القدرة على الاختيار

  • القدرةعلـــــى الاختيــــــــــــار

    حياة الانسان مليئة بمحطات اختيار , وبعبارة اخرى حياةالانسان عبارة عن سلسلة من محطات اختيار مجموعها يشكل ما يسمى بتعبير اليوم (السيرة الذاتية ) , فهو في كل لحظة في محطة اختيار ....يشرب ام ينام ....يذهبيمينا ام يسار ....يفعل او لا يفعل ...يختار الصدق أم الكذب ...يكون مع الحق أم معالباطل ...سلسلة متوالية من محطات الاختيار ...منها ما هو لنفسه فقط ...يأكل أم لايأكل ..ومنها لنفسه وللآخرين ...يذهب يمينا أم شمال ...ومنها لنفسه وللآخـرينولربه ....يكون مـع الحق أم مـع الباطل ...؟!!
    وفي كل هذه المحطات يتوجب عليه ان يكونواعيا لما يختار فقد يختار ان يأكل أكلا فيضره
    وان يكون منصفا فقد يختار ما ينفعهويضر ألآخــرين ...وكذلك ان يكون على بصيرة من أمــره كي لا يختار ما يسخط اللهوالناس عليه فيختار الباطل على الحــق ....المهم ان لايكون ( إمًعــة ) , فكثير منالناس يعيش كإلإمعة , يحيا ويموت وهو لا يحسن الاختيار ..! او قد يعيش والغيريختار له ...التيار يسيره كالقشة التي يسيرها الماء تسبح من دون مقاومـة , ولهذافالرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يقول :
    لا تكونوا إمعة ، تقولون : إن أحسنالناس أحسنا ، وإن ظلموا ظلمنا ، ولكن وطنوا أنفسكم ، إن أحسن الناس أن تحسنوا ،وإن أساؤوا أن لا تظلموا. - والإمام الصادق ( عليه السلام ) - لرجل من أصحابه - :لا تكونن إمعة ، تقول : أنا مع الناس وأنا كواحد من الناس ,وعن ابن مسعود انه كانيقول :اغد عالما لو متعلما ولا تغدون إمًعة..الامًعة هو الذي لا رأي له فهو يتابعمع كل واحد على رأيه ....
    ومن هنا يتضح لنا ان هناك محطات اختياريجب على الانسان ان يقف عندها ليحسن الاختيار ...وقبلها ان ينمي قدرته علىالاختيار ....كيف ؟!
    علماء الاجتماع يقولون ان التنشئةالاجتماعية هي التي تتكفل بذلك ...اي ان نقطة البداية هي البيت ...الاب ...الام...
    علماء النفس والتربية يقولون ان مرحلةسن الطفل من الثالثة الى الخامسة هي المرحلة الامثل لاكسابه الاخلاق والقيم والمثل ...والامام علي (عليه السلام) يقول : النقش بالصغر كالنقش في الحجر ....
    في هذه المرحلة يتوجب على الاب والامان يغرسوا في نفوس اطفالهم الاخلاق والقيم والمثل استنادا الى ما جاء به القرآنالكريم والسنة النبوبة الشريفة ....بعد ان يرسخوا في ذهنيته اركان التوحيد,,,والرسالة والرسول بشكل يتلاءم مع سنه ...فالطفل في هذه المرحلة مكتسب من غيرنقاش ...فإذا ما تعداها تبلورت في داخله (الانا ) ...فإذا قلت له (أنا)اريدك انتنام في الساعة الكذائية ...فهو ايضا يقول في داخله (أنا ) لا أريد ان أنام ...أنامقابل أنا
    ولكن قبلها إن كان الاب او الام قد رسخفي نفسيته التسليم بأن كل تصرف من تصرفاته يجب ان يكون بناءا على ما جاء به الدين(ألايات القرآنية ) ورسوله الاكرم (السنة النبوية ) وعودوه على ذلك من خلالتعاملهم وتصرفاتهم هم انفسهم ...فلن يضع ( أنا ) الخاصة به مقابل ذلك...فمثلا صحيحجدا ان تقول له النظافة تقيك الامراض ولكن الاصح أن تربطه بالسنة فتقول لأن(النظافة من الايمان ) او أن تاتي بلإثنين معا ....
    المشكلة هي إننا في هذه الايام ينطبقعلينا المثل ( فاقد الشي لا يعطيه ) فأغلب المربين هم انفسهم قد لا يمتلكون هذهالمقومومات ..فقد استبدلوها بالثقافة الغربية واصبحوا بعيدين عن قيمنا الاسلاميةالحقة ... واصبح المعيار في ( محطات الاختيار ) مختلف وبالتالي اصبحت خياراتناغريبة ومستهجنة ....واستمرءناها ( تقبلناها من دون معارضة ) وابحرنا في بحــر لجيلا نعرف اين سيصل بنا ......
    · كلما قرأت القرآن الكريم ومرتعلي الايات التي تتحدث عن موسى (عليه السلام ) , اتوقف قليلا واتمعن بالحوادث التيبلورت محطة من محطات الاختيار في حياة هذا النبي الذي يحبه نبينا الكريم ويخصهبمكانة عجيبة حيث يقول عنه (أ كثروا من الصلاة على موسى, فما رأيت أحدا منالانبياء أحوط على أمتي منه )
    في هذه المحطة وقف النبي موسى (عليهالسلام ) ليختار في أي صف سيقف ...!
    فهو قد عاش في بيئتين مختلفتين كلالاختلاف , بيئة مرضعته ( امه الحقيقة )وبيئة امه بالتبني ( آسية) زوجة الطاغيةفرعون .
    البيئة الاولى بائسة وفقيرة , خائفةومبتلاة بالظلم الفرعوني , بيوت بسيطة من طين , اناس مقهرين , جهل وامراض منتشرة ,لكن موسى(عليه السلام ) يحبهم لانه منهم ,فهو من بني اسرائيل , ويشعر بكل معاناتهم وبؤسهم ويتعاطف معهم ويتألم لوضعهم , وهمكذلك قد احبوه , فالشعور بالإنتماء اليهم يسيطر عليه .
    البيئةالثانية تماما على العكس منهاحيث السلطة والجاه والرفاهية والحرية , وحيث الخدم والحشم وكل مباهج الحياةالرغيدة في زمنه , فهو الامير موسى , ابن فرعون العظيم , يتحقق ما يصبو اليهبأشارة اصبع فهو ابن الملك , علاوة الى ذلك محبة زوجة فرعون ودعمها المعنوي ,فموسى (عليه السلام ) مفروض على فرعون من قبل زوجته ( آسية) , وفرعون ما زاليتساءل عن السر الذي يجعل موسى (عليه السلام ) مترددا على بني اسرائيل وبشكل ملفتللنظرواحيانا يلمح بذلك امام زوجته و(آسية ) تحامي له . نعم , فتصرفات موسى (عليهالسلام )وسلوكياته وآراءه تثير قلق الطاغية , فهو متحامل عليه ولكن ..لا حيلة له اماممحاماة ( آسية ) لموسى (عليه السلام ) , ويتربص به الفرص ,وموسى (عليه السلام )يشعر بذلك , ولكن لديه أمل وهدف ......
    تصور نفسك عند هذه المحطة ....ماذاتختار ....حياة الدعة والرغد ...ومالي والناس ...فلهم رب يحميهم ...أم حياة البؤسوالشقاء والذل والفقر وان ترفع هذا الظلم والحيف النازل على بني جلدتك ... وان تقفوتنصر الظلومين ...؟؟!!
    وليذهب فرعون وقصره ورفاهيته الىالجحيم ...فحياة الذل بحرية اهون بكثير من حياة ( الامير موسى ) وقلبك يتحرق الماًلبني قومك ...؟!!
    نعم ! انا متاكد جدا من انك ستختارالبيئة الثانية , لتكون نصيرا للمظلومين ..موقف جميل ....ولكن ... مجرد الاختيار(النية ) لا يكفي ...يجب ان تترجم النية الى فعل او حركة بداية ولو بسيطة...لتتنزل المباركة الالهية ( اسعى ياعبدي ... وانا اسعى ) ...
    فكثير منا لديه الكم الوفير من النياتالطيبة ولكنه متقاعس عن الحركـة ...ولا ينظر بعين الله ...وينتظر العون من الناسوينسى المعين الحقيقي وهو الله سبحانه وتعالى ...
    فموسى (عليه السلام ) قد حرض بنياسرائيل ضد بؤسهم وهوانهم وضد الطاغية فرعون ...وجمع شيعة ومؤيدين له ...ولكنهممازالوا مترددين ...فأين موسى الفرد الوحيد وهم ضعفاء واذلاء وإن كان قويا بشخصهالى جانب فرعون الجبار الطاغية وجنوده وجبروت القوة ...؟!
    بات موسى مترقبا الفرصة السانحة وكلهامل في السماء ...ينتظر وهوموقن من عون ربه ...وتوالت عليه الاحداث سريعا , اشارة الى ساعة الصفرالتي كان ينتظرها
    (ودخل المدينة على حين غفلة من أهلهافوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوه فاستغاثه الذي من شيعته علىالذي من عدوه فوكزه موسى فقضى عليه قال هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين [القصص 15 ] * قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم [ القصص16 ] * قال رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين [ القصص 17 ]
    أود هنا ان الفت النظر الى نقاط ستكونلنا عونا على فهم الاحداث التالية التي ستمر علينا واولها ( ان له شيعة أي اتباع )والثانية ( الوكز ) وهو الضرب بجماع اليد (القبضة ) , وبما ان موسى (عليه السلام )كان قويا مفتول العضلات حسب ما ترويه الروايات فجاءت ( وكزته ) قاضية للمصري وهذاما تؤكده الاية حيث قالت ( فقضى عليه ) ولم تقل ( فقتله ) , والثالثة قول موسى(عليه السلام )...( هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين)...انه انتبه الى تسرعهلنصرة الذي من شيعته دون التأنًي , فقد يكون الذي ( من شيعته )هو الباغي , وهذاماصرحت به الايات التي اشارت الى اللقاء الثاني ( انك لغوي مبين ) كما سيمر علينا, والرابعة والاخيرة والاهم , قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هوالغفور الرحيم, فأسالك عن المسافة بين (فاغفر لي) وبين (فغفر له) ...لاحظ...الاجابة فورية , وكذلك قول موسى (عليه السلام ) (رب بما أنعمت علي) فكيف تأكـدله ان الله قد غفر له؟؟!فهو عليه السلام كان مخلصا في التوكل على الله ومخلصا فيالتوجه الى الله بالمغفرة ,, وكذلك كل منا يمكن ان يحصل على نفس النتيجة اذا توجهمخلصا الى ربه واناب فباب التوبة مفتوحة للراجين ...فقط اطرق الباب مخلصا...؟!فالإطئمنان ملئ قلب موسى (عليهالسلام ) فعرف ان الله غفر له
    17 ] * فأصبح في المدينة خائفا يترقبفإذا الذي استنصره بالامس يستصرخه قال له موسى إنك لغوي مبين [ القصص 18 ] * فلماأن أراد أن يبطش بالذي هو عدو لهما قال يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسابالامس إن تريد إلا أن تكون جبارا في الارض وما تريد أن تكون من المصلحين [ القصص19 ]
    عودة سريعة الى الايات السابقة ,الحادثة الاولى دارت بين ثلاثة اشخاص , موسى (عليه السلام ) والمصري والذي منشيعته , موسى (عليه السلام ) وكز المصري فقضى عليه , فلم يبق شاهد على الواقعة إلاهو والذي من شيعته , فالقول (قال يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالامس )يصبح لنفس الذي من شيعته هذا من جهة ومن جهة ثانية ....فموسى (عليه السلام ) هنالم يتسرع عندما اراد ان يتدخل كما فيالمرة السابقة بديل (أن أراد ) وتعني التانٍي....مع ذلك فلإختيار لم ينضج بعد
    فقد انتبه موسى (عليه السلام ) الىنقطة جوهرية جدا حينما قال له الذي من شيعته
    (إن تريد إلا أن تكون جبارا في الارضوما تريد أن تكون من المصلحين )..ان الاصلاح لا يكون يالقتل والجبروت , والا سيصبححالك حال فرعون الطاغية الجبار ...!!....يــاه فلإختيار لم ينضج بعد ولم يكتمل....اذاً فأخرج ياموسى الى مدين , وابق فيها عشرة سنين , انك بحاجة الى الخلوة معنفسك والى النضج اكثر واكثر , فان الله سيختارك من عباده لتكون كليما له وهي منزلةلم يعطاها احد من قبل الا انت وحبيبه المصطفى ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عندسدرة المنتهى !
    انا لا ادعي القدرة على التفسير , فهوليس من اختصاصي , ولكن استعنت بما فهمته من التفاسير والمحاضرات القرآنية بغية انارسم صورة واضحة قدر الامكان للاحداث قصد استخلاص العبرة من القصص القرآنية, وإلافلا فائدة ترجى من سرد احداث مشوهة وغير مفهومة .
    انا هنا احاول ان انقل تجربتي الشخصية, فكلما توضحت لي صورة الاحداث للقصص القرآنية , اجدني انشد اكثر واكثر الى القرآن, وهذا ما احاول مشاركتك به . والحقيقة إن هذه الآيات حبيبة الى قلبي ( وكلها اليحبيبة ) ولكنها كانت السبب في انشدادي الى الكتاب العزيز اكثر من قبل .
    ارجو من الله سبحانه وتعالى ان اكون قدوفقت الى ما يقربني اليه زلفى فهو ولي في الدنيا والاخرة وعليه توكلي والحمد للهفي الاولى والاخرة وصلى الله على حبيب قلوبنا محمد وعلى آله وسلم .

    محمد الحلـــي

    438 ﻣﺮﺓ ﻗﺮﺃ