( إليك أنت فقط تشدني لحظات الحياة...2 )

  • تتبعثر أوراق الربيع الزاهية بحلول خريف الرحيل .. و تظل الانامل رطبة دافئة بإلتصاقها بيد خلها حتى.. حتى يحين رقصها على سيمفونية الرحيل ... ووتر الفراق ...حينها يغتالها البرد القارص فيعيث فيها جورا وبغيا ... ويرحل عنها بصدوع لا يرأبها إلا ... دفء خلها من جديد ...


    تواردت هذه الكلمات بمشارط التشريح لتمزق وبقسوة وبلا أدنى ذرة من رأفة أو شفقة.. لتمزق كيانه المتلألأ في ذلكم الركن البالي ومعه نزف قلبي حتى آخر قطرة من حياة .. ومع رحيله سقطتُ على أرضي المتهالكة لأجدني أنا الآخر قد رحلت ... وإلى مدى بعيد ... بعيد جدا .. كوريقة عطشى في قلب إعصار مغضب..وعيناي قد عانقتا الجمود ... حتى قطرات الدم أعلنت تمردها...وتوقفت عن السيلان على خدي الأرجواني ... المتلفع بحناء الدم


    بين تقلبات العتمة إلى فلق الإصباح ومن شروق الشمس إلى غروبها .. تأخذنا إلياذة الأيام من طور إلى آخر ومن حال إلى حال مختلف .. ولا حال يدوم ... القلم الباكي الفياض ينثر من سحابة كل حياة برَدَا وجمرا... ولكل حياة قصة ... قصة مختلفة... تحمل في طياتها الكثير والكثير من الذكريات ... ولكل ذكرى حكاية تنفرد بها عن غيرها ... وبين هذه وتلك ننتقل من عالم إلى آخر رغم أننا ما زلنا في حيز عالمنا .. مرتبطين به غير أننا نحلق ونطير بأجنحة من أهداب قلوب الحنين إلى عوالم بعيدة ... كانت .. كانت موجودة.. ذات يوم ..بعييييد أو قريب ..عشنا بعضها... وسمعنا الكثيرعن الآخر ... والأذن تعشق قبل العين أحيانا ...


    لواحظ الشوق بنبض الأرواح الخاوية... والمنازل المهجورة.. تحت نور القمر الخجول بخسوفه.. والمنعزل حتى عن ثقوب سوداء أصبحت مقابر بالية ...تحتضن المندثر من عالم الأحياء... مرتحلا لعالم الأجداث المتناثرة على أروقة المطر الباردة... من صقيع الأحزان ...و ريش متناثر من جناح دمعة نثرت كل محتويات مكنونها.. فما بقي لديها رمق... وشفاه تخضبت بكلمات الجنون في عالم المعقول.. وكل شيء يلمع في برود بنور الكسوف ... قبّل الأرض بقطرات ريقه العطش .. فتناثرت قطرات دم من قلب قد طعن بألف خنجر غدر .. عانقت جبهته صقيع الفراق وبشموع منطفأه قد سال نزفها تلمس جدار الروح ... فوجده قد تهشم وما بقي منه سوى أثر ... شاهد على أنها كانت هنا شجرة أثمرت ذات يوم ... سال الشهد من عِذاب قطوفها .. تذوقت المزن طيب عناقه فأمطرت قَطْرا أنبت كل حُبِ الأرض .. وزَهْرَ رياض السعد كانت جنائن الفرح وقناديل الإرتحال إلى عالم من خيال وردي ... فحلت عليها كف الأقدار بسُم الهجر وسهام الغدر .. فأعقبت لعنة ومحقت كل رسم للحياة ...


    هذا الإنسان ... لغز كبير ... في كل شيء ... في مشاعره وأحاسيسه .. في أفكاره وخواطره .. في خطواته وخطراته ...في حركاته وسكناته.. يظل يبحث عن معنى السعادة ويفتش عنها ... يبحث عن الحب وينقب عنه ... يبسم ويحزن .. يضحك ويبكي .. يفشل ويسقط .. ويقوم من سقطته .. يحزن حتى تكاد تروحه تفارق جسده .. ثم .. ينسى .. ينسى قليلا .. ويمضي .. ثم يقف هنيهة ويتأمل في الوراء وأين وصل ...ثم يمضي .. وهكذا ديدنه وحاله...


    روحه عمق من الصعب أن يسبر مداها أحد.. فهي لغز كبير وغامض .. مفتاحها قد فقده هو نفسه في زحمة الحياة فلا يدري أين وقع منه ولا أين سيجده .. وهنا تبدأ رحلته في البحث عن معنى الحياة .. فيضحي ويبذل في سبيل العثور عليه .. على مفتاح روحه .. يبذل الغالي والنفيس وفي رحلته هذه ترسم الأيام لوحتها بتضارب وتناقض في الألوان عجيب ... وجِدُّ غريب ... لا يفقه تأويلها ولا يدرك كنهها أكبر الفلاسفة والمفكرين ممن سبحوا طويلا في بحور النفس حتى كلوا وملُّوا ...واشتعلت رؤوسهم شيبا .. واشتعل الشيب نفسه شيبا... وتبقى الريشة تتراقص يمنة ويسرة في كف الأيام ...كأنها سكرى لتقف عند آخر رقصة ... رقصة الفراق ...لتتساقط شعيراتها وتتصدع خشبتها ....وساعتها... تنتهي اللوحة...عند آخر نبضة..


    تأخذني الخواطر بعيدا وتأتي بي قريبا.. فكأني بين نوم وصحوة ...وكأني الغائب الحاضر.. أعيش كطير مغرد .. بلحن جميل ... ولكنه لحن باكٍ .. في قفص من ... ذهب أبيض .. طرز بالورود المخملية ... وأحيط بلوحات الطبيعة الباسمة.. وعيون الماء تتراقص في سماء الغرفة الباردة ..تراقبني الأعين المشدوهة بجمالي الأخَّاذ.. وتتحرك الألسنة تلهج بلغة لا أفقه منها سوى نبرات الإعجاب ... عن ريشي .. صوتي .. منظري .. ولكنهم لم يروا ما بقلبي ... ظنوا تغريدي غناء وطربا .. ظنوا قفزاتي رقصا و فرحا ... وظنوا وظنوا ... وتوارد الشعراء ليستلهموا مني وحي قصائدهم ... وتوافد الرسامون بريشهم ولوحاتهم ليرسموا صور المأساة بألوان بالحياة الزائفة ... وجاء العشاق من كل صوب وحدب ... لينظروني و.. ... في أعينهم و... همساتهم ..كلمات الحب ... الخالية من معنى الحب الصادق...


    إختفى عبق الزهر وبقي لونه .. تلاشى الدفء وبقيت النار مشتعله ... و بدأ قلبي يشيخ مع الأيام .. ومع الأيام أخذت الذكرى تهتز وتتلاشى شيئا فشيئا ... ذكرى غابتي الجميلة .. بروضها وزهرها .. بجدولها وطيورها ... بكل ما فيها ...


    وبعده ...وبعدهم ... ما زلت أقلب دفتر الذكريات بأوراقه الصفراء ورائحته النتنة الجميلة المميزة .. فأنتقل بين سطور حياتي معهم وأرى كل لحظة حياة عشتها معهم .. كيف كانت عبقة كعبق الزهر في روضه وجميلة كجمال البدر في عتمة ليله ... وتختلط ابتسامتي بأدمعي .. وتمتزج خفقات قلبي بدعائي الحار لهم..


    ... أنظر إلى الدرب المتبقي أمامي..بعين الدهشة والوحشة .. كيف لي أن أمشيه .. كيف لي أن أكمله وهم... وهم ليسوا معي ...نجومي تهاوت.. بدوري رحلت... وشموس أيامي غربت.. أَلِفَتْ نفسي أن ألتفتَ يمنة ويسرة... فأجدهم من حولي.. ملائكة تحفني وترعاني.. إطمأن قلبي أن يشدوا من ازري إن ضعفتُ... وأن يأخذوا بيدي إن وهنتْ قواي وكلت حيلتي..


    وهذا القلب... ماذا أصنع به وقد فطره الزمان برحيلهم ... و أوصد على نفسه بوابة الحزن العميق فأفقده ظلام وحدته نور بصره وسلبه أنس عالمه ... فما عاد له في الحياة من مرغب.. ولا له فيها من غاية أو مطلب .... بل كل مبتغاه أن يظل معهم ... في أنس ذكراهم ... وذكرى أنسهم .. متفيأ ظلال أيامهم من حر فراقهم .. واردا واحات حبهم ليروي ظمأ شوقه لهم ... ولهفته لرؤيتهم..ولكنه.. ولكنه ما ولم ولن ... يرتوي .. بل... بل يزداد ظمأ فوق ظمأه وشوقا فوق شوقه ...

    467 ﻣﺮﺓ ﻗﺮﺃ