رصاصات المسكونة باللحظة

    • خبر
    • رصاصات المسكونة باللحظة

      Atheer News كتب:

      خميس قلم

      قرأت من دار ” مسعى ” فاتحة الكاتبة عادلة عدي ” المسكونة باللحظة ” وهو كتاب يمتزج فيه بوحٌ حكيم برؤية شعرية للوجود، والواقع والذات. و يؤسس الكتاب إطاره الشّكلي من إصغائه العميق لإيقاع العصر المتسارع، ومن بصيرته النفرّية: ” كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة ” وهي العبارة التي تتصدر الكتاب، واضعة القارئ/القارئة في نهجها حيث يتسع الباطن من ضيق الظاهر، انظر مثلاً إلى ما يمكن أن تحصده من سنابل هذه العبارة ص 27 ” الظلمة قطعة إسفنجية “.

      يبدو أن هذا النمط من الكتابة ينحاز لذائقة كثيرين ممن تقبلوا ” المياه كلها بلون الغرق ” و ” مثالب الولادة ” لإميل سيوران قبولا حسنا، كما وجد هذا الشكل التعبيري – الذي تلتقي فيه تخوم الفلسفة بتخوم الشعر – وجد صدى في تجارب الكتابة العربية، و لعلّ ” ليلميات ” عبدالله حبيب  و ” شذرات “حسين العبري، و ” مهذونات ” معاوية الرواحي، و كتاب ” فاطْمة ” أيضا لعبدالله حبيب نماذج قريبة لذلك التجلي الشكلي؛ على اختلاف مضامينه.

      و إذا كان آدم فتحي في ترجمته ليسوران يطلق تسمية ” شذرات ” على الوحدات اللغوية المكثّفة، فأنا أقترح تسمية عبارات عادلة المقطّرة برصاصات، رغم أنها هي أيضا انصاعت في الغلاف للمعروف: ” شذرات “، ومبعث اقتراحي للرصاصات عوض الشذرات أنّ عباراتها النارية المخترِقة منطلقة من مساحات قسّمت هي بها الكتاب إلى ثلاث رصاصات:

      1. ( رصاصة في الجيب ): وتعرض فيها وجهاً من رؤيتها للوجود وعناصره المجردة كالزمن و الفكرة و الذاكرة.

      2. ( رصاصة طائشة ): تنتخب فيه أفكارها عن الواقع و قضاياه مذيّلة إياها بصدى للرصاصة الطائشة ” مذكرة صرخة “.

      3.( رصاصة في القلب ): تبوح فيه بمشاعرها الأنثوية الذاتية العاطفية.

      1.رصاصة في الجيب

      يغلب على هذه المساحة الموضوعات الوجودية المجردة، وعلى رأسها التّبصر في الزمن وما يجرفه معه في سيله الدلالي: ( الوقت، الغد، المستقبل، الأمس، الحاضر الليل، النهار، اللحظة…)، كذلك موضوعة الفكر، علاقة المجرد بالمادي من خلال تفاعل الأفكار و أثرها على الواقع، ثمّ موضوعة الذاكرة وثنائية التذكر والنسيان الموجود والمعدوم، ولا تقف هواجس الكاتبة الوجودية في هذه المساحة  مع هذه الموضوعات إنما تنبثق منها موضوعات فرعية متصلة بها  كموضوعة: ( الظلمة، والحلم والحنين والكون وغيرها ) مما لن أنكأه في هذه القراءة العامة.

      رصاصة الزمن

       تبرع الكاتبة في خلق علاقة شعرية كيدية مع الزمن ص 18: ” أقضم الوقت، لا رغبة لي فيه. أقضم الوقت، بالرغم من حمية الفرح” فالوقت القاضم لكل شيء يغدو مقضوما في تهكم شعري يكيد لجبروت الزمن. الزمن الذي يتجلى في اللحظة الحاضرة و في ماضي الذاكرة و في مستقبل الغد ص54:

       ” الأمس، يوم مقتول بضوء شمس اليوم.

        واليوم، مولود يحبو حتى الليل.

        والغد، جنين في حالة مخاض “.

      بذلك توصّف ” عادلة ” الزمن توصيفا شعريا . وفي ص32: ” اشتقت للمستقبل حين كان يزورني ويصبح أمسي أجمل، ويترقب حاضري” اختراقٌ لخاصرة الزمن برصاصة تذيب مكوناته باقتدار ليلتقي المستقبل و الماضي و الحاضر في لحظة شوق شعرية. و الزمن شراب مرّ يبتلع مذاق حياتنا ص 36: ” أحتسي الوقت على مهل باحثة عن طعم ذاب في مرارة الزمن “.

      و الكاتبة لا ترى قسوة الزمن في أثره المباشر علينا فحسب، بل في سطوته على الحيز الذي نعيش فيه، حتى تصوّر الزمن وحشا طاردا لنا ومطاردا. ص 62 :” ما عاد الوقت يستطعمنا ، فهو يلفظنا من فم المكان كل مرة “.

      ومن موضوعة الزمن استمدت الكاتبة عنوان كتابها ” المسكونة باللحظة ” ص70: ” يمر الوقت و أنا المسكونة باللحظة “هذا الشغف بالزمن يتأرجح بين الأمل و الإحباط، فتارة تتفاءل الكاتبة بالقادم ص 18: ” الأمس لن يأتي، فالشمس تشرق لنهار جديد ” و تارة تهجو الأمل: ” حرضني الأمل على التفاؤل بالغد.. أرجو إلقاء القبض عليه ” هذا التأرجح هو تردد النفس في الاستسلام لحتمية النهاية التي يفرضها الزمن، نهاية اللحظة ص 37: ” لا أملك مفاتيح الوقت كي أحبسني في لحظة كنت فيها سعيدة ” لا مجال إذن للتفاؤل، فالأمل خديعة كبرى لأن الزمن ساعةٌ رملية بل ساعةٌ نارية تأتي على كل شيء ص54: ” كل ساعة تمر، يدير العمر لك ظهره “.

      حيثما وقعت عيناك على أي عبارة/رصاصة في المساحة الأولى ( رصاصة في الجيب ) تتلمّسُ نسيجاً مترابطاً في فكره مستقلا في تعبيراته، لا يمكّنك من المرور كالكرام إنما يمارس عليك لؤماً يستفزك لتقليب الرصاصة المستقرة في الجيب، رصاصةِ الوجود، تقلّبها أسئلةً في ذهنك : كيف و أين و.ماذا ولماذا ومن… ?

      وليس الزمن هو الرصاصة الباردة المجردة من سلاحها في القسم الأول فقط إنما ثمة رصاصات تغري بجسّها و الرصاصات موت كامن، الرصاصات حياة مبتسرة.

      الفكرة/الرصاصة:

      ص33 : ” أمدّ يدي صوب رأسي

                 أتحسس الثقب

                 ذاك الذي أحدثته فكرة طائشة

                من داخل دماغي

               منطلقة بدون استقرار في كل جسد متحرك أمامها “

      هذه الوحدة اللغوية تمثل تجسيدا للفكرة/ الرصاصة، فللفكرة تأثير مصيري لأن ما يقتل ليست الرصاصة و لا اليد التي تضغط على الزناد إنما الفكرة. الفكرة عود ثقاب بإمكانه أن يشعل السماء ص30: ” تشتعل بي فكرة أن أشعل الحرائق في محيط السماء ” هذه الرغبة النيرونيّة ليست تدميريّة كما تبدو بل هي عنقائية تتغيّا للفكر الانبعاث من رماد التعاليم السماويّة، أو بتعبير أدق من يباس الأفكار المنسوبة إلى السماء، تلك الأشجار اليابسة منذورة لنار الفكر المتجدد.

      والأفكار لا تنشأ بمعزل عن الأسئلة، إن الأسئلة محفزٌ للتفكّر خصوصاً تلك الأسئلة المسكوت عنها و غير المرغوب في التفكير فيها، المحبوسة في جدران المحرّم، لكن أيُّ جدار يمكن أن يحبس الفكرة?!

      ص 15: ” تلك الأسئلة المحرمة هي ما تثير أفكاري

                 تتسلل خلسة من الجدران عارية من كل شيء

                 شهية كقضمة أولى “

      الفكرة غير المفكر فيها هي فاكهة نادرة ومهما كان مذاقها فهو شهي، مذاق بكر. وأنّى لأيّ جدار أن يحيط بالفكرة، أو يقيدها! ص38: ” و ما اعتقلوا الفكر ولا قيّدوه ولكن شُبّه لهم ” تناصاً مع آية نفي صلب المسيح.

      ورغم حضّ الكاتبة على تبني الأفكار توقن أنّ هنالك أفكاراً رديئة يجب التخلص منها ص 25: ” بعض الأفكار رائحتها سيئة، تحتاج عطسة تطرد سمومها”.

      وفي أكثر من وحدة لغوية تصوّر الكاتبة الأفكار بكائنات حية، تولد و تنمو وتتزاوج وقد تمرض و تتلف

      ص16: ” هنالك بذور يستعصي على رحم الأفكار استقبالها

                  قد تصاب المحاصيل التي زرعتها بالأمراض الوراثية

                  فانتبه بتحصين ووقاية دماغك حين تمارس الجماع الفكري “

      يتكرر تجسيد الفكرة ( دمغها بالجسد جنسيا ) و ربطها بالحياة و إنتاج النسل، لكن المفارقة أن تهجين الكائنات الحية و استنسالها يتطلب التدجين على عكس الأفكار الحية – كما ترى الكاتبة – فتزاوجها يضمن لها التحليق و الحرية

      ص 20: ” منذ التقينا، تلك الفكرة و أنا، علمت أنها تخشى

                   التلاقح مع أفكاري، تتعمد الابتعاد عن سمائي

                   خوفا من أن أطلقها حرة “.

      وتمسي الأفكار كالبشر المشردين عن بلدانهم حين لا تجد عقلا حاضنا يستوعبها جميعا مرة واحدة ص 14: ” في دماغي، تزدحم الأفكار كاحتشاد لاجئين”.

      الفكرة وليدة العقل، و العقل معادل للمكان الذي تولد فيه الفكرة الحيّة و التي حين تموت على الورق تعود على هيئة شبح لترتاد المكان الأول في ليالي الوحدة ص 19 ” تنهي الفكرة حياتها في مقبرة الأوراق، وكشبح تزور العقل في ليالي الوحدة” هذا الانتقال من تحقق الفكرة كتابياً على الورق واستمرار هاجسها على العقل يطرح سؤالاً مشروعاً: أيّ عقل تزوره الفكرة بعد اكتمالها؟! أهو عقل القارئ الذي يقلّبها في لياليه ليمحصها و يلاقحها مع أفكاره؟ أم عقل الكاتب الذي يحنّ إلى حياتها و يستدرك ما فاته منها؟ الواقع أنّ كلاهما تتحول الأفكار في لياليه إلى أحلام تتناثر صباحاً على سريره ص 19″ نستيقظ و نحاول لملمة الأفكار المبعثرة على سرير الأحلام “.

      الذكرى رصاصة

      الذاكرة وما ينحدر منها من توافقات وتخالفات دلالية كالذكرى و التذكر والنسيان و الشوق والحنين… موضوعة فلسفية جديرة بالنبش، فهي من ناحية مرتبطة بمبحث وجوديّ متصل بالزمن، ومن ناحية أخرى متصلة بالإنسان دواخله؛ فتلك الأحداث المخزنة فيه منبعٌ لاستجرار الماضي و التفكّر فيه و تخيّل خيارات أخرى انطلاقا منه، لأقل إذن إن الذاكرة متصلة بموضوعة الزمن و موضوعة الفكر، فبما تلتهمه الذاكرة من زمن تغذّيه للفكر، والأفكار تنضح أكثر طالما كان وعاء الزمن أكبر. والزمن المقصود هنا هو الماضي، الماضي وحده الزمن المتحقق، فالحاضر زئبق الوهم والمستقبل قادم قد لا يأت، ولا يملك الإنسان من الزمن سوى ما تحاصره الذاكرة. وقد عبّرت الكاتبة عن صلة الزمن بالفكر بمجازٍ شرس ص 25 ” فكري تنهشه مخالب الوقت “.

      لقد اقتنصت ” المسكونة باللحظة “هذه الموضوعة و وظّفتها بوعي أو بدون وعي في المساحة المخصصة للوجود والعدم ص15 ” الوجود سمفونية العدم ” وظّفتها تذكّراً و نسياناً ص19 ” للنسيان ذاكرةٌ نعاود الحنين إليها حين نغادر الواقع ” وظّفتها في تلك المساحة حيث ما زالت الرصاصة مستقرةً في الجيب.

      ولئن كان من فضائل الذاكرة حفظ الماضي: وجوهه، أمكنته، أحداثه، فللذاكرة أيضاً فضل استحضار تلك الوجوه و الأمكنة و الأحداث، وجلبها من عالم الغيب إلى عالم الواقع ص20 ” لولا الذكريات لاعتدنا الغياب “.

      ويتجاوز الفعل السحري للذاكرة إحضار المغيّب إلى تأثير ذلك الحضور على المستحضِر تأثيراً نفسياً بإثارة أطياف الذاكرة للشوق والحنين ص30 ” يباغتنا الشوق حين نلمح أطياف الذكرى، ويتركنا أسرى للحنين ”  وتأثيراً جسدياً بما يحركه حضور تلك الأطياف من مشاعر الحزن ص20 ” بعض الذكريات تحرق العين حين تشتعل، احتراقها دمعة ” بهذا التفسير الشعري للدمعة، توجد ” عادلة ” علاقة تأثيريّة، حيث يؤثّر اللامحسوس ( الذكريات ) على المحسوس ( الجسد ) و ( الدمعة ) هي الأثر. ( وتتكرر هذه العلاقة التأثيرية ص 37

      ” في الحزن تبحث عن طعم الحياة

       وتصاب بالشره

       لأنك ما عدت تذكر

      أيّ طعم جعلك تضحك من كلّ قلبك “

      لكن المفارقة أنّ أثر الحزن هنا ليس دمعة إنما ضحكة، ربما ضحكة ساخرة؛ ضحكة كدمعة)

      في صفحة 46 ” كلّ مرة، أجهز أدواتي، كي أعصر ذكرى، لا آخذ منها سوى قطرة!” الذكرى الفاكهة تتلاقى مع فاكهة الفكرة شهية القضم.

      والتذكّر كالتفكّر ينشط ليلاً حيث الظلمة والوحدة ص 31 ” ما إن يحلّ المساء حتى يستيقظ الكون الساكن داخلي ” المفارقة أن ليل الخارج يصبح نهارا للداخل، تشتغل فيه النفس بتنظيف جدار الذاكرة ص 29 ” أكثر ما يرهقني في الليل، إزالة التفاصيل الدقيقة التي تركها النهار على جدار الذاكرة ” ذلك الجدار المملوء بالثقوب و الشروخ ص60″ أتلصص من ثقب الذكريات على ذاكرتي “، ص65 ” النسيان شرخ في الذاكرة ” كذلك تحتاج الذاكرة إلى تفريغ تفاصيلها في الليل لتصفو في اليوم التالي ص 63 ” حين أرتب أحلامي كلّ ليلة أضع شريطاً فارغاً قبل النوم في ذاكرتي “. التفريغ تحرر من سلاسل الذكريات ص 67″ مكبّلة بذكريات تختزن كلّ الصور”.

      تقارب الكاتبة أفكارها عن الذاكرة و رواسبها مقاربة شعريّة بتصويرها تصويراً مادّياً فهي جدار ( دلالة الثبات ) مملوء بثقوب و شروخ ( دلالة الرواسب ) كما تصوّر الذاكرة بجهاز لاستقبال الأشرطة و استعراض الصور.

      2.رصاصة طائشة

      بين الرصاصة الأولى المستقرة في الجيب و الأخيرة المستقرة في القلب تندفع رصاصةٌ لتخترق أفق الذات شاقّةً بصخبها فضاء المجتمع، تلك الرصاصة تطيش من حدود الداخل وخصوصية الباطن، من عالم الفكر والتأمل في الوجود إلى الخارج إلى عالم الواقع والشهود. لابدّ من إسماع الآخرين طلقة الحريّة معبرة عن مشاعر الرفض لواقع مقموع ص85: ” بعض المشاعر كالرصاصة الطائشة مؤسف حين لا تصيب في مقتل” أجل يا عادلة قد لا تصيب رصاصتك في مقتل لكن ” العِيار الذي لا يصيب يدوش ” وما أحوجنا في زمن الصمت إلى صرخة رصاصة!

      ترصد الكاتبة في هذا القسم معايب المجتمع وتوضحها بمصباحٍ شعريٍّ كاشف وعلى رأسها: النفاق الاجتماعي والقهر و الكبت والجهل و الكراهية و سطوة الذكر ومصادرة الفكر وانعدام الثقة وغياب الحوار وخدعة التفاؤل وتتبع عورات الآخرين، والظلم… جاعلةً من قضية المرأة/ الأنثى أساساً تقوم عليه تلك المعايب ص73: ” الخنوع الذي تختزله المرأة في ذاتها بسبب النظرة التحليلية والنفسية والبيولوجية والتاريخية سبب لنسف أية محاولة للتفرد ككيان قادر على التميّز” فبما أنّ الخنوع ينشط في الداخل فالحرية والاستقلال لابدّ أن يبدآ من الداخل أيضاً وذلك يتطلب تغيير المرأة – كما ترى الكاتبة – لنظرتها إلى ذاتها وإلى المفاهيم التي يصوغها المجتمع الذكوري لقمع جسدها وعاطفتها، غير أن المأساة حين تستسيغ المرأة واقعها بل وتدافع عن أغلالها مخدوعة بنقصانها ص84: ” مأساة حين تظن المرأة حريتها مؤامرة “.

      المجتمع الذكوري يحكم على المرأة بأنها فتنة وعليها أن تتوارى وراء ظلمة أثوابها لكن ما أسهل أن تغدو تلك الظلمة ستاراً للمفاسد ص79: ” النقاب ظاهرة مرئية تتستر على الظواهر غير المرئية ” وأيّ مفسدة أعظم من القمع!

      كما يقمع المجتمع عاطفة المرأة إذ يحكم على الحُبّ أنه طعام فاسد لا يمكن استهلاكه ص83: ” الحبّ هنا منتهية صلاحيته ” لذلك لا غرو أن تظهر الكراهية و تنتعش في أكثر أيام الحبّ محبة ص83: ” تظهر الكراهية بشدّة في عيد الحبّ” تظهر تلك الكراهية في رفض الاحتفاء بالحب، وإدانة المحتفين؛ فهو بدعة دخيلة على المجتمع. ومن الطبيعي أن تنقلب الموازين في المعيار الذكوري للمجتمع لأنه لا ينظر إلى المرأة أبعد من جسدها، ولا يراها إلا بعين الرغبة ص80: ” الدماغ الذكوري محدد بميزان يقيس الانتفاخ والانتصاب “.

      لكن هل علينا أن نلوم الذكور على سلوكهم القمعي إزاء المرأة؟ لم يفت الكاتبة أن تستحضر هذا السؤال وهي تشخص الواقع المريض؛ لتخرج وفق تحليلها الشعري الفكري أن مصدر القمع هو السلطة الظالمة ورؤوسها من أصحاب المصالح المشتركة ص89: ” العدالة عجينة في يد من يملك السلطة تتشكل بحسب مكونات المصالح المشتركة وتخبز في أوجاع المقهورين ” إنّ أولئك المقهورين من قبل السلطة يصبحون هم أنفسهم قاهرين لغيرهم كردة فعل تفريغيّة، لا تطال المرأة فحسب بل كلّ من يمكن أن يمارسوا عليه قهراً، فالأب قاهر في بيته، و الكاهن قاهر في رعيته، والمعلم قاهر في صفّه… وعلى ذلك قس.

      كيف إذن للذكر المقهور أن يتيح و يبيح  للمرأة حريّةً هو لا يشعر بطعمها؟! ص81: ” لا يستسيغ المقهور والمكبوت طعم الحريّة، لأنه يستقي معناها من مستنقع قذر” وكيف له أن لا يفرض على المرأة السواد و رغباته لا تعمل إلاّ في الخفاء؟! ص81: ” يخشى المقهور حريّة تفضح رغباته المتعطشة للانفجار، باحثاً عنها في الظلمة ” ما تمارسه السلطة من سريّة وتخفّي وقمع وقهر ينعكس في السلوك العام لأفراد المجتمع ويظهر الفعل الذكوري حيال المرأة تجلياً لذلك السلوك.

      تختم عادلة القسم الثاني بـ” مذكرة صرخة ” وكلمة ” صرخة ”  توحي بالمعاناة و الألم و التفلّت من عقال الصمت والكبت. تسرد الصرخة/المرأة في مذكرتها واقعها المرير واضعةً نفسها ( ضمير المتكلم ) في مقابل المجتمع ( ضمير الغائبين ) ص105 ” لا أتذكر من أنا ومن هم ” ومن خلال حكايتها تسرد آلام جنسها من النساء ص106: ” وككل الصرخات نأتي من العدم ونعود للعدم ” ” جارتي صرخة تتكور تحت بلاعيم صاحبتها، فيخرج صوتها كأنين خائف من أن يكون هناك أحد ما سمع صوتها…” إنّ ” مذكرة صرخة ” تخليص و تلخيص للرصاصة الطائشة وكأن الصرخة صدى متلاحقٌ وتكثيفٌ طويلٌ لصوتِ الرصاصة الطائشة.

      3.رصاصة في القلب

      لطالما ارتبطت مفردة ” القلب ” في الأدب بالعاطفة؛ فالحبّ عصب العاطفة ص111: ” الحب كالأوكسجين، الكثير منه يكتم الأنفاس، وانعدامه يتلف الدماغ…” الحبّ هو الرصاصة التي لا تخطئ هدفها. وهدفها هو القلب.

      الحبّ يتطلب حابّا ومحبوباّ. تعبّر الكاتبة في هذا القِسم عن صوت الحابّ/المُحِبّ متغزلةً بالمحبوب ( بصيغة المخاطب ) ص130: ” اللحظة مزاج بطعم القهوة وأنت قطعة السكر فيها ” كاسرةً الإطار التقليدي عن صورة المرأة باعتبارها قِبلة الغزل، وملهمة الشعراء، ومذكرةً إيّانا بجَدتنا ولادة بنت المستكفي ” ولو أني خبَأتك في عيوني إلى يوم القيامة ما كفاني ” يقابل تخبئة محبوب ولادة في عينيها اختفاء صوت محبوب الكاتبة في شفتيها ص118: ” حين يختفي صوتك في شفاهي أتيقن أني أتنفسك “. تنوّع الكاتبة في عديد من جملها الشعرية على وتر التّخفي و الاندساس والغرق في عيني المحبوب ص118: ” عيونك منارة للسفن الضائعة حين أقترب، أغرق في عمقها ” تتجاوز صفة الموصوف هنا الحدود البشرية فليس لديه عينان كباقي البشر، بل له عيون مضيئة تهتدي بواسطتها السفن الضائعة إلى بر النجاة، هذه حالة رمزية صوفيّة تتحوّل فيها الكاتبة من ولادة إلى رابعة العدويّة ” وأشتاق شوقين شوق النوى وشوقا لقرب الخطى من حماكا ”  من اقتراب السفن/النفس الضائعة من عيون المنارة واقتراب الخطى من الحمى  تمتدّ حالة من الحبّ الصوفي حتى الحلول في ذات المحبوب ص120: ” كثيراً أنسى نفسي بداخلك ” و حتى حلول المحبوب في الحابّ ص121: ” بحة حروفك ممتزجة بصوتي ” لكن هذا الاقتراب عذاب لأن في قربها غرقَها، وفي هداها هلاكَها ” حين أقترب أغرق في عمقها “

      إنّ آفة الحب الغياب، وغياب المحبوب يستدعي الشوق واللهفة لكن ص122 : ” الشوق واللهفة تركيبة الانفجار ”  لماذا يا ترى يتسبب الشوق في الانفجار؟ لأن ص115: ” الأشواق حقلٌ ملغوم ” و على المحب أن يسير بحذر في حقل أشواقه، يحذر أن ييأس من الانتظار كما استسلم الوقت ص129: ” ما عاد الوقت يستعين بي لانتظارك ” يا للعجب إن صبر المحب على الغياب أكبر من صبر الوقت نفسه!. في الغياب إذن يحتاج المحب إلى مداراة شوقه بالانتظار، يكون ذلك بتوسيع دواخله بذكريات المحبوب هرباً من ضيق العالم ص119: ” في الغياب يضيق العالم حولي، وتتوسع دواخلي بذكرياتك ” وأخطر من الشوق على الحابّ النسيان ص131: ” ترى إن نسيتك فهل هذا يعني أني مصابة بالزهايمر؟ الزهايمر نسيانك” لكن لا بأس من النسيان إن كان في النسيان حضور آخر ص133: ” قد أنساك وأنت أمامي كي أعالج حضورك السابق في أفكاري ” في كلّ حال لا يمكن لمن يحب أن ينسى لأن النسيان مرتبط بالدماغ أما الحب فمكانه في القلب، والقلب لن يسمح أبداً بالنسيان ص 136: ” الليلة اكتشفت أن قلبي يعمل في المخابرات فهو يفشل أيّ مخطط يرغب في نسيانك “. كيف يمكن نسيان الحب! أليس هو الرصاصة التي تركت أثرا في القلب؟

      ص 112: ” فجوة عميقة في قلبي على أثر ارتطامك الدائم به “.

      ربما لم تستطع هذه القراءة العجلى أن تغطي جميع الموضوعات التي حفل بها كتاب ” المسكونة باللحظة ” للكاتبة عادلة عدي المقسم إلى رصاصات ثلاث لكن لا شك أن جميع رصاصات الكتاب أصابت أهدافها ببراعة، فقد أثّرت و أثارت و أثرت.

      Source: atheer.om/archives/135537/%d8%…%d9%84%d8%ad%d8%b8%d8%a9/