القصة وراء استيطان الإبل البرية في أستراليا

    • خبر
    • القصة وراء استيطان الإبل البرية في أستراليا

      BBC كتب:

      تمضي الدقائق ببطء عندما تكون بصدد قيادة سيارتك على طريق ستيوارت السريع في أستراليا، ذلك الطريق الذي يُطلق عليه اسم "المستكشف جون ماكدال ستيوارت"؛ الذي كان أول أوروبي ينجح في قطع القارة الاسترالية برا من ساحلها الشمالي إلى نظيره الجنوبي، ذهابا وإيابا.

      ويمضي الطريق بشكل عام على المسار ذاته الذي اتخذه ستيوارت في رحلته الماراثونية. ويبلغ طول هذا الطريق 2834 كيلومترا، ويمتد بين مدينتيْ بورت أوغستا في الجنوب، وداروين في الشمال، عابرا ما يشكل بريّة مفتوحة بشكل عام. ويطلقون على هذا الطريق اسم "المسار".

      كنت على علم بأن عليّ أن أتوقع رؤية مظاهرا للحياة البرية بين الحين والآخر. وكان وجود هذا النوع من الحيوانات، الذي تشتهر به أستراليا، من تلك التي صقلتها الأحوال الجوية القاسية، يقطع بلا ريب مشهد الخلاء الواسع هذا، وبشكل متقطع. فقد رأيت حيوانات كانغارو تحدق لمسافات بعيدة، بلا أي تعبير في أعينها، وكذلك نسورا من نوعٍ منتشر في أستراليا، تقف مُنحنيةً فوق جيف حيوانات هلكت إثر اصطدامها بسيارات كانت تسير على هذا الطريق.

      وفي إحدى المرات، رأيت كلبا أستراليا، وهو كلبٌ بريٌ له لون الرمال، يظهر على نحوٍ مباغت بين أشجارٍ منخفضة، تحت الشمس المحرقة. وبدا هذا الحيوان نحيل البدن لكن قوي البنية في الوقت نفسه. وبعد فترةٍ شهدت قضائي عدة ليالٍ في بلدات نائية صغيرة، من تلك التي تتراص على طول الطريق، يُضاف إليها ثلاثة أيام أخرى، جاء موعد الحدث اللافت بالنسبة لي: فقد رأيت جملا.

      في المساء نفسه، تصفحت شبكة الإنترنت لأتأكد من أن ما رأيته كان واقعا وليس من قبيل الهلوسة. فالإبل أو الجِمال تبدو بالنسبة لأستراليا أبعد ما يكون عنها، مثلها مثل الدببة القطبية، أو بالأحرى هذا ما كان معتادا أن يكون صحيحا.

      لكن اتضح أن المشكلة كانت تكمن في قصور معلوماتي أنا، وبشكلٍ هائل أيضا. فالبراري الأسترالية كانت - ولا تزال - موطنا لعدد كبير للغاية من الإبل البرية. وبحسب تقديرات موقع Feral Scan المدعوم من الحكومة الأسترالية، والذي يُعنى برصد الأنواع الإحيائية التي جاءت من الخارج واستوطنت في أستراليا، فإن العدد الحالي لهذه الإبل يتراوح ما بين مليون ومليون ومئتي ألف جمل.

      وتشير التقارير إلى أن هذا العدد يتضاعف كل ثمان أو تسع سنوات. وفي ظل هذه التقديرات، من العجيب بالفعل ألا يكون ذلك الطريق السريع عبارة عن موكبٍ متصل من الجِمال. هنا طرأ على ذهني سؤالٌ: كيف تسنى أن يأتي إلى البراري الأسترالية هذا العدد الضخم من حيوانٍ لا يعود أصله إلى أستراليا؟

      تعود الإجابة على هذا السؤال إلى حقبة رواد استكشاف أستراليا مثل ستيوارت. ولكي نفهم الأمر، يتعين علينا أولا فهم حقيقة شديدة الأهمية متعلقة ببراري أستراليا. فهي فسيحة للغاية، من مختلف الاتجاهات.

      ورغم أن ذلك تسليمٌ بأمر شديد الوضوح، فإنه الجوهر الحقيقي لما يجعل البراري الأسترالية على الشاكلة التي هي عليها. فتلك المنطقة تغطي أكثر من ستة ملايين كيلومتر مربع، وهو ما يقارب ضعف مساحة دولة بحجم الهند. ويكفي للدلالة على هذه المساحة الشاسعة أن الأفق البعيد الذي تراه عندما تزور تلك المنطقة، ما هو إلا بشيرٌ أو نذيرٌ بأفقٍ آخر أبعد.

      واعتبارا من أواخر العقد الأول من القرن الثامن عشر، أي حينما استوطنت مجموعة من البريطانيين مناطق ساحلية في أستراليا، أوجبت طبيعة التفكير الاستعماري في ذلك الوقت النظر إلى الفهم الأعمق والاستكشاف الأوسع لهذه المساحة الشاسعة من اليابسة، كضرورة حتمية.

      فالسكان الأصليون عاشوا في تلك البراري لعشرات الآلاف من السنوات، وتمكنوا من التكيف معها، والبقاء على قيد الحياة فيها والنجاة من مخاطرها، والتعرف على ملامح أراضيها.

      لكن الأمر كان مختلفا بالنسبة للأوروبيين الوافدين حديثا، ممن كانت المناطق الداخلية في أستراليا، تشكل بالنسبة لهم رقعة فسيحة من الأرض، تستعصي على الفهم وتكتوي بأشعة الشمس الحارقة.

      وهكذا بدأت رحلات الاستكشاف التي تقصد تلك المناطق تجري بشكل منتظم، وغالبا في ظروف قاسية. وفي بعض الأحيان، خيم التشوش والارتباك على المعلومات التي خلصت إليها رحلات مثل هذه، من قبيل ما نراه في خريطةٍ تعود إلى مطلع القرن التاسع عشر، كانت تُظهر - بطريق الخطأ - وجود بحر داخلي واسع المساحة في قلب أستراليا.

      لكن ملامح هذه القارة الشاسعة بدأت في الاكتمال شيئا فشيئا، مع توالي بعثات الاستكشاف واحدة تلو الأخرى، لتُكتشف حقول الذهب، وتُنشأ التجمعات السكانية في البراري، وتُمد طرق النقل ذات الأغراض الخدمية هناك.

      غير أن تغطية هذه المساحة الفسيحة للغاية من الأرض تطلبت الاستعانة بأعداد كبيرة من أحصنة النقل، أو عجول الثيران، وهي حيوانات لم يكن بوسعها أن تظل بكامل قوتها وهي عطشى خلال فترات الترحال الطويلة. وكان البديل لتلك الحيوانات واضح، وهو الإبل.

      ففي الفترة بين عامي 1870 و1920، تم استيراد قرابة 20 ألف جمل إلى أستراليا من شبه الجزيرة العربية والهند وأفغانستان. وجُلِبَ مع هذه الإبل ما لا يقل عن ألفي راعٍ من تلك المناطق نفسها.

      كانت هذه الإبل وحيدة السنام على الأغلب، ولا يزيد وزن الواحد منها عن نصف طن. وكانت تلك الحيوانات ملائمة على نحوٍ مثالي للمناخ في المناطق الداخلية من أستراليا.

      فقد كان بمقدور هذه الإبل القيام برحلات تستمر لأسابيع دون مياه، كما كان لديها القوة والقدرة على التحمل لاجتياز هذه التضاريس الشاسعة، والمُعرضة بشدة لحرارة شمس ضارية، وعلى ظهورها ركابها وحمولاتها كذلك.

      وقد كان التأثير الذي أحدثته هذه الإبل، وكذلك رعاتها، كبيرا على مدار العقود التالية. ففي كتاب "جمّالو أستراليا المسلمون: رواد المناطق الداخلية بين عامي 1860 و1930"، تقول آنا كَني - التي شاركت في تأليف هذا العمل - إنه كان لهؤلاء الأشخاص إسهاماتٌ ثقافية واقتصادية مهمة في المجتمع الأسترالي، برغم أنهم لم يلقوا اعترافا كافيا من جانب المكونات الرئيسية لهذا المجتمع.

      وتقول الكاتبة في هذا الشأن إن أولئك الجَمّالين "فتحوا طرقا للإمداد والنقل والاتصال بين التجمعات السكنية المعزولة عن بعضها البعض، ما جعل التنمية الاقتصادية للمناطق القاحلة من أستراليا أمرا ممكنا. كما أنهم أثْروا المشهد الثقافي في البلاد".

      ومن هذا المنطلق، أصبحت الإبل المُثقلة كاهلها بالحمولات والأشخاص، ملمحا ثابتا من ملامح حياة البراري الأسترالية. فقد حملت على ظهورها الصوف، والمياه، والشاي، والتبغ، وأعمدة خطوط التلغراف، والألواح التي تُوضع عليها قضبان السكك الحديدية.

      وفي تلك الحقبة، بدأ السكان الأصليون يستخدمون شعر الإبل في الأدوات التي يصنعونها ويستعينون بها. ولا تزال هناك إشاراتٌ إلى الآن تدل على التقدير الذي حظيت به الإبل، وكذلك رعاتها، فالقطار الفاخر الذي يقطع أستراليا رأسيا، واصلا بين مدينتيْ أديلايد وداروين، يُطلق عليه اسم "ذا غان" تكريما للجَمّالين؛ الذين كان يُشار إليهم بشكل عام باسم "الأفغان".

      رغم ذلك، اندثرت مسألة استخدام الإبل كوسيلة للتنقل وحمل المؤن والبضائع بحلول ثلاثينيات القرن الماضي. فاختراع محرك الاحتراق الداخلي، واستخدام وسائل نقل تعمل بالمحركات، بات يعنى أنه لم يعد هناك من حاجة تقريبا للاستعانة بالجِمال.

      فلم يكن هناك من مجال لمقارنة هذه الإبل بالسيارات التي تُستخدم لنقل البضائع، مهما ظلت تلك الحيوانات قادرة على تحمل المشاق والصعاب، في ظل درجات حرارة تصل إلى 40 درجة مئوية.

      وتبعا لذلك، أُطْلِقَ سراح آلافٍ من الإبل لترعى في البريّة، وهي بيئةٌ نمت فيها هذه الحيوانات وازدهرت بالطبع. وبعد مضي تسعة عقود على ذلك، تزايدت أعداد تلك الإبل بمعدلات كبيرة للغاية.

      لكن الصورة ليست وردية بالكامل، إذ عانت أستراليا لفترةٍ من الزمن من مشكلة خطيرة، بفعل وجود هذه الإبل. فرغم أن تلك الحيوانات قد تكون في حد ذاتها لطيفة وتتسم بطابعٍ كسول، إلا أن سكان التجمعات السكنية الموجودة في البراري الأسترالية يشكون من أن تلك الإبل تدمر أسيجتها بشكلٍ روتيني، وتُحطم الأنابيب والمواسير الخاصة بها، وتشرب من المناطق المنخفضة التي تتجمع المياه فيها، حتى تجف.

      كما كان لهذه الجِمال أثرٌ عميق - بل مثلت عبئا كبيرا - على الحياة البرية في أستراليا، إذ جعلت أراضي الرعي التقليدية هناك خاوية على عروشها من الحشائش والأعشاب.

      ولذا، يصدُقُ على الإبل الموجودة في أستراليا ما قاله بشأنها المستكشف الشاب سايمون ريف، من أنها "ذات قدرة رائعة وفريدة من نوعها تقريبا، فيما يتعلق بالبقاء على قيد الحياة في ظل الظروف السائدة في البراري. وقد كان جلبها إلى هناك حلا عبقريا قصير الأمد، وكارثة على المدى البعيد".

      وقد لجأت السلطات الأسترالية إلى إجراءات قاسية لتقليص عدد هذه الإبل. ففي أواخر عام 2013، أفادت تقارير بأنه جرى التخلص من قرابة 160 ألفا منها منذ عام 2009 برميها بالرصاص، وذلك في إطار برنامج تموله الحكومة للتعامل مع الإبل البرية. ولم يكن من المفاجئ أن ينتقد البعض بشدة اللجوء إلى هذا النهج الفظ. وظهرت محاولاتٌ لتحويل العدد الكبير من الجِمال البرية التي تعيش في أستراليا، إلى نعمة لا نقمة.

      من بين النماذج على هذه المحاولات، مزرعةٌ لمحاصيل تُستزرع دون اللجوء إلى مواد كيمياوية، وتقع في ولاية كوينزلاند. وتحمل المزرعة اسم "سَمَر لاند كاميلز"، ويرعى أكثر من 550 جملا على أراضيها، البالغ مساحتها 850 فدانا.

      ويفاخر القائمون على هذه المزرعة بفوائد حليب الإبل، والمنتجات المرتبطة به، والتي تحتوي على نسبة عالية من فيتامين "سي" والأحماض الدهنية غير المشبعة الأساسية.

      وتقدم هذه المزرعة مجموعة متنوعة من منتجات الألبان، تتضمن كل شيء في هذا الصدد، بداية من الجبن الأبيض، وجبن فيتا الفارسي المُتبل، وصولا إلى المثلجات المُضاف إليها الكراميل المملح. وكل هذه المنتجات تُعد باستخدام حليب الإبل.

      وفي كوينزلاند كذلك، أعلنت مزرعةٌ أخرى لمنتجات حليب الإبل أنها ستطرح في الأسواق شوكولاتة مُعدة بالاستعانة بهذا النوع من الحليب، في وقت لاحق من العام الجاري.

      غير أن الشكوك لا تزال تكتنف مستقبل الإبل البرية في أستراليا. فما يذهلني أنه لا يزال هناك عدد كبير بالفعل منها في هذا البلد. ومع ذلك، فحتى الآن لم ألمح أي جمل بري آخر في أستراليا، منذ ذاك الذي رأيته خلال رحلتي الأولى على طريق "ستيوارت" السريع، رغم أنني قمت برحلتيْن مماثلتين عبر القارة بعد ذلك.

      وبدا الأمر في صعوبة أن يرى المرء صورةً ظليةً لشيءٍ ما من على مبعدة. لكن هذه هي أستراليا: بقعةٌ تمتد فيها المساحات الفسيحة إلى ما لا نهاية، ومكان تذوب فيه صورة الأفق بفعل حرارة الشمس الحارقة، وبلدٌ توضع فيه الإحصاءات في مقياس يتعذر فهمه.

      يمكنك قراءة الموضوع الأصلي على موقع BBC Travel

      Source: bbc.co.uk/arabic/vert-cul-43791658