الآياتالخوارقية .....

  • يذكر الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله في طرف من حديثه يقول : أنه لو أتاني أحدهم وقال لي أن واحد زائد واحد يساوي ثلاثة والدليل على كلامي أنني أقلب هذا الحجر إلى عصا ، لما قبلت كلامه في المسألة الأولى ولكنني سأتعجب كيف استطاع أن يقلب الحجر إلى عصا !! قلت : والتعجب والاندهاش هي أمور قلبية وجدانية وليست عقلية ! وهذا هو البناء العقلي للإنسان ، فهو يتعامل من خلال عالم محسوس ، و هناك طبيعة للأشياء محاولة تغييرها أو العبث بها يعني عطبها .. فالعقل مثلا له أسسه ومنطقياته التي يقبل من خلالها ويرفض ما سواها .. وما عليك إلا إن تستسلم ، فلا تحاول أن تحمله ما لا يطيق وإلا لعبت في مقدراته وهدمت أسسه وبالتالي تحصد نتائج خاطئة ومزيفة .. ومن شروطه أنه لا يجمع بين نقيضين .... ولا يوجد الشيء نفسه متحيزا في مكانين ... ولعل هذه هي الطريقة التي يفرضها على نفسه ! ليفهم بها الأشياء ويقيم عليها .... وحينما جاءت الآيات الخوارقية لتثبت صحة الرسالة أو صحة النبوة لم تكن تلك الآيات الخوارقية لتفرض نفسها على العقول فهي لا تستجيب لعدم توفر شروطها ، بل كانت هذه الآيات استحثاثا لتقبل الفكرة الإيمانية وجدانا ، فإن الوجدان إذا تقبل فكرة ما فإنه يسيطر على أحكام العقل ويمنحه شروطا أعلى للفهم والاستيعاب !! فلم تفرض تلك الآيات الخوارقية على فرعون وجنوده للتصديق بها عقلا لأنها لا تتوافق مع شروط العقل وموضوعيته ... وإنما كانت موجهة للوجدان ، و كان المانع من تقبل الفكرة الإيمانية لفرعون وجنوده نفسا أو وجدانأ هو المرض الوجداني لما ملئت به أنفسهم من الظلم والعلو وأن يكونوا آلهة متبوعين لا أن يكونوا أتباعا ، وهو ظلم وعلو سيطر على وجدانهم لدرجة أن لم تعد تؤثر فيهم مشاعر العجب والاندهاش الطبيعي مما هو مدهش حقا !! وقد تبنى فرعون فكرة الألوهية فصدقها ، لأنها أحكمت في وجدانه ، .. ولم يستطع أن يتجاوزها فسقط فيها .... وهو مرض معروف في علم النفس ، فقد يكذب الإنسان كذبة فإذا عاش واستمرأها واستمر في تمثيلها فإنها تلصق به حتى ليظن أنها هي الحقيقة .. ولذلك قال الله تعالى عن فرعون وجنوده ( وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا ) فتيقنهم أو تصديقهم كان خنوعا لقوة الحجة ولكنه غير مرحب به ومرفوض وجدانا ! فلم يعتد بذلك الإيمان ، لأن الإيمان الحقيقي الذي هو قبول قلبي وجداني موجب للإتباع ..... وإنما آمن بدعوى موسى عليه السلام الإيمانية النخبة المتفننون بالسحر والذين أدهشهم ما جاء به موسى عليه السلام من إبطال لسحرهم ذلك أن العالم الحاذق لفن من الفنون والمتعمق في أسراره يكون أكثر انبهارا عندما يتجلى له سر من أسرار صنعته ، وما حدث لهؤلاء السحرة كان نوعا من تأجيج المشاعر واندهاشها للحظة الكشف المهيبة لما أبطل سحرهم ولذلك خروا سجدا صما وعميانا !! فإيمانهم كان إيمان ذهول واعتراف بقوى أعلى من القوى السحرية التي يملكونها ، ولم يكن إيمانا عقليا محضا ، وقد تقبل منهم هذا الإيمان لأنه فتح لهم أفقا جديدا للمعرفة وهو الإيمان بالغيب ، ولم يكن في أنفسهم موانع للإتباع ( المرض القلبي ـ تكبر فرعون) !! وأما بنو إسرائيل فقد اتبعوا موسى عليه السلام طلبا للنجاة لما لحق بهم من أذى على يد فرعون وجنوده ، وقد اعتبر مجرد الإتباع لموسى إيمانا به لأن الإتباع جزء من الإيمان !! ولم تكن الآيات الخوارقية لتغير من طبيعة العقل البشرى في اعتماده على المحسوسات وشروطه للقبول أو الرفض ، ولكنها جاءت لتستحث الوجدان على الإيمان الذي في مضمونه دعوة للارتقاء بالفكر وتجاوز عالم المحسوس بعد أن كان مغلفا على الأباطيل والزيف والخداع .... وقد قال تعالى ( وما نرسل بالآيات إلا تخويفا ) والتخويف قد لا يقوم على شاهد عقلي فنحن نخاف من الأشياء المجهولة وربما لا يكون فيها مدعاة للخوف ، ولكن من شأن التخويف أن يجعل الفكر الإنساني دائم البحث في الوسائل المؤمنة له من الخوف ، وما كان مؤمنا له جاء من مفردة الأمن أو الإيمان !! وقد كانت واقعية الوحي الكريم تتجلى في قوله تعالى ( وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون ) فالآيات الخوارقية ليست مقنعة للعقول !! وقد كذب بها الأولون من أجل هذا , و ليست كافية لتثبيت الإيمان في القلوب .. ولم تكن هذه مهمتها وإنما هي وسيلة من الوسائل التي تدفع الإنسان لتحريك الوجدان و البحث والنظر والتأمل ...، ولأن مسار الفكر الإنساني في الفترات والأزمنة والأحقاب الممتدة تأتي عليه الأدواء فيتصلب كتصلب الشرايين أو يظل يراوح في مكانه أو يمر بحالة ركود تحتاج إلى من يحركها ويوقظها من سباتها ، أو قد يزل و ينحرف ، فتأتي الرسل صلوات الله وسلامه عليهم بقدر إلهي لتعديل المسار وإعادة القاطرة إلى قضبانها .. ولذلك فإن الإيمان لم يكن ليوفي بمتطلبات وشروط العقل الإنساني !! وإنما جاء ليقول بلغة يسيرة سهلة .. ، أنتم على ضلال ،هناك قوة مسيطرة ، هناك حق وأن اتباع الرسل صلوات الله عليهم أجمعين هو الطريق لمعرفة الحق ومعرفة هذه القوة والاتصال بها ...... ويمكن القول أن الإيمان مطلب وجداني ( ضمير ) قبل أن يكون مطلبا عقليا !!...ونحن نؤمن بالله بضمائرنا قبل أن نؤمن بعقولنا ، ( ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء من الأرض ) فهو استنكار لمن لا يعظم شأن تلك القوة الجبارة التي تنبت النبات .. والتعظيم محله القلب !! فهذا نداء للفطرة والفطرة ضمير وحكم قلبي وجداني وليس عقلي !! قال تعالى ( ..... وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ، إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب فبشره بمغفرة وأجر كريم ) فالا تباع هو بداية الهداية وبداية الإيمان !! والإيمان الكامل أو الحق يأتي حينما يتطابق العقل مع الوجدان ..!! ولما طلب إبراهيم عليه السلام من ربه سبحانه وتعالى رؤيته لإحياء الموتى ... ( وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي ) فالإيمان هنا لم يكن يشترط الاطمئنان القلبي , وإنما يأتي الاطمئنان القلبي من توافق العقل مع شروطه الموضوعية التي يفرضها على المحسوسات ، ولذلك جاء التوجيه الرباني إلى إبراهيم عليه السلام ( قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك واجعل على كل جبل منهن جزءا ثم ادعهن يأتينك سعيا ...... واعلم أن الله عزيز حكيم ! ) لقد كانت تجربة رائعة في مجال توسيع الفكر والإيمان بالغيب لكنها لم تكن تجربة عقلية محضة لأنها لم تفي بمتطلبات وشروط العقل !! فقد غابت المشاهدة البصرية ، وغابت عنه الشروط العلمية المقنعة للعقل والتي من أهمها إمكانية وضع قانون يسمح بإعادة التجربة والحصول على نفس النتائج ... فعلم إبراهيم عليه السلام أن مسألة إحياء الموتى أو البعث هو من الأمور الغيبية التي يجب الإيمان بها وجدانا بإجمال ولا يطالب بالحكم عليها عقلا وأن هذا من الحكمة التي أخفاها الله عز وجل عن عباده

    266 ﻣﺮﺓ ﻗﺮﺃ