صواعق الألم بقلمي البسيط

    • صواعق الألم بقلمي البسيط

      هناك قريةً ريفية ، أغلب سكانها فقراء وبسطاء ، يكدحون طوال النهار من أجل توفير لقمة العيش ، ورغم البؤس والشقاء الذي هم فيه ، إلا أنهم متعاونون ومتكاتفون ومتحدون ، وفي الأيام القليلة القادمة ستشهد القرية عرس ابنهم البار سمير ، فقد خطب ابنة عمه خلود ، البلد كلها تتزين لذلك اليوم ، وكأن الجميع معرس ، الزينة تعم الشوارع والبيوت ، وحفلات السمر تنتشر في المساء ، يترقبون وبشغف يوم الخميس ، ولا يفصلهم عنه سوى أربعة أيام ، وبعدها يكون العرس المنتظر .
      هذا الزواج يعتبر غريبا بكل المعاني ، حيث كان المهر عبارة عن قطعة أرض منحها أبو سمير لأخيه أبو خلود، وتم كتابة العقد على ذلك ، والأغرب من ذلك أن سمير وخلود لا يريدان بعض ، وكل واحدٍ منهما يكره الآخر ويضمر الحقد له رغم أنهما أبناء عمومة ، إلا أن المصلحة العامة اقتضت ذلك ، ووافق العريسان على الزواج المصلحي ؛ المعارض الوحيد للزواج هو سعيد الأخ الأصغر لسمير فهو لا يزال يحب خلود حبا عميقا ، ومستعد أن يبذل الغالي والنفيس لأجلها .
      سمير لا يملك رصيدا وافرا من الثقافة فهو لم يكمل تعليمه ، حيث أنه درس المرحلة الابتدائية فقط ، ولذا فمن السهل استغلاله والتحايل عليه ، وللأسف الشديد فهو سهل الاقتناع ، بينما خلود لم تدخل المدرسة أبدا ، ومع ذلك فهي تعد من النساء الأكثر دهاءً في القرية ، وتملك عقلا راجحا وذكاءً خارقا ، وربما يرجع الفضل لسعيد يوم أن كان يقرأ لها كثيرا من الكتب ويحاورها في كل القضايا الاجتماعية والعلمية وكان يطلعها على كل تطورات الأخبار في العالم ، ومع مرور الوقت فقد تعلمت القراءة والكتابة على يديه .


      ،،، يتبع ،،،
    • في الصباح الباكر ومع زقزقة العصافير وقبل أن ترسل الشمس أشعتها الذهبية ، تخرج خلود إلى زيارة خالتها خديجة ، تطلب منها السماح لابنتها مريم بمرافقتها هي وسمير إلى سوق الذهب ليشتروا ما تبقى من مجوهرات العرس ، ولكن خالتها لم تسمح لها بذلك لسببين :
      الأول : إن خديجة تحتاج لمريم كثيرا ، ففي هذه الأيام عاودها مرض القلب من جديد ، وربما بلغ المرض أقسى درجاته ، وهي تريد أن تبقى ابنتها بجانبها تخفف عنها آلامها .
      الثاني : مريم وسمير بينهما علاقة حبٍ قوية جدا ، خصوصا مريم التي أصبحت تهذي باسم سمير في النوم واليقظة .
      رجعت خلود إلى بيتها محبطة بسبب رفض خالتها لطلبها ، أما مريم المسكينة فهي الأكثر معاناة بين جميع أهل البلدة ، فهي فقدت حبيبها الذي أصبح ملكا لابنة خالتها خلود ، وهي من كانت توفر لهما الجو المناسب للالتقاء ، والأكثر من ذلك كانت خلود البريد الصادق وحبل الوصل بين مريم وسمير ، واليوم تختطفه منها وبكل قسوة ، وما يزيد من معاناة مريم أن أخاها عماد توفي بعد سقوطه في بئر المزرعة قبل شهرين فقط ، والأهل يصرون على تجاهل مشاعرهم والاستخفاف بأحزانهم بإقامة العرس في هذا التوقيت ، حتى مرض خديجة وتطوره المخيف لم يثنهم عن عزمهم .
      مسكينةٌ مريم ، فقدت الحبيب وودعت الأخ الشقيق ، وهي الآن تعيش بعزلةٍ صارخة مع أمها المريضة ، وقريبا سيكون عرس حبيبها الذي بذلت من أجله كل مشاعرها ووهبته أحلامها وطموحها ، كانت تأخذ أحزانه فتكبتها في قلبها ، وتهبه كل أفراح عمرها وزهو أمانيها ، لم يتبقى على العرس سوى ثلاثة أيام ، وكأن مريم تعدُّ أيامها المتبقية ، فقد شحذت المدية جيدا ، وتنوي ذبح نفسها يوم دُخلة فارس مستقبلها ، تعتقد في قرارة أعماقها بأن سمير خانها وبدمٍ بارد غدر بها ، وأنه لم يكن يحبها يوما ، كل ما كان بينهما لا يُعدّ سوى ممارسة هواية اللعب بالقلوب ، وتجييش مشاعر مريم ، بالرغم أن سمير كان صادقا ولا يزال متيما بها ، ولكن للواقع تداعياتٌ أخرى ، والحال مرير لا يمكن وصفه ، ولا بدَّ من معايشة الأيام القادمة بكل مرارتها وآلامها .
      ،،، يتبع ،،،
    • بدأ العرس والكل مبتهج ، والفرقة الموسيقية تعزف أغاني الفرح ، الرقص ينتقل بين صفوف الحاضرين وكأنه وباء سريع الانتشار ، تم تجهيز خلود بطرحتها ، من يراها يشعر بأنها ذاهبةٌ لفسحةٍ أ و لزيارة إحدى صويحباتها ، والعريس يقف بين الرجال وكأنه يحضر اجتماع صلح بين الخصوم ، لا تبدو عليه ملامح السعادة ونشوة الفرح ، سعيد ذهب بعيدا بمقربةٍ من البحر ، فهو من يشكو له أحزانه وآلامه ، ويبثه همومه ومصائبه ، مريم تقف على رأس أمها ، تبكي حالها وتشكو إلى الله ضعفها ، والبلد تموج في مشاعر الهناء والبسمة ، لا تجد أحدا إلا وكأنه يحضر حفلة زفاف لأول مرة ، بل كأنهم حرروا البلاد من الاستعمار والاستيطان ، يخالجك شعور بأنه الفرح الأعظم على مر تاريخ البلدة .
      بينما سعيد يحاور البحر ويحدثه عن الواقع المرير ، يشاهد طفلا في البحر على وشك الغرق ، والنساء والأطفال يصرخون طالبين النجدة والعون ، ما كان منه إلا أن ارتمى في عرض البحر ، وبمساعدة الحاضرين تم إنقاذ الطفل ، وحُمل إلى الشاطئ ، بعدها بقليل حضرت الشرطة بصحبة الإسعاف ، ونقل الطفل إلى المستشفى على الفور ، قامت الشرطة في التحقيق بشأن الغرق إذا ما كان متعمدا ومن خلفه فاعل ، أم أن الطفل لا يجيد الغوص في البحر ؟ !!
      أخذوا أقوال والد الطفل ، فقال ولدي سباحٌ ماهر ، ولديه دوراتٌ كثيفة في هذا المجال ، وحقق بطولات معروفة على مستوى مسابقات الأشبال للسباحة ، فمن العبث والهراء أن نقول بأنه غرق لكونه لا يجيد السباحة ، سأله الضابط : هل معنى هذا أنك تشير بإصبع اتهام على شخصٍ ما حاول قتل طفلك ؟
      قال : نعم ورأيته بأم عيني ، إنه هذا الرجل الحنطاوي ، ويشير على سعيد .
      اندهش سعيد من ذلك ، أراد الكلام فمنعه الشرطي ، طالبا منه الهدوء والسكينة
      ولكن ما دليلك سيدي على صحة كلامك ؟؟ هل تملك ما يثبت صحة قولك ؟؟
      نعم اسألوا زوجتي فقد رأته أيضا يفعل ذلك فصرخت في الحاضرين أن يمنعوه من فعل ذلك
      هنا توجه الضابط لأم الطفل يسألها عن اتهام زوجها لسعيد ومدى صدقه
      فأجابت : نعم رأيته وأنا مستعدة تماما لإدلاء شهادتي واليمين الدستورية ، يعتقل سعيد على ذمة التحقيق إلى أن تثبت براءته أو إدانته .
      سمير يمسك بيد خلود ويتجهان صوب السيارة ، تلك التي لم يترك فيها قيد أنملة إلا وازيّنت ، النساء تزغرد وصوت آلات العود والدف تخرق الآذان ، هنا تأتي مريم صارخةً مسرعة ، أن أوقفوا العرس فقد ماتت أمي ، لم يصدقها أحد فالكل يعلم بأنها عاشقةٌ لسمير ، وربما هذا مخططٌ منها لمعرقلة العرس ومنعه بأي طريقة ، تبكي وتنوح وتنشج ولا يصدقها أحد ، تنادي بهم ويحكم ارحموني واحترموا الموت ، أكملوا العرس وأوقفوا الموسيقى ، وليقم بعضٌ منكم معي نكرم أمي بتغسيلها والصلاة عليها ودفنها ، يستمر نكران الناس لها ويسخر بعض السفهاء منها ، تمزق لحافها وتضرب جسدها وتحثُ التراب على رأسها ، يا إلهي لقد ماتت الرحمة من القلوب ، أمسكت حجرا كبيرا وضربت رأسها به ، حينها خارت كل جبال التماسك بداخل قلب سمير ، فذهب مسرعا نحوها يحتضنها ويحملها بسيارة العرس إلى المستشفى ، لعل وعسى أن يكون رمق الحياة لدى مريم به بصيص أمل .
      ،،، يتبع ،،
    • سعيد لا يزال في قفص الاتهام ، وكل الأدلة تسير ضده ، والطفل الصغير لم ينطق بأي كلمة في التحقيق ، فيبدو أنه تحت ضغطٍ كبير من والديه ، وسعيد يقسم بالله أيمانا مغلظة بأنه لم يفعل شيئا سوى أنه قام بإنقاذ الطفل من الغرق ، تمت إحالة سعيد إلى المحكمة بتهمة الشروع في القتل ، ذرف دموع الدهشة والإحساس بالظلم ، ولا غرابة في أن يبكي المظلوم قسرا :
      فأرخى دمعه فبكى وأبكى *** ودمع الحرِّ في الشكوى مباحُ .
      مريم تعاني من جرحٍ كبيرٍ في رأسها ، وجرحٌ آخر أكثر ألما وعمقا ، لا ريب فهو جرح القلب ، أما الجرح الثالث المؤلم المدمي هو رحيل أمها إلى آخرتها ولقاء ربها ، وكتب القدر عليها أن تحييا وحيدة في عالمها الذي تشعر بأنه عالم غابة وإن لمعت فيها بوارق الخير فهو قليلٌ نادر ، أُدخلت العناية المركزة إلى حين برئها وشفائها التام ، بينما تحوّل الجميع إلى أم مريم المسكينة المسجاة بشملةٍ قصيرة ، تنتظر إكرامها بتغسيلها والصلاة عليها ودفنها ، يوم شؤمٍ على البلد ، فالأخبار تتواتر بين الجميع وتنتقل في البيوتات أن سعيد تم اعتقاله وسجن لمحاولة قتل طفلٍ بريء ، ومريم في العناية المركزة أوشكت على إهلاك نفسها ، وأمها غادرت هذه الدنيا الفانية ، بعدما تمكن منها المرض وأرداها على الأرض ميتة ، حتى أطلقوا عليها صريعة القلب ، وسعيد وخلود لم يتمكنا من إكمال العرس ، بل هو المأتم والعويل ، الكل يمسك بيد الآخر يبكي ، ولا يكاد أحدٌ يصدق ما يجري ، أبو خلود وسمير قاموا بتغسيل أم مريم وتكفينها ، صلوا عليها صلاة مودع ، وتضرعوا للباري أن يلطف بها في قبرها وأن يكرم نُزلها ، وأن يدخلها جنة نعيم ، حملوها على الأكتاف وأنزلوها في قبرها ورجع الجميع يضرب أخماسا بأسداس ، حتى أنك ترى الصبيان يبكون لشدة حزن البلدة ، ذلك الموت الذي لا يرحم ، هو القدر المحتوم والحقيقة التي سيعيش لحظتها كل من على وجه الأرض .
      غدا محاكمة سعيد ، والشروع في القتل له عواقب وخيمة ، خصوصا بعدما قام والد الطفل بتوكيل محامي مشهور ، وسعيد المسكين لا يجد من ينصره ، ينتظر الغد بعين الخائف المرتجف ، هل سيأتي شعاع الحق يا ترى ؟ أم أن الظلم هو الواقع الذي لا مفر منه.
      غدا نعرف ما يحمله الغد

      عذرا سادتي يتبع
    • مريم تغادر المستشفى بعد أن منَّ الله عليها بالشفاء ، البيت موحشٌ جدا ، لا أنيس به ولا قريب ، غادره كل الأحبة ، عبراتها تترقرق على وجنتيها ، تستعيد الماضي وذكرياته الأليمة ، قضت ليلتها كلها تبكي من قسوة القدر وظلم الأهل وفراق الأحبة ، ويبدو أن خلود أحست بمعاناة مريم ، فهي الآن تطرق عليها الباب ، وتلح على مريم أن تسمح لها أن تشاركها بعض وجدانها وهمومها ، تعانقتا وذرفتا الدموع ، وبدأ ضمير خلود يؤنبها على فعلتها القاسية ، فلا أبغض في الدنيا من سارقٍ للقلوب ، لقد سرقت بسمة مريم وأملها وقبس ضيائها ، فسمير يعني كل شيٍ لمريم ، ربتت على كتف مريم ، وهمست في أذنها أن الأيام القادمة ستعيد كل نضارتها وشبابها وبهجتها ، غير أن مريم تسكب الدموع موقنة أن الأنس والسعد قد تم قبرهما في قلب أمها .
      قاضي المحكمة يطلب من محامي والد الطفل إثبات الأدلة على تورط سعيد ، وسعيد ينظر بعبوس للقاضي وللمحامي ، والإدعاء العام يطالب باتخاذ أقصى العقوبة اللازمة في حق سعيد ، لكي لا تسول نفس أي أحدٍ غيره في اقتراف مثل تلك الجرائم البشعة ، والأدلة تنهال وشهود الزور على أتم الاستعداد ، ولا معين ولا مجير ولا ناصر لسعيد سوى الله الجليل ، الطفل يشهد بأن المتهم حاول أن يجره مرارا من قدميه إلى أعماق البحر ، ويقف سعيد بين الخشبات الثلاث رافعا أكف الضراعة لله قائلا : " فدعا ربه أني مغلوبٌ فانتصر " .
      تم تأجيل المحاكمة لجلسةٍ أخرى لاستكمال الأدلة القانونية لكلا الطرفين ، والأمور تسير عكس ما يشتهي سعيد ، وفي الجلسة الثانية يظهر محامي لسعيد ، ولا يدري سعيد من أين أتى ، كل الذي يعلمه أن المحامي زاره في السجن قبل أيام وقد طلب منه أن يعمل له تفويضا وتوكيلا كاملا للترافع عنه والعمل على إيجاد براءته ، وقد استطاع هذا المحامى أن يؤجل نطق الحكم لجلسةٍ أخرى لعله يتدارك الموقف ويأتي ببينة تزيل الشبهة عن المجني سعيد .
      سمير حزم الأمتعة واتجه صوب المدينة يبحث عن عملٍ جديد، فأجواء القرية تعكر المزاج وتبعث السأم وتجلب المرض ، التحق بالعمل لدى تاجر كبير ، ولأن سمير لا يجيد القراءة ولا الكتابة فقد أوكلت لهم مهمة حراسة البناية السكنية المكونة من 13 طابقا ، والمناوبة لا تكون إلا بالليل ، حيث الهدوء والسكينة ومشاغبة السكارى ، وتعقبات الشرطة لمروجي المخدرات ، هذا العالم الجديد لم يكن مألوفا لدى سمير ، فالمناخ والحركة والشذوذ شيءٌ غريب لم يتعود عليه سمير بعد .


      ،،، يتبع ،،،
    • مريم أصبحت تعشق الوحدة والانطواء ، تقطع وقتها بين بكاءٍ ونومٍ وقراءة بعض الروايات الكئيبة ، واليوم انضمت الأغاني الحزينة إلى قائمة اهتمامات مريم ، طيف أمها يعشش في أحلامها ومخيلتها ، وخناجر الخيانة تضرب أوتار قلبها وتمزق أحشائها ، والمحاولات اليائسة منها في تغيير منحنى حياتها لم يبلغ الجد والاتزان ، وجهها يزداد شحوبا كل يوم ، وشهية الأكل انعدمت ، فالماء وبعض التمرات والخس هو كل مأكلها .

      في خلال مناوبة سمير وقع شجار بين سيدة تبلغ الأربعين من عمرها ، وبين أحد الشباب المراهقين ، وكان يتعقبها ويلقي كلمات الغزل على مسامعها ، مما يثير اشمئزازها ، فصرخت في وجهه تشتمه ، وكاد المراهق أن يلطمها بيده ، لولا أن تدخل سمير وفضّ الاشتباك ، فشكرته السيدة الفاضلة ممتنةً له على صنيعه النبيل ، ولكن الأمر الذي بدأ يثير اهتمام سمير أكثر هو ذلك الصبي الصغير الذي يعشق الوحدة ويمشي بمفرده دائما ، وتظهر عليه ملامح البؤس والعناء ، وكأنه فرعٌ قد قطعت كل جذوره وأصوله .
      اليوم نطق الحكم النهائي ، وكان المحامي ذكيا جدا وفطنا ، عمل كل جهده وطاقته في تبرئة سعيد ، ولكن أدلة المحامي الآخر لوالد الطفل كانت هي الأكثر وضوحا وإقناعا ، ومع هذا كله تمكن المحامي اللبيب من تخفيض العقوبة بأقصى الدرجات الممكنة ، والقاضي يلوح بيده للجميع بالهدوء ، ومطرقته تجبر الكل على الإنصات ، ويأتي الخبر الصاعق لسعيد ، القاضي يحكم بسجنه خمس سنوات ، وتهمة الشروع في القتل تقتضي السجن من 5 إلى 15 سنة ، والفضل يرجع للمحامي الأنيق الفطن .
      وقبل أن ينقل سعيد للسجن المركزي طلب مقابلة المحامي ، وسأله على الفور عن الشخص الذي قام بتوكيل المحامي له ، فأخبره أن مريم هي من دفعت تكاليف القضية الباهظة ، حيث أنها باعت ذهبها وأرضها الصغيرة بجوار بيتهم ، استغرب سعيد من كرم تلك السيدة وتضحيتها ، والاهتمام به رغم أنه لا صلة بينهما أبدا ، هي الشخص الوحيد الذي تذكره في هذه المحنة ، والعجيب أن أهله لم يأتوا حتى لزيارته أو الاطمئنان عليه .




      ،،، يتبع ،،،

    • تنتهي مناوبة سمير في الصباح الباكر ، ولكنه انتظر إلى أن تشرق الشمس ليتمكن من رؤية ذلك الصبي ، اشترى بعض السندوتشات ووضعها في كيس ، ثم انتظر أمام بوابة العمارة ، وكالعادة أتى الصبي يمشي ببطيء كبير ، لا يكاد يرفع رأسه من الأرض من كثرة التفكير والانزعاج ، استوقفه سمير يسأله عن صحته ، فلم يجب الصبي ، هز رأسه ومشى ، فلحق به يكلمه ، صغيري خذ هذا الكيس فهو هدية لك ، أنا عمك سمير أشتغل ناطور على هذه البناية ، نظر إليه الصبي بعيونٍ شاردة ونظراتٍ مكلومة ، ابتسم له سمير وغمزه بعينه أن يأخذ الكيس ، وهذه بداية صداقةٍ بينهما ، مع اختلاف أعمارهما وثقافتهما .


      سعيد يُنقل إلى السجن المركزي ، وهو يحمل استفسارات كثيرة بداخلة ، يتخيل وضع مريم المحرج ، وصحتها التي بدأت تتدهور رويدا رويدا ، ما سر موقفها الرائع ؟ ولماذا تفعل ذلك مع سعيد ؟ يسرح بخياله بعيدا إلى عالم النجوم ودنيا الأفلاك ، فيرتد إليه البصر ليرثى حاله المرير ، وقسوة الظلم ، يناجي نفسه ويعاتب المآل الذي صار إليه ، كلما أغمض جفنا تذكر قول الشاعر :
      أوما ترون الليل يغمر أمتي *** لا نجمهُ غنَّى ولا رقص القمر
      أوما ترون الأقربين استخدموا *** فينا سلاحا ليس يبقي أو يذر
      يسأل عن القرابة والأهل ، فيجدهم في منأى عنه ، يخاطب الخلان والأحباب ، فيجدهم قد رحلوا من دنياه ، يعتصر الألم ويبكي ندما ، إلى أن قطع حبل أفكاره ذلك الشاب الملتحي ، قائلا له ، هوّن على نفسك أخي :
      فظلم ذوي القربى أشد مضاضة *** على المرء من وقع الحسامِ المهندِ
      كن متماسكا أخي ، فالخير يبرق من عينيك ، فأنتِ رجلٌ خَيِّر ، ولا أزكي على الله أحدا ، ذلك ما أوحته لي ملامحك وما استدل به قلبي ، فقلب المؤمن دليله ، يرشده إلى الخير ، وفي الوجه ملامح الشخصية فهي انعكاس الداخل ومرآة القلب ، ألم تقرأ قول شاعر العرب :
      بعض الوجوه يسرُّ العين منظرها تقىً *** وفي بعضها قبحُ الغرابيبِ
      سعيد ينصت لكلام هذا الشاب الحكيم ، فلقد تغلغلت كلماته إلى الأعماق ولامست شغاف القلوب ، ووجدت مكانا خاليا فتمكنت فيه ، فدنا منه ، مسلما عليه ، سائلا عن حاله وصحته ، ويقول في قرارة نفسه ، هذا رجلٌ أرسله الله ليخفف آلامي ويشحذ عزيمتي .
      خلود تقترب من مريم أكثر فأكثر ، تسهر على راحتها ، وتوفر لها كل مطالبها ، أما الأخيرة فبدأت تفكر في بيع كل ورثها من أمها ، فهي تنوي فتح مدرسةٍ خيرية ، تكون مدرسةً صباحية للأطفال الصغار ، ومدرسة مسائية لتعليم محو الأمية ، وتهب كل الخير والأجر في صحائف أمها إن كان الله يتقبل منها ، فهي لا تنفك تدعو بالخير وحسن الثواب لأمها الراحلة ، بل وصل بها الأمر أنها تصلي في اليوم عشر مرات ، خمسا فرضا عليها ، والخمس الأخريات تهب أجرها وثوابها لأمها ، ولا تزال الحسرة في القلب على فقدانها ، والوجع يقتل كل ذرةٍ فرحٍ لديها .






      ،،،، يتبع ،،،،،


    • حياة السجن لم تكن مريرة مثلما تخيلها سعيد ، فصحبة الشيخ أنور تزيح الكدر وتمحو كل أدران الضيق والضياع ، هو رجلٌ فاضل ، محافظٌ على أداء الصلوات والسنن ، لا يترك الفضائل والمحاسن ، ويسمو بالنفس لتصل لدرجة النزاهة والطهر ، يصلي بهم إماما ، وهو محدثهم وفقيههم داخل السجن ، فبعد صلاة الفجر يحضهم على قراءة القرآن ، وبعد صلاة العصر يقرأ لهم في كتب التفسير وقد بدأ بتفسير المنار ، وبعد صلاة العشاء يتدارس معهم الفقه والأحكام الشرعية ، لا يترك فرصة إلا واستغلها في نشر الخير والصلاح ، ولله الحمد فسعيد الآن يجيد ترتيل القرآن وتجويده ، ويعلم الكثير من أمور الدين ، بل أنه بدأ يرتقي بفكره وطموحه ، إلا أن مريم بدأت تشعل الحنين في جوفه من الرغم أنه كان ولا يزال عاشقا لخلود .



      اليوم يقوم سمير بدورٍ عظيم ، فلقد رافق الصبي البائس إلى مدرسته الابتدائية ، وأصرَّ على مقابلة الأخصائية الاجتماعية ، فأتته ترفلُ في ثوب الغنج والدلال ، قوامٌ فتّان وعودٌ نحيلٌ قصير ، خدودٌ مُكتَنِزة ، شفاهٌ ناعمةٌ رقيقة ، لا تبدو عليها الحشمة والحياء ، ملابسها مخلة بالأخلاق ، وجهها قد صرخ من كثرة الأصباغ والألوان ، العطر الفرنسي يضج من مسيرة يومين ، وسمير لا يقوَ على رفع رأسه من على الأرض ، بادرته بالتحية والسلام ، وقد أحضرت له كوبا من الشاي ، سألته عن سبب مجيئه وإلحاحه على مقابلتها ، فأخبرها أنه لم يأتِ إلا ليطمئن على حال ذلك الصبي المطرق في جلباب الشرود والهم ، البائع للبسمة بكل نزف مشاعره وحنين وجده ، فأخبرته بأنه طفلٌ يتيم الأم ، ماتت يوم ولادته مباشرةً ، ولم يكن له أخٌ من أمه ، وقد تزوج أبوه بفتاةٍ صبية ورحل لبلدٍ بعيد ، وترك طفله هنا يعيش مع جدته المقعدة .



      بدأت علاقة الصفاء تعود من جديد بين خلود ومريم ، فلقد أحست مريم بصدق مشاعر خلود وأنها حقا نادمه على فعلتها ، وبدأت تكشف لها الكثير من خبايا الزواج الأخير بينها وبين خلود ، وكيف أن المصلحة اقتضت أن يقترنا ببعض ، وكيف يبيع الإنسان ضميره من أجل مادةٍ رخيصة لا تسمن ولا تغني من جوع ، هنا بدأ طيف الخيال يراود مريم ، وأخذت تسترجع ذكريات سمير وهو يحمل الزهور كل صباحٍ في يديه ، وهي تحمل الورود له ، وكيف كان يسهر الليالي في صنع هديةٍ فريدة ، فهو لا يجيد الخياطة ، إلا أنه صنع قماشا صغيرا ، وزخرفه بخيوط صفراء كلون الأصيل ، وكأنه يقول لها أنتِ شمسي التي لا تغيب ، زفرت زفرات الوله والشوق ، ونادت بخلود أن تصاحبها إلى بيت المعلمة سلمى من أجل متابعة موضوع المدرسة الخيرية ومعرفة أبعادها وتفاصيلها .





      ،،، يتبع ،،،


    • تأسف سمير كثيرا لحال ذلك الصبي المسكين ، ومضى وقته كله يفكر فيه ، ويستغرب من شدة اهتمامه به ، ولماذا يشعر بعاطفة كبيرة نحوه ، إلا أنه يمني النفس بالوقوف معه والحنو عليه بيد الحنان والعطف ، لا بد من نشر البسمة والأمل في طيات قلب الصبي ، أطرق ببصره وجال بخياله ، وفي الأخير قرر أن يقتطع ثلث راتبه ويصرفه على احتياجات الصبي الصغير من مأكلٍ ومشربٍ ومستلزمات شخصية ومدرسية .



      في الصباح الباكر ذهب للسوق ، واشترى معطفا جميلا ، وأهداه للطفل بعد عودته من المدرسة ، فرح الصبي محمود بتلك الهدية فرحا عظيما ، وذهب يجري ويرقص طربا ، يصرخ بصوته الطفولي البريء شكرا عمو سمير ، أنا أحبك ، سَعُد سمير بهذه النتيجة واطمئن قلبه وسكنت جوارحه وطابت نفسه ، فالشعور بفرحة طفلٍ بائس شيءٌ لا يوصف ، وها هي العلاقة تنمو بينهما بشكلٍ كبير ، وقد تعرف على جدة الطفل زكية ، وصار كل يومٍ يأتي للسلام عليها والاهتمام بها وإطعامها .



      تمضي أيام سعيد وهو رهين الحبس لا يزوره أحد ، ولا يسأله عنه حتى أهله ، لكنه تعلم الكثير من السجن ، واكتسب مهنةً جديدة وهي الحلاقة ، ففي السجن أُجبِرَ على امتهان الحلاقة وتعلمها ، وهو الآن بارعٌ فيها ، ويفكر بإيجابية في أن يفتح محلا للحلاقة في بلدته ريث خروجه من السجن ، إلا أن أحد حراس السجن دائما ما يثير غضب سعيد ، فهو يتنبز عليه بكلماتٍ بذيئة ويرمقهُ بنظراتٍ حقيرة ، فلولا أن تداركه الشيخ أنور ليوشكنَّ سعيد على الاعتداء على ذلك الحارس الخبيث ، وعند ضحى اليوم أخبره ضابط المركز بأن أحدا جاء لزيارته ، تحيّر سعيد في أمر الزائر ومن يكون ؟ ومن الذي تذكَّره بعد طول غياب ؟ خرج لصالة الزيارات فوجد مريم تقف في ذبولٍ واصفرار تحمل بيدها مصحفا ، ابتسمت في وجهه وقالت : أعلمُ بأنك مظلوم ، ولكن ثق بأن تلك هي الأقدار تجري بما قدره لها خالقها ، وكن صبورا جلدا ، فقلبي نبأني بأنك طاهرٌ عفيف ، دمعت عينا سعيد ، توقف برهةً مدهوشا ، ولكنه تجمع قواه ، وشكر مريم على كل ما فعلته وتفعله معه ، أعطته المصحف وأخبرته أن ذلك المصحف هو مصحف والدتها وهو أغلى وأثمن ما تملكه ، وأمرته أن يحافظ على الهدية جيدا .



      خلود والمعلمة سلمى ترسمان مخططا للمدرسة الخيرية المنتظرة ، وقد تكفلت سلمى باختيار مقاولٍ شريف ليمسك مشروع البناء ، وتم تحديد المبلغ وكان باهظا جدا ، فهو يتجاوز المائة ألف دولار ، ومريم لا تملك هذا المبلغ كاملا ، بل لا تملك نصفه ، تم عرض المشروع على أكثر من مقاول ، وللأسف كان المقاول السابق هو الأوحد في السعر المنخفض ، ولا بديل غيره لأمانته وصدقه ، والمفاجأة أن المقاول ذاته سيتبرع بعشرة آلاف دولار ، ومريم تملك أربعين ألفا ، ولكن من أين سيأتي بالنصف الآخر ؟





      ،،، يتبع ،،،

    • لا يزال سعيد في ذهوله واستغرابه من حنان مريم له ، فعلت كل شيءٍ لأجله ، بالرغم أنه لم يكن صاحب فضلٍ أبدا عليها ، أليس من المفترض أن تقوم بهذا الدور خلود ؟ أيعقل أن يكون قلبها حجرا جلمدا لا تهزه المشاعر ولا تحركه النوائب والأحداث ؟ قاطع شروده الشيخ أنور مشيرا إليه بيده إلى اقتراب موعد صلاة المغرب ، وعليه أن يبادر بالوضوء سريعا كي لا تفوته صلاة الجماعة ، امتثل سعيد للأمر وقام على الفور بالاغتسال والوضوء ، شعر براحة كبيرة وهو يتوضأ للصلاة على غير العادة ، تأخر في الوضوء والشيخ أنور بدأ في الصلاة بالمساجين ، أنهى قراءة الفاتحة ولا يزال سعيد يتوضأ ، بدأ الإمام في قراءة السورة ، وحينها التحق سعيد بالمصلين ، واسترسل الشيخ أنور في القراءة من سورة مريم إلى أن وصل إلى قوله تعالى " واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذتْ من أهلها مكاناً شرقيا " ، هنا تسمر سعيد في مكانه ، وأنصت بخشوع وتأمل لقراءة الشيخ ، وبعد الانتهاء من الصلاة سأل سعيد الشيخ أنور عن السورة التي قرأها في الصلاة فأخبره بأنها سورة مريم ، نبض قلبه وتحركت مشاعره ، وأمسك بالمصحف الذي أهدته إياه مريم وأخذ يقرأ سورة مريم كاملةً وقد قطع عهدا على نفسه أن يبدأ بحفظ سورة مريم ، خصوصا بعدما أبكته الآيات الأخيرة منها ، فهي تتحدث عن يوم القيامة والحساب .
      يبدو أن حلم مريم سيتبخر حينما علمت بأن التكلفة الإجمالية للمدرسة مائة ألف دولار ، فالمبلغ كبيرٌ جدا ولا يمكنها بأي حالٍ من الأحوال توفير خمسين ألف دولار من جديد ، فهذا المبلغ يفوق الخيال والتوقع ، آلمها كثيرا أن تقف عاجزة عن تنفيذ مشروعها الخيري ، ومضت تتأمل بحسرة في تصور المستقبل ، وإذ بها تتلقى اتصالا من المعلمة سلمى تخبرها أنها ستساهم بعشرة آلاف دولار ، وأن خلود أيضا ستساهم بعشرين ألفا ، فقد باعت نصف الأرض التي أمهرها إياها سمير ، حتى وإن لم يدخل عليها فهو لا يزال زوجها باسم الشرع والقانون ، لم تصدق مريم أذُنيها فالحلم بدأ يتحقق ، وموقفُ نبيلٌ جدا من خلود وسلمى ، والمتبقي من المبلغ لا يتجاوز العشرين ألفا ، وستحاول مريم توفيره ريثما ينتهي المقاول من بناء المدرسة بأي طريقةٍ كانت ، وإنشاء المدرسة يتطلب وقتا زمنيا كبيرا لا يقل عن سنةٍ كاملة .
      مرةً أخرى يأتي زائرٌ جديد لسعيد ، لم يصدق سعيد ذلك ، وأسرّ إلى نفسه بأن الزائر هي مريم ، خرج سريعا لصالة الزيارة ، وهنا كانت المفاجأة ، كذّب عينيه وارتجفت أعضاؤه ، من الغير المعقول تصديق ذلك ، باغتته خلود وقالت ، أعانك الله يا سعيد على هذا الحال ، أتيتُ لزيارتك لأني لا أنسى الماضي الجميل الذي كان بيننا ، ونحن أبناء اليوم ، والماضي قد أفل بكل أحداثه ، وقبل أن أكون خلود الحبيبة أو الخائنة مثلما تظن بي ، فأنا خلود القريبة ، والإسلام أمرنا بصلة الرحم ، لم يتكلم سعيد ، سوى أن سألها عن أهله وأخبار بلدته ، حكت له كل التفاصيل ، لم تترك شيئا إلا وأخبرته به ، وقد تعجب من فكرة مريم الرائعة ، طلب منها الحضور إليه وزيارته بعد يومين لأمرٍ هام .
      ما أروع فرحة سمير وهو يصطحب الطفل إلى السوق والمدرسة ، ولم يعد بائسا كسابق أيامه ، يرجع من مدرسته ليتناول غدائه ويرتاح قليلا ، بعدها يذهب مسرعا ليقضي وقتا طويلا مع سمير ، وأحيانا يسامره في وقت عمله ، والجميل أن لدى هذا الطفل مواهب متعددة ، أبرزها الرسم والغناء ، في كل لواحاته يرسم وجه امرأة شابة تشع نورا وضياء ، يتخيلها أمه التي توفت يوم ولادته ، وكل أغانيه حزينة ترجع النفس إلى ذكريات الألم والعذاب .

      ،، يتبع ،،،
    • سمير يعيش مرحلة جميلة في حياته ، فهو يشعر بالأبوة الكاملة تجاه الطفل " جرجس " ، تنتهي مناوبته قبيل الفجر ، يحسب الدقائق والثواني انتظارا لخروج صديقه الصغير من شقته ليرافقه إلى المدرسة مشيا على الأقدام ، يعود بعدها ليرتاح قليلا ويأخذ قسطا من الراحة ، ليستعد لاستقبال جرجس من المدرسة ، ولكن اليوم تأخر جرجس كثيرا في الخروج ، مما بدأ القلق يتسرب إلى قلب سمير ، وقرر مقاطعة الانتظار أمام بوابة المدرسة ، والإسراع للبحث عنه داخل أركانها وممراتها ، فلمحه من بعيد في عراكٍ قوي مع أحد زملاءه ، وبلا وعيٍ وإدراك صرخ سمير في وجه الطفل الآخر ابتعد أيها الأحمق عن جرجس وإلا حطمتُ عظامك ، إلا أن عناد الطفل وحرارة الغضب في دمه جعلته يلطم جرجس في خده الأيمن ، وكانت المفاجأة حينما لم يفعل جرجس شيئا سوى أن أدار له خده الأيسر ليلطمه عليه أيضا ، مما أثار استغراب سمير من هذا التصرف الغريب ، حاول سمير أن يلحق بالطفل ليعاقبه على فعلته ، لكنه اختفى بسرعة البرق في زحام الطلبة المنتشين فرحا بنهاية اليوم الدراسي .
      جرجس يبكي بكاءً مرا ويقول لو كان أبي معي لما تجرأ أحدٌ على ضربي ، يمسح دموعه سمير قائلا له ، لا تحزن يا حبيبي فأنا بمثابة الأب لك والخال والعم ، إلا أنك لم تخبرني لمَ تركته يصفعك ولم تبدي أي مقاومة بل هيأت له الفرصة ليلطمك في الجانب الآخر ؟ يجب عليك أن تقاوم يا ولدي ، ابتسم جرجس قائلا ، لكن التسامح الديني يأمرني بذلك ، أو نسيت أنني قبطيٌ من مصر الحبيبة ؟ هز سمير رأسه مشيرا إلى أنه لم يفهم شيئا ، فسمير ثقافته محدودةٌ جدا ، ومن المؤكد أن الأيام القادمة ستشهد حوارا دائما عن مصر الجميلة ، وعن شعبها الودود المحب للمرح والنكتة ، وهو بشوقٍ كذلك لمعرفة المزيد عن القبط وحياتهم ومعتقداتهم .
      سعيد طول يومه يتحدث مع الشيخ أنور عن تضحيات مريم ووقوفها بجانبه ، وعن مشروعها الخيري الذي تهدف من خلاله إلى نشر بساط العلم والمعرفة ومساعدة الفقراء والمساكين في مواصلة دراستهم وتسلحهم بالعلم ، ذلك السلاح الذي لا يقدّر بثمن ، وتظهر السعادة على محيّا الشيخ أنور ، والابتسامة مرتسمةٌ على شفتيه ، ويغمز بعينه لسعيد مازحا ، أهذا كل ما يعجبك في مريم ؟ لا تقلق فأنا أشعر بك ، وسأقوم بعقد قرانكما ، يحمرُّ وجه سعيد خجلا ، ويطرق بفكره نحو خلود وخيانتها له مع شقيقه ، ويتذكر الأحداث التي توالت في حياته من حبٍ وسجنٍ وتوهان ، إلا أنه لا يحمل أية مشاعر زواج تجاه مريم ، والمحبة في القلب ، وربما يصدق القائل :
      نقل فؤادك حيث شئت من الهوى *** ما الحب إلا للحبيب الأولِ
      كم منزلٍ في الأرض يألفه الفتى *** وحنينه أبدا لأول منزلِ
      مريم وسلمى وخلود يواجهن الآن مشكلةٍ جديدة ، لم تكن على البال أبدا ، والغريب أنها لم تطرَ على بال أحدٍ منهن رغم أنها أساس كل شي ، والمضحك أن المقاول بادرهن بالسؤال أين أبني المدرسة ؟؟ فكانت ردة مريم قوية ، قائلة ويحي كيف أغفلُ هذا ؟؟ قاتل الله النسيان ، وبدأت الوساوس تدق عرش خيال مريم ، والنفس تعلن بداية الانهيار ، وتندب المسكينة حظها ، وأن التوفيق أدار ظهره لها ، فهي بين مطرقة الأرض وسندان الأمل ، لكنها حتما لن تيأس ، فلا يزال الأمل يتورد في قلبها ، ولن تستلم لليأس والهزيمة أبدا ، ومن الأفضل الآن البدء في البحث عن أرضٍ مناسبة وبسعرٍ معقول ، فالمساحة المحددة للمدرسة في الخريطة تبدو كبيرةً جدا ، وهذا يضاعف من قيمتها المالية بكل تأكيد .

      ،،، يتبع ،،،