مذكرات صائم مع صاحب سكة سفر

    • خبر
    • مذكرات صائم مع صاحب سكة سفر

      Alwatan كتب:

      جودة مرسي:
      يختلف شهر رمضان المبارك عن كل شهور السنة في أيامه المباركة المملؤة بالعبادات، وإيصال صلة الرحم، وإعانة الفقير والإحساس به، وإخراج الزكاة والكثير من العبادات التي تكثر في الشهر الفضيل. ولأننا هذا العام ملتزمون بالتباعد وعدم التواجد في الازدحامات، ذهب حنين الذاكرة بعد حكها لإحدى ليالي رمضان التي عايشتها مع صديق قبل زمن كورونا بالقليل من السنوات، وهو من الحيارى السائلين عن حلم العودة والاستقرار. كان لقائي به لا ينقصه الصراحة والصفاء النفسي الذي جعله يجد ضالته في من يسمعه ويفتح له قلبه ويشكو همه بعد سنين الغربة التي عاشها في الخارج، والتي عبَّر عنها بأنها سنين كثيرة أفقدته الذاكرة عددها الزمني، ومن جانبي كان اشتياقي له كبيرا بعد طول الفراق، وبطبيعة الحال كان سؤالي عن أحواله للاطمئنان عليه.
      فأجابني: علينا أن نتفق أولا أن النيات تخص أصحابها، والمعول عليه هو المحتوى. وسألني: هل تشاهد الإعلانات التي تملأ الفضائيات كل رمضان؟ قلت له أحيانا. قال: إنها نفس الإعلانات من عشرات السنين والتي تطلب التبرع للمستشفيات أو تطالبك بالاشتراك في إفطار صائم، وتحدثك في نفس الوقت إعلانات أخرى عن شقق بالملايين وتعتبرها الشركة المعلنة فرصة يجب استثمارها!!! ثم إعلانات شركات المحمول التي تدفع أجورا للممثلين والمطربين لو حسبتها في شهر رمضان فقط لكانت لتكفي كفاف وسؤال الأيتام، ودعم هذه المستشفيات.
      بادرته: وماعلاقتك بهذه الإعلانات وسؤالي عن أحوالك؟ فالكل يسوق على فكرته وحاجته، وهذه الإعلانات بها الكثير من البهجة، كما أن إعلانات المستشفيات وإعانة الصائم تدلك على فعل الخير، وهي مشاركة مجتمعية في معظم بلاد الدنيا الغنية والفقيرة؟ فقال: أنا أقصد أنني مثل كل هذا التناقض، أنا التائه في سكة سفرـ جمعت المال وأنفقته على ما تروج له هذه الإعلانات، عشت في الشقة الغالية وبعتها، إنني أمثل المأساة مع الملهاة، والجدية مع السخرية، والرصانة مع المجون.
      عقبت بابتسامة حائرة، امتعض منها مكملا: من كثرة سعادتي بعودتي لوطني كنت أبحث عن كل الأصدقاء القدامى لأستفيد من خبرتهم في مشروع أستطيع من خلاله استثمار مبلغي المتواضع، ويا ليتني لم أبحث، ولا تسألني عن السبب فأنت أدرى مني بأحوالهم، وأثناء بحثي عن عمل مشروع طال الوقت مع كثرة متطلبات الحياة فذهبت مدخراتي أدراج الرياح. سأروي لك حدثا واحدا منها بعيدا عن العلاج والأمراض المزمنة المصاحبة للسن وتخبطات الوعود التي تاهت في سكة السفر، فأنا كنت أسكن في ذلك “الكمبوند” بالحي الراقي والذي تتمتع الطرق فيه بوسعها وحلاوتها، فهي ناعمة كالحرير والسيارة تسير فيها بدون أي مشاكل وتتجاوز السرعات دون أن تدري فهي أقرب إلى الطرق الدولية للسفر من الطرق الداخلية، وفوجئت عند تجديد السيارة بمجموعة مخالفات كبيرة، اكتشفت أن الشوارع محددة السرعة ولجهلي بهذه المعلومة ارتكبت العديد من المخالفات، هذا بخلاف مشاكلي مع طريقة السياقة التي لم أتعود عليها وتسببت في العديد من الصدمات، وللتخلص من هذا العبء قررت بيع السيارة أيضا والاعتماد على المواصلات المكيفة، فهي أرخص ومتوافرة في أي وقت مجرد طلب تأتي لك السيارة في غضون دقائق قليلة حتى باب البيت.
      أما الشقة التي كنت أحلم بالعيش فيها فهي أيضا تحتاج لمصاريف صيانة شهرية وسنوية ومصاريف لزوم الوجاهة لا تتناسب مع الدخل الحالي، بالإضافة إلى التعرض للضائقة المالية وأنت بدون عمل، فقررت مع نفاد مدخراتي أن أبيع الشقة وأدخر ثمنها لأعيش من ريعه، والذي يكفي بالكاد بعض مطالب الحياة، حتى ضاع حلم الشقة والسيارة ومعظم ما ادخرته. تذكرت هذا الحديث مع صديقي فبادرت بالاتصال للاطمئنان عليه فوجدته ما زال تائها بين حلاوة الوطن والبحث عن سكة سفر، فتابعت التلفاز وأنا أحسب الأجور التي تكلفتها الإعلانات.

      Source: alwatan.com/details/423247