فيما بعد

    • فيما بعد


      ... يا لغرابة الأشياء التي تتذكرها ... حينما تنهار حياتك فجأة وتتركك هناك.. واقفا .. وحيدا .
      حينئذ لست تتذكر الأشياء عظيمة الأهمية ..
      لست تتذكر ما خططت لقادمات السنين ..
      ولا الحب المخلص
      ولست تتذكر آمالا عظاما عملت وبجد من أجل تحقيقها .
      ولكن .. ما يرد لذكراتك وقتئذ هي .. صغائر الأشياء .. هي تلك الأشياء الصغيرة التي لم تعرها انتباهك في وقتها هي تلك اللحظة التي لامست فيها يد يديك .. وكنت مشغولا جدا بحيث لم تهتم هي تلك النبرة الهادئة الناعمة لصوت شخص لم تزعج نفسك بالاستماع اليه .
      أيقن جون كارمودي هذا .. وهو جالس في غرفة المعيشة .. يرقب من خلال النافذة .. إيقاع الحياة في الشارع المجاور ذات ظهيرة يوم بديع .
      حاول جاهدا أن يفكر في تلك الأشياء عظيمة الأهمية والتي لم يبق لها أثر .. ما خطط لقادمات السنين وآماله العظام وحبه المخلص ولكنه عجز عن ذلك .
      لم يستطع أن يركز فيها من هذه اللحظة .. في هذه الظهيرة بالذات ..
      كانت تلك الأشياء عظيمة الأهمية موجودة .. في مكان ما من عقله .. كشيء ضخم .. ولكنه ضبابي هلامي ..
      كان كل ما يستطيع تذكره الآن .. شيء صغير جدا أو قل .. لا شيء إذا مانظرت اليه مقارنة بما خططت لقادمات السنين والآمال العظام والحب المخلص .
      كان ذلك .. شيئا مما قالته له ابنته الصغيرة ذات مساء قبل اسبوعين .. أو ربما ثلاثة أسابيع .
      لم يكن شيئا ذا أهمية كان من نمط الأشياء التي تتردد على ألسنة الأطفال .. ورغم ذلك .. فإنه كان الشيء الذي يفكر فيه .. الآن .
      ففي ذلك المساء بالتحديد .. كان قد أحضر معه من المكتب نسخة من التقرير السنوي لحملة الأسهم .
      كان هذا التقريرمن الأهمية بمكان فقد كان إنجازه على أتم وجه يعني الكثير لمستقبله ولمستقبل زوجته .. وطفلته الصغيرة قعد ليعيد قراءته قبل العشاء كان يجب إتمامه فإنه بالفعل يعني له الكثير .
      وما إن قلب أولى الصفحات حتى جاءت ابنته الصغيرة ميرج وهي تتأبط كتابا .
      كان كتابا ذا غلاف أخضر به صورة من صور حكايات الأساطير قالت :
      - انظر ..بابا .
      رفع ناظريه وقال : " كتاب جديد ؟"
      - نعم .. بابا ، هل ستقرأ لي حكاية منه ؟
      - لا يا عزيزتي .. ليس الآن .
      لم تبرح ميرج مكانها فيما واصل هو قراءته في فقرة تخبر حاملي الأسهم عن عدد من التغييرات في آلات المصنع عادت ميرج لتقول بصوت هادئ : " ولكن ماما قالت إنك ستقرأ لي " .
      رفع بصره فوق ما كان يقرأ وقال : " أنا آسف ، اذهبي الى ماما لعلها تقرأ لك ، فأنا مشغول يا عزيزتي " .
      "لا" قالت ميرج بأدب جم ثم أردفت " ولكن ماما أكثر انشغالا ، ألن تقرأ لي هذه القصة .. فقط ؟ انظر .. أليست صورة جميلة بابا ؟"
      - نعم .. إنها جميلة ولكن تلك القصة لها صف ؟ أليس كذلك ؟ أما أنا فلدي عمل الليلة .. ربما في وقت آخر !
      بعد ذلك ران صمت طويل ظلت ميرج واقفة في مكانها بلا حراك وهي تحمل الكتاب مفتوحا على تلك الصورة الجميلة .
      مضى وقت ليس بالقصير قبل أن تقول شيئا آخر بينما واصل هو القراءة في صفحتين تتضمنان شرحا مفصلا أعد بناء على طلبه للتغير الذي طرأ على السوق خلال فترة الأثني عشر شهرا الماضية والخطط التي أعدها قسم المبيعات لمواجهة هذه المشكلات والتي يمكن أن تعزى إلى أوضاع التسوق المحلي كما تتضمنان أيضا البرنامج الإعلاني الذي تم إقراره بعد أسابيع من المناقشات وذلك للعمل على استقرار معدل الطلب على منتجات الشركة أو حتى زيادته .
      انطلقت ميرج قائلة :" ولكن الصورة تبدو جذابة كما أن القصة تبدو ممتعة ".
      " أعلم ذلك .."
      رد الأب ثم غمغم قائلا :" ولكن في وقت آخر ..اذهبي الان إلى الخارج لتلعبي .. حسنا ؟"
      قالت ميرج " أنا واثقة من أنها ستعجبك يا أبي " .
      " بالتأكيد ستعجبني .. ولكن .. فيما بعد ".
      خيب رد الوالد أملها ولكنها قالت " حسنا ... ستقرأها لي في وقت لاحق إذن أتعدني بذلك ... في وقت لاحق ؟"
      رد قائلا " بالطبع ..لك ذلك !"
      ولكنها لم تغادر المكان بل جلست هناك كطفلة مطيعة ... وبعد مرور فترة من الوقت ليست بالقصيرة قامت لتضع الكتاب بالقرب من مسند القدمين في الكرسي الذي كان يقعد عليه وقالت : " حسنا .. حينما يناسبك الوقت .. اقرأ الكتاب لنفسك ولكن بصوت عال بحيث يمكنني أن أسمعك أنا أيضا !"
      كان هذا هو ما يتذكره جون كارمودي في هذا الوقت لم يكن يتذكر آماله وأحلامه لقادمات السنين بل كان يتذكر كيف أن طفلة مهذبة لامست يده بأصابعها الناعمة الصغيرة وقالت له : " ... اقرأ الكتاب لنفسك ، ولكن اقرأه بصوت عال بحيث يمكنني أن أسمعك أنا أيضا "
      وكان هذا ما دعاه إلى أن يلتقط بيده الكتاب من طاولة على الركن جمعت عليها ألعاب ميرج .. بعدما التقطت من الأرض حيث كانت قد تركتها .
      لم يعد الكتاب جديدا أما الغلاف الأخضر فقد بلي وشحب لونه .
      فتح الكتاب على الصفحة التي تحوي الصورة الجذابة وطفق يقرأ ولكن الكلمات كانت تخرج من شفتيه مصحوبة بالألم .
      لم يحاول أن يفكر كما هو حري به في تلك الأشياء عظيمة الأهمية في ما كان يضع من خطط لقادمات السنين .. بكل أناة وحنكة وحنان ..
      حتى أنه في غمرة ذلك نسي لبرهة من الزمن مقدار الغضب والمرارة الناتجان عن الكره لذلك الفتى الأرعن الثمل الذي كان يقود سيارته المستعملة بكل طيش وتهور .. والذي أضحى الآن خلف قضبان السجن بتهمة القتل الخطأ .
      كما أنه لم ينتبه لزوجته التي وقفت بصمت حزين في الردهة وقد ارتدت ملابسها استعدادا لجنازة ميرج وكلمات متلعثمة تخرج من بين شفتيها " أنا مستعدة يا عزيزي .. هلا ذهبنا .. "
      فقد كان يقرأ ..
      " كان يا ما كان .. كانت هناك طفلة صغيرة تعيش في كوخ للحطابين في الغابة السوداء وكانت رائعة الجمال لدرجة أن الطيور حينما كانت تنظر إليها من فوق الأغصان تنسى غنائها .. إلى أن جاء يوم حين .. "
      كان يقرأ هذه الكلمات لنفسه ولكنه كان يقرأها بصوت عال .. لكي ... لعلها تسمعه ...


      ( فيما بعد ...)
      قصة : مايكل فوستر
      ترجمة : هلال المعمري
      المصدر : لعبة اليانصيب /قصص من الأدب الأمريكي
      لمجموعة الترجمة العمانية .
      السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
      نقلت لكم القصة لأنها تتناول جوانب من الجوانب التربوية والذي أراها تتمثل في الآتي :
      - انشغال الابوين بمتطلبات العمل وتأثيره على نفسية الطفل .
      - عدم تشجيع الأسرة للطفل على القراءة .
      - النتائج السلبية من سلوكيات فئة من الشباب في قيادة المركبة .