لما يطرقون عليّ أبوابي...لما هذا الاصرار على اقتحام عالمي ..انه عالمي أنا..لما يلحون أمام رفضي وصراخي بالا يفعلون...انه حقي..من حقي أن أكسّر ما أشاء من هذه الغرفة المشوّهة بالماضي اللعين، هل يشدّهم صوت تحطيم الأشياء..هل هو ذلك الفضول الأعمى الذي يدفع الناس الى الهاويه ..!! ماذا يريدون..ماذا يطلبون مني..لما لم ينصتوا الى انكساراتي طوال تلك السنين..لما خلفّوني ورائهم كشىء مهمل ..لا أمل منه ولا حياه ، أصواتهم تتخالط في مسمعي..انهم بلا شك كثيرون..انهم قادمون..ولكني سأغلق دونهم كل الابواب...نعم..انها غرفتي..ولكن أين المرآه..أحتاج لرؤيتها أو لرؤيتي..فمنذ زمن لم أرى ملامحي..ها هي ذا..يا الهي ..من هذا الرجل الذي يقف أمامي..ما هذه الملامح ..لقد أسمّرت بشرتي..وعيناي غائرتان..منذ متى لم أحلق ذقني..أبدو كأنسان بدائي..أين أنا ..أين ذلك الماضي..ومن أوصلني الى هذه الدرجة من التمزق..والضعف..على من يقع اللوم ..؟؟!!
هل أنا السبب ؟؟؟ هل هو خطئي ؟؟ انها لحظة المواجهة مع الذات، لحظة البحث عن شمّاعة لتعليق الأخطاء عليها؟ ترى هل أنا ضحية أم جاني ؟؟؟ أسئلة كثيرة في رأسي المنهك من هذه الترهات والتفاهات، ولكن لما لا أعود أدراجي الى ماض كان له الفضل في صقلي ونحتي وتوجيه مصيري الى ما آل اليه الآن ، بكل بساطة كان الماضي هما أبي و أمي بكل أحترام ووقار أعترف..نعم انه أبي الذي أنفصل عن والدتي وحرمني منها..وتزوج بأمرأة أخرى..قد يكون في أعتقاده انها البديله ..تعطي حنانا ودفئا كالذي يستشعره الصغار من أمهاتهم ..ولكنها أخذت من أيام طفولتي وسعادتي الشيء الكثير..كان أخي الاكبر مني بسنتين هو من يواسيني ..كان طيبا..رقيقا..أما هي فقد مارست معي صنوف الأكاذيب ، وأتقنت لعبة البراءة أمام أبي المتيم بها..أذكر ذلك اليوم الذي أتهمتني فيه زوجة أبي بسرقة نقود من محفظة والدي .. كانت ردة فعلي هو الهروب.. ذلك الهروب المخيف الى المجهول..فلم يكن هناك طريق استطيع سلوكه..لاني كنت موقن بأن والدي لن يصدقني مهما فعلت أو أقسمت ، المكان الوحيد الذي أستطيع اللجوء اليه هو بيت جدي ..انه الوحيد الذي يغدق عليّ ببعض الحنان. ..كان سوط والدي يتراءى أمامي وكلما أبتعدت عن بيت والدي كلما شعرت بالراحة.. ولكن أبي كان هناك ينتظرني مع ذلك السوط اللعين الذي طبع على جسدي الكثير من ملامحه...
- أبي لم أفعل ..أقسم لك لم أفعل...
- هل تجرؤ على سرقتي..
لم يعر بكائي وتوسلاتي أي أنتباه..لتلك النبرة الصادقة الموجوده فيها...لم أشعر الا بالسوط وهو يكبّل حركاتي..ذلك العجز الذي استشعرته بين الرغبة في الصراخ..وعدم القدرة عليه..
...اني أكرهه..أكره أبي وزوجته..وايضا أمي ..أمي..هي من تركتني طفلا رضيعا بعدما طلقها والدي..تركتني .. لم تسمع صوت بكائي ليلا..ولم تشعر بأصابع قسوتها وهي تضرب حلمي الصغيرعرض الحائط..حلمي الوحيد كان أن اعيش معها..لقد رحلت بدون أن أرى ملامحها أمام عيني..كانت النساء كثيرات في تلك الحواري الصغيرة.وكانت الامهات كثيرات عدا أمي ..وأخيرا رأيتها حين توفي أخي الاكبر في حادث سير..كانت تصرخ وتبكي..وكنت حينها مذهولا منها..ماذا تبكي فيه..انها لا تعرف حتى صوته..وملامح ضحكته..ما هذا الصراخ..والدموع..هل هي حقيقيه..كانت تضمني بقوة ..ولكني كنت في هول صدمتي بفراق أخي ولقاء أمي..أكان من المفروض أن يتوفى أحدنا حتى يراها الآخر....مسكين أخي..لقد رسم في داخله يوم اللقاء بها..كان يعيش ذلك الحلم الخاص بنا ..وكنت أشاركه فيه ..ولكنه توفي وترك لي مهمة تحقيق الحلم..مات أخي وصورته ما زالت عالقة في خيالي ، تلك الدماء وتلك العينان المرسومتان بحزن لا متناهي ، كان أعز ما أملك ..كان أخي وصديقي وكل شيء ..كان دائما يقول لي :
- صدقني يا أخي ..سيأتي يوم ننادي أمنا بأمي ..حين نكبر ..سنرحل من هنا ..سنبحث عن أمي في كل مكان ..وأعدك لن أترك أي سوء يلحق بك ..
ولكنه مات قبل أن نكبر ..وأتت أمي في يوم عزاه بدون أن نكلّف أنفسنا عناء البحث عنها..آه يا أخي ..من حينها وانا أعيش في منزل والدتي..أردت أن أعيش بعيدا عن تلك الزوبعه الموجودة في بيت والدي..وجدت والدتي وقد تزوجت برجل آخر..ولكنه توفي هو الاخر.. وأنجبت أخوة لي..نعم انهم أخوتي..لقد أحببتهم..وهم أحبوني أيضا..ولكني مارست عليهم ذلك الاستبداد الاخويّ..وأستخدمت العصا أحيانا لاثبت لهم قوتي..ولاثبت لنفسي ضعفي وعقدي من الماضي..كان في داخلي فراغا مخيفا لا تتجول فيه الا تلك الايام الطفولية المعذبة..كنت أشعر في قرارة نفسي ان هناك شيئا غير طبيعي يسيطر عليّ ويحولني الى حبيس له..لذلك ورغما عني زرعت في داخلهم الخوف مني..وكنت أحيانا أغرقهم بحناني..فهم في النهاية أخوتي..كنت في قمة القوة والشموخ..كانت أبوابي دائما مغلقة عنهم..لا يستطيعون مناقشتي..أو حتى سؤالي..فهذا هو الاحترام الحقيقي للاخ الاكبر..يا لهم من أطفال حين أذكرهم..انهم يثيرون ضحكي..فمن شدة خوفهم مني..كانوا لا يستطيعون حتى الكلام امامي..ورغم ذلك.ما زلت أفتقر اليهم..و أشتاق الى ضحكاتهم ولعبهم..ومشاجراتهم..أين هم الآن..ماذا يفعلون.. أخي الصغير في الجامعه والاكبر منه في وظيفه مرموقة ..ترى هل نسوني ..أنا من أبعدتهم عني بهذه الطريقه..أنا من أفقدتهم الرغبة في البقاء معي..وهآنذا وحيد....
يآلهي ما هذه الاصوات..انهم ما زالوا هنا..هؤلاء الاغبياء..الا يدركون انني استرجع شريط حياتي..أسترجع ماضي سلطتي..أريد سيجارة..أين هي..لقد نفدت هي أيضا..تبا لهذا الوقت..هذه المرآه ..سوف أكسرّها..لقد تزايدت الاصوات خلف بابي الخشبي..ولكني حر..ألا تسمعون اني حر..!!!
كان الوقت يمر سريعا..قمت بالكثير من المغامرات..وسافرت الى بلدان كثيرة..وعاقرت المشروبات المحّرمه ..وأجدت لعب الورق مع أصدقاء السوء..كان لا أحد يتجرأ على سؤالي..فأنا الان أعمل..حتى والدتي..آه يا أمي..أذكرك الان..ولكن لا أذكر منك غير صوتك وانتي تدعين لي بالهدايه وتسألين أسئلتك المعتادة أن كنت قد تناولت الوجبات أم لا..أجل لا أذكر الا هذا..ولكني أستطعت أن أبعد والدتي عن عالمي قدر الاستطاعه..فأنا أصبحت رجلا ..ولا أحتاج الى رعايتها..لست طفلا..لست ذلك الخائف من والده..والدي اين هو الان..اني لم أزره منذ فتره..تلك الاحلام لم تفارقني..وتلك الهواجس كانت تلاحقني..وأصوات صراخ أخي المتوفى المتألم من الضرب يتردد في أذني..كانت مأساتي وما زالت..كان هاجسي هو أن أكون..وأن أحقق وجودي..اشتريت أعدادا متنوعه من السيارات..وحلقّت بعيدا الى عوالم آخرى..ومع هذا كان النوم ينقصني..والارق يستبّد بي..ويحولنّي الى جثة فوق السرير..كانت صورة أخي المتوفي لا تفارق خيالي..وسوط والدي..وطفولتي المتعثرة في سنواتها الاولى..كل ذلك جعلني مهدودا..محطما..كنت اظهر لاخوتي قوتي بينما كنت أراهم الاقوى والابقى مني ومن هذه الميول الشيطانيه..وأخيرا تزوجت..نعم تزوجت.. أردت أن أترك ذلك العبث وان ابدأ ترتيب حياتي من جديد..حاولت كثيرا..ولكن لم أستطع أن أترك الشراب..فقد أصبح يسري في داخلي كدمي..أما زوجتي فقد كانت طيبة للغاية..وأستطعت أن أزرع فيها الخوف مني هي الاخرى..لاشعر بسلطة الرجل وضعف المرأة...فالمرأة سهل أن تخون..سهل أن تمارس طغيانها ..كزوجة أبي..ولكني لم أترك لزوجتي مثل تلك الفرصة..كنت أراقبها ليل نهار..أجهزة التنصت على الهاتف موجودة..ممنوع أن تكلم أي أحد من الجيران وان علمت العكس كان الضرب هو العقاب..كانت الشكوك طوال الوقت تحوم حولي..والافكار الشيطانية تأكل تفكيري..حتى اني منعتها من محادثة أهلها..وأنا من يختار لها لون الثياب..والعطور.... كانت هادئة معي..أحيانا أرى في عينيها الحب والشفقة..كانت تريد أثبات وفائها لي في كل حركة أو تصرف..وكانت دائما تطمح الى رضاي..أردت أن أحاول انقاذ نفسي من تلك الدوامة..دوامة الماضي..كان أخوتي حولي يكبرون..الكل يرسم أحلامه الوردية علي عيناه ويطمح في تحقيقها ..عداي أنا..فلم أحلم يوما الا بانجلاء ذلك العذاب عني ..وكنت أحسدهم..وأرفض حقهم في الحلم..أو تحقيقه..بالرغم من حبي لهم..الا ان الانسان أناني بطبعه..رغم ذلك لم أفعل شىء..خفت من هذه الاحلام..ومشاعر الغيرة والحسد..والنقص..رغم كل ما أملك..وفي يوما ما ..تهالكت نفسي عليّ..وأسوّدت الدنيا أمامي ..حين حاولت في لحظة جنون أن أقتل أخي الاصغر حين كان يضحك ويراني..لا أدري لما تصورّت انه يضحك عليّ ..وانه يقلل من أحترامي.. لم أشعر الا وجسده الصغير معلّق في يدي ..ولم أشعر الا بدموعه ..وحمرة بشرته ..ومحاولة أخوتي في انقاذه ..
- أتركه ..هيا أتركه ..لم يفعل بك شيء..
ولكني لم اقصد قتله أبدا..أردت معاقبته لانه ضحك عليّ..لما كان يضحك..ولما أخذتها أنا على ذلك النحو من الهمجية والقسوة ..كانت نظراته اليّ باهته ، رهينة معصمي ..كانت تخلو من أي تعبير، سوى ذلك الخوف الذي سكن أنفاسه ..ونظرات أخوتي اليّ وتوسلاتهم لي بتركه ..وفي لحظة صراخ والدتي اسقطت أخي من يدي وهو يبكي ويصرخ..وهرعت الى الخارج أركض كالمجنون..حينها تذكرت ليلة هروبي من بيت والدي حين كنت صغيرا..كان هناك سوطا ينتظرني..أما الان فأنا لا أعرف ما ينتظرني..هربت..وركضت..والكل يراني مذهولا..لم اشعر الا وأنا في مستشفى الامراض النفسية.. قالوا لي حينها بأنهم وجدوني ليلا أبكي على قبر أخي كبكاء الاطفال..وأني رميتهم بالحجر كي لا يقتربوا مني..واني ترديت الى أسوء من ذلك..فكان من خوفهم عليّ أن أتوا بي الى ذلك المكان..منذ ذلك الوقت وانا أتناول أقراص مهدئة ومنومة..وقد تغيرت حالتي النفسية الى الافضل..كما أزداد حجم جسمي من آثار تلك الحبوب..ولكن أخوتي رحلوا بعد ذلك اليوم الى منزل عمهم..انها أكثر من عشر سنوات الان..وهم بعيدون..فقد عانوا معي و أحبوني..ولكن عمهم لم يرض عن وجودهم معنا خاصة بعد تلك الحادثة..أما أمي فقد رضت بما أمر العم خوفا على أبنائها..عائلة زوجتي حاولت أقناع زوجتي بالتخلي عني..ولكنها رفضت ..أرادت أقناعي أن الحب يتغلب على جميع المخاوف الموجودة في صدر الانسان..وفعلا ظلت معي..وأنجبت لي طفلا صغيرا ملأ عليّ عالمي المظلم بالنور..ورغم ذلك لم أتخلى ليلة عن الشراب..فكل ليلة آتي فيها ثملا..تبتعد زوجتي أكثر ..وكلما أبتعدت عني أعتبرته رفضا لي ولرجولتي..ولا أجد حلا الا الضرب.. لم أتخيل مشاعرها حين تفتقد الى ذلك الرجل الذي أحبّت..لم أشعر يوما بذلك الخذلان الذي المّ بها خلال تلك الفترة..فقد كانت تقوم بكل واجباتها بدون أن تنال أبسط حقوقها وهو الاحترام..كنت أضربها كل ليلة...وأعتذر لها كل صباح..وكانت تسامح وتسامح..الى أن أستبّد بها الغضب..وأستبّد بي العناد..والمكابرة..فتركتني وذهبت الى ذويها..كانت تريد فقط معاقبتي..وأن أشعر بقيمة وجودها في عالمي..ولكن كان بي من العزم ما يساعدني على تركها..وكان بي من الغباء ما جعلني أخسرها..الفرصة الوحيدة التي كانت لها القدرة على مواجهة شقائي ببعض السعادة..كانت البداية مجرد رغبة في معاقبتي..ولكن كانت بالنسبة لها صدمة شديدة..لقد أرسلت لها ورقة الطلاق..وعدت الى عالمي رجلا بطوليا من أيام الفرسان..فلن تهزمني أي أمرأة..ولن ترفضني أي أمرأة..ولن تتركني مرة أخرى أي أمرأة..وعدت مهزوما في داخلي..عائدا الى قوقعتي لاغلق على نفسي..واتباهى أمام الآخرين بقوتي..وأبكي امام المرآة ضعفي..وخنوعي...فقدت حينها كل شيء..عدت أدراجي..تركت تلك الاقراص ..فقد كرهت رائحتها الكريهه وطعمها الرديء ..عاد جسدي ضئيلا..وحبست نفسي هنا ..عاودتني نفس الافكار..نفس الاحلام..لا أشعر الا بصراخي ليلا..حين أقوم مفزوعا..طرقات أمي اليومية على الباب ..بكائها ورجائها أن أفتح لها الباب لم يشفع لها..
الهي ..أريد أن أطلق صرخة رجل مقهور من الايام..أريد أن أصرخ ..صرخة مفجوع بهذه الحياه التي ذهبت ولن تعود..الحقيقة الرهيبة..سأصرخ..أسمعوني أيها القابعون خلف ذلك الباب اللعين..اني سأصرخ الان..وسأكّسر ..وان كنتم قادرين أمنعوني..اني أتحداكم...هاهاها....سأحطم صورتي أيضا..وصورة أخي المتوفي..سأحرقها..فقد مللت منها ..ومن رؤيتها..انها أيضا السبب في شقائي..كلكم السبب..هل تسمعون..كلكم السبب..أريد أشعال نارا هنا..وهنا أيضا..أريد أحراق غرفتي..لا بد أن هناك كبريت..لا بد أن أبحث..ها هو...والآن..هل انتم قادرون على منعي..أشك في ذلك..لقد أشتعل..أشعر بدفء النار وجمالها..سأحرق الستارة ايضا..أن الدخان يتكثف في الغرفة..والطرقات على بابي تتزايد..وصراخ أمي أسمعه..سأموت..سأتركك مثلما تركتني سابقا..هل تسمعيني يا أمي..سأرحل بأرادتي..هاهاهاها....أسمعي ضحكتي..فأنا لست خائف من الموت..فقد كانت صورته تتكرر الف مرة في كل يوم.. أحد ما يحاول الدخول من النافذة..لقد كشفتهم..انهم يحاولون الامساك بي..سوف أهرب من النافذة الخلفية..انهم أغبياء..ولكن الدخان كثيف..هل سأرى..سأحاول..أجل لقد نجحت..سأهرب..هاهاهاها...ولكن أين أذهب ..لا يوجد بيت جد ينتظرني..وليس هناك أخ يحميني..أخي..هو ..انه أخي..اين هو..انه هناك مدفون في تلك المقبرة..سأذهب اليه..سأجري ..فأنا مشتاق اليه جدا..أخي ..لم أقصد أن أحرق صورتك..سامحني أرجوك..
- بعد ليلتين من البحث، وجد الناس بطلنا في مقبرة صغيرة..وهو رثّ الثياب..مليئا بالخوف..وأخذ بالجري والصراخ..الى أن وجد نفسه في مستشفى الامراض النفسية مرة أخرى..وحين أستيقظ..أخذ في الصراخ..لم أدرك ما حقيقة تلك الصرخة..فقد كانت غريبة..مليئة بالالم..والمكابرة..وقد تكون صرخة رفض حقيقية..أرتدّ صداها في كل الممرات..والمساحات..المخيفة..التي تعج بالمجانين.