دخول المذهب الإباضي إلى ليبيا
فصل من كتاب الاباضية في موكب التاريخ للشيخ علي معمر -
إن سريان الأفكار والآراء والعقائد من بلد إلى بلد ، أومن قطر إلى قطر ، لا يمكن أن يؤرخ بالتحديد الزمني . فهي تتسرب تسرباً تدريجيا ، قد يبطئ وقد يسرع ، من فرد إلى فرد ، حتى تتغلب وتنتشر ، وعلى هذه الطريقة نفسها دخل المذهب الإباضي إلى ليبيا .
بدأ المذهب الإباضي يحرر آراءه وعقائده في أواخر النصف الأول من القرن الأول الهجري ، ولم يتم النصف الثاني من هذا القرن حتى كانت الأصول التي تميزه عن غيره من الفرق والمذاهب قد تقررت . ففي البصرة التي كانت من مراكز الإشعاع الإسلامي ، عاش إمام المذهب ، التابعي الكبير ، جابر بن زيد ، ما بين سنتي 22 , 96 هـ .
ومن هذا المركز الإشعاعي ، ومن البؤرة التي كان يستضيء بها هذا الإمام . امتد النور إلى مختلف البلاد الإسلامية ، بصورة تدريجية بطيئة ، على طريقة العقائد التي تحارب الباطل بالحجة لا بالقوة ، وتتسلح بالحق لا بالسيف ، ويعتنقها الناس بالاقتناع لا بالخوف .
ولعل التسامح في معاملة المعتدين من المسلمين ، والبساطة في مظهر السلطة والحكم ، والوضوح في الرأي والعقيدة ، والصراحة في قول الحق والعمل به ، والاستمساك بالواضح من دين الله ، كانت من الأسباب التي ساعدت على انتشار المذهب الإباضي في أكثر البلاد الإسلامية .
وفي ذلك الحين ، الذي كان فيه المعتزلة يشغلون أوقات الناس بالجدل ،وكان الأزارقة ومن ذهب مذهبهم ينطلقون في الأوساط الإسلامية المسالمة ، يبتزون الأموال ، ويقتلون الرجال ، ويستحلون سبى النساء والأطفال ، وكان الشيعة عاكفين على وضع الأحاديث في فضائل بنى هاشم ، وتحبير الخطب البليغة على لسان على بن أبي طالب ، والتغنى بعصمة أهل البيت ، وكان أهل السنة والجماعة (3) من أتباع معاوية منهمكين في مكافحة ثورات الخوارج وابن الزبير
__________________________
(3) - جعل معاوية سب على بن أبي طالب على المنابر سنة . وسمى أتباعه أهل السنة ولما تنازل الحسن عن الخلافة زاد لفظ الجماعة فسماهم أهل السنة والجماعة
وغيرها ، وفي التقاط العيوب ، وتلفيق الأكاذيب ، لتكون مادة السب واللعن لعلي بن أبي طالب، في خطب الجمعة .
في هذه الأحوال كان الإباضية ومن جرى هذا المجرى من التابعين وتابع التابعين يدعون إلى دين الله في هدوء واتزان . لا يصخبون صخب المعتزلة حباً في الظهور ، ولا يحاربون حرب الأزارقة ، بالخطأ في تأويل كتاب الله ، ولا يفرطون إفراط الشيعة ، استغلالا للعاطفة الدينية ، ولا يكذبون كذب بنى أمية ليقيموا الدولة ، ويحفظوا الملك .
وبهذه الروح المؤمنة التي تضع كتاب الله U وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام بين عينيها ، تدعو إليهما متجردة عن عواطف الحب والبغض في غير الله . عازفة عن زخرف الدنيا وبهرجها ، متأكدة من معنى آيات كتاب الله في التفريق بين المسلمين والمشركين ، معرضة عن حب الظهور الذي يسعى إليه المعتزلة جاهدين كان الإباضية يعملون .
وذهبت هذه الدعوة المعتدلة التي لا تحيد عن منهج الإسلام في البلاد دون جيش أو سيف أو مال ، فانتشرت في العراق والجزيرة العربية ، ثم امتدت إلى مصر، ومن مصر دخلت بهدوء إلى ليبيا وما بعد ليبيا من المغرب الإسلامي الكبير .
ولكن اتصال هذه البلاد من الوطن الإسلامي بمصدر الإشعاع في البصرة ، كان بعد ذلك يتم رأساً بين كل قطر من هذه الأقطار والبصرة ، ولم تمض عشرون سنة من القرن الثاني الهجري حتى كان المذهب الإباضي منتشراً في ليبيا وتونس والجزائر ، كما انتشر في العراق والجزيرة العربية وعُمان .
سَلمة بن سَعد
رجل امتلأ قبله إيماناً بالله ، ووعى عقله القوي ما دعا إليه الكتاب الكريم ، واتسع فهمه الذكي لما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأستحوذ على نفسه وحسه وجوارحه اليقين بدين الله ، فانطلق يدعوا إلى الله ، لا يقيم الدنيا وما فيها وزناً، ولا يحسب للناس وأعمالهم حسابا ، ولا يخشى للتعب والمشقة عاقبة . ولا ينظر إلى المعارضة إلا على أنها عوارض تعترض طريق المؤمن فيجب عليه أن يتخطاها .
قلبه عامر بالله وحده ، فلا يتردد لأي أثر من مخلوق ، وجسده بما فيه من قوى مادية وروحية مسخر للدعوة إلى الله ، لا يفتر ولا يلين ولا يتوقف .
انطلق من جزيرة العربية إلى إفريقيا وحيداً منفرداً ، يقتحم المجاهل ويدخل القفار ، ويغشى المجتمعات التي لا تعرف له جنساً ولا لغة ، وليس له من سلاح في كل ذلك إلا ذلك الإيمان الذي عمر به قلبه ، وتلك المعرفة الشاملة لكتاب الله وسنة رسول الله ، وسيرة السلف الصالحين من الصحابة والتابعين ، ولم يمض عليه عشر سنوات حتى كانت دعوته تنتشر ما بين تلمسان وسرت ، وحتى كان المذهب الإباضي مذهباً لأغلب السكان في ليبيا وتونس والجزائر .
كان يقول في مبدأ أمره وددت أن يظهر هذا الأمر يوماً واحداً فما أبالي أن تضرب عنقي .
وقد تحقق أمله في الله في مدة لم يكن يتصورها ، وأصابه من التوفيق ما يضيفه الله على الأخيار من خلقه ، الذين تعدهم الأقدار لتبليغ رسالة الله بعد الأنبياء عليهم السلام فينطلقون بالدعوة صافية كما كانت في عهد النبوة ،خالصة من الشوائب والبدع والخرافة .
كان سلمة بن سعد ينتقل بين بلدان شمال أفريقيا من جهة إلى جهة لا يعتمد على جيش ولا حرس ولا رفيق ، ولم يصحبه في تلك الرحلات الطويلة من الجزيرة إلى العراق ، من العراق إلى أفريقيا ، إلا إيمانه بصحة العقيدة وصفاء الفكرة، وسلامة الدعوة ، ومعرفة واسعة للإسلام وأسراره ، وكانت هذه المميزات هي التي فتحت القلوب والعقول لدعوته وتقبلتها بقبول حسن .
وقد استطاع أن يوصل الدعوة إلى الأماكن التي لم تصل إليها ، وأن يوجه إفهام الناس إلى تفهمها ، وأن يوحد بينهم في الاتجاه العملي ، حتى استطاع أن يكون منهم بعثة علمية توجهت إلى البصرة مركز الإشعاع في ذلك الحين .
وقد استطاع أن يجعل أعضاء هذه البعثة العلمية من أماكن متفرقة ، بعيدة عن بعضها ، حتى يكون كل واحد منهم نبراسا يهتدي به في جهة من الجهات ، وحتى يعملوا جميعاً على توحيد جهود الأمة ، وتوجيهها إلى الخير العام . ونجح سلمة في إرسال هذه البعثة ، ونجحت هذه البعثة التي أطلق عليها " حملة العلم إلى المغرب " في دعوتها والقيام برسالتها ، وكان من أعمالها ما سوف تقرأ بعضه في حلقات هذا الكتاب .
لقد كان سلمة بن سعد بطلا من أبطال الإسلام ، وداعية من دعاة الحق والكرامة ، يتصف بجميع الصفات التي تلزم الداعية ، من معرفة كتاب الله وأسراره ، واستقامة على دين الله ومنهاجه ، وتخلق بآداب الإسلام وفضائله ، ووضوح في المنطق ، وسلامة في التعبير ، وقوة في الحجة . كان مؤمناً من أخلص المؤمنين لدين الله ، فجزاه الله عن جهاده وكفاحه خير الجزاء .
ابن مَغْطير الَجنَّاوني
كان سكان ليبيا قبل الفتح الإسلامي ، إما وثنيون يعبدون الأصنام ، وإما نصارى يتبعون المسيحية المحرفة ، فلما بلغت الدعوة الإسلامية ليبيا ، في بساطتها ووضوحها وصراحتها ، وهدايتها بالحق وإلى الحق ، وتقريرها لعلاقة الإنسان بالإنسان ،وعلاقة الإنسان بخالق الإنسان ، على مبدأ تساوي بني آدم في حقوق البشرية والعبودية لله وحده . اعتنقها الناس لهذا الأسباب ، حينما قارنوا الحق الواضح فيها بالأباطيل التي كانوا يتبعونها، ولما كان حاملو الدعوة جيوشاً مهمتها الفتح ، والجيوش الفاتحة لا تجد الوقت الكافي لنشر الثقافة الإسلامية الواسعة ، لذلك فقد تكونت حركة البعوث العلمية إلى المشرق .
لقد جاء سلمة بن سعد في أوائل القرن الثاني ، يدعو الناس إلى التمسك بدين الله ، وعدم الانصياع لعبدة الأهواء ، وطلاب الدنيا ، والانخداع لأصحاب البدع ، تلك البدع التي ضل بها ناس عن صراط الله السوي ، وأضلوا بها .
وفي هذا الوقت الذي كان فيه هذا المؤمن الداعية يكافح من اجل المحافظة على صفاء دين الله وسلامته من الأهواء والانحرافات والبدع ، في هذا الوقت كان بطل آخر من أولئك الأبطال الذين يملكون إرادة أقوى من الزمن ، وعزماً أشد من مصائب الحياة . كان هذا البطل قد قطع المسافة العلوية بين جبل نفوسة والبصرة في العراق ، ليغترف العلم من منبعه الصافي : أبي عبيدة مسلم بن أبي كريمة ، وزملائه في البصرة . في ذلك المعمل الذي أسس في ظاهرة لإنتاج القفاف، وفي الحقيقة لإنتاج الدعاة من حملة دين الله المخلصين . فأنتج رجالا كانوا مثلا أعلى للأسرة المسلمة ، في صحة العقيدة ، والتمسك بالدين ، والفهم الحق لرسالة الإسلام ، والتخلق بأخلاق سيد المرسلين ، ومن اهتدى بهديه من المؤمنين المتقين .
هذا البطل الذي أتحدث عنه : هو العلامة محمد بن عبد الحميد بن مغطير الجناوني ، فعندما كان الداعية سلمة بن سعد يكافح لتكوين بعثة علمية من أنجب الطلاب ، كان ابن معطير يغترف العلم من منهله العذب .
ورجع إلى وطنه قبل أن تسافر البعثة العلمية التي كونها سلمة بن سعد ، والتي كان لها شأن هام في ليبيا . شأن في نواحي الحياة المختلفة ، ناحية السياسة ، وناحية الدين ، وناحية المجتمع .
يبقى ابن مغطير في التدريس والفتوى ، حتى تخرجت البعثة العلمية في البصرة ، ورجعت إلى المغرب الإسلامي ، باسم " حملة العلم إلى المغرب " فامسك ذلك العلامة البطل عن الفتوى ، معتذرا بأن حملة العلم أولى بالفتوى ، لأنهم أخذوا عن الإمام بعد أن حرر جميع الأقوال .
إن ابن مغطير هو أول ليبي فكر في تكوين البعثات العلمية ، ونفذ الفكرة في نفسه وتبعه الآخرون .
والوطن الليبي بل المغربي مدين لهذا الجندي المجهول الذي يقطع هذه المسافات الطوال من ليبيا إلى العراق في ذلك الزمن الذي يعسر فيه الانتقال . منفرداً وحيداً، يحمل مشعل العلم والنور إلى وطنه ، حتى يستنير به أبناء هذا القسم من الأمة العظيمة في هذا الطرف من المملكة الشاسعة التي لم تتح لها ظروف الفتح أولا ، والثورات الحمقاء المجنونة ثانيا – لم تنجح لها هذه الظروف غير المستقرة أن تهتم بقضية العلم والتعليم ، التي هي أهم رسالة يدعو إليها الإسلام ويطالب بها بنيه .
ومع هذا المجهود الجبار الذي يبذله هذا البطل لخدمة الأمة وإعلاء كلمة الله ، يمر عليه التاريخ فلا يشير إليه إشارات عابرة كما يشير إلى أي شخص عادي . ومع ذلك فالرجل راض عن هذا الموقف من التاريخ ، ونحن أيضاً راضون له بهذا الموقف من التاريخ، لأنه عندما كان يقدم على ألوان الكفاح ، واقتحام العقبات والصعاب ، لم يجعل في عمله حسابا للتاريخ ، أو لرأي الناس فيه ، أو لمدح المحبين ، ونقد المبغضين . لقد كان عمله خالصاً لله ، وقد علمه الله ، وعنده وحده يكون الجزاء .
ومهما يكن ، فقد فتح الطريق للبعثات ، واستجاب لأمر الله ، حين أوجب على طائفة من المسلمين أن يتفقهوا في الدين ، لينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم ، وربط الصلة بين مشرق الأمة ومغربها ، ودعا إلى تطبيق أحكام الله ، وتنفيذ أوامره ، حسبما كان معروفاً في زمنه وفي زمن الخلفاء الراشدين ، وكان شديداً في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وقافا عند حدود الله ، لا يتدخل فيما لا يعنيه ، ولكن عندما يجترئ مجترئ على الحق يقف له موقف المؤمن الغيور الذي لا تأخذه في الله لومة لائم .
وقد بارك الله في عمره ، فامتدت به الحياة إلى أن جاء الإمام عبد الوهاب إلى جبل نفوسه ، فكان يحضر مجلسه على كبر سنه . ولعل في الحادثة الآتية مثلا رائعاً لمن أراد أن يقتدي بأعلام الإسلام وأدبهم في إقامة الحق واتباع دين الله : ارتفع رجلان في خصومة إلى الإمام عبد الوهاب ، فاستردد الإمام المدعى عليه الجواب ، ولكن الرجل اعتز بالإثم ولم يجب الإمام ، فسأل الإمام عن ابن مغطير ، فأجيب بأنه غير موجود ، فقال للخصمين قوما إلى غد ، ورجع إليه الخصمان في اليوم الثاني والثالث ، فكان موقفهما منه مثل موقفهما في اليوم الأول . وفي اليوم الرابع عندما تخاصما من جديد وطلب الإمام إلى المدعى عليه أن يجب فلم يجب ، سأل الإمام عن ابن مغطير ، وكان بناحية من المسجد ، فما أتم الإمام سؤاله حتى وثب ابن مغطير – وكان شيخاً طاعناً في السن – على الممتنع ، فوطئه بركبته ، ولم يتركه حتى استغاث بالإمام وأذعن للحق .
وفي القصة مثل رائع عن خلق هؤلاء الأئمة وأدبهم ، هؤلاء الأئمة الذين لا يرتفعون عن الأمة ولا يحتجبون عن أفراد الشعب ، ولا يتخذون قصوراً دونها حرس وحجاب ، وإنما كانوا يجلسون في المساجد كما يجلس أي مسلم ، وهم يتولون شؤونها ، وينظمون أمورها ، ويفصلون مشاكلها بروح الإسلام الذي يفصل بين الناس بالعدل لا بالقوة ، وبالحق لا بالغطرسة ، وبالبساطة لا بالتبجح والدعوى .
وفي القصة مثل آخر رائع ، ضربه ابن مغطير ، هذا الشيخ الهرم ، الذي حضر دروس أبي عبيدة قبل أن يحضرها أبو هذا الإمام ، وامتدت به الحياة حتى رأى هذا التجني على الحق والاستكبار عن أمر الله ، وإساءة الأدب أمام أمير المؤمنين ،فأردا أن يعلم الحاضرين في المسجد أن القوي أمام الحق ضعيف ، وأن الضعيف إذا كان في جانب الحق قوي . بل أراد أن يعلم أولئك الحاضرين أن الحقوق لا تعطل لاستكبار المستكبرين ، واعتزاز الآثمين بالإثم ، فإذا خطر لأحدهم أن يقف هذا الموقف ، وجب على أولئك الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر أن يتناولوه بالشدة وأن يعلموه بالأدب .
أما العبرة الثالثة التي تستخلص من هذه القصة ، فهي هذا الاحترام العظيم الذي يسبغه الإمام العظيم على العالم العظيم . إن عبد الوهاب لم يتوقف عن تأديب هذا الشخص خوفاً منه ، ولا جهلا بأحكام الله ، ولا تساهلا في دين ، ولكنه أدب طبع عليه ، وتقدير لهذا العلامة الذي يجب أن يستشعر كل مسلم في ذلك الحين عظمته وطموحه ومحبته لدين الله ، وكفاحه من أجل العلم .
إن ابن مغطير ، هذا الرجل الذي جاب الآفاق طلبا للعلم ، وعاش للتدريس والفتوى ، ثم حمل أمانة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، لمثلٌ حي يجب أن يقتدي به المؤمنون …
فصل من كتاب الاباضية في موكب التاريخ للشيخ علي معمر -
إن سريان الأفكار والآراء والعقائد من بلد إلى بلد ، أومن قطر إلى قطر ، لا يمكن أن يؤرخ بالتحديد الزمني . فهي تتسرب تسرباً تدريجيا ، قد يبطئ وقد يسرع ، من فرد إلى فرد ، حتى تتغلب وتنتشر ، وعلى هذه الطريقة نفسها دخل المذهب الإباضي إلى ليبيا .
بدأ المذهب الإباضي يحرر آراءه وعقائده في أواخر النصف الأول من القرن الأول الهجري ، ولم يتم النصف الثاني من هذا القرن حتى كانت الأصول التي تميزه عن غيره من الفرق والمذاهب قد تقررت . ففي البصرة التي كانت من مراكز الإشعاع الإسلامي ، عاش إمام المذهب ، التابعي الكبير ، جابر بن زيد ، ما بين سنتي 22 , 96 هـ .
ومن هذا المركز الإشعاعي ، ومن البؤرة التي كان يستضيء بها هذا الإمام . امتد النور إلى مختلف البلاد الإسلامية ، بصورة تدريجية بطيئة ، على طريقة العقائد التي تحارب الباطل بالحجة لا بالقوة ، وتتسلح بالحق لا بالسيف ، ويعتنقها الناس بالاقتناع لا بالخوف .
ولعل التسامح في معاملة المعتدين من المسلمين ، والبساطة في مظهر السلطة والحكم ، والوضوح في الرأي والعقيدة ، والصراحة في قول الحق والعمل به ، والاستمساك بالواضح من دين الله ، كانت من الأسباب التي ساعدت على انتشار المذهب الإباضي في أكثر البلاد الإسلامية .
وفي ذلك الحين ، الذي كان فيه المعتزلة يشغلون أوقات الناس بالجدل ،وكان الأزارقة ومن ذهب مذهبهم ينطلقون في الأوساط الإسلامية المسالمة ، يبتزون الأموال ، ويقتلون الرجال ، ويستحلون سبى النساء والأطفال ، وكان الشيعة عاكفين على وضع الأحاديث في فضائل بنى هاشم ، وتحبير الخطب البليغة على لسان على بن أبي طالب ، والتغنى بعصمة أهل البيت ، وكان أهل السنة والجماعة (3) من أتباع معاوية منهمكين في مكافحة ثورات الخوارج وابن الزبير
__________________________
(3) - جعل معاوية سب على بن أبي طالب على المنابر سنة . وسمى أتباعه أهل السنة ولما تنازل الحسن عن الخلافة زاد لفظ الجماعة فسماهم أهل السنة والجماعة
وغيرها ، وفي التقاط العيوب ، وتلفيق الأكاذيب ، لتكون مادة السب واللعن لعلي بن أبي طالب، في خطب الجمعة .
في هذه الأحوال كان الإباضية ومن جرى هذا المجرى من التابعين وتابع التابعين يدعون إلى دين الله في هدوء واتزان . لا يصخبون صخب المعتزلة حباً في الظهور ، ولا يحاربون حرب الأزارقة ، بالخطأ في تأويل كتاب الله ، ولا يفرطون إفراط الشيعة ، استغلالا للعاطفة الدينية ، ولا يكذبون كذب بنى أمية ليقيموا الدولة ، ويحفظوا الملك .
وبهذه الروح المؤمنة التي تضع كتاب الله U وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام بين عينيها ، تدعو إليهما متجردة عن عواطف الحب والبغض في غير الله . عازفة عن زخرف الدنيا وبهرجها ، متأكدة من معنى آيات كتاب الله في التفريق بين المسلمين والمشركين ، معرضة عن حب الظهور الذي يسعى إليه المعتزلة جاهدين كان الإباضية يعملون .
وذهبت هذه الدعوة المعتدلة التي لا تحيد عن منهج الإسلام في البلاد دون جيش أو سيف أو مال ، فانتشرت في العراق والجزيرة العربية ، ثم امتدت إلى مصر، ومن مصر دخلت بهدوء إلى ليبيا وما بعد ليبيا من المغرب الإسلامي الكبير .
ولكن اتصال هذه البلاد من الوطن الإسلامي بمصدر الإشعاع في البصرة ، كان بعد ذلك يتم رأساً بين كل قطر من هذه الأقطار والبصرة ، ولم تمض عشرون سنة من القرن الثاني الهجري حتى كان المذهب الإباضي منتشراً في ليبيا وتونس والجزائر ، كما انتشر في العراق والجزيرة العربية وعُمان .
سَلمة بن سَعد
رجل امتلأ قبله إيماناً بالله ، ووعى عقله القوي ما دعا إليه الكتاب الكريم ، واتسع فهمه الذكي لما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأستحوذ على نفسه وحسه وجوارحه اليقين بدين الله ، فانطلق يدعوا إلى الله ، لا يقيم الدنيا وما فيها وزناً، ولا يحسب للناس وأعمالهم حسابا ، ولا يخشى للتعب والمشقة عاقبة . ولا ينظر إلى المعارضة إلا على أنها عوارض تعترض طريق المؤمن فيجب عليه أن يتخطاها .
قلبه عامر بالله وحده ، فلا يتردد لأي أثر من مخلوق ، وجسده بما فيه من قوى مادية وروحية مسخر للدعوة إلى الله ، لا يفتر ولا يلين ولا يتوقف .
انطلق من جزيرة العربية إلى إفريقيا وحيداً منفرداً ، يقتحم المجاهل ويدخل القفار ، ويغشى المجتمعات التي لا تعرف له جنساً ولا لغة ، وليس له من سلاح في كل ذلك إلا ذلك الإيمان الذي عمر به قلبه ، وتلك المعرفة الشاملة لكتاب الله وسنة رسول الله ، وسيرة السلف الصالحين من الصحابة والتابعين ، ولم يمض عليه عشر سنوات حتى كانت دعوته تنتشر ما بين تلمسان وسرت ، وحتى كان المذهب الإباضي مذهباً لأغلب السكان في ليبيا وتونس والجزائر .
كان يقول في مبدأ أمره وددت أن يظهر هذا الأمر يوماً واحداً فما أبالي أن تضرب عنقي .
وقد تحقق أمله في الله في مدة لم يكن يتصورها ، وأصابه من التوفيق ما يضيفه الله على الأخيار من خلقه ، الذين تعدهم الأقدار لتبليغ رسالة الله بعد الأنبياء عليهم السلام فينطلقون بالدعوة صافية كما كانت في عهد النبوة ،خالصة من الشوائب والبدع والخرافة .
كان سلمة بن سعد ينتقل بين بلدان شمال أفريقيا من جهة إلى جهة لا يعتمد على جيش ولا حرس ولا رفيق ، ولم يصحبه في تلك الرحلات الطويلة من الجزيرة إلى العراق ، من العراق إلى أفريقيا ، إلا إيمانه بصحة العقيدة وصفاء الفكرة، وسلامة الدعوة ، ومعرفة واسعة للإسلام وأسراره ، وكانت هذه المميزات هي التي فتحت القلوب والعقول لدعوته وتقبلتها بقبول حسن .
وقد استطاع أن يوصل الدعوة إلى الأماكن التي لم تصل إليها ، وأن يوجه إفهام الناس إلى تفهمها ، وأن يوحد بينهم في الاتجاه العملي ، حتى استطاع أن يكون منهم بعثة علمية توجهت إلى البصرة مركز الإشعاع في ذلك الحين .
وقد استطاع أن يجعل أعضاء هذه البعثة العلمية من أماكن متفرقة ، بعيدة عن بعضها ، حتى يكون كل واحد منهم نبراسا يهتدي به في جهة من الجهات ، وحتى يعملوا جميعاً على توحيد جهود الأمة ، وتوجيهها إلى الخير العام . ونجح سلمة في إرسال هذه البعثة ، ونجحت هذه البعثة التي أطلق عليها " حملة العلم إلى المغرب " في دعوتها والقيام برسالتها ، وكان من أعمالها ما سوف تقرأ بعضه في حلقات هذا الكتاب .
لقد كان سلمة بن سعد بطلا من أبطال الإسلام ، وداعية من دعاة الحق والكرامة ، يتصف بجميع الصفات التي تلزم الداعية ، من معرفة كتاب الله وأسراره ، واستقامة على دين الله ومنهاجه ، وتخلق بآداب الإسلام وفضائله ، ووضوح في المنطق ، وسلامة في التعبير ، وقوة في الحجة . كان مؤمناً من أخلص المؤمنين لدين الله ، فجزاه الله عن جهاده وكفاحه خير الجزاء .
ابن مَغْطير الَجنَّاوني
كان سكان ليبيا قبل الفتح الإسلامي ، إما وثنيون يعبدون الأصنام ، وإما نصارى يتبعون المسيحية المحرفة ، فلما بلغت الدعوة الإسلامية ليبيا ، في بساطتها ووضوحها وصراحتها ، وهدايتها بالحق وإلى الحق ، وتقريرها لعلاقة الإنسان بالإنسان ،وعلاقة الإنسان بخالق الإنسان ، على مبدأ تساوي بني آدم في حقوق البشرية والعبودية لله وحده . اعتنقها الناس لهذا الأسباب ، حينما قارنوا الحق الواضح فيها بالأباطيل التي كانوا يتبعونها، ولما كان حاملو الدعوة جيوشاً مهمتها الفتح ، والجيوش الفاتحة لا تجد الوقت الكافي لنشر الثقافة الإسلامية الواسعة ، لذلك فقد تكونت حركة البعوث العلمية إلى المشرق .
لقد جاء سلمة بن سعد في أوائل القرن الثاني ، يدعو الناس إلى التمسك بدين الله ، وعدم الانصياع لعبدة الأهواء ، وطلاب الدنيا ، والانخداع لأصحاب البدع ، تلك البدع التي ضل بها ناس عن صراط الله السوي ، وأضلوا بها .
وفي هذا الوقت الذي كان فيه هذا المؤمن الداعية يكافح من اجل المحافظة على صفاء دين الله وسلامته من الأهواء والانحرافات والبدع ، في هذا الوقت كان بطل آخر من أولئك الأبطال الذين يملكون إرادة أقوى من الزمن ، وعزماً أشد من مصائب الحياة . كان هذا البطل قد قطع المسافة العلوية بين جبل نفوسة والبصرة في العراق ، ليغترف العلم من منبعه الصافي : أبي عبيدة مسلم بن أبي كريمة ، وزملائه في البصرة . في ذلك المعمل الذي أسس في ظاهرة لإنتاج القفاف، وفي الحقيقة لإنتاج الدعاة من حملة دين الله المخلصين . فأنتج رجالا كانوا مثلا أعلى للأسرة المسلمة ، في صحة العقيدة ، والتمسك بالدين ، والفهم الحق لرسالة الإسلام ، والتخلق بأخلاق سيد المرسلين ، ومن اهتدى بهديه من المؤمنين المتقين .
هذا البطل الذي أتحدث عنه : هو العلامة محمد بن عبد الحميد بن مغطير الجناوني ، فعندما كان الداعية سلمة بن سعد يكافح لتكوين بعثة علمية من أنجب الطلاب ، كان ابن معطير يغترف العلم من منهله العذب .
ورجع إلى وطنه قبل أن تسافر البعثة العلمية التي كونها سلمة بن سعد ، والتي كان لها شأن هام في ليبيا . شأن في نواحي الحياة المختلفة ، ناحية السياسة ، وناحية الدين ، وناحية المجتمع .
يبقى ابن مغطير في التدريس والفتوى ، حتى تخرجت البعثة العلمية في البصرة ، ورجعت إلى المغرب الإسلامي ، باسم " حملة العلم إلى المغرب " فامسك ذلك العلامة البطل عن الفتوى ، معتذرا بأن حملة العلم أولى بالفتوى ، لأنهم أخذوا عن الإمام بعد أن حرر جميع الأقوال .
إن ابن مغطير هو أول ليبي فكر في تكوين البعثات العلمية ، ونفذ الفكرة في نفسه وتبعه الآخرون .
والوطن الليبي بل المغربي مدين لهذا الجندي المجهول الذي يقطع هذه المسافات الطوال من ليبيا إلى العراق في ذلك الزمن الذي يعسر فيه الانتقال . منفرداً وحيداً، يحمل مشعل العلم والنور إلى وطنه ، حتى يستنير به أبناء هذا القسم من الأمة العظيمة في هذا الطرف من المملكة الشاسعة التي لم تتح لها ظروف الفتح أولا ، والثورات الحمقاء المجنونة ثانيا – لم تنجح لها هذه الظروف غير المستقرة أن تهتم بقضية العلم والتعليم ، التي هي أهم رسالة يدعو إليها الإسلام ويطالب بها بنيه .
ومع هذا المجهود الجبار الذي يبذله هذا البطل لخدمة الأمة وإعلاء كلمة الله ، يمر عليه التاريخ فلا يشير إليه إشارات عابرة كما يشير إلى أي شخص عادي . ومع ذلك فالرجل راض عن هذا الموقف من التاريخ ، ونحن أيضاً راضون له بهذا الموقف من التاريخ، لأنه عندما كان يقدم على ألوان الكفاح ، واقتحام العقبات والصعاب ، لم يجعل في عمله حسابا للتاريخ ، أو لرأي الناس فيه ، أو لمدح المحبين ، ونقد المبغضين . لقد كان عمله خالصاً لله ، وقد علمه الله ، وعنده وحده يكون الجزاء .
ومهما يكن ، فقد فتح الطريق للبعثات ، واستجاب لأمر الله ، حين أوجب على طائفة من المسلمين أن يتفقهوا في الدين ، لينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم ، وربط الصلة بين مشرق الأمة ومغربها ، ودعا إلى تطبيق أحكام الله ، وتنفيذ أوامره ، حسبما كان معروفاً في زمنه وفي زمن الخلفاء الراشدين ، وكان شديداً في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وقافا عند حدود الله ، لا يتدخل فيما لا يعنيه ، ولكن عندما يجترئ مجترئ على الحق يقف له موقف المؤمن الغيور الذي لا تأخذه في الله لومة لائم .
وقد بارك الله في عمره ، فامتدت به الحياة إلى أن جاء الإمام عبد الوهاب إلى جبل نفوسه ، فكان يحضر مجلسه على كبر سنه . ولعل في الحادثة الآتية مثلا رائعاً لمن أراد أن يقتدي بأعلام الإسلام وأدبهم في إقامة الحق واتباع دين الله : ارتفع رجلان في خصومة إلى الإمام عبد الوهاب ، فاستردد الإمام المدعى عليه الجواب ، ولكن الرجل اعتز بالإثم ولم يجب الإمام ، فسأل الإمام عن ابن مغطير ، فأجيب بأنه غير موجود ، فقال للخصمين قوما إلى غد ، ورجع إليه الخصمان في اليوم الثاني والثالث ، فكان موقفهما منه مثل موقفهما في اليوم الأول . وفي اليوم الرابع عندما تخاصما من جديد وطلب الإمام إلى المدعى عليه أن يجب فلم يجب ، سأل الإمام عن ابن مغطير ، وكان بناحية من المسجد ، فما أتم الإمام سؤاله حتى وثب ابن مغطير – وكان شيخاً طاعناً في السن – على الممتنع ، فوطئه بركبته ، ولم يتركه حتى استغاث بالإمام وأذعن للحق .
وفي القصة مثل رائع عن خلق هؤلاء الأئمة وأدبهم ، هؤلاء الأئمة الذين لا يرتفعون عن الأمة ولا يحتجبون عن أفراد الشعب ، ولا يتخذون قصوراً دونها حرس وحجاب ، وإنما كانوا يجلسون في المساجد كما يجلس أي مسلم ، وهم يتولون شؤونها ، وينظمون أمورها ، ويفصلون مشاكلها بروح الإسلام الذي يفصل بين الناس بالعدل لا بالقوة ، وبالحق لا بالغطرسة ، وبالبساطة لا بالتبجح والدعوى .
وفي القصة مثل آخر رائع ، ضربه ابن مغطير ، هذا الشيخ الهرم ، الذي حضر دروس أبي عبيدة قبل أن يحضرها أبو هذا الإمام ، وامتدت به الحياة حتى رأى هذا التجني على الحق والاستكبار عن أمر الله ، وإساءة الأدب أمام أمير المؤمنين ،فأردا أن يعلم الحاضرين في المسجد أن القوي أمام الحق ضعيف ، وأن الضعيف إذا كان في جانب الحق قوي . بل أراد أن يعلم أولئك الحاضرين أن الحقوق لا تعطل لاستكبار المستكبرين ، واعتزاز الآثمين بالإثم ، فإذا خطر لأحدهم أن يقف هذا الموقف ، وجب على أولئك الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر أن يتناولوه بالشدة وأن يعلموه بالأدب .
أما العبرة الثالثة التي تستخلص من هذه القصة ، فهي هذا الاحترام العظيم الذي يسبغه الإمام العظيم على العالم العظيم . إن عبد الوهاب لم يتوقف عن تأديب هذا الشخص خوفاً منه ، ولا جهلا بأحكام الله ، ولا تساهلا في دين ، ولكنه أدب طبع عليه ، وتقدير لهذا العلامة الذي يجب أن يستشعر كل مسلم في ذلك الحين عظمته وطموحه ومحبته لدين الله ، وكفاحه من أجل العلم .
إن ابن مغطير ، هذا الرجل الذي جاب الآفاق طلبا للعلم ، وعاش للتدريس والفتوى ، ثم حمل أمانة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، لمثلٌ حي يجب أن يقتدي به المؤمنون …