْلِسُوا حتى توضعَ‏)‏‏.

      قال شيخ الإِسلام رحمه اللّه‏:‏ والمراد‏:‏ وضعُها بالأرض‏.‏

      زاد المعاد لابن القيم
      المجلد الأول
      517، 518‏
      • القرآن جنتي
    • وكان من هديه صلى الله عليه وسلم، أنَّه لا يُصلِّي على مَن قتل نفسه، ولا على مَنْ غَلَّ من الغنيمةُ‏.

      واختلف عنه في الصلاة على المقتُولِ حداً، كالزاني المرجوم، فصح عنه أنه صلى الله عليه وسلم صلى على الجهنية التي رجمها.

      فقال عمر‏:‏ تُصلِّي عليها يا رسولَ الله وقد زَنَتْ‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لو قُسِمَتْ بين سَبْعِينَ مِن أهْلِ المَدِينَةِ لَوَسِعَتْهم، وهَل وَجَدْتَ تَوْبَةً أفْضَلَ مِنْ أَنْ جَادَتْ بِنَفْسِهَا لله تعالى‏)‏‏.‏ ذكره مسلم‏.‏

      زاد المعاد لابن القيم
      المجلد الأول
      516


      وكان صلى الله عليه وسلم إذا صلَّى على ميت، تبِعه إلى المقابر ماشياً أمامه‏.

      وهذه كانت سنة خلفائه الراشدين مِن بعده، وسنَّ لمن تبعها إن كان راكباً أن يكون وراءها، وإن كان ماشياً أن يكون قريباً منها، إمَّا خلفها، أو أمامها، أو عن يمينها، أو عن شمالها‏.‏

      وكان يأمر بالإِسراع بها، حتى إن كانوا ليَرمُلُون بها رَمَلاً.

      قال ابن مسعود رضي اللّه عنه‏:‏ سألنا نبينا صلى الله عليه وسلم عن المشي مع الجنازة، فقال‏:‏ ‏(‏ما دُونَ الخَببِ‏)‏ رواه أهل السنن.

      وكان يمشي إذا تَبعَ الجنازة ويقول ‏(‏لم أكُن لأَركَبَ والمَلائِكَةُ يَمْشون‏)‏‏.‏ فإذا انصرف عنها، فربَّما مشى، وربَما ركِب‏.

      وكان إذا تَبِعها، لم يجلِسْ حتى تُوضع، وقال ‏(‏إذا تَبِعتُم الجِنَازَة، فلا،‏:‏ تَجْلِسُوا حتى توضعَ‏)‏‏.

      قال شيخ الإِسلام رحمه اللّه‏:‏ والمراد‏:‏ وضعُها بالأرض‏.‏

      زاد المعاد لابن القيم
      المجلد الأول
      517، 518‏

      ولم يكن مِن هديه وسنته صلى الله عليه وسلم الصلاة على كُلِّ ميت غائب‏.

      فقد مات خلق كثيرٌ من المسلمين وهم غُيَّب، فلم يُصلِّ عليهم، وصح عنه‏:‏ أنه صلَّى على النجاشي صلاته على الميت.

      فاختلف الناس في ذلك على ثلاثة طرق، أحدها‏:‏ أن هذا تشريعٌ منه، وسنةٌ للأمة الصلاة على كل غائب، وهذا قولُ الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين عنه.

      وقال أبو حنيفة ومالك‏:‏ هذا خاص به، وليسَ ذلك لغيره،‏ قالوا‏:‏ ويدل على هذا، أنه لم يُنقَل عنه أنه كان يُصلي على كلِّ الغائبين غيرَه، وتركُه سنة، كما أن فِعله سُنَّةٌ، فَعُلِمَ أن ذلك مخصوص به‏.

      وقال شيخ الإِسلام‏:‏ الصواب‏:‏ أن الغائبَ إن مات ببلد لم يُصلّ عليه فيه، صُلِّيَ عليه صلاة الغائب، كما صلَّى النبي صلى الله عليه وسلم على النجاشي، لأنه مات بين الكفار ولم يُصلَّ عليه، وإن صلِّيَ عليه حيثُ مات، لم يُصلَّ عليه صلاة الغائب، لأن الفرض قد سقط بصلاة المسلمين عليه.

      والأقوال ثلاثة في مذهب أحمد، وأصحها‏:‏ هذا التفصيلُ، والمشهور عند أصحابه‏:‏ الصلاة عليه مطلقاً‏.

      زاد المعاد لابن القيم
      المجلد الأول
      519، 520‏
      • القرآن جنتي
    • وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قام للجنازة لما مرَّت به، وأمرَ بالقيامِ لها، وصح عنه أنه قعد.

      فاخْتُلِفَ في ذلك، فقيل‏:‏ القيامُ منسوخ، والقعودُ آخر الأمرين.

      وقيل‏.‏ بل الأمران جائزان، وفِعلُه بيان للاستحباب، وتركُه بيان للجواز، وهذا أولى من ادعاء النسخ‏

      وكان من هديه صلى الله عليه وسلم، ألاَّ يدفن الميت عند طلوع الشَّمس، ولا عند غروبِها، ولا حين يَقُوم قائمُ الظهيرة.

      وكَانَ مِن هديه اللَّحدُ وتعميقُ القبر وتوسيعُه مِن عِند رأس الميت ورجليه.

      ويُذكرُ عنه، أنه كان إذا وضع الميِّتَ في القبر قال ‏(‏بسْمِ اللَّهِ، وَبِاللَّهِ، وَعَلى مِلَّةِ رَسُولِ الله‏)‏‏.‏

      وفي رواية‏:‏ ‏(‏بِسْم اللَهِ، وَفي سَبِيلِ اللَّهِ، وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ‏).

      ويُذكر عنه أيضاً أنه كان يحثُوا التراب على قبر الميت إذا دُفِنَ مِنْ قِبَلَ رأسِه ثلاثاً‏.‏


      وكان إذا فرغ من دفن الميت قام على قبره هو وأصحابه، وسَأَلَ له التَّثبِيتَ، وأمَرَهُم أن يَسْأَلُوا لَهُ التَّثبِيتَ‏.

      ولم يكن من هديه صلى الله عليه وسلم، تعليةُ القبور ولا بناؤها بآجر، ولا بحجَر ولَبِن، ولا تشييدُها، ولا تطيينُها، ولا بناءُ القباب عليها.

      فكُلُّ هذا بدعة مكروهة، مخالفةٌ لهديه صلى الله عليه وسلم وقد بَعثَ عليّ بن أبي طَالب رضي اللّه عنه إلىَ اليمن، ألاَّ يَدَع تمْثًالاً إلا طمَسَه، وَلاَ قَبْرَاً مُشْرِفاً إلا سَوَّاه.

      فسنتُه صلى الله عليه وسلم تسويةُ هذه القبور المُشرفة كلِّها، ونهى أن يُجصص القبرُ، وأن يُبنى عليه، وأن يكتبَ عليه‏.

      وكانت قبور أصحابه لا مُشرِفة، ولا لاطئة، وهكذا كان قبرُه الكريمُ، وقبرُ صاحبيه، فقبرُه صلى الله عليه وسلم مُسَنَّم مَبْطوحٌ ببطحاء العرَصة الحمراء لا مبني ولا مطين، وهكذا كان قبر صاحبيه‏.

      وكان يعلم قبرَ مَنْ يريدُ تعرَّفَ قَبرِه بصخرة‏.

      زاد المعاد لابن القيم
      المجلد الأول
      220/242
      • القرآن جنتي
    • ونهى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ القبورِ مساجد، وإيقادِ السُّرج عليها، واشتد نهيه في ذلك حتى لعن فاعله.

      ونهى عن الصلاة إلى القُبور، ونهى أمته أن يتخِذوا قبرَه عيداً، ولعن زوَّراتِ القبور.

      وكان هديُهُ أن لا تُهان القبورُ وتُوطأ، وألا يُجلَس عليها، ولا يُتكأ عليها ولا تُعظَّم بحيث تُتَّخذُ مساجِدَ فيُصلَّى عندها وإليها، وتُتخذ أعياداً وأوثاناً‏.‏

      زاد المعاد لابن القيم
      المجلد الأول
      526
      • القرآن جنتي
    • كان صلى الله عليه وسلم إذا زار قبور أصحابه يزورُها للدعاء لهم، والترحُّم عليهم، والاستغفارِ لهم.

      وهذه هي الزيارةُ التي سنها لأمته، وشرعَها لهم.

      وأمرهم أن يقُولوا إذا زارُوها‏:‏ ‏(‏السَّلامُ عَليكُم أَهْلَ الدِّيار مِنَ المُؤمِنِينَ والمُسْلِمِينَ، وإنَّا إن شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لاَحِقُون، نَسْألُ اللَّهَ لَنَا وَلَكُم العَافِيَةَ‏)‏‏.

      وكان هديُه أن يقولَ ويفعلَ عند زيارتها، مِن جنس ما يقولُه عند الصلاة على الميت، من الدِعاءِ والترحُّمِ، والاستغفار‏.‏

      فَأبَى المشركون إلا دعاءَ الميت والإِشراك به، والإِقسامَ على اللّه به، وسؤاله الحوائج، والاستعانة به، والتوجُّهَ إليه، بعكس هديه صلى الله عليه وسلم، فإنه هدي توحيد وإحسان إلى الميت.

      وهديُ هؤلاء شرك وإساءة إلى نفوسهم، وإلى الميت، وهم ثلاثة أقسام‏:‏ إما أن يدعوا الميت، أو يدعوا به، أو عنده.

      ويرون الدعاء عنده أوجبَ وأولى من الدعاء في المساجد، ومن تأمل هديَ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وأصحابِه، تبيَّن له الفرقُ بين الأمرين وباللّه التوفيق‏.‏


      وكان من هديه صلى الله عليه وسلم، تعزية أهلِ الميت، ولم يكن مِن هديه أن يجتر للعَزاء، ويُقرأ له القرآن، لا عندَ قبره ولا غيره، وكُل هذا بدعة حادثة مكروهة‏.

      وكان من هديه‏:‏ السكونُ والرضى بقضاء الله، والحمد للّه، والاسترجاع، ويبرأ ممن خرق لأجل المُصيبة ثيابَه، أو رفع صوتَه بالندب والنياحة، أو حلق لها شعره‏.

      وكان من هديه صلى الله عليه وسلم أن أهل الميت لا يتكلَّفون الطعام للناس، بل أمر أن يصنع الناسُ لهم طعاماً يُرسلونه إليهم وهذا من أعظم مكارم الأخلاق والشِّيم، والحملِ عن أهل الميت، فإنهم في شغل بمصابهم عن إطعام الناس‏.

      وكان من هديه صلى الله عليه وسلم، تركُ نعي الميت، بل كان ينهى عنه، ويقول‏:‏ هو مِن عمل الجاهلية، وقد كرِه حذيفةُ أن يُعلم به أهلُه الناسَ إذا مات وقال‏:‏ أخاف أن يكون من النعي‏.

      زاد المعاد لابن القيم
      المجلد الأول
      528‏
      • القرآن جنتي