من قصصي القصيرة [ رأسٌ إسمنتي ]

    • من قصصي القصيرة [ رأسٌ إسمنتي ]

      من قصصي القصيرة

      " رأسٌ أسمنتي "



      تزلزلت أذناي للمرة الثانية هذا الصباح ، صوته كصوت نائحة جاهلة في عزاء ، حملت يدي التي أحسست أنها تزن مئات الأطنان لتخرصه ، تلقى مني عدت صفعات ، الحمد لله هدأ أخيرا .

      إنها العاشرة تماما ، عيني كأن لهما أبواب حديدية صدأة ، تفتح وتفلق ببطء شديد ، أمرت جسدي أن يتحرك من على الفراش فلم ستجب ، كأنه فيل إبرهه عندما طلب منه أن يهدم الكعبة المشرفة ، رأسي كتلة أسمنتية ، كلما أملت إلى جهة سقط بتثاقل سريع .

      إنها الجمعة – عيد المسلمين – يجب أن أقوم لأستحم وأتوضئ وأتهيئ للصلاة .
      عندما فكرت في هذا دبت الحياة قليلا في جسدي الذي كان شبه ميت ، انتصبت واقفا وبدأت بالمشي ، كل خطوة كانت أثقل من سابقتها ، ورأسي يترنح بتثاقل .

      أدرت حنفية الماء بكل ما أوتيت من قوة في تلك اللحظة ، وبعد أن غسلت فمي بالماء مددت يدي لأتناول فرشاة الأسنان وعيناي شبه مغمضتين ، غسلتها هي الأخرى بالماء قليلا ، تناولت معجون الأسنان ووضعت القليل منه على الفرشاة ، ولأول مرة منذ سنين لم أفكر في غلق حنفية الماء لكي لا أكون من المسرفين ، ولولا عناية الله أن جعل حاسة الشم لدي في تلك اللحظة تعمل بشكل ممتاز خلافا لباقي حواسي لكنت قد فركت أسناني بمعجون الحلاقة .

      بعد الاستحمام بالماء الدافئ سرى النشاط في جسدي إلا رأسي ، فمع أنه أصبح أخف وزنا إلا أنه مازال ككتلة أسمنتية .

      لبست ثيابا جميلة ، وزار أبيض ، وقميص أبيض ، ودشداشة بيضاء ، وعمامة بها نقوش برتقالية ولكن أغلب لونها أبيض ، وحتى نعالي الذي ينتظرني عند الباب صنع من الجلد ولونه أبيض ، لا أدري ما قصتي مع اللون الأبيض ؟! .

      وضعت الكثير من العطر ولكن لم يكفني ذلك بل أخذت أستمتع برائحة البخور وهي تغلف ملابسي وتدخل في أنفي حتى عطست - " الحمد لله رب العالمين " - لم يكن هناك من البشر من يدعوا لي بالرحمة .

      عطست مرة ثانية ، وثالثة خلال دقائق ، اعتقدت أن البخور أصابني بالزكام ، فأنا لا أطيق أبخرته ، ولكن لم يكن في العادة يصيبني الزكام مع ذلك المقدار منه ، أدركت حينها سبب ثقل رأسي منذ الصباح ، لم يكن الأسمنت إلا عارض الزكام الذي انفجر بركانه الآن .

      يجب علي الآن أن أملأ جيبي المحارم الورقية تماشيا مع الوضع الجديد ، فكم وكم حظيت بصحبة سيئة مع هذا المرض المستعصي على العلم والعلماء ، مع أنه يأتي فجأة ويذهب فجأة ولم يسلم منه أحد من البشر ، سواء في الأماكن الباردة أو المعتدلة أو حتى الحارة في العالم .

      وقفت عند باب البيت من الخارج ورأسي مازال أسمنتيا ، الجو منذ يومين بارد قارص ، والهواء الغاضب يزيده برودة لم أعهدها منذ سنوات خلت ، ومع ذلك فإن الشمس حارة ، ما هذا التناقض ؟!، هل مخلوقات الله غاضبة منا ، ما الذي اقترفناه حتى تتكالب علينا ؟! .

      أدركت أن يومي هذا سيكون صعبا .

      نظرت في ساعة هاتفي النقال ، إنها الحادية عشرة والنصف ، وضعت هاتفي في جيبي ، مشت مسافة لا بأس بها ، عطست عطستين متتاليتين ، فبدأ مصنعي الأنفي بطرح منتجاته ، والحمد لله أنني كنت على استعداد لتلقي هذه المنتجات المقززة بالمحارم الورقية .

      مع أنني أشعر بالوهن الشديد أسرعت الخطى نحو المسجد الجامع ، لكي أجد لي مكانا داخل المسجد أثناء الخطبة ، ففي السابق لم أكن أحس أبدا بالربع ساعة التي أحتاجها لأقطع المسافة الفاصلة بين بيتي والمسجد ، ولكني هذه المرة قطعتها بعد جهد واضح في التنفس .

      لم يصدق عقلي عيني عندما رأيت بعض الناس يجلسون على حصير تلو حصير في الساحة الغير مسقفة أمام باب للمسجد ، أدركت أن المسجد قد امتلأ في الداخل ، لم استطع أن أتخيل نفسي أجلس مع أولائك الناس وأنا على ما أنا عليه من حال .

      كان الناس يتصافحون بعد الصلاة ، يقول بعضهم إن الإمام ألقى خطبته على عجل ، وحاول أن يظهر لهم إتقانه لفن الخطابة ، بينما هو غير ذلك ، أما أنا فلم أستطع أن أحكم عليه أو على خطبته ، فقد كنت منشغلا بتفريغ الأسمنت الذي يذوب من رأسي ويخرج عبر فتحتي أنفي اللتان أعرف أن لونهما أحمر دون أن تقع عيني عليهما ، لذلك لم أفهم أي شيء من تلك الخطبة التي ألقاها الإمام ، بل لا أذكر ما هو موضوع خطبته .

      غيرت ملابسي ، ارتميت على سريري ، وعدت نفسي ألا أذهب لأصلي صلاة الجمعة مرة أخرى في الجامع وأنا مصاب بالزكام .

      وعدتها بذلك وأنا أعلم يقينا أنني لن أفي بذلك الوعد .


      ===================
      18 / 1 / 2008 م
      ==========================
      نشرت بجريدة الوطن