عاقبة النكد
كان تولستوي من أروع وأشهر القصصيين الذين عرفهم التاريخ. وبالإضافة إلى الشهرة، كان وامرأته على حظ موفور من المال، والبنين، والمركز الاجتماعي، فكان خليقاً بهما أن يبلغا قمة السعادة والهناء، وقد بلغاها في أول الأمر، حتى أنهما كانا يسجدان لله ويبتهلان له أن يديم عليهما هذه السعادة الغامرة.
ثم حدث شيء عجب، فقد تغير تولستوي بعد ذلك تدريجياً، حتى أصبح شخصاً مختلفاً تماماً! فقد راح يزدري مؤلفاته، وزهد في الدنيا، واعتزم أن يكرس حياته لإصدار نشرات تحث على السلام، ومحو الحرب والفقر من هذا العالم. ثم تخلى عن أراضيه، وعاش عيش الشظف، وأخذ يفلح الأرض ويقطع الأشجار، ويصنع أحذيته بنفسه ويكنس غرفته بيده ويتناول طعامه في وعاء خشبي!
ولكن زوجته كانت تحب الترف الذي يحتقره، وكانت تشتهي المال والجاه والثروة التي يمقتها. وكانت تتلهف على الشهرة والمركز، والصيت الذي يزدريه. ومن ثم ظلت تختلق له النكد، وتنغص عليه حياته وتسفه آراءه وتصخب وتلعب حين يصر على أن ينشر كتبه دون أن ينال عنها أجراً، أو يلحقه بسببها مجد.
وإذا أخفقت مع هذا عن إثنائه عن عزمه أسلمت نفسها لقبضة الهستيريا وجعلت تتمرغ على الأرض وزجاجة السم على شفتيها وهي تقسم لتقتلن نفسها إن لم ينزل عند إرادتها وأصبح تولستوي لا يحتمل حتى مجرد رؤية زوجته!
وفي ذات مساء سعت إليه وقد استبد بها الظمأ إلى العطف والحب، وجثت على ركبتيها أمامه وتضرعت إليه أن يتلو عليها رسائل الحب التي كتبها لها قبل زواجه منها! وبينما هو يقرأ ما سطره في تلك الأيام الجميلة الخالية بكى كلاهما. بكيا في حرقة وحرارة لبعد الفارق بين الأحلام الظليلة التي رتعا زمناً في فيئها وبين الحقيقة المستعرة التي يصطليان لهيبها!
وعندما بلغ تولستوي الثمانية والثمانين من عمره، عجز عن احتمال الشقاء الذي يخيم على بيته فما كان منه إلا أن تسلل هارباً ذات ليلة عاصفة ممطرة من ليالي شهر أكتوبر عام 1910م واحتواه البرد ولفه الظلام وهو سائر لا يدري إلى أنّ وبعد ذلك بأحد عشر يوماً مات تولستوي متأثراُ بالتهاب رئوي. ووجدت جثته في فناء إحدى محطات السكك الحديدية وكانت الوصية التي أوصى بها قبيل موته، ألا يؤذن لزوجته برؤيته!!!