نزوى بيضة الإسلام ، ولاية عريقة منذ الأزل ، عاصمة هذا البلد العزيز خلال حقبة زمنية ماضية ، وما زالت مكانتها رفيعة وعالية في قلوبنا ، ذات حضارة عريقة ضاربة في القدم ، عروس داخلية عمان ، أعشقها كما يعشق الحبيب الولهان حبيبته ، أزورها بصفة دائمةـ يكاد لا يمضي شهر وإلا يشتاق قلبي لها ، كما تشتاق الأم لاحتضان رضيعها ، فأزورها زيارة أو أكثر ، فتبهج نفسي عندما أرى تلك القلعة العريقة ( الشهباء ) تتراء لناظري ، ثابتة ، صامدة ، ضاربة بجذورها في أعماق ترابك الطاهر يا بيضة الإسلام ، مثل الصخرة الصماء الصامدة على مر العصور والأزمان ، رسمتها يد الإنسان العماني التي غرس أصابعه في تراب هذه البقعة الطاهرة من أرض عمان الخير والسلام ، لتشيد هذه الصخرة الصماء الصامدة ، رغم ما آلت إليه الأوضاع والظروف من تقلبات كادت أن تعسف بها في حقب ماضية ـ لكنها صمدت لأن يد العماني الشريف هي من ساندتها ووقفت تدافع عنها ، تلك القلعة العريقة شيدت منذ حقب زمنية طويلة ، زمن أمة اليعاربة الذين شيدوها لتكون حصن منيعا لهذه الولاية العريقة . وفي هذا العصر الزاهر الميمون الذي يقود زمامه بكل حكمة وبصيرة واقتدار ، أبن عمان البار مولانا صاحب الجلالة حفظه الله ورعاه ذخرا لهذا الشعب الأبي ، فشرعت حكومتنا الرشيدة فألبستها وشاحا فريدا ، وثوبا جميلا يليق بمقامها وإجلال لهذا الإرث الخالد ، وحفاظا عليها من أن تلحق بها ظروف الزمن وطبيعته القاسية فتتعرض إلى الاندثار ، وهذا ما يميز هذا البلد العزيز وكان بمثابة الإشادة من مختلف شعوب العالم ، لكوننا أمة حافظت على إرثها وما تركه السلف لها من تراث خالد يتوارثه ويحافظ عليه الأجيال جيل بعد جيل ، فكما يقال من ليس له ماض ليس له حاضر ، كما يجذبني إليك يا بيضة الإسلام ويشد انتباهي ذلك السوق القديم منذ الأزل ، الذي يمتزج فيه إرث الماضي بما يحويه من حرفيات يدوية وصناعات صاغتها اليد العمانية بالذهب والفضة، مع ما أتى به الحاضر بثوبه الجديد الذي يضيف لذلك الإرث الخالد إبداعا أخر ولمسات جمالية تزيد من جماله ورونقه . يعجبني تناغم دقات مطرقة الحرفي وهو يصنع لك خاتم يد أو خنجرا عماني أصيل مهما تعددت مسمياته ، سوق يعج بالحشود الكبيرة وخاصة أيام العطل الرسمية وأيام الأعياد ، يكاد لا تجد موطئ قدم لك في ربوع ساحته المتعددة ، هنالك تتفنن يد الحرفي العماني بابتكار حرفة أو صنعة في اليد ، وهنالك ترسم لمسات إبداع في مجالات متعددة ، وخبرات متوارثة لم تؤهلها الشهادات العلمية ، ولكن رسمت إبداعاتها يد الإنسان العماني الذي فضل أن يمتهن حرفة ، تكون له مصدر رزق يعينه على التكيف مع مقتضيات الحياة ، ليعيش حياة حرة وكريمة ، خيرا له من يبقى عاطلا بلا عمل ، كذلك ما يشد إعجابي في هذا السوق العريق أيدي بعض الشباب الذين شمروا سواعدهم ، فامتهنوا مهن الأجداد فنجد البعض منهم يقوم بخياطة النعل ، وليس عيبا بأن تعمل أي عمل شريف تكسب منه رزق يومك ، لكن العيب أن تتكاسل وتركن نفسك في زاوية من زوايا منزلك ، تترجى أن يأتيك رزقك بدون جهد أو عنا ، وهذا لا يمكن أن يتحقق فالسعي على طلب الرزق مطلب حثنا عليه رب العباد .
تركت السوق واتجهت بمعية أسرتي إلى المكان الذي تعشقه نفسي عندما تتجمع ثلاثة أشياء تبهج النفس في ذلك المكان الطيب الماء ، والخضرة ، والوجه الحسن وجه براءة الأطفال ، وهم يلهون ويلعبون في ( حديقة مرفع دارس ) ـ أنه فلج دراس نهر بيضة الإسلام الصافي كأنه زلالا يتفجر من بين سفوح تلك الجبال المتاخمة للجبل الأخضر ، نهر يجري في تلك الساقية التي رسم هندسة خريطة مسارها يد الإنسان العماني بدون شهادة جامعية ، لكن العقل إذا استغل استغلال أمثل حسبما سخره الخالق ، قادرا على أن يحقق الصعاب ويحطم الصخر ، فبالإرادة والعزيزة والنية الصادقة ينال الإنسان ما يتمناه في هذه الحياة ، فشق الترع وأقام الجداول فسلك ذلك الفلج خطا متعرجا شبيها بنغمة موسيقية يعزفها موسيقار محترف ، لكن العازف هنا فلج دارس عندما تسمعه يجري مسرعا بين الجداول ، ليسقى بساتين بيضة الإسلام العريقة المزدانة بنخيلها الباسقات .
لكن ما حز في قلبي لحظة ما أن وطئت قدمي ذلك المكان الطيب ، وركنت سيارتي بالمواقف المخصصة لزوار هذه الحديقة ، وهذا هو صلب الموضوع الذي أرغب بالتطرق إليه ، تصرفات رعناء صادرة من بعض الشباب أصحاب الملابس الإفرنجية ، صرخات ونهيق هنا وهناك ، وتخميس دراجات نارية ـ الذي لم أشاهده بكثرة في مرات عديدة زرت هذا المكان الطيب ، وعرفت السبب في تجمع هؤلاء والغرض منه ، فنفس الإنسان تبقى ضعيفة في تصرفاتها، وخاصة إذا رمت بما درسته ، وبالقيم والأخلاق الفاضلة خلف ظهرها ، ولم تحكم عقلها في مختلف تصرفاتها ، طالبات من أحدى الجامعات أتين لقضاء يوم جميل بعد أسبوع عناء الدراسة وهمومها ، جلسن يتجاذبن أقطاب الحديث مع بعضهن بعض في بقعة معينة بتلك المسطحات الخضراء ، والتي لفت نظري تأثر بعضها بالانجراف التربة من أثر الأمطار في بعض الأماكن وليس أدري أتقصير من المختصين بالبلدية ـ أم لسبب آخر ، فكان جو المكان تكثر فيه الصرخات والأصوات الصادرة من أولئك الشباب شبيه بالنهيق ، وإن كان لا يجيز لي تشبيه صوت البشر بنهيق الحمير ، لكن الوضع هو الذي فرض وجه التشبيه ، وكثر عرض العضلات والتخميس بالدراجات النارية ، فأرتابني خوفا على أبنتي الصغيرة على نغفل عنها فتصدمها في غمضة عين إحدى تلك الدرجات النارية فتلحق الأذى بها ، فيا شباب لا يليق بكم هذه التصرفات ، ولا يليق بسمعة هذه البلدة الطيبة العريقة ما تقومون به ، المتواجدون في هذا المنتزه ليسوا لغرض ما أنتم تقصده وتضمره أنفسكم الضعيفة ، هن طلبات من حقهن التمتع بأجواء ذلك المكان الطيب ، وأيضا عوائل أناس قصدوا المكان من مسافات بعيدة لترويح النفس من هموم الدنيا ومشاغلها ، فما أجمل ذلك المكان ، ونسيم الهواء العليل يداعب وجوهنا ، وخاصة كان الجو يبشر بخير عندما انهمرت قطرات الغيث من السماء شبيهة بالرذاذ المتقطع ، لتبشر دراس بأن الفرج قريب ، وإن مياهه ستعود إلى مجراها زيادة عما هي عليه ، وإنك يا بيضة الإسلام لا تشكي جدبا قد يلحق ضرر ببساتين نخيلك الباسقات ، طالما عناية الخالق تحرسك ، نعم ترتاح نفسي عندما أكون في ربوعك ، وعشقي لك يتجلى في إرثك الخالد قلعتك الصامدة ، وعذوبتك نهرك الدائم دارس ، ونغمات دقات مطرقة حرفي سوقك العتيق ، فمهما حاولت تلك الأيدي الشبابية أن تدنس سمعتك بتصرفات رعنا ، لا يحسبون لها أية حساب سواء أمور غير سليمة تدور في عقولهم ، لكن مكانتك في القلب تبقى خالدة طيلة الزمن ، وسأظل أزورك حتى أخر رمقا في حياتي .