كثيرة هي اللحظات التي تمر بمرافئ الحياة فنقف عليها وتقف هي علينا لوهلة ثم تذهب وتغادر بزمنها لا بأثرها فأثرها باق بعمق حيزها من هامشيته في أرواحنا لتجد بعضا منها قد حفر وبعمق على جدار الروح ولحاء شجرة الوجدان والبعض الاخر لا يكاد يكون حتى يتلاشى فكأنه ما كان في جزء من الثانية من عمر الزمن المتسارع بلهفة المشتاق نحو بوابة التلاشي والعدم ...
نعم هذه هي الحياة في صورة مختزلة بين أحرف متشابكه جمعهتا الأقدار لتنسج لنا معنى اللحظة في عمر الانسان بعمقها وهامشيتها .. بحلاوتها ومرارتها.. ببهجتها وتعاستها.. بابتسامتها النابعة من أعمق عمق في أعماق الروح إلى دمعة حارقة أتون هتون تشق طريقها بجبروت وكبرياء على خد قد اهتز كيان مملكته الوجهية بتعابير الأسى الفاجع والدهشة الصامته المغلفة بإطار التساؤل المجنون و المتغابي: كيف ومتى و أين.....؟!!!
تتزاحم اللحظات وتتدافع بضراوة الوحوش الجائعة التي أضناها موسم القحط والشح في موارد الحياة حتى غدت أشباح موتى تتنقل بين أروقة المقابر في رابعة النهار .. تتزاحم هذه اللحظات لنجدها في قالب عام تجبل حياة الانسان على طابع الكدر لا الصفاء والحزن لا السعادة والهناء ... نجدها بصبغتها القاتمة تسور قلوبنا بأسورة من قرميد صلد لا تخترقه رياح الصبا سوى لحيظات نتنسم فيها عبق الذكرى .. ذكرى الأحبة .. .. وما أعبقها من ذكريات تلكم التي لملمت شعثنا وألفت كياننا في مرافئ كان لكل واحد منهم في الحياة سفينته الماخرة وجدت نفسها راسية على تلكم العتبات فخفت الريح من نفخ أشرعتها بأفواه الرحيل المتهافت فتوقفت لوهيلات معدودة ومحدودة بأنفاس عاطرة هي عمر هذه الذكرى وتلك وما أقصره من عمر...عمرها وعمرنا نحن أيضا ...
وجدت قلوبنا قلوبهم فحضنوها قبل أن تحضنهم و أشبعوا أرواحنا دفئا وحبا قبل أن تجد مشاعرنا النور إلى قلوبهم التي أترعت نبلا و شاعرية بما للشاعرية من معنى نبيل في قاموس الحب الصادق...
ابتسامة وجوههم .. كلماتهم .. همساتهم .. ضحكاتهم ... وسم ما شئت من حلاوة وجودهم بما حمله الوجود من شذى أريجهم ... كل تلكم اللحظات بجزئياتها وكلياتها تؤلف مزيجا عجيبا فريدا لا يمكن للروح أن تكف قدحها وإن ثملت ... و لا القلب يستكفي وإن أترع منه ... من ذلكم المزيج العجيب الفريد
ما زلت أجده بشيبته الوضاءه ووجهه الملائكي الذي يفيض حكمة وجلالا وقدرا... ما زلت أجده في روحي يتلألأ كوكبا دريا سرمديا باقيا ببقاء نبضي.. ما زلت أراه جبلا شامخا وطودا عتيدا أرتكزت عليه محاور كثيرة في حياتي لا أحصيها فلفت رحى أيامي حولها مرارا وتكرارا وفي كل مرة أجدني أغترف من فيوض حكمته وأستقي من غيوث بصيرته معينا لا ينفد ورافدا عذبا ريانا لا أجدني أجتاز ساحله فضلا عن سبر غوره وإن طال اغترافي منه... وما أسخاه من معين عذب... معينه
أجد العبرات تسيل بغزارة من عيني التي أثخنها كثير البكاء فتنسكب بكرم فياض على ترب صحراء قلبي الملتهبة بلهب الشوق إليه فلا تزيدها سوى عطشا و... عطشا.... وعطشا.
لن تكف أناملي تكفكف الدمعات المنسابة من سحابة حزني العميق على فقده ورحيله الفاجع والمفاجئ.. على غروب شمسه ورحيل بدره .. على أفول نجمه وذهاب كوكبه الدري في فلك الدوران الناموسي في هذا الكون العظيم ....
رحلت سفينته ... آآآآآآآه نعم رحلت وأنا أنظر إليها بعين الفجيع وأنا .... أنا الفجيع نفسه... وأنا المفجوع بعينه.. لم ألوح بيدي حتى لكي أودعه ولم يملك هو الوقت ليودعني ... جاء رحيله فجأة بما للفجأة من معنى ...
بعيون دامعة حرّى .. بنفس مكتئبة حيرى ...وبقلب وَجِلٍ ضعيف تمتمتْ شفاهي العطشى لابتسامته: ليرحمك الله رحمة واسعة شاملة ترفعك إلى أعالي الجنان بجوار الرحيم الرحمن وصحبة النبي العدنان صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وصحبه ما تعاقب الجديدان وأحب في الدنيا إنسانٌ إنسان ... حبا لا تُفنيه الأيام وإن كَثُرتْ ولا السنونُ وإن طالتْ ..
خُلوص البصر.. وإمعان البصيرة والفِكْر في توارد الأيام وتعاقُبِها بأحداث لنا فيها دروس وعِبَر ... فيوم بصحبة حبيب غالٍ.. وغدا.. وآآآآه من غدٍ.. على شفير قبره أنظر إليه من خلف سحائب الدموع وضباب الفرقة وإنطفاء الشموع ..وأَسْوِرَةِ الفراق تحول بيني وبين الوصول إلى يده فأحتضنها وإلى جبينه لأطبع عليه قبلة تتفجر من ثناياها بحور حبي واشتياقي العميق إليه ....
شموع أضاءها بوجوده وأنارها بنور قلبه وسناء روحه وطيبة نفسه فأنارت وأضاءت وهدت وأرشدت ... و ما زالت في روحي حية..وضاءة.. منيرة.. تتلألأ بسناها.. وتتراقص بنورها.. ومعها.. ترقص روحي ..لكنها بدقات ناقوس الرحيل تنتفض من حلمها .. على نغم البكاء المرير تسبل دم الورد الأحمر القاني ...فتملأ كف يد صبي فقير يكاد يخطفه الموت في أي لحظة تملأ كفه جوعا وظمأ فيأخذ من صدقتها ليرتوي ويشبع ....ليس هو ... بل ... بل الدود الناخر بأسنان الغيظ في جلده الجاف وعظامه الصدئة من كرم الحياة ...
... على شفير قبره .. وقفت أودعه الوداع الأخير.. والأيادي حثيثة مجتهدة... تهيل الترب على جسده الطاهر الشريف ليتوارى ويختفي .. وأرجع القهقرى بخطوات متعثرة لكي أنزوي بركن من أركان هذا الوجود الذي أظلم نوره وأوحش بعد أنس .. فتنعدم الأصوات من حولي وتختفي الوجوه والهامات فلا أرى سواه أمامي و هو ينظر إلي وقد .... عفَّر التراب جبينه وتناثرت ذراته من فوق جسده و... وابتسامة كعادتها حانية هادئة وصادقة ... ولكنها ..ولكنها على غير عادتها فهي الان دامعة... قد ارتسمت على وجهه ... وذلكم البريق الغامض في عينيه الذي طالما حار فكري وأرهق عقلي تفسيرُ معناه وما منبعه ... لطالما تساؤلت وتساؤلت ... عن أشياء كثيرة .. أشياء عنه وحوله .. ولكن ... ولكن ظلت هذه الأسئلة وغيرها حبيسة عقلي .. رهينة صدري ... لم أشأ عتقها في يوم من الأيام .. لا لشيء .. سوى ... أني ما جرأت أن أسئله إجلالا.. وإستحاءا ...وحبا له .. ولأن غموضها كان ملهما إلى حد بعيد ... بعيد جدا ...
وقفنا... وكلانا ينظر الآخر بعين من انقطعت به السبل عن خِلِّه.. وضاقت به الحِيَل عن حِبِّه.. فما درى لبلوغه فجَّا ولا اهتدى إليه سبيلا فما كان منه إلا وفاءا بعهد الحب وإخلاصا لميثاق الود حائما بين الفلوات يبحث عنه غير مستظل بظل بل .... بل أتبع ليله بنهار .. وواصل شروق شمس يومه بإمتحاق بدره .. حتى لقيه.. لقي خله.. وأعظم به من لقاء ..
تعانقت الاعين بنظرات الشوق المتضرم بِوَجْدِ الفراق لخل طال فراقه وحبيب امتد بعاده .. تعانقت وهي مغرورقة بأدمع الفَرَح الفَرِح بفَرَح اللقاء.. جذلة نابضة بنبض الإجتماع ... ولثم كل قلب قلب حِبِّه بخفقات الأنس بلم الشمل وأنس الإلتئام ...
غير أنهذلكم البريق... في عيني خله...تلاشيه...إنضواءه... والإيذان بلفظ أنفاسه ...أحس معه بنبضات قلبه قد أخذت بتلابيب روحه وهي تهزه هزا ...متشبثه بأطرافه خشية الوقوع في بحر لُجْيِّ لا يدرك عمقه ولا يقهر موجه ...ناظرة بجفون خلت من رموشها... حاكت الايام حولها سحائب شتاء كئيب ... جد كئيب......سحائب حمراء
لم يشح عني بناظره.. ولم يكشح بوجهه ... بل .... بل ظل يراقبني في صمته المعذَّب والمعذِّب.. دون أن ينبت ببنت شفه ... وأجدني من غير أن أعي أصرخ بما للصمت من قوة البوح : لماذا .. لماذا.. لماذا ....ألف بركان ينفجر بداخلي ... ألفُ ألفُ سؤال يقرع بوابة وجداني ...قَرْعَ المُغْضَب... وسيول الحزن والدمع المتهامع أخذت تجرفني وبلا رحمة وبلا هواده ...قد لفظت أتون حرها ولهيب أساها ... فحولت واديَّ الأخضر بركة من جحيم .. جحيما أخذ يحرق الفراغ من حولي والعدم الذي يلف أرجاء ركني .. ركن عزلتي... الموحش والمقفر...
514 ﻣﺮﺓ ﻗﺮﺃ