الحق الدامغ ( المبحث الأول)

    • الحق الدامغ ( المبحث الأول)

      الحق الدامغ
      لسماحة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي مفتي عام السلطنة

      --------------------------------------------------------------------------------


      المبحث الأول

      الفصل الأول- في رؤية الله

      المقدمة

      الحمد لله الذي اصطفى لعباده الدين فوحَّد به بين فئات المؤمنين ، وألَّف بنظامه بين قلوب المخلصين ، سبحانه هو الواحد في ذاته المتقدس في صفاته المتعالي في كبريائه ، الخالق لما في أرضه وسمائه { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}1 ، {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وُهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ}2 ، الصادق في الوعد والوعيد ، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ، لا معقِّب لحكمه ولا تبديل لكلماته ، ولا إخلاف في ميعاده ، أحمده حمد من آمن بجلاله واعترف بكماله ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له {لَهُ الحَمْدُ في الأُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}3 ، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله وخيرته من خلقه وصفوته من رسله ، أرسله بأصدق البينات وأظهر الآيات وأبهر المعجزات فأكمل به الدين وأتم به النعمة على عباده المؤمنين ، صلى الله وسلم تسليماً عليه ، وعلى آله وصحبه أجمعين ، وعلى تابعيهم بإحسان إلى يوم الدين ، أما بعد:

      فإن التباين في أحوال الناس سمة من سمات البشر المعهودة ، فلذلك تجدهم متفاوتين في المدارك ، مختلفين في المشارب ، متعاكسين في الأحاسيس ، وإلى ذلك يرجع تعدد مذاهبهم في الأمر الواحد ، وتباين تصوراتهم في القضية الواحدة {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ ، وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ}4 ، وكثيراً ما تتأصل الحَمِيَّةُ في نفوسهم فلا تلبث مع استمرار الوقت وعوامل الزمن أن تتحول إلى عقيدة راسخة مستحكِمة في العقل والوجدان ، مستعصية على الحجة والبرهان ، لا تتزعزع لمحرك ، ولا تنقاد لداع .

      ولذلك كانت دعوات المرسلين عليهم السلام تستفرغ منهم الجهد الجهيد ، وتستغرق منهم الوقت الطويل ، وتظل مع ذلك أفكار أكثر الناس سادِرَة في غيِّها ، غارقة في عَمَاها ، لا تصغى إلى الحجج الصادعة ، ولا تتفتح على المعجزات الساطعة ، بل كلما ازدادت الحجة بياناً ، والمعجزة ظهوراً ، كانوا أشد تصامماً وتعامياً ، وأوغل في العناد والشقاق .

      وقد ابتليت كل أمة بالإفتراق فيما بينها والإنشقاق على نفسها ، ولم تَسْلَم من ذلك أمة حتى أمة محمد صلى الله عليه وسلم التي اختصت بمَبْعَث أعظم رسول إليها ، وإنزال أجلّ كتاب عليها ، وحُذِّرت أيما تحذير من الإفتراق ودواعيه ، وبُيِّنَت لها عاقبته السيئة في محكم آيات الكتاب الذي اختصت به ، قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا}5 ، وقال سبحانه: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءهُمُ البَيَّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}6 ، وقال: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}7 ، وقال لنبيه عليه أفضل الصلاة والسلام: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ في شَيْء}8 ، فإنها مع ذلك كله لم تسلم من هذا الدَّاء العُضال الذي أصاب غيرها من الأمم ، غير أن الله سبحانه اختصها بأن حَفِظَ لها كتابها المُنَزَّل عليها من تحريف العابثين وتبديل المناوئين تحقيقاً لوعده الصادق {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}9 ، ومَكَّنَ لها من معرفة الصحيح الثابت من سنة رسوله عليه الصلاة والسلام ، وجعل لها مَخْلَصاً من الشقاق والنزاع بالإحتكام إلى الله ورسوله حيث قال: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ في شَيْء فَرُدُّوهُ إِلى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}10 ولا يكون الإحتكام إلى الله إلا بالرجوع إلى كتابه فتُسْتَلْهَم منه الحقيقة ويُسْتَبان به الحق ، وكذلك الإحتكام إلى رسوله صلى الله عليه وسلم لا يعني إلا بالرجوع إلى سنته الثابتة الصحيحة .

      ومع وجود هذا المَخْلص الذي أُمرنا بأن نَفْزَع إليه من كوارث الإختلاف فإن الخِلاف لم يزل ، والشقاق لم يُسْتَأصَل ، فقد تُؤُوِّل الكتاب تأولات شتى لم تُسْتَمَد إلا من الوهم ، ولم تُستلهم إلا من الهوى ، كما أن للناس مواقف متعددة في معرفة الصحيح من غيره من سنته عليه أفضل الصلاة والسلام ، وفي معرفة نفس مقاصد السنة الثابتة باتفاق الجميع ، ومن هنا نشأ ما نراه بين الأمة من خلاف ونزاع في أصول الدين وفروعه .

      وإن أعظمه ضرراً ، وأفدحه خطراً ، وأعمقه أثراً ، وأسوأه عاقبة ما كان في أصول الدين ، فإنها قواعد الإسلام ؛ بها تقوم أركانه ، وعليها يُشاد بنيانه ، وبقدر ما تكون قوتها تكون متانة الدين نفسه ، ولأجل ذلك فإن الأمة كثيراً ما تتسامح في الخلاف الذي يكون بين فئاتها في فروع الشريعة ، ولكن يشتد شقاقها ، ويتعمق نزاعها عندما تختلف في الأصول ، وبقدر ما يكون من التقارب أو التباعد فيها بين طائفة وأخرى بقدر ما بينهما من التلاقي أو الإفتراق ،

      وما مصدر ما حدث ويحدث بين طوائف الأمة من التراشق بالتُّهَم والتنابُز بالألقاب ، والترامي بالأحكام القاسية إلا الإختلاف في أصول دينها ، والتباين في منازع استنادها في معتقداتها بين الإفراط والتفريط في التعويل على النقل أو العقل .

      وليس هذا النزاع في أصول الدين مع وحدة المصدر الذي تَنْهَل منه العقول المتنازعة إلا نتيجة لتباين المدارك واختلاف التصورات عند أئمة الفرق ، ثم يؤصله تعصب الجماهير لأقوال أئمتهم بحيث تجعل كلُّ طائفة قولَ إمامها أصلاً تُطوِّع له الأدلة المخالفة له بكل ما تخترعه من التأويلات المتكلفة ، فتوزعت الأمة شيعاً وأحزابا {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}11

      ولستُ أبالغ إن قلتُ إن الإباضية - أهل الحق والاستقامة - تمتاز عقيدتهم وتتسم طريقتهم في فهم أصول الدين بثلاثة أمور :

      سلامة المَنْزَع ، فإنهم جمعوا في الإستدلال على صحة معتقداتهم بين صحيح النقل وصريح العقل ، فلم يضربوا بالنصوص الصحيحة عرض الحائط بمجرد تعارضها مع مقتضيات العقل بادي الرأي كما هو شأن أصحاب المدرسة العقلية الذين جعلوا العقل أسمى وأقدس ، وأصح وأثبت مما جاء به النبييون عن الله عز وجل ، فعَوَّلُوا عليه في التحسين والتقبيح ، والتعليل والحكم ، كما أنهم لم يُطفئوا شُعلة العقل مستأسرين لظواهر الألفاظ غير مسترشدين به في استكشاف أبعاد معانيها ، والغوص على حقائق مراميها ، كما هو شأن عَبَدَة الألفاظ الذين لا يأخذون من النَّص إلا قُشوره ، لا يتجاوزون شكله إلى جوهره ، ولا يتعدون ظاهره إلى مضمونه ، بل استمسكوا بالعُرَى الوثقى من النصوص ، واتخذوا من العقل السليم دليلاً على فهم مقاصدها ، ومن الأساليب اللغوية شراكاً لاقتناص شواردها ، ولا غَرْوَ فَهُم منطلقون في ذلك من مراشد القرآن نفسه ، فكم تجد فيه {لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} و {لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} و {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} و {لأُولِي الأَلْبَابِ} كما تجد فيه {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِياًّ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}12 ، فهو وإن سما فوق بلاغة بلغاء العرب والعجم لم يخرج عن كونه عربي اللسان والأسلوب ، وقد يسره الله للذكر بتفهم آياته واستجلاء مقاصده ، واستلهام مراشده
      -1
      عدم التعصب لأئمتهم تعصباً يجعلهم يتصاممون عن النُّقُول الصحيحة ، ويتعامون عن العقول الصريحة ، كما نجد ذلك عند كثير من المتفقهة والمتكلمين ، ومن أبشع ما وجدناه في ذلك قولُ العلامة الصاوي في حاشيته على تفسير الجلالين : (ولا يجوز تقليد ماعدا المذاهب الأربعة ولو وافق قول الصحابة والحديث الصحيح والآية ، فالخارج عن المذاهب الأربعة ضال مضل ، وربما أداه ذلك للكفر ، لأن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر)) 13 فقد باين الإباضية هذا المسلك الضيق فقهاً وعقيدة إلى فسيح النظرة الشمولية للأمة ، ولم يسوغوا لأنفسهم أن يرفعوا كلام أحد من أئمتهم إلى درجة كلام الله أو كلام رسوله عليه أفضل الصلاة والسلام وإن بلغ في العلم والورع ما بلغ ، فهذا الإمام نور الدين السالمي رحمه الله يقول في كتاب أصول الدين من جوهر نظامه: 14

      وهي أمــور تُبْتَنَى عليها صحــة ديننا فمِل إليها
      لا دين للمرء إذا لم يعرف ما كان مـنه لازماً فلتعرف
      واعْتَمِدَنْ ذلك بالدليـــل في حالة الإجمال والتفصيل

      إلى أن قال:15

      ولا تُناظــر بكتاب الله ولا كلام المصطفى الأواه
      معنــاه لا تجعل له نظيرا ولو يكون عالماً خبـيرا

      ويقول أيضاً :

      نُقــدِّم الحديث مهما جاءَ على قياسنا ولا مراء
      ونَرْجِعَنْ في بيان الحكم عنه إلى إجماع أهل العلم

      وستجد أخي القارئ الكريم فيما أقدمه إليك ، وفيما دوَّنه غيري من الإباضية ، ما يدلك دلالة قاطعة على صحة ما ذكرته لك ، من أن أهل الاستقامة - والحمد لله - بريئون من هذا الأصل الذي رضيَه الصاوي بأن يكون القاعدة التي يقوم عليها صرح الإسلام ، كما ستجد إن شاء الله أن الصاوي ليس وحيداً في هذا الميدان ، فهناك من مشى على نفس هذا المنهج كما يدل على ذلك مسلكه في النقاش ، وستجد ذلك إن شاء الله أثناء مطالعتك لهذه الدراسة التي أقدمها إليك ، ولا يعني ذلك أن جميع المذاهب الأربعة منغمسون فيما انغمس فيه الصاوي وغيره من حَمَأَةِ التقليد البغيض ، ورفع أقوال الأئمة إلى مستوى أرفع من مستوى كلام الله ، وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأقوال الصحابة رضوان الله عليهم ، كلا فإن كثيراً منهم تحرروا من ربقة هذا التقليد الأعمى وأنصفوا مخالفيهم في الحكم ، كما ستجد ذلك أيضاً إن شاء الله في هذه الدراسة .16
      -2
      المرونة والتسامح في معاملة سائر فرق الأمة وإن بلغ الخلاف بينهم وبينهم ما بلغ ، إذ لم يتجرءوا قط على إخراج أحد من الملة وقطع صلته بهذه الأمة ما دام يدين بالشهادتين ولا ينكر شيئاً مما علم من الدين بالضرورة بغير تأويل ، أما من أسند إلى التأويل - وإن كان أوهى من نسج العنكبوت - فحسبه تأويله واقِيَاً لَهُ من الحكم عليه عندهم بالخروج عن حظيرة الأمة ، وخلع ربقة الملة عن عنقه ، ومن هذا المنطلق صدر ذلك الإعلان المنصف - الذي رسم مبدأ الإباضية في نظرتهم إلى الأمة - من أشهر قائد إباضي وهو / أبو حمزة المختار بن عوف السليمي ، في خطبته التي ألقاها على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأصاخ لها الدهر ، وسجلها الزمن ، وخلدها التاريخ ، إذ قال فيها رحمه الله : ( الناس منا ونحن منهم إلا ثلاثة : مشركاً بالله عابد وثن ، أو كافراً من أهل الكتاب ، أو إماماً جائراً ) 17

      وقد مشى الإباضية في هذا النهج السليم ، والتزموا هذا المبدأ القويم في معاملتهم لسائر طوائف الأمة كما يشهد بذلك التاريخ ، ونجد هذه النبرة المنصفة تتردد في أصوات قادة الفكر منهم في الخلف كما كانت من قبل عند السلف ، فهذا الإمام نور الدين السالمي رحمه الله تعالى يحدد لنا موقف الإباضية من سائر الأمة بقــــوله:18

      ونحن لا نطالـب العبادا فوق شهادتيهــم اعتقادا
      فمن أتى بالجملتـين قلنا إخواننا وبالحقــوق قمنا
      إلا إذا ما نقضـوا المقالا واعتقدوا في دينهم ضلالا
      قمنا نبين الصواب لهـم ونحسبن ذلك من حقهـم
      فما رأيته مـن التحـرير في كتب التوحيد والتقرير
      رد مسائل وحـل شـبه جاء بها من ضـل للمنتبه
      قمنا نردهـا ونبدي الحقا بجهدنا كي لا يضل الخلقا
      لو سكتوا عنا سكتنا عنهم ونكتفي منهم بأن يسلـموا

      وعلى هذه القاعدة بنى الإباضية حكمهم على طوائف الأمة التي زاغت عن الحق وجانبت الحقيقة في معتقداتها ، فكانوا أشد احتياطاً من إخراج أحد منهم من الملة بسبب معتقده مادام مبنياً على تأول نص شرعي ، وإن لم يكن لتأويله أساس من الصحة ولا حظ من الصواب ، ومن هنا اشتد إنكار الإمام الكبير محبوب بن الرحيل - رحمه الله تعالى - على هارون اليماني الذي حكم بشرك المشبهة وخروجهم من الملة ، وأنشأ محبوب في ذلك رسالتين جامعتين ضمنهما حججه الداحضة لرأي هارون ، وجَّه إحداهما إلى إباضية عمان ، وثانيهما إلى إباضية حضرموت 19 ، وأطبق الرأي الإباضي على تصويبه وتخطئة هارون .

      وسُئِل المحقق الخليلي رضوان الله عليه عن حكم هؤلاء المشبهة هل هم مشركون ؟ فكان جوابه لسائله :

      إياك ثم إياك أن تعجل بالحكم على أهل القبلة بالإشراك من قبل معرفة بأصوله ، فإنه موضع الهلاك والإهلاك20

      هذا في حين تجد أتباع الأئمة الأربعة - الذين جعلهم الصاوي مقياساً لمعرفة الحق من الباطل دون الكتاب والسنة - يكفر بعضهم بعضاً في هذه المسألة ، وناهيك بما في ( السيف الصقيل في الرد على ابن زفِّيل ) للعلامة السبكي الشافعي ، و ( تبديد الظلام المخيم من نونية ابن القيم ) للعلامة الكوثري الحنفي ، و ( البراهين الساطعة في رد بعض البدع الشائعة ) للعلامة القضاعي الشافعي ، وأمثالها من الحكم بإخراج هؤلاء المشبهة عن حظيرة الإسلام ، كما أن أحكام المشبهة على الآخرين لا تقل صرامة وشدة ، وناهيك بقول العلامة ابن القيم في نونيته :

      إن المعطل بالعداوة معلن والمشركون أخف في الكفران

      وما مراده بالتعطيل إلا رد متشابه الآي والأحاديث إلى محكمها ، حرصاً على التنزيه ، وحملاً لكلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم على ما تقتضيه أساليب البلاغة في كلام العرب ، ودفعاً لما عسى أن يُتوهم منه من التناقض والاختلاف .

      ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل تجد المتفقهين على مذهب إمام واحد من هؤلاء الأئمة الأربعة يشرِّك بعضهم بعضاً في هذه المسألة أو في غيرها ، فهذا الفخر الرازي يسمي كتاب محمد بن إسحاق بن خزيمة - الذي أسماه كتاب التوحيد - كتاب الشرك 21 ، وهما شافعيان فقهاً ، وسوف تقف إن شاء الله في المبحث الثالث من هذا الكتاب على نقول حرفية من كلام ابن تيمية في اختلاف الحنابلة في ألفاظ القرآن وحروفه وأصواته ، وتكفير بعضهم بعضاً في ذلك ، ولا أريد أن أطيل في ضرب الأمثلة وتعديد الشواهد في هذا ، فإنني لم أرد بما ذكرته التشهير بأحد ، وإنما هو أمر اقتضته المقارنة بين احتياط الإباضية في الحكم وحذرهم من الاندفاع ، وبين تسرع بعض علماء الأمة الآخرين في إصدار مثل هذه الأحكام التي لا تؤول إلا إلى صدع جدار الأمة وتمزيق شملها ، وهو أمر يستدعي أسف اللبيب وحسرته ، كيف تنزل هذه الأمة إلى ميدان الشقاق والنزاع بينها ، متجاهلة ما فرض الله عليها من الوحدة والوئام ، والألفة والانسجام ، ألم يأمرها الله بذلك في محكم كتابه بقوله : ( واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها 22 ؟! ألم يحذرها من عاقبة التفرق بقوله : ( ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم )23؟! ألم يبعث فيها نبياًّ كريماً ، ورسولاً أميناً يدعو إلى الوحدة دعوته إلى التوحيد فضرب فيها أروع الأمثال بصهر كل ما كان من قبل بين قومه من خلاف ونزاع في بوتقة الإيمان ، فآخى بالإيمان بين الفئات المتناحرة ، وألَّف بالإسلام بين القلوب المتنافرة ، وبيَّن أن هذه الوحدة هي وحدة عقيدة وعمل ، ومبدأ وغاية ، وأمل وألم ، وصوَّر ذلك أبدع تصوير عندما قال : ( المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا ) وقال : ( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر ) .
      -3

      أليست هذه الوحدة الإيمانية التي نادى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ورفع لوائها بين أصحابه رضي الله عنهم وهي التي رفعت من شأن هذه الأمة فأبدلها الله بذلها عزا ، وبضعفها قوة ، وبضعتها رفعة ، فتمكنت من فتح الدنيا مع قلة عددها وعدتها ، وكثرة خصومها ، ووفرة العُدَدِ عندهم ؟

      أو ليس ما بليت به من الشقاق هو الذي عكس عليها ما نشهده من آثار سلبية في أوضاعها ، فتشتتت بعد الوحدة ، وذلت بعد العزة ، وضعفت بعد القوة ، فازدرتها الأعين التي كانت تكبرها ، وطمعت فيها الأمم التي كانت لا تصطلي بنارها ؟ ليت شعري ! ألا صحوة بعد هذه السكرة ، ويقظة بعد هذه النومة التي غرقت فيها عقول هذه الأمة وفي مقدمتها علماؤها الذين ائتمنهم الله دينه وأخذ عليهم العهد أن يأخذوا بأيدي أمتهم إلى سبيل الرشد .

      يا ساسة الدين عـلام وهنكـم وأنتـم في عـدة وعـــدِّ ؟
      تختلفـون الرأي فيما بينكــم والحال إخفاق ونقض عهــد
      وخَلفكــم من يستغل خُلفكـم في وثبة السمع وسمـع الخلد
      يخالكــم كالشاء في مسرحها فإن دعــاها رئمت لولــد
      هلم في صدق العــزوم إنها ســلاح كل أمة وفـــرد
      يا للضـلال أن نضل قصدنا كالسادة النادي وشيخ نجــد
      نرتع في غيبوبة من أمــل ونرتضي من العلى بالوهــد
      نحس بالآلام في أنفســـنا لكــنها مني عليَّ وحــدي
      ونغمد السيف عن الخصم ولا نقــره عن دمنا في غمــد
      أهكـــذا قالت لنا عقولنا ؟ أم أنها قد أخطأت عن قصد ؟
      أم أنها ليست لها بصـيرة ؟ أم أنها بصيرة لا تجـــدي؟
      يا حالة قد أفقدتني عصـبي رميت فيمن كنته بالفقـــد
      مولاي عبد تاه في مرامـه عن نهجه وأنت مولى العـبد
      فخذ بضبعه وأمة هــوت تحت الخلافات وبثق الســد
      مستفتحين بأياديك الغــنى والعز والنصر وكل جَـــدِّ
      فاجمع شتاتنا وأصلح شأننـا واقض لنا على ظلوم نـــد 24

      ولعله مما يفاجئ كثيراً من القراء أن يطلعوا لأول مرة على عناية قادة الفكر من الإباضية بلمِّ شعث هذه الأمة وجمع شتاتها بعدما أثخنتها الخلافات المذهبية ، ومزقتها النزعات العصبية ، وكم تمنوا أن يحس سائر أعلام الأمة بمثل أحاسيسهم ، ويشاركوهم في هذه الهموم التي تنوء بها صدورهم ، وتؤرق ليلهم ، وتقض مضجعهم ، وقد كانت منهم محاولات ، للخطو في هذا الطريق والاستعداد لهذه المهمة بنفقات مالية يرصدونها من جيوبهم وجيوب المخلصين من سائر أبناء الأمة ، وأصدق مثال على ذلك ما يجده القارئ في هذا السؤال الذي صدر من عالم مفكر وقائد محنك ، ذلكم هو الشيخ سليمان بن عبدالله بن يحيى الباروني ، عضو مجلس المبعوثان بالدولة العثمانية ، المشهور بسليمان باشا الباروني ، وهو من إباضية جبل نفوسة بالقطر الليبي ، وقد توجه بسؤاله هذا إلى عالم الإباضية بالمشرق ، ومرجعهم في أمور الدين ، الإمام عبدالله بن حميد السالمي ، ونص السؤال :

      هل توافقون على أن من أقوى أسباب اختلاف المسلمين تعدد المذاهب وتباينها ؟ على فرض عدم الموافقة على ذلك فما هو الأمر الآخر الموجب للتفرق ؟ على فرض الموافقة فهل يمكن توحيدها بالجمع بين أقوالها المتباينة وإلغاء التعدد في هذا الزمن الذي نحن فيه أحوج إلى الاتحاد من كل شيء ؟ وعلى فرض عدم إمكان التوحيد فما الأمر القوي المانع منه في نظركم ، وهل لإزالته من وجه ؟ على فرض إمكان التوحيد فأي طريق يسهل الحصول على النتيجة المطلوبة ؟ وأي بلد يليق فيه إبراز هذا الأمر ؟ وفي كم سنة ينتج ؟ وكم يلزم من المال تقريباً ؟ وكيف يكون ترتيب العمل فيه ؟ وعلى كل حال فما الحكم في الساعي في هذا الأمر شرعاً وسياسة ؟ مصلح أم مفسد ؟ .. وكان هذا السؤال في عام 1326هـ .

      فكان من جواب ذلك الإمام له :

      نعم نوافق أن منشأ التشتيت اختلاف المذاهب وتشعب الآراء ، وهو السبب الأعظم في افتراق الأمة على حسب ما اقتضاه نظركم الواسع .
      وللتفرق أسباب أخرى منها ، التحاسد والتباغض ، والتكالب على الحظوظ العاجلة ، ومنها طلب الرئاسة .
      وجمع الأمة على الفطرة الإسلامية بعد تشعب الخلاف ممكن عقلاً مستحيل عادة ، وإذا أراد الله أمراً كـان (لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم )25
      والساعي في الجمع مصلح لا محالة ، وأقرب الطرق له أن يدعو الناس إلى ترك الألقاب المذهبية ويحضهم على التسمي بالإسلام ( إن الدين عند الله الإسلام )26 ، فإذا أجاب الناس إلى هذه الخصلة العظيمة ذهبت عنهم العصبية المذهبية ولو بعد حين ، فيبقى المرء يلتمس الحق لنفسه ويكون الحق أولاً عند آحاد من الرجال ثم يفشو شيئاً فشيئاً حتى يرجع إلى الفطرة .
      وهي دعاية الإسلام التي بعث بها محمد عليه الصلاة والسلام ، وتضمحل البدع شيئاً فشيئاً ، فيصير الناس إخواناً ( ومن ضل فإنما يضل عليها )27 ، ولو أجاب الملوك والأمراء إلى ذلك لأسرع الناس في قبوله ، وكفيتم مؤونة المغرم ، وإن تعذر هذا من الملوك فالأمر عسير والمغرم كثير .
      وأوفق البلاد لهذه الدعوة مهبط الوحي ومتردد الملائكة ، ومقصد الخاص والعام ، حرم الله الآمن ، لأنه مرجع الكل . وليس لنا مذهب إلا الإسلام ، فمن ثم تجدنا نقبل الحق ممن جاء به وإن كان بغيضاً ، ونرد الباطل على من جاء به وإن كان حبيباً ، ونعرف الرجال بالحق ، فالكبير عندنا من وافقه والصغير من خالفه ، ولم يشرع لنا ابن إباض مذهباً ، وإنما نسبنا إليه لضرورة التمييز حين ذهب كل فريق إلى طريق . اهـ 28

      وهذا كلام غني عن التعليق بشيء فإنه إن لم يكن شاهداً عادلاً ومعلماً واضحاً على نبل قصد السائل والمجيب وسمو فكرهما ، وحسن أنشودتهما ، فليس يصح في الأذهان شيء.

      وإذا كان الأدب مرآة تعكس ما في نفس الأديب من كوامن الأحاسيس فإن الأدب الإباضي قديمه وحديثه طافح بعصارات مشاعر الألم الذي يحسون به بسبب تشتت الأمة وانحلال عقد نظامها ، وإذا كنت أخي القارئ شاهدت صورة من ذلك فيما نقلته لك من قول أديب معاصر فإليك صورة أخرى تعكس مشاعر أديب بارع وعالم جامع من أدباء هذه الطائفة وعلماءها الغابرين ، وهو العلامة الكبير شاعر الإسلام والمسلمين أبو مسلم ناصر بن سالم البهلاني الرواحي الذي طالما انساب يراعه الموهوب ليصور لنا بعبارته الإيمانية همومه وأحاسيسه تجاه أمته ودينه ودونك هذا المقطع من قصيدة له بعنوان ( أفيقوا بني القرآن ) : 29

      فيا لبني القرآن أين عقولكــــم وقد عصفت هذي الرياح الزعازع ؟
      أمسلوبة هذي النهى من صدورنا ؟ وهل فقدت أبصارنا والمسامــع ؟

      * * *

      فليت بني الإسلام قرَّت صفاتهــم فما زعزعتها للغرور الزعـازع
      وليتهمُ ساسوا بنور محمـــــد ممالكهم إذ باغتتها القواقــــع
      وليتهمُ لم ينحروا بسلاحهــــم نحورَهم إذ جاش فيها التقاطــع
      لقد مكَّن الأعداءَ منا انخـداعُنــا وقد لاح آل في المهامه لامــع
      وسورة بعض فوق بعـض وحملة لزيد على عمــروٍ وما ثم رادع
      وتمزيق هـذا الدين كـل لمذهـب له شِيَع فيما ادعاه تشايـــــع
      وما الدين إلا واحــد والذي نرى ضلالات أتباع الهوى تتقــارع
      ومــا ترك المختارُ ألفَ ديانــة ولا جاء في القرآن هذا التنـازع
      فيا ليت أهل الدين لم يتفرقـــوا وليت نظام الدين للكل جـــامع
      لو التزموا من عزّة الدين شرطـها لما اتضعت منها الرعان الفـوارع
      وما ذبحَ الإسلامَ إلا سُيُوفــــنا وقد جعلت في نفسها تتـــقارع
      ولو سلت السيفين يمنى أخـــوة لدكت جبال المعتدين المصـارع
      وما صدعة الإسلام من سيف خصمه بأعظم مما بين أهليه واقــــع
      فكم سيف باغ حزَّ أوداج دينـــه بأفظع مما سيف ذي الشرك باخع
      هراشاً على الدنيا وطيشاً على الهوى وذلك سمٌّ في الحقيقة ناقــــع
      وما حرَّش الأضغان في قلب مسلم على مسـلم إلا من النعي وازع
      ولو نصـــع القلبان لم يتباغضا ولا ضام متبوع ولا ضيم تابـع
      وما هذه الدنيا لها قدر قيمــــة يضاع له ذخر من الله نافـــع
      وما نال منها طائلاً غير إثمــها وأكدارها المستأثرون الأمانــع
      ولو بعدت في النفس منزعة التقى لما نزعت نحو الشقاق المـنازع

      * * *

      فما بيعنا الحسنى ومرضاة ربـنا بها بيعة يَمنى بها الربح بائــع
      على أي شيء يقتلُ البعضُ بعضَنا وتذكى فظاظات النفوس المطامع

      * * *

      ولو أشربت منا النفوس تبصراً لما كان منها للشرارة ناقــع
      بلى أشربت داءً دخيلاً أصارها كما كمنت في جحرهن الأقارع

      وقد كان من بشائر الخير التي لاحت للأمة مع تباشير إشراقة الصحوة الإسلامية المعاصرة ما كان - بادئ ذي بدء - من التعاطف والتواد والتراحم بين الشباب المسلم الذي أشرقت عليه أنوار هذه الصحوة ، فقد كانوا في بادئ أمرهم لا يلتفتون إلى الخلافات المذهبية ، ولا يشتغلون بالنعرات الطائفية إلا قليلاً منهم ، وهم الذين لم تصقل آثار تلك الصحوة ما تراكم على قلوبهم من الصدأ ، وهؤلاء كانوا مغمورين بالكثرة الكاثرة التي ينصب همها في محيط الإسلام الواسع الذي يجمع ولا يفرق ، ويُوَحِّد ولا يشتت ، وكادت القضايا الخلافية تُلقى في زوايا الإهمال لتصبح في خبر كان ، حتى إذا نضرت هذه الألفة وكادت تؤتي ثمارها الطيبة هاجت عليها أعاصير العصبية العمياء - بعدما حركتها أحقاد غصت بها نفوس ساءتها وحد الأمة - فلفحتها بسمومها التي أذبلت نضارتها ، وقضت على رونقها ، فإذا بالتواد تباغض ، وبالتعاطف تباعد ، وبالترابط تقاطع ، وبالرحمة عذاب .

      وكان أول ضحية لهذا التآمر البغيض هو الإسلام الحنيف ثم الشبيبة المسلمة التي كادت تقلب مجرى التأريخ ، وتعيد إلى حاضر الأمة المشرق ماضيها العريق بضربها أروع الأمثال في الوحدة الإسلامية والترابط الديني ، فقد انتزعت انتزاعاً من حظيرة الوفاق الإسلامي ليدفع بها إلى متاهات من الخلاف والشقاق كان لها بد وأي بد من الدخول فيها والهيام في أرجائها . وليت الأمر وقف عند حدود الجدل والمناظرات ، ولم يصل إلى التكفير وإصدار الأحكام التعسفية الجائرة على كثير من المسلمين ، بإخراجهم من الملة ، وتعريتهم من لباس الإسلام .

      وقد لُزَّ الإباضية فيمن لُزَّ إلى مضائق هذه الفتنة على كره منهم ، فقد كانوا في مقدمة المستبشرين بطلائع الوحدة الإيمانية بين الأمة ، المرتاحين إلى روح الإخاء التي كانت تسود الشباب المسلم على اختلاف فئاته ، فما شعروا إلا ويُكفأ على رؤوسهم وقود هذه الفتنة وتضرم عليهم نيرانها بما صدر فيهم من أحكام التضليل والتبديع والتكفير ، واعتبارهم داءً عضالاً في جسم الأمة يجب استئصاله ولو ببتر الأعضاء التي أصيبت به (وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد)30 ، إذ لم ينقموا منهم إلا تنزيههم الخالق تبارك وتعالى ، وتصديقهم بما نزل في كتابه الكريم وما ثبت من سنة نبيه عليه أفضل الصلاة والتسليم.

      وكثيراً ما تعرض طلبتهم في بلاد الإسلام وغيرها لأنواع المضايقات من قبل إخوانهم وزملائهم - مع ملاحظة ما يكنونه لهم من الود ويضمرونه لهم من الصفاء والخير - حتى بلغ الأمر ببعض سفهاء الأحلام أنهم كانوا يدعون الطلبة الإباضيين إلى إعلان الشهادتين ليكونوا في عداد المسلمين ، كأنهم - في نظر أولئك - من الملاحدة والمشركين .

      وهو أمر يستدعي أسف كل ذي لب ، وحسرة كل من كان له قلب ، كيف ينزل الإباضية أهل الحق والإستقامة هذه المنزلة مع رسوخ قدمهم في التوحيد ، وصفاء مصدرهم في العقيدة ، وما عُرِفوا به بين الخاص والعام من الورع في الدين والخشية من بأس الله ، وما الذي ارتكبه الإباضية حتى ينزل بهم هذا الحكم ، ويُعاملوا بهذه الطريقة ؟؟

      إن أهم ما تذرع به أولئك الذين أصدروا فيهم تلك الأحكام الرهيبة ، وعاملوهم بهاتيك المعاملة النكراء ثلاث قضايا كان للإباضية فيها موقف لم يتفق مع رغبات أولئك الحاقدين ، فعدوا كل قضية منها مبررة للحكم عليهم بالكفر وقطع حبال الصلة بينهم وبين سائر الأمة مع أن الإباضية لم ينفردوا بموقفهم دون سائر طوائف الأمة ، فثم الكثير من الذين رأوا في هذه القضايا رأيهم وأيدوا موقفهم كما سيتضح ذلك من خلال هذه الدراسة إن شاء الله ، على أنهم في كل قضية منها أخذوا بحجز النصوص القرآنية والسنة الثابتة عن الرسولعليه أفضل الصلاة والسلام .. والقضايا الثلاث هي :

      إنكار رؤية الله تعالى

      القول بخلق القرآن

      إعتقاد تخليد الفسَّاق في النار


      وقد انهالت عليَّ أسئلة الطلبة من هنا وهناك عن موقف أصحابنا في هذه القضايا الثلاث ، وما يستندون إليه من دليل ، ونظرتهم إلى أدلة من يقولون بخلاف قولهم ، ولم يكن لطلبتنا من قبل أي اهتمام بالقضايا الخلافية وبحثها ماعدا المتخصصين منهم في دراستها ، وإنما دعاهم إلى هذا الإلحاح في طلب كشف النقاب عن وجه الحقيقة فيها ما يلقونه من عنت ويواجهونه من إحراج من قوم لا يهمهم إلا إثارة شحناء كانت نائمة ، وتسعير فتنة كانت خامدة ، فدعاني ذلك إلى تحرير هذه العجالة التي سوف يجد فيها القارئ الكريم إن شاء الله دراسة وافية لكل قضية من هذه القضايا بتلخيص أدلة كل فريق وبحثها على ضوء قول الله عز وجل وقول رسوله عليه أفضل الصلاة والسلام ، مع استلهام فهم مقاصدهما بالرجوع إلى قواعد اللسان العربي المبين ، الذي شرّفه الله بأن جعله وعاءً للقرآن الكريم وطبع عليه لسان نبيه الخاتم عليه أفضل الصلاة والتسليم ، وستدرك أخي القارئ - إن شاء الله - من خلال دراستك لما أقدمه إليك ، أن الإباضية لم يستمدوا عقيدتهم من فلسفة اليونان وغيرها من أساطير الأولين كما يحلو زعم ذلك للذين يهرفون بما لا يعرفون ، وإنما استمدوه من أصفى ينابيع الحق ، وأَنْوَر أشعة الحقيقة ، فقد احتكموا إلى الكتاب العزيز والسنة المطهرة على صاحبها أفضل الصلاة والسلام ، عملاً بقوله تعالى : ( فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا )31

      وإذا خفيت عن الغبي فعاذر أن لا تراني مقلة عمياء

      وقد كنت حريصاً من قبل على عدم الخوض في مثل هذه القضايا الجانبية وعدم اتخاذ موقف من هذه المهاترات إلا الصمت ، فالحق أصفى وأبين من أن تكدر الشُّبَهُ صَفْوَه أو تحجب نوره .

      وفي تعب من يحسد الشمس ضوءها ويجهد أن يأتي لها بضريب

      ولن يضر هجر المقال إلا قائله دون من قيل فيه ، فما الذي ضر المرسلين وأتباعهم مما قيل فيهم من الإفك ، ورموا به من التهم ، وهذه هي سنة الله في خلقه ( إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون ، وإذا مروا بهم يتغامزون ، وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين ، وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون وما أرسلوا عليهم حافظين ) 32

      وإنا وما تلقى لنا من هجاءنا لكالبحر مهما يلق في البحر يغرق

      ولكني رجَّحت جانب الرد على الصمت تبياناً للحث ودفاعاً عن الحقيقة ، ووقوفاً في وجوه الذين يضرمون الفتن ويؤججون الأحقاد بهذه المحاولات ، لتمزيق شمل الأمة وتفتيت وحدتها ، إذ لا يعلم إلا الله عاقبة هذه الفتنة إذا اضطرمت نارها وحَمِيَ أوارها والعياذ بالله .

      ولعمر الحق إن ما تعانيه اليوم أمة الإسلام من محن وفتن وتشتت وضياع لجدير بأن يستدر لها عطف عدوها اللدود ، ويعتصر لها الرحمة من قلوب خصومها القاسية ، فكيف تسمح بمضاعفة بلائها وإنكاء جروحها من جديد ، بأمثال هذه المهاترات من غير أن نتصدى لها بالرد المقنع بالحجة والبرهان ، لذلك قمت ، مع اشتغال البال وتراكم الأعمال - بتحرير هذه العجالة تبياناً لحجة ( الحق الدامغ ) واستئصالاً لشبهة الباطل الزاهق ، والله هو الذي يحق الحق ويبطل الباطل ( بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق) 33 .. وقد لخصت هذا الرد في ثلاثة مباحث :

      المبحث الأول : في رؤية الله
      المبحث الثاني : في خلق القرآن
      المبحث الثالث : في خلود أهل الكبائر في النار


      --------------------------------------------------------------------------------

      الهوامش والتعليقات

      الآية 11 من سورة الشورى
      1
      الآية 103 من سورة الأنعام
      2
      الآية 88 من سورة القصص
      3
      الآيتان 118 و 119 من سورة هود
      4
      الآية 103 من سورة آل عمران
      5
      الآية 105 من سورة آل عمران
      6
      الآية 46 من سورة الأنفال
      7
      الآية 159 من سورة الأنعام
      8
      الآية 9 من سورة الحجر 9
      الآية 59 من سورة النساء
      10
      الآية 53 من سورة المؤمنون 11
      الآية 2 من سورة يوسف
      12
      حاشية الصاوي على تفسير الجلالين ج3 ص10 ط دار إحياء التراث العربي
      13
      جوهر النظام ج1 ص6 ط 10
      14
      جوهر النظام ج1 ص22
      15
      إن الإنصاف ليقتضي ذكر رد العلامة الفاضل الشيخ أحمد بن حجر آل بوطامي القاضي الأول بالمحكمة الشرعية بدولة قطر الشقيقة على كلام الصاوي ، فقد أفرد هذا الرد في كتاب سمَّاه ( تنزيه السنة والقرآن عن كونهما مصدر الضلال والكفران ) وقد وضع في هذا الرد المقصل على المفصل 16
      الأغاني ج2 ص104 ط بولاق
      17
      كشف الحقيقة مع أنوار العقول ص25 المطابع العالمية ، سلطنة عمان 18
      الرسالتان في الجزء الثالث من كتاب سِيَر المسلمين ، ومحبوب هذا هو أحد كبار أئمة العلم في أواخر القرن الثاني الهجري ، إذ كان واسطة العقد عند الإباضية مشارقتهم ومغاربتهم
      19
      كتاب تمهيد قواعد الإيمان ج1 ص224 ط وزارة التراث ، سلطنة عمان
      20
      مفاتيح الغيب ج27 ص150 ط2 - طهران
      21
      الآية 103 من سورة آل عمران 22
      الآية 46 من سورة الأنفال
      23
      من قصيدة لشاعر عمان الكبير الشيخ عبدالله بن علي الخليلي
      24
      الآية 63 من سورة الأنفال 25
      الآية 19 من سورة آل عمران 26
      الآيات 108 من سورة يونس و 15 من سورة الإسراء و 41 من سورة الزمر
      27
      العقد الثمين من أجوبة نور الدين ج1 ص126/127 ط1
      28
      ديوان أبي مسلم الرواحي ص262/263 ، ط وزارة التراث القومي والثقافة بسلطنة عمان
      29
      الآية 8 من سورة البروج
      30
      الآية 59 من سورة النساء
      31
      الآيات 29-33 من سورة المطففين
      32
      الآية 18 من سورة الأنبياء 33

      --------------------------------------------------------------------------------



      مقدمة المبحث الأول

      مدلول الرؤية لغةً

      جاء في القاموس وشرحه للزبيدي ما نصه : ( الرؤية ) بالضم إدراك المرئي ، وذلك أضرُب بحسب قوى النفس

      النظر بالعين التي هي الحاسة وما يجري مجراها ، ومن الأخير قوله تعالى: {وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله1}، فإنه مما أُجْرِيَ مجرى الرؤية بالحاسة فإن الحاسة لا تصح على الله ، وعلى ذلك{يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم2} الأول
      بالوهم والتخيل ، نحو أرى أن زيداً منطلق الثاني
      بالتفكير ، نحو ( إني أرى ما لا ترون )3 الثالث
      بالقلب أي بالعقل وعلى ذلك قوله تعالى : ( ما كذب الفؤاد ما رأى )4 ، وعلى ذلك قوله تعالى : ( ولقد رآه نزلة أُخرى )5 . 6
      الرابع

      وقال ابن سيده : الرؤية النظر بالعين والقلب 7، وهو تفسير للأخص بالأعم فقد تنظر العين مع عدم تحقق الرؤية مثال ذلك : نظرت الهلال فلم أره ، فإن النظر هنا هو محاولة للرؤية وليس إياها .

      والخلاصة : أن الرؤية تكون بصرية وغير بصرية ، والبصرية تكون بحاسة الإبصار المعهودة وهي العين فيما كانت فيه عين ، وفسرها الإمام السالمي رحمه الله بقوله : ( وهي اتصال شعاع الباصرة بالمرئي أو انطباع صورة المرئي في الحدقة ) 8 ، وإلى هذا المعنى ذهب أكثر القائلين برؤية الله تعالى ، سواء الذين أثبتوا رؤيته في الدنيا والآخرة أو الذين أثبتوها في الآخرة دون الدنيا ، كما قال الشيباني :

      ومن قال في الدنيا يراه بعينه فذلك زنـديق طغـى وتمـردا
      ولكن يراه في الجنان عـباده كما جاء في الأخبار نروبه مسندا

      وقال آخر :

      ولله أبصار ترى الله جهرة فلا الضيم يغشاها ولا هي تسأم 9


      --------------------------------------------------------------------------------

      الهوامش والتعليقات

      الآية 105 من سورة التوبة
      1
      الآية 27 من سورة الأعراف
      2
      الآية 48 من سورة الأنفال
      3
      الآية 11 من سورة النجم
      4
      الآية 13 من سورة النجم
      5
      تاج العروس ج1 ص139 ط: دار مكتبة الحياة ، بيروت لبنان 6
      لسان العرب ج19 ص2 ط: بولاق
      7
      مشارق الأنوار ص186 ط:2
      8
      من قصيدة أوردها ابن القيم في حادي الأرواح ص13 ، 15 ط: دار الكتب العلمية
      9

      --------------------------------------------------------------------------------

      الفصل الأول

      إختلاف الأمة في إمكان رؤية الله تعالى

      إشتد النزاع بين طوائف الأمة في إمكان رؤيته تعالى ووقوعها ، فذهبت الطوائف المنتسبة إلى السنة من السلفية والأشعرية والماتريدية والظاهرية وغيرهم إلى أنها ممكنة في الدنيا والآخرة ، غير أن جمهورهم يثبت وقوعها في الآخرة لا في الدنيا.

      وذهبت طائفة إلى أنها واقعة في الدنيا والآخرة ، وهم مختلفون كذلك ، هل هي خاصة في الدنيا برسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو هي عامة له وللمؤمنين ؟ فأكثرهم على أنها خاصة به ، وهو قول الأشعري وغالب أتباعه ، نقله عنهم الحافظ ابن حجر1 وبه قال النووي ولم يقل بوقوعها لغيره صلى الله عليه وسلم في الدنيا إلا غلاة الصوفية ، وظاهر كلام الألوسي يدل على جنوحه إليه ، وقد غالى حتى أجاز له الكيفية تعالى الله عن ذلك ، ونص كلامه : " نقل المناوي أن الكمال بن الهمام سئل عما رواه الدارقطني وغيره عن أنس من قوله صلى الله عليه وسلم : (رأيت ربي في أحسن صورة) بناءً على حمل الرؤية على الرؤية في اليقظة " فأجاب بأن هذا حجاب الصورة. انتهى ، قال : وهو التجلي الصوري الشائع عند الصوفية ، ومنه عندهم تجلى الله تعالى في الشجرة لموسى عليه السلام وتجليه جل وعلا للخلق يوم يكشف عن ساق ، وهو سبحانه وإن تجلى بالصورة لكنه غير متقيد بها ( والله من ورائهم محيط).

      والرؤية التي طلبها موسى عليه السلام غير هذه الرؤية ، قال : وذكر بعضهم أن موسى كان يرى الله تعالى إلا أنه لم يعلم أن ما رآه هو هـو وعلى هذا الطراز يحمل ما جاء في بعض الروايات المطعون بها (رأيت ربي في صورة شاب - وفي بعضها زيادة - له نعلان من ذهب) ، ومن الناس من حمل الرؤية في رواية الدارقطنى على الرؤية المنامية ، وظاهر كلام السيوطي أن الكيفية فيها لا تضر ، وهو الذي سمعته من المشايخ قدس الله تعالى أسرارهم ، والمسألة خلافية.

      قال : وإذا صح ما قاله المشايخ وأفهمه كلام السيوطي فأنا ولله تعالى الحمد قد رأيت ربي مناما ثلاث مرات ، وكانت المرة الثالثة في السنة السادسة والأربعين والمائتين والألف بعد الهجرة ، رأيته جل شأنه وله من النور ما له متوجها جهة المشرق فكلمني بكلمات أنسيتها حين استيقظت ، ورأيت مرة في منام طويل كأني في الجنة بين يديه تعالى وبيني وبينه ستر حبيك بلؤلؤ مختلف ألوانه ، فأمر سبحانه أن يذهب بي إلى مقام عيسى عليه السلام ثم إلى مقام محمد صلى الله عليه وسلم فذهب بي إليهما فرأيت ما رأيت ولله تعالى الفضل والمنة. 2

      وهذا كلام تقشعر منه الجلود ، وتتصدع به الجبال ، فإن فيه من الجرأة على الله تعالى ما ليس بعده ، كيف وقد أخذت بني إسرائيل الصاعقة بمجرد سؤال الرؤية ، ونال موسى عليه السلام ما ناله من الصعق لا لشيء غير أنه سألها ليكفكف - بما يأتي من الرد الحاسم على سؤاله - غلواءهم ، ويستأصل شافة طمعهم ، ولم يكد يفيق من الصعق حتى قال : ( سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين )3 ، ولولا أنى أردت أن أوقفك أيها القارئ على هذا الخلط العجيب الذي جرأ هؤلاء الناس عليه اعتقادهم جواز الرؤية ما نقلتُ من هذا الكلام حرفا.

      ولم يقف الأمر بالألوسي عند هذا الحد حتى أخذ ينقل من أقوال أقطابهم ما هو صريح في رد قوله تعالى لموسى : (لن تراني )4 ، وترجيح هذه الأقوال على هذا النص القرآني الصريح ، وإليك أيها القارئ الكريم بعض ما جاء به :

      قال : "وقال الشيخ الأكبر قدس سره إنه رآه بعد الصعق وذكر قدس سره أنه سأل موسى عن ذلك فأجابه بما ذكر ، والآية عندي غير ظاهرة في ذلك ، وإلى الرؤية بعد الصعق ذهب القطب الرازي في تقرير كلام للزمخشري إلا أن ذلك على احتمال أن تفسر على الانكشاف التام ، الذي لا يحصل إلا إذا كانت النفس فانية مقطوعة النظر عن وجودها فضلا عن وجود الغير ، إلى أن قال : وذهب الشيخ إبراهيم الكوراني إلى أنه عليه السلام رأى ربه سبحانه حقيقة قبل الصعق فصعق لذلك ، كما دُك الجبل للتجلي5 ... الخ كلامه المتناقض الذي آثرت الإعراض عن نقله كله ، لأنه كثير العناء ولا جدوى

      والقائلون برؤيته في الآخرة مضطربون كذلك لاختلافهم في من يرونه ومتى يرونه ، فبينما أكثرهم يقولون بأن الرؤية خاصة بالمؤمنين إذ هي نعمة يمن الله بها عليهم يتضاءل معها نعيم الجنة ، نجدُهُم يهرعون إلى الاستدلال عليها بحديث (سترون ربكم) مع أنه يقتضي أن هذه الرؤية ستكون في الموقف ، وأنها غير خاصة بالمؤمنين ، بل المنافقون يشاركونهم فيها لأن من نصوصه ( وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها فيأتيهم الله تعالى في صورة غير التي يعرفون ) وأغرب من هذا ما ذكره ابن كثير في تفسير قوله تعالى : ( كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون)6 أنه يكشف الحجاب فينظر إليه المؤمنون والكافرون ، ثم يحجب عنه الكافرون وينظر إليه المؤمنون كل يوم غدوة وعشية ، وعزا إلى ابن جرير أنه رواه عن الحسن 7 ، ولم أجده في تفسير ابن جرير وإنما وجدت فيه رواية عن الحسن أنه قال : "يكشف عنه الحجاب فينظر إليه المؤمنون غدوة وعشية " أو كلاماً هذا معناه . 8 ونقل الحافظ القول باشتراك المؤمنين والكفار في رؤيته يوم القيامة عن طائفة من المتكلمين كالسالمية من أهل البصرة . وإذا قسنا هذا إلى ما نقله ابن القيم في حادي الأرواح من رواية ابن أبي حاتم عن الأوزاعي أنه قال : إني لأرجو أن يحجب الله عز وجل جهماً وأصحابه عن أفضل ثوابه الذي وعده أولياءه9 ، وجدنا تعارُضاً بعيدا بين أقوالهم ، وقد سمعت محاضرة مسجلة في شريط لأحد خطباء الجمعة المشهورين في إحدى دول الجزيرة العربية استدل فيها على ثبوت الرؤية بقوله تعالى : ( كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ) وكان مما قال في الآية " أن الإباضية هم الذين يحجبون عن ربهم فلا يرونه - عندما يراه المؤمنون - ولكنهم يرون مالكا خازن النار بسبب إنكارهم للرؤية" أعوذ بالله من نزغات أهل الجهل ، ومن عثرات أتباع الهوى.

      وقال ابن القيم : فقد دلت الأحاديث الصحيحة على أن المنافقين يرونه تعالى يوم القيامة ، بل والكفار أيضا كما في حديث التجلي يوم القيامة ، ثم قال : وفي هذه المسألة ثلاثة أقوال لأهل السنة :

      أحدهما : أن لا يراه إلاً المؤمنون.

      والثاني : يراه جميع أهـل الموقف مؤمنهم وكافرهم ، ثم يحتجب عن الكفار فلا يرونه بعد ذلك.

      والثالث : يراه المنافقـون دون الكفار ، والأقوال الثلاثة في مذهب أحمد وهي لأصحابه . 10

      هكذا ترى - أيها القارئ الكريم - تضارب أقوال مثبتي الرؤية في هذه القضية حتى أنهم ينسبون إلى إمام واحد من أئمتهم أقوالاً متعارضة ومذاهب متباينة ، وناهيك بذلك شاهداً ودليلاً على ضعف القاعدة التي أسسوا عليها معتقدهم ، وإلاً فإن الحق لا يحتمل هذا الاختلاف لوضوح حجته واستقامة محجته وصدق الله : ( وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ) 11

      وليت شِعري إذا كانت الرؤية أعظم ثواب أعده الله للمؤمنين ثم شاركهم فيها الكافرون والمنافقون ، ماذا بقى بعدئذ ؟ وكيف لا يشاركونهم في نعيم الجنة ، مع أن الجنة لا تساوي شيئاً بجانب هذا الثواب العظيم في زعم هؤلاء القائلين حتى أنهم نسبوا إلى أحد الأئمة أنه لو لم يوقن أنه سيرى ربه بوم القيامة لما عبده .12

      وهو يفيد أن قائله يرى أن الله سبحانه لا يستحق من خلقه عبادة - لولا رؤيته التي يرجونها - لا لعظمته ولا لنعمته ولا لثوابه ولا لعقابه ، ولعمري ما أخطر هذا القول ونسبته إلى عالم من عُلماء المسلمين ، فما أشبهه بقول بني إسرائيل : ( لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة )13

      هذا وقد صرَّح بعض الحنابلة بأن إثبات رؤية الكفار لله يوم القيامة قول باطل مخالف لإجماع الأمة ، فقد حكى ابن تيمية عن القاضي أبي يعلى وغيره من الحنابلة أن مثبتي رؤية الله في الآخرة ومنكريها اتفقوا على أن الكافرين لا يرونه - قالوا : ( فثبت بهذا إجماع الأمة - ممن يقول بجواز الرؤية وممن ينكرها - على منع رؤية الكافرين لله ، وكل قول حادث بعد الإجماع فهو باطل مردود ).

      وحكى عنهم أيضاً ما نصه : الأخبار الواردة في رؤية المؤمنين لله إنما هي طريق البشارة ، فلو شاركهم الكفار في ذلك بطلب البشارة ، ولا خلاف بين القائلين بالرؤية في أن رؤيته من أعظم كرامات أهل الجنة.

      ثم أتبع ذلك قوله . قال - أي القاضي أبو يعلى - : وقول من قال إنما يرى نفسه عقوبة لهم وتحسيراً على فوات دوام رؤيته ومنعهم من ذلك - بعد علمهم بما فيها من الكرامة والسرور - يوجب أن يدخل الجنة الكفار ويريهم ما فيها من الحور والولدان ، ويطعمهم من ثمارها ويسقيهم من شرابها ، ثم يمنعهم من ذلك ليعرفهم قدر ما منعوا منه ويكثر تحسرهم وتلهفهم على منع ذلك بعد العلم بفضيلته. ثم قال : والعمدة قوله سبحانه : ( كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ) فإنه يعم حجبهم عن ربهم في جميع ذلك اليوم ، وذلك اليوم ( يوم يقوم الناس لرب العالمين( وهو يوم القيامة ، فلو قيل إنه يحجبهم في حال دون حال لكان تخصيصاً للفظ بغير موجب ، ولكان فيه تسوية بينهم وبين المؤمنين ، فإن الرؤية لا تكون دائمة للمؤمنين والكلام خرج مخرج بيان عقوبتهم بالحجب وجزائهم به فلا يجوز أن يساويهم المؤمنون في عقاب ولا جزاء سواه … الخ 14 وكفى بهذا الكلام دحضاً لما قالوه ونقضاً لما شيدوه.

      وذهب إلى استحالتها في الدنيا والآخرة أصحابنا - الإباضية - وهو قول المعتزلة والجهمية والزيدية والإمامية من الشيعة ، وبه قال جماعة من المتكلمين المتحررين من أسر التقليد كالإمام الجصاص في "أحكام القرآن" ، وجنح إليه الإمام الغزالي في بعض كتبه ، بل صرح به في بعضها ، وهو الثابت عندنا عن سلف هذه الأمة ، فقد رواه الإمام الربيع رحمه الله عن أفلح ابن محمد عن أبى معمر السعدي عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ، ورواه عن جبير عن الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما ، ورواه عنه من طريق أبي نعيم عن العباس أبي إسحاق عن سعيد بن جبير عن نافع بن الأزرق ، ورواه أيضا عن عائشة رضي الله عنها ومجاهد ، وإبراهيم النخعي ، ومكحول الدمشقي ، وعطاء بن يسار وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير والضحاك بن مزاحم ، وأبي صالح صاحب التفسير، وعكرمة ومحمد بن كعب ، وابن شهاب الزهري ومحمد بن المنكدر ، وهو مقتضى ما رواه ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في قول موسى عليه السلام : ( وأنا أول المؤمنين ) أنه لا يراك أحد ، وما رواه عن السدي أنه قال في قوله تعالى : ( لا تدركه الأبصار) لا يراه شيء وهو يرى الخلائق ، وستأتيك إن شاء الله رواية عبد بن حميد وابن جرير له عن مجاهد ، ورواية ابن مردويه له عن ابن عمر رضي الله عنهما وعن عكرمة ، ورواية ابن جرير وعبد بن حميد أيضا له عن أبى صالح ، ونسبه ابن حزم أيضا إلى مجاهد - وتعذر له في ذلك بأن الخبر لم يبلغ إليه - وعزاه أيضاً إلى الحسن البصري وعكرمة ثم قال وقد روى عن عكرمة والحسن إيجاب الرؤية له تعالى.15

      وما رواه عن الحسن وعكرمة مما ظنوه إثباتاً لرؤية الله تعالى لا ينافي ما ثبت من إنكارها عند فهم مقاصدهما ، وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله .


      --------------------------------------------------------------------------------

      الهوامش والتعليقات

      فتح الباري ج 8 ص 608 المطبعة السلفية
      1
      روح المعاني ج 9 ص 52 دار إحياء التراث العربي
      2
      الآية 143 من سورة الأعراف
      3
      الآية 143 من سورة الأعراف
      4
      روح المعاني ج 9 ص 52 ، 53 دار إحياء التراث العربي
      5
      الآية 15 من سورة المطففين
      6
      تفسير إبن كثير ، ج 4 ، ص 486 ، دار إحياء الكتب العربية
      7
      تفسير إبن جرير ج 30 ص 100 طبعة دار الفكر
      8
      حادي الأرواح ص 264 ط 4
      9
      حادي الأرواح ص 224 ط 4
      10
      الآية 153 من سورة الأنعام
      11
      حادي الأرواح ص 265 ط 4
      12
      الآية 55 من سورة البقرة
      13
      فتاوي إبن تيمية المجلد السادس ص 500 ، 501
      14
      الفصل في الملل والأهواء والنحل ج 3 ص 2
      15

      --------------------------------------------------------------------------------



      --------------------------------------------------------------------------------

      الفصل الثاني- أدلة المثبتين للرؤية


      --------------------------------------------------------------------------------

      أدلة المثبتين للرؤية

      القسم الأول في أدلة جواز الرؤية

      فأما القسم الأول فمنه عقلي ومنه نقلي :

      أما العقلي فيتلخص في قياس وجود الحق على وجود الخلق ، وذلك أنهم قالوا إن سائر الموجودات مشتركة في جواز الرؤية عليها ، وبما أن الله موجود أيضاً فإن رؤيته ممكنة .

      وأجيب عن ذلك بما ملخصه أن الوجود إن كان هو العلة في رؤية الموجودات المرئية ، فلا مانع من أن يعتبر علة في خلقها ، فيترتب عليه أن يكون الله سبحانه ممكناً أن يشاركها في الخلق كمشاركته لها في الوجود ، أما إذا اعتبرنا علة خلقها الحدوث فيجب علينا أيضاً أن نعتبره علة في إمكان رؤيتها ، وأن ننزه الخالق عن قياسه عليها في الرؤية كما ننزهه عن قياسه عليها في الخلق ، على أن دعوى أن كل موجود تجوز رؤيته منتقضة بكثير من الموجودات غير المرئية ، كالروح والعقل والوجدان والإدراك ، ومثلها الأصوات والروائح ، والأثير والكهرباء ، وفتح باب القياس بين الخالق والخلق يؤدي إلى وصفه سبحانه بكثير ممَّا تواترت الرسالات واتفق العقلاء على استحالته في حقه تعالى ، فإن المخلوق لا يمكن تصور وجوده إلا بوجود الزمان والمكان ، وقد كان الخالق ولا زمان ولا مكان وهو الآن على ما عليه كان ، لا يتصف بالعوارض ، ولا يدرك بالحواس ، ولا يجوز في حقه الاتصال بشيء من المخلوقات ولا الانفصال عنها ، والعقول كيفما تطاولت فمنتهاها أن تقف على عتبة ( العجز عن الإدراك هو الإدراك ) و ( ما عرف الله من شبهه بشيء من خلقه ) وإنما محط رحال الأفكار إدراكها أنه ( ليس كمثله شيء وهو السميع البصير)1 ، وقد صرَّح السيد السند في شرح المواقف بانقطاع المسلك العقلي عن الوصول إلى حجية إمكان رؤيته تعالى.2

      وأما النقلي فبعضه من الكتاب وبعضه من السنة ، أما من الكتاب فدليلان:

      سؤال موسى الكليم عليه السلام الرؤية بقوله: (ربّ أرني أنظر إليك)3 ، ووجه استدلالهم به أنه إما أن يكون ناشئا عن جهل وهو مستحيل لاستحالة أن يجهل الأنبياء ما يستحيل عليه تعالى وهم أعرف بالله وبكبريائه ، وما يجب له وما يستحيل عليه ، وإما أن يكون مقترنا بعلمه - عليه السلام - أنها مستحيلة وهو باطل أيضا ، لأن طلب المحال عمدا ليس من شأن الأبرار فضلا عن جوازه على النبيين ، وإنما هو من شأن أهل العتو والشقاق ، فنتج عن ذلك أنها جائزة عليه تعالى وأن موسى عليه السلام عالم بجوازها ، فلذلك اجترأ على سؤالها.

      وأجيب بأنه عليه السلام كان عارفا باستحالتها ولم يرد بسؤالها نيل المستحيل ، وإنما أراد ردع قومه الذين لجوا في طلبها وعلقوا عليها إيمانهم برسالته ، فلعلهم عندما يقرعون بالرد الحاسم باستحالتها يرعوون عن غيهم ويتراجعون عن جرأتهم ، خصوصا عندما يقترن الرد بآية بينة تزجرهم عن مثل هذا التعنت.

      واعترض بأن أولئك القوم إن كانوا مؤمنين فبحسبهم جواب موسى لهم باستحالتها ، فإنه الرسول الأمين المقرونة دعوته بآيات بينات لا تدع مجالا للشك في صدق قوله وصحة دعوته ، وإن كانوا كفارا فلن يجديهم جوابهم باستحالتها في هذا الموقف شيئا.

      ورُد هذا الاعتراض بأن القوم لم يكونوا على شيء من الإيمان ، وكيف ينطبق وصف الإيمان على الذين قالوا : ( لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة)4

      وإنما أراد عليه السلام أن يقطع دابر شقاقهم ويستأصل شبهة عنادهم بجواب حاسم ، يأتيهم من قبل الله العزيز الحكيم مخالف لوصف خطابه عليه السلام لهم ، يتجلى فيه من الآيات ما يحسم كل شبهة ، ويقضي على كل طمع في مطلبهم المستحيل .

      ومما يؤكد أن موسى عليه السلام لم يسألها لنفسه وإنما سألها لقومه ، ما تكرر في القرآن من توبيخ الله لهم على هذا السؤال وعدّه من أعظم جرائرهم وأبلغ كفرهم ، كما في قوله سبحانه : (

      فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة)5 ، وقوله : ( وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون)6 ، واعتذار موسى إلى ربه بعد الرجفة مما حصل ، عازياً إياه إلى السفهاء حيث قال عليه السلام : (رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء أنت ولينا فأغفر لنا وارحمنا وأنت خـير الغافرين)7

      واعترض على ذلك بأمرين:

      أنه عليه السلام لو لم يسألها لنفسه لما تاب من سؤاله

      أنه لو سألها لغيره لم يضفها إلى نفسه ، ولقال رب أرهم ينظروا إليك ولم يقل رب أرني أنظر إليك


      وجواب الأول أنه عليه السلام سارع إلى التوبة لشعوره بالتورط بما سأل ، وإن كانت له نية حسنة يعلمها الله تعالى ، وإنما المقام يقتضي الاستئذان من الله قبل الإقدام على مثل هذا السؤال.

      وعن الثاني بأن إضافتها إلى نفسه دونهم أبلغ في اقتناعهم باستحالتها عندما يعلمون أنه - مع علو مرتبته وصفاء سريرته مما يعلمون أنهم متلوثون به - لا تمكن له الرؤية التي هم ملحون في طلبها ، وإذا تعذرت عليه فهي عليهم أشد تعذرا.

      والخلاصة أن موسى عليه السلام ما سأل الرؤية طامعا في حصولها ، وإنما سألها ليكون سؤاله وسيلة من وسائل الإقناع الذي يحرص عليه ، وأسلوبا من أساليب الدعوة التي يقوم بها ، ومثله في ذلك مثل إبراهيم عليه السلام الذي قال عندما رأى الكوكب والقمر والشمس (هذا ربي)8 ، فإنه بالقطع لم يرد تأليهها ، فإن العقل السليم لا يستسيغ بحال تأليه المخلوقات ، فكيف بعقول النبيين الذين صنعوا على عين الله ، واصطفاهم الله عز وجل لأن يكونوا وعاءً لهدايته وتجسيدا للحق الذي أرسلهم به ، بل كيف بعقل الخليل إبراهيم الذي أكرمه الله بخلته ، واجتباه لأن يكون أبا للنبيين وإماما للحنيفيين ؟ وإنما أراد صلوات الله وسلامه عليه بما قاله - مما ظاهره كفر وحقيقته إيمان وتوحيد - إقامة الحجة على من حوله من الذين يعبدون الأجرام السماوية ، بأن هذه الأجرام ما هي إلا كائنات متنقلة ، تعتريها الأحوال ويطرأ عليها الأفول ، وما كان كذلك فهو ليس من الربوبية أو الألوهية في شيء ، ويدل عليه قوله تعالى عقب حكاية قصته : (وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه)9

      وإذا كان هذا هو محمل كلام إبراهيم عليه السلام مع عدم وجود نص في القرآن يدل على أن قومه كانوا يعبدون هذه الأجرام ، فلأن يحمل سؤال موسى عليه السلام للرؤية على قصد تبكيت قومه أولى ، لكثرة النصوص الدالة على أنهم هم الذين سألوها ، وهل يعقل أن يسأل موسى عين ما سألوه ، وهم الذين أصابهم ما أصابهم من التقريع على ما سألوا ، تالله ما القول بذلك إلا تنظير لموسى بأنذال بنى إسرائيل وإنزالٌ له عليه السلام من علياء النبوة التي رفعه الله إليها ، واصطفاه من أجلها ، إلى دركات الجهل التي انحط إليها أسلاف اليهود ، الذين سألوا رؤية الله فحقت عليهم كلمة الله باستحقاق هوأن الدنيا وعذاب الآخرة.

      وبعد ما حررته هنا اطلعت على ما يسند حجته ويجلو وجهه من تحرير للمقام ، بقلم شيخ الإسلام المحقق الخليلي رحمة الله عليه ، فرأيت أن انقله بنصه ليزدان جيد كلامي بسمط كلامه الدرِّي ، قال - بعد تبيانه مقصود موسى من سؤاله : "وشاهد هذا قوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام : ( فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكو نن من القوم الضالين فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بريءٌ مما تشركون ) فانظر كيف جاز لإبراهيم عليه السلام أن يتكلم بلفظة الشرك ثلاث مرات مخبرا بها عن نفسه من غير مندوحة ، ولا في موضع تقية على نفس ولا دين ولا مال ، وليس هو مجبراً على ذلك ولا مأخوذا به ، وقد كان له في الاحتجاج بغير هذا مجال رحب وسعة ، وقد احتج عليهم بغيره في غير مرة ، كما صرح به في كتاب الله تعالى ، ولكن رأى خطابهم على هذا الأسلوب والجري معهم على هذه الطريقة أقطع لحجتهم ، وأدمغ لكلمتهم ، وأبلغ لتبكيتهم ، وأوضح لإعجازهم ، فأثنى الله عليه بذلك وحكى ما قاله هنالك ، وقال تأييدا له : (وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه)10

      وإذا كانت كلمة إبراهيم عليه السلام بالشرك الصريح - لما كانت مسوقة لهدم قواعد الشرك ومقولة لإيضاح الحق - لم تسّم شركا لفظا ولا معنى ، ولا عقلا ولا حكما ، فكيف يصح في مقالة موسى عليه السلام إذا كان مقصوده بها تبكيت قومه وإقامة الحجة عليهم بسماع المنع من الله تعالى أن تكون باطلة ، وهي نفس الحق المبين.

      فموسى الكليم وإبراهيم الخليل في أحكام الحق سواء ، وكلمتاهما في أحكام الظاهر ممنوعتان سواء ، ولكنهما كانتا مسوقتين لإزهاق الباطل وإثبات الحق ، فهما في معنى الجواز سواء أم يجوز الفرق بينهما ؟ ولا فرق عند من عرف الحق ، فهما نفس الصواب وحقيقة الهدى ، ولا يكاد يصدر مثلهما إلا عن منصب النبوة ، ولكن ربما يخفى ضياء النهار على بعض الأبصار ، ولله در من قال :

      وإذا كنت بالمدارج غرًّا ثم أبصرت حاذقا لا تمار
      وإذا لم تر الهلال فسلـم لأناس رأوه بالأبصــار

      فإن قلت كيف يسوغ التشبيه والإحتجاج بقصة إبراهيم عليه السلام في هذه الآية الشريفة ، وقد اختلف المفسرون في تأويلها ؟ قلنا إن الوجه الحق فيها ما قلناه وهو عمدة المحققين وقول المنصفين ، ولكن القوم لما لم يقتدروا على استخراج زبدها قال قائل منهم إن إبراهيم عليه السلام قال ذلك في صباه وهذا باطل ، لأن حكاية الشرك لا معنى لها عن صبي ولا بالغ لغير فائدة ، وأي فائدة في تجهيل الخليل عليه السلام ، وحكاية الشرك عنه في صباه.

      وقال آخرون إنه قالها على معنى الاستفهام إيهاما لقومه وليس بالقوي . وقال بعض تقديره قال هذا ربي بزعمكُمْ ، وليس بشيءٍ لعدم الدلالة.

      وقال بعضهم تقديره يقولون هذا ربى ، ولا دليل عليه أيضا ، فليس الوجه إلا الأول11.
      -1
      قول الله سبحانه (ولكن انظر إلى الجبل فان استقر مكانه فسوف تراني)12 ، ووجه الاستدلال بالآية ، أنه تعالى علق الرؤية على استقرار الجبل ، وهو في ذاته ممكن ، والمعلق على الممكن ممكن مثله .

      وأجيب بأنه لا إمكان بعدما حصل من اندكاك الجبل ، وانكشف من قضاء الله فيه الذي لا يمكن أن يكون المقضي بخلافه ، فإنه تعالى لا تبديل لكلماته ، وقد كان في علمه تعالى أنه لن يستقر ، ولن يتبدل شيء عما كان في علمه ، وإنما كان استقراره ممكنا بحسب علم المخلوقين القاصر المحدود ، قبل أن ينكشف لهم باندكاكه ما في علمه تعالى وقضائه ، وفي هذا يقول الإمام ابن عاشور " ولما كان استقرار الجبل في مكانه معلوما لله انتفاؤه ، صح تعليق الأمر المراد تعذر وقوعه عليه بقطع النظر عن دليل الانتفاء ، فلذلك لم يكن في هذا التعليق حجة لأهل السنة على المعتزلة تقتضي أن رؤية الله تعالى ، جائزة عليه تعالى خلافا لما أعتاد كثير من علمائنا من الاحتجاج بذلك.

      وقوله : ( فسوف تراني) ليس بوعد بالرؤية على الفرض ، لأن سبق قوله : ( لن تراني) أزال طماعية السائل الرؤية ، ولكنه إيذان بأن المقصود من نظره إلى الجبل أن يرى رأي اليقين عجز القوة البشرية عن رؤية الله تعالى بالأحرى مع عدم ثبات قوة الجبل ، فصارت قوة الكلام أن الجبل لا يستقر مكانه من التجلي الذي يحصل عليه ، فلست أنت بالذي تراني لأنك لا تستطيع ذلك ، فمنزلة الشرط هنا منزلة الشرط الإمتناعي الحاصل بحرف " لو" بدليل قرينة السابق13.
      -2

      وأما من السنة : فما روي عن جماعة من الصحابة رضوان الله تعالى عليهم من إثبات رؤيته صلى الله عليه وسلم لربه ليلة الإسراء والمعراج ، ووجه استدلالهم بذلك على إمكان الرؤية أنها لو لم تكن ممكنة لما قال بوقوعها أحد من الصحابة ، وهم أوفر عقلاً ، وأغزر علماً ، وأنور بصيرة ممن جاء بعدهم ، ووجه اعتبار هذا الدليل من السنة أنهم رضي الله عنهم لا يقولون شيئاً من نحو هذا اعتباطاً ، ولكن استناداً إلى ما علموه من رسول الله صلى الله عليه وسلم .

      وجوابه أن ما روي عنهم من إثبات رؤيته صلى الله عليه وسلم لربه لا يخلو إما أن يكون من كذب الرواة عنهم ، وإما أن يكون من سوء فهمهم لما رووه ، وكيف يمكن أن يقول أحد منهم بأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه تعالى ، وأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تقطع عذر من قال ذلك باعتباره قد أعظم على الله الفرية ، كما جاء ذلك عنها بأصح الأسانيد وأضبطها في مسند الإمام الربيع بن حبيب ، وفي صحيحي البخاري ومسلم من طريق مسروق ، وإعظام الفرية على الله أكبر الكبائر التي يجب تنزيه المسلمين عنها ؛ فضلاً عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، الذين هم خير القرون ، وفي رواية أخرجها البخاري عن مسروق قال : قلت لعائشة رضي الله عنها : يا أمتاه هل رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه ؟ فقالت : " لقد قفَّ شعري مما قلت " وما هو إلا كناية عن هول ما سَمِعَتْ ، وضيق صدرها منه لاستحالة ذلك على الله سبحانه .

      وأشهر من رُوِيَ عنه القول بخلافها ابن عباس رضي الله عنهما ، ومن أمعن نظره في نص كلامه المروي ، يدرك أنه لم يقصد بالرؤية إلا مزيد المعرفة بالله تعالى الذي حصل لرسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك الليلة المباركة بما تجلى له من آيات الله ، وانكشف له من أسراره في الملكوت الأعلى .

      ففي صحيح الإمام مسلم ، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، وأبو بكر الأشج ، جميعاً عن وكيع ، قال الأشج حدثنا وكيع حدثنا الأعمش عن زياد الحصين أبي جهمة عن أبي العالية عن ابن عباس قال : ( ما كذب الفؤاد ما رأى ولقد رآه نزلة أخرى ) قال : رآه بفؤاده مرتين ، وفيه من طريق عطاء عنه رضي الله تعالى عنه ، قال : رآه بقلبه ، وهو من الوضوح بمكان في كون الرؤية قلبيه لا بصرية ، وأصرح من ذلك في نفي الإبصار ما أخرجه ابن مردويه عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : لم يره رسول الله صلى الله عليه وسلم بعينه إنما رآه بقلبه ، وقد حكى عثمان بن مندة الدارمي اتفاق الصحابة على أنه لم يره.14

      فإن قيل : إن النبي صلى الله عليه وسلم أكمل الناس معرفة منذ أكرمه الله بالنبوة وشرَّفه بالرسالة الخاتمة ، فكيف يقال إنه عرفه مرتين إن فسرت الرؤية بالمعرفة .

      فجوابه أن العارف بالله تعرض له أحوال من تجليات الحق ، فيستغرق في حالة من شهود جلاله وكبريائه كأنما يراه سبحانه وتعالى ، ولا ريب أنه عليه أفضل الصلاة والسلام - وهو أوفر الناس عقلاً وأتمهم معرفة - قد أكرمه الله بما هو أبلغ وأعظم مما وصل إليه غيره في طُروِّ مثل هذه الحالات النفسية ، خصوصاً في تلك الرحلة الكريمة التي أزيحت عنه فيها الأستار ، فتجلى له من أسرار الملكوت الأعلى ما لم يتجلى لغيره ، ولعل هاتين المرتين اللتين قصدهما البحر ابن عباس كانت التجليات فيهما أكمل وأشمل ، فعبر عن ذلك ابن عباس رضى الله تعالى عنه برؤية الفؤاد أو القلب ، على أنا نرجِّح في تفسير الرؤية في آية النجم بما ثبت رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم من طريق عائشة رضي الله تعالى عنها في مسند الإمام الربيع وصحيحي البخاري ومسلم ، فقد قالت : أنا أول هذه الأمة سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال : ( إنما هو جبريل لم أره في صورته التي خُلِق عليها غير هاتين المرتين ، رأيته منهبطاً من السماء ساداً عظم خلقه ما بين السماء والأرض ) فإنه صلى الله عليه وسلم أدرى بمعاني القرآن ومقاصده ، ومع ثبوت المرفوع لا يلتفت إلى الموقوف .

      وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم نفي رؤيته لله تعالى نفياً صريحاً لا يدع للشك مجالاً . فقد أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئِل : هل رأيت ربَّك ؟ فقال : نورٌ أنَّى أراه ؟ وفي قوله : أنَّى أراه استبعاداً لأن يتمكن عليه أفضل الصلاة والسلام من رؤيته تعالى ، وأخرج ابن مردويه عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : أنا أول من سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا ، فقلت : يا رسول الله هل رأيت ربك ؟ قال : لا ، إنما رأيت جبريل منهبطاً ، وكيف يظن بابن عباس رضي الله عنه أن يقول : إن النبي صلى الله عليه وسلم رآه رؤية بصرية مع ما روي عنه من نفي الرؤية في الدنيا والآخرة ، كما ستقف عليه إن شاء الله .

      وقد نص كثير من مثبتي الرؤية في الآخرة على أنها لم تقع لأحد في الدنيا حتى للنبي صلى الله عليه وسلم ، ولعل هذا هو قول الكثيرين منهم .


      --------------------------------------------------------------------------------

      الهوامش والتعليقات

      الآية 11 من سورة الشورى
      1
      نُقِل ذلك عند الإمام السالمي في مشارق الأنوار ص187 ط2
      2
      الآية 143 من سورة الأعراف
      3
      الآية 55 من سورة البقرة
      4
      الآية 153 من سورة النساء
      5
      الآية 55 من سورة البقرة
      6
      الآية 155 من سورة الأعراف
      7
      الآيات 76 ، 77 ، 78 من سورة الأنعام
      8
      الآية 83 من سورة الأنعام
      9
      الآية 83 من سورة الأنعام 10
      تمهيد قواعد الإيمان ج1 ص283 ط وزارة التراث القومي والثقافة بسلطنة عمان
      11
      الآية 143 من سورة الأعراف
      12
      التحرير والتنوير ج9 ص92/93 ط الدار التونسية للنشر
      13
      محاسن التأويل للقاسمي ج15 ص5567 ط عيسى البابي الحلبي وشركاه . وفتاوى ابن تيمية المجلد السادس ص507
      14

      --------------------------------------------------------------------------------

      أدلة المثبتين للرؤية

      القسم الثاني في أدلة وقوع الرؤية

      وأما القسم الثاني وهو : أدلة وقوعها في الآخرة ، فهو نقولٌ بعضها من الكتاب وبعضها من السنة ، فمن الكتاب :

      قوله تعالى : (وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة)1 ، وهو أقوى ما استندوا إليه في هذا الباب ، واعتُرِضوا بأن النظر أعم من الرؤية ، فإنه يكون بمعنى محاولتها ولو لم تتحقق ، لجواز أن يقول قائل : نظرت إلى كذا فلم أره ، مع عدم جواز أن يقول : رأيته فلم أره ، ففي القاموس ما نصَّه : ( نظره كنصره وسمعه ، وإليه نظرا ومنظراً ونظراناً ومنظرة ، وتَنْظَاراً تأمله بعينه ) وفي شرحه للإمام الزبيدي نقلاً عن البصائر ، والنظر أيضاً تقليب البصيرة لإدراك الشيء ورؤيته ، وقد يراد به التأمل والفحص ، وقد يراد به المعرفة الحاصلة بعد الفحص ، ثم قال الشارح : ويقال نظرت إلى كذا إذا مددت طرفك إليه رأيته أو لم تره.2

      وقد شاع النظر بمعنى الانتظار ، كقوله تعالى : (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة)3 ، وقوله : (ما ينظرون إلا صيحة واحدة) وقوله : (يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم)4 ، وعليه يتعين حمل النظر في هذه الآية لوجوه :

      إبعاد تأويل القرآن عن تعارض بعضه مع بعض ، فإن حمل النظر في الآية على الرؤية يتعارض مع أدلة نفيها القطعية ، وستأتي إن شاء الله .

      الانسجام المعهود في آي القرآن وارتباط بعضها مع بعض ، وهو لا يكون إلا بتفسير النظر بالانتظار ، فإن الآيات قسّمت الناس يومئذ إلى طائفتين ، إحداهما وجوهها ناضرة ـ أي مبتهجة مشرقة بما ترجوه من ثواب الله ـ إلى ربها ناظرة أي منتظرة لرحمته ودخول جنته ، والأخرى مباينة لها في أحوالها ، فوجوهها باسرة - أي كالحة مكفهرّة لما تتوقعه من العذاب - تظن أن بفعل بها فاقرة أي تتوقع أن ينزل بها ما يقطع فقار ظهورها ، فَنَضَارَة هذه الوجوه مقَابَل ببسور تلك ، وانتظاره هذه لرحمة الله ودخول جنته مقابَل بتوقع تلك للعذاب ، ولو فسر النظر هنا بالرؤية لتقطع هذا الوصل بين الآيات ، وتفكك رباطها ، وذهب انسجامها ، إذ لا تقابل بين الرؤية وما وصفت به تلك من ظنها أمراً يقطع فقارها ، ومثل هذه النكت البلاغية لا تفوت البلغاء في كلامهم ، منثوره ومنظومه ، فما بالكم بكلام الله تعالى الذي هو أدق في التعبير ، وأبلغ في التصوير ، وأكثر انسجاماً ، وأشد ترابطاً من كل كلام ( وكيف لا وهو كلام الله جل ؟ ) .

      أن هذا التأويل هو الذي يتفق مع ما في خاتمة عبس ، وهو قوله سبحانه : (وجوه يومئذ مسفرة ضاحكة مستبشرة ووجوه يومئذ عليها غـبرة ترهقها قترة)5 ، إذ لا فارق بين ما وصفت به وجوه المؤمنين هنا من الاستبشار ، ووصفت به في آي القيامة من النظر بمعنى الانتظار ، فإن المنتظر للرحمة مستبشر بها والمستبشر منتظر لما استبشر به .

      أن تقديم المعمول على عامله يؤذن بقصره عليه ، فتقديم ( إلى ربها ) على ( ناظرة ) يؤذن أنها لا تنظر إلا إليه وهو لا يتفق إلا مع تفسير النظر بالانتظار ، فلو كان المراد به الرؤية لاقتضى أنهم لا يرون شيئاً غيره تعالى مع ما هو معروف عقلاً ونقلاً من رؤية بعضهم لبعض ، ورؤيتهـم لما أعد الله لهم من النعيم .


      وأنكر المثبتون تفسير النظر بالانتظار من ثلاثة أوجه:

      أن في الانتظار تنغيصاً يتنافى مع إكرام الله لعباده الأوفياء يوم القيامة
      أولها
      أن انتظار رحمة الله من قبل عباده المؤمنين أمر حاصل في الدنيا ، فكيف يوعدون به في الآخرة
      ثانيها
      أن تعدية النظر بإلى تمنع من حمله على الانتظار ، خصوصاً إذا أسند إلى الوجوه
      ثالثهما

      وكل ذلك مردود :

      فلأن الآيات تصور لنا الموقف يوم القيامة قبل أن ينتقل الأبرار إلى دار الثواب ، والفجار إلى دار العقاب ، بدليل السياق في الآيات السابقة ، وقوله سبحانه في الأشقياء ( تظن أن يفعل بها فاقرة ) يؤكده فإن ذلك قبل دخول النار قطعاً إذ لا معنى لظنهم ذلك بعد الدخول وقد لقوا ما لقوه وحلت بهم الفاقرة التي كانوا يتوقعونها ، ولا ريب أن الناس في الموقف متباينة أحوالهم ، فالأبرار ناضرة وجوههم بانتظارهم رحمة الله التي وُعِدوها ، والفجار على خلاف ذلك ، ولا يجوز إنكار هذا الموقف الذي يقفه الأبرار والفجار قبل انتقالهم إلى مقر الجزاء الدائم لأنه ثابت بالكتاب والسنة .
      أما الأول
      فلبعد ما بين الانتظارين ، فشتان بين حال من كان في دار الشهوات والنزغات غير عارف بخاتمته ، ولا متيقن بمصيره ، ومن طوى المراحل وتجاوز العقبات حتى تلقته الملائكة في زمرة السعداء ( ألاَّ تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون)6
      وأما الثاني
      فلثبوت مجيء النظر بمعنى الانتظار حال تعديته بإلى بالنقول الثابتة والشواهد البينة ولا عبرة بمن أنكر ذلك

      قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد وينكر الفم طعم الماء من سقم

      فمن النقول المصححة له قول صاحب اللسان : ( ويقول القائل للمؤمَّل يرجوه إنما ننظر إلى الله ثم إليك ، أي إنما أتوقع فضل الله ثم فضلك )7.

      ومن شواهده ما رواه الإمام الربيع رحمه الله عن سفيان بن عيينة عن الأعمش عن أبي راشد أن مولاة لعتبة بن عمير قالت : إنما أنظر إلى الله وإليك ، فقال لها : لا تقولي كذلك ، ولكن قولي : إنما أنظر إلى الله ثم إليك .8

      وقول جميل بن معمر

      وإذا نظرت إليك من ملك والبحر دونك زدتني نعما

      وقول آخر

      إني إليك لما وعدت لناظر نظر الفقير إلى الغني الموسر

      وقول غيره

      كل الخلائق ينظرون سجاله نظر الحجيج إلى طلوع هلال

      ولا وجه للتفرقة بين كونه مسنداً إلى الوجوه أو إلى غيرها ، فإنه تحكم لا دليل عليه ، على أنه جاء بهذا المعنى مع إسناده إلى الوجوه في كلام العرب ، ومنه قول حسان

      وجوه يوم بدرٍ ناظرات إلى الرحمن يأتي بالفلاح

      وقول البُعيث

      وجوه بَهَالِيلِ الحجاز على الهوى إلى مَلِكٍ كهف الخلائق ناظرة

      فإن قيل إن الانتظار محله القلوب لا الوجوه ؛ فلذلك تعين حمل النظر في الآية على الرؤية لا على الانتظار ؛ لأن الوجوه محل للأبصار التي هي آلة الرؤية ؟

      فجوابه : أن الرؤية أيضاً لا تكون بالوجوه وإنما تكون بالعيون فإسنادها إلى الوجوه غير وارد إذ لم يعهد قول أحد رأيته بوجهي ، ويتعذر جواز ذلك قطعاً على رأي الذي ينكر المجاز مطلقاً أو في القرآن خاصة كما هو شأن كثير من مثبتي الرؤية ، أما نحن فنحمل الوجوه على أصحابها لأن ذلك معهود عند العرب كقولهم : ( قصدت وجهك ) بمعنى قصدتك ، فالانتظار وإن أسند إلى الوجوه لفظاً فهو لأصحابها معنىً ، ولذلك جاز إسناد الظن إليها في قوله : (تظن أن يفعل بها فاقرة)9 ، كما جاز إسناد الخشوع والعمـل والنصب إليها في قوله تعالى : (وجوه يومئذ خاشعة ، عاملة ناصبة)10 ، ويؤكده قوله من بعد : ( تصلى ناراً حامية ، تسقى من عين آنية ، ليس لهم طعام إلا مـن ضريع)11 ، فإن الصلى غير خاص بالوجوه ، والسقي والطعام لأصحاب الوجوه قطعاً ، ومثله إسناد النعمة والسعي والرضى إلى الوجوه في قوله تعالى : (وجوه يومئذ ناعمة لسعيها راضية)12
      وأما الثالث

      وبجانب كل ما ذكرته فإن تفسير النظر في الآية بالانتظار مروي عن السلف من الصحابة والتابعين ومن بعدهم ، فقد أخرجه الإمام الربيع بن حبيب في مسنده الصحيح عن الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه من طريق أبي معمر السعدي كما أخرجه أيضاً عم ابن عباس رضي الله عنهما من طريق الضحاك بن قيس ، وطريق سعيد بن جبير ، وعزاه إلى مجاهد ومكحول وإبراهيم والزهري وسعيد بن جبير ، وسعيد بن المسيب13.

      ورواه ابن مردويه عن ابن عمر رضي الله عنهما من الصحابة ، وعكرمة من التابعين ، ورواه عن عكرمة عبد بن حميد كما رواه عن مجاهد وأبي صالح بإسناد صححه الحافظ ابن حجر14. وأخرجه الإمام ابن جرير عن مجاهد بخمسة أسانيد وفي كلامه إنكار صريح للرؤية ، فقد جاء في رواية منصور عنه أنه قال : لا يراه من خلقه شيء ، وفي أخرى مـن طريقه أيضاً قال : كان الناس يقولون في حديث ( فيرون ربهم ) فقلت لمجاهد : إن أناساً يقولون إنه يُرى ، فقال : يَرى ولا يراه شيء .

      وفي تفسير الميزان للعلامة الطباطبائي - وهو أحد علماء الشيعة الإمامية المعاصرين - ما نصه : وفي العيون في باب ما جاء عن الرضى عليه السلام من أخبار التوحيد بإسناده إلى إبراهيم بن أبي محمود قال : قال علي بن موسى الرضى عليه السلام في قوله تعالى : ( وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ) يعني مشرقة تنتظر ثواب ربها - قال : أقول ورواه في التوحيد والاحتجاج والمجمع عن علي عليه السلام15.

      ومن أقطع الأدلة وأبين الشواهد على مجيء النظر معدَّى بإلى ، وهو ليس بمعنى الرؤية قوله تعالى : (إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة)16 ، فإنه لو حمل النظر في الآية على الرؤية لأدى إلى أن الله سبحانه وتعالى لا يرى هؤلاء يوم القيامة ، وهذا عين المحال ، واعتقاده رأس الضلال ، فإنه كفر بالله تعالى ، ولا وجه لحمل النظر هنا إلا على الرحمة والإحسان ، ومن هنا نتبين أن نظر القوي إلى الضعيف هو عطفه ورحمته ، وأن نظر الضعيف إلى القوي هو انتظار ذلك منه .

      هذا وقد اتضح لك مما سبق أن الآية الكريمة تصور لنا حال الناس في الموقف قبل نقل السعداء إلى دار النعيم والأشقياء إلى نار الجحيم ، ولئِن كان النظر فيها بمعنى الرؤية وكان الراؤون له تعالى تنضر وجوههم بهذه الرؤية ، لزم أن تشمل هذه الحالة منافقي هذه الأمة لأنهم يشتركون مع مؤمنيها في الرؤية حسبما يقتضيه حديث أبي سعيد وأبي هريرة عند الشيخـين الذي يستند إليه مثبتو الرؤية كما سيأتي بيانه إن شاء الله .

      وقد أشكل على المثبتين للرؤية إسناد النظر في آية القيامة إلى الوجوه ، فترددوا بين القول بأن الرؤية بالبصر أو بالوجوه أو بالجسم كله أو بحاسة سادسة ، وما هذا الاضطراب إلا دليل بيِّن على أنهم غير مستندين إلى أصلٍ فيما قالوه ، ولو أنهم فهموا الآية الكريمة فهماً صحيحاً ، وحملوها على ما يقتضيه السياق واللغة لسلموا من هذا الاضطراب ، وبعدوا عن هذا التيه .

      وقد أدرك المحققون المنصفون من معتقدي الرؤية ضعف الاستدلال على ثبوت الرؤية بهذه الحجة فصرحوا بذلك ، فالسيد محمد رشيد رضا يقول في " المنار" : ( وأما رؤية الرب تعالى فربما قيل بادئ الرأي إن آيات النفي فيها أصرح من آيات الإثبات كقوله تعالى : (لن تراني)17 ، وقوله تعالى : (لا تدركه الأبصار)18 ، فهما أصرح دلالة على النفي من دلالة قوله تعالى : ( وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ) على الإثبات ، فإن استعمال النظر بمعنى الانتظار كثير في القرآن وكلام العرب ، كقوله : (ما ينظرون إلا صيحة واحدة)19 ، ( هل ينظرون إلا تأويله)20 ، (هل ينظرون أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة)21 ، وثبت أنه استعمل بهذا المعنى متعدياً بإلى ، ولذلك جعل بعضهم وجه الدلالة فيه على المعنى الآخر - وهو توجيه الباصرة إلى ما تراد رؤيته - أنه أسند إلى الوجوه ، وليس فيها ما يصحح إسناد النظر إليها إلا العيون الباصرة ، وهو في الدقة كما ترى)22.

      وقد سبق بيان ما أشار إليه أخيراً من استدلال حاملي النظر على الرؤية بإسناده إلى الوجوه والرد عليه .

      وقال الإمام المحقق ابن عاشور في تفسير الآية : ( فدلالة الآية على أن المؤمنين يرون بأبصارهم رؤية متعلقة بذات الله على الإجمال دلالة ظنية ، لاحتمالها تأويلات تأولها المعتزلة بأن المقصود رؤية جلاله وبهجة قدسه التي لا تخول رؤيتها لغير أهل السعادة )23.
      -1
      قوله تعالى : (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة)24 ، فقد فسروا الحسنى بالجنة والزيادة بالرؤية ، مستدلين بحديث صهيب عند الشيخين مرفوعاً : ( إذا دخل أهل الجنةِ الجنـةَ نادى منادٍ إن لكم عند الله موعداً يريد أن ينجزكموه ، قالوا : ألم تبيضْ وجوهنا ، وتنجنا من النار ، وتدخلنا الجنة ، قال : فيكشف الحجاب ، قال : فوالله ما أعطاهم الله شيئاً أحب إليهم من النظر إليه ) .

      وأنتم ترون أن لفظة الزيادة مبهمة غير دالة على الرؤية وضعاً ولا استعمالاً ؛ من قريب ولا من بعيد ؛ أما الحديث الذي عوَّلوا عليه في تفسيرها فدلالته على ما قالوه ضعيفة جداً

      فلأن النظر لا يلزم أن يكون بمعنى الرؤية كما سبق بيانه في آية القيامة ، وكشف الحجاب يجوز أن يكون كناية عن مزيد الإكرام ورفع الدرجات ، وفتح أبواب العطاء غير المحدود ، وهذا الذي يتعين أن يحمل عليه كشف الحجاب والنظر إلى الله في الحديث ؛ لدفع التعارض بين آيات الله وأحاديث رسوله عليه أفضل الصلاة والسلام .
      أما أولاً
      فلأن حمل الزيادة على هذا المفهوم يتعارض مع
    • شكرا على هذا الجهد أخي الكريم ولكن أفضل أن تضاف مثل هذه الموضيع إلى المكتبة الإسلامية حتى تساهم في إثراء المكتبة بكل جديد...
      كـــــــــــــــــــــــــــــــن مــ الله ــع ولا تبــــــــالي
      :):)