عنِ الهندسَة ، والسيَاسة .. كيف تتفقان؟

    • خبر
    • عنِ الهندسَة ، والسيَاسة .. كيف تتفقان؟

      AyshaAlseefi كتب:



      انقسمنَا في هذا الأسبُوع بمادّة تطبيقات الهندسة العالمية إلى مجمُوعتين للمناظرَة حول موضوع من هُم أكثَر "قوّة وتأثيراً" على المجتمَعات: المهندسُون أم السياسيُون؟

      في خضمّ الحديث حضرَت القصّة المشهورة حول كيفَ تمّ إنشاء النظام الحديث لشبكة الصرف الصحيّ في بريطانيا وتحديداً لندن.

      حتى منتصفِ القرن الثامن عشر حاولَ المهندسون في غيرِ مرّة تمرير مشروع لإنشاء شبكة مواسير حديثة وآمنة في لندن وكان المقترح يواجه بالرفضِ في كلّ مرة من قبل أعضاء البرلمان بسبب ارتفاعِ التكلفة. كانَ البرلمان متقبلاً لفكرة أن تنتهي مياه المجاري إلى نهر التايمز رغمَ أنّ هذا الأمر كانَ سبباً لانتشار داء الكوليرا على اعتبارِ أنّ النهر كان مصدراً للشرب ومكباً للمخلفاتِ البشريّة.. كلّ ذلك لم يحرّك البرلمان للتصويتِ من أجلِ المشروع.

      لم يتّخذ قرار إنشاء شبكة صرف كما هيَ اليوم في لندن إلا عندما علت الرائحة الكريهة في مجلس البرلمان البريطانيّ وعندمَا لم تعد الرّائحةُ محتملةً وافقوا على تمرير مشروع شبكة الصرف الذي قدّمه المهندسون المدنيون قبلَ ذلك. النتيجة أنهُ مهمَا حاولَ المهندسُون إيجَاد حلول مستدامة فإنّها تظلّ قاصرة إذا لم تدعمها سياسيَات واضحة وميزانيّات معتمدة هيَ في نهايَة المطاف قرارٌ يعُود للسياسيين.

      في المُجتمعات ذات النضجِ الديمقراطيّ يبدُو للمجتمع وزنٌ كبير لأنّ السياسيين المنتخبين هُم من يقررون هذهِ السيَاسات وأحزابهم هي من تقومُ إذا فازت بتعيين الوزراء وصنّاع القرار ولذلك فإنّ للمجتمع وزناً كبيراً في تمرير هذه القوانين لأنّ السياسيين يعرفونَ أنهم ما لم يعملُوا على خدمة احتياجات المجتمعات والمقاطعات التي انتخبتهم فهم يخاطرون بفقدان شعبيتهم وعدم ترشيحهم.

      تذكَّرتُ بهذَا الشأنِ الشّعار الذيْ رفَعَهُ مرشّح الرئاسة الكولومبيّ السابق أنطونوس ماكُوس (لا ديمقرَاطيّة بدون ماء) في الوقتِ الذي كانت فيهِ قرى ومدن كولومبيَا تُعاني من غيابِ شبكة توصيل ميَاه الشّرب ومفادهُ أنهُ لا مغزَى لانتخَاب مرشّح سياسيّ يعدهم بالديمقراطيّة ويعجَز عن تمرير مشروع لتوفير مياه الشربِ النظيفةِ للناس.

      الأمرُ ذاتهُ ينطوي على الحلول الهندسيّة التي تقدّمها المؤسساتُ العالميّة غير الربحيّة في العَالم.. الهندُ مثالاً.

      واحدَة من أبرز المشكلات التي تواجهُ المناطق الريفيّة والعشوائيّات في الهند (ونحنُ نتحدّث عما يزيدُ عن 200 مليُون شخص) هوَ غيَاب المراحيض وأنظمة الصرف الصحيّ وغياب مياه الشرب النظيفة. الأمر الذي يجعل ما يقاربُ من 50% من سكان الهند للجوء للأحراش، للاختباء خلفَ السيارات ، ومجاري المياه أو في الهواء الطلق من أجلِ قضاء حاجاتهم.

      النتيجة هيَ انتشار الأمراض المعدية، ارتفاع الوفيات بين الأطفال بسبب غياب أساسيات النظافة.

      حاولت منظمات مثل منظمَات بيل جيتس تقديم حلول هندسية ذكية لكنها تظل دائماً قاصرة مثلاً توفير مراحيض متنقلة ذات مخازن خلفية يتم تفريغها بشكل يدويّ. لكنّها حلول ذات نطاق ضيق فمهما وزّعتَ من مراحيض فالسؤال هوَ أين سيتم رمي المخلفات البشريّة بعدَ تفريغ المراحيض؟ إذا لم تكن هنالك شبكة صرف تمولها الحكومة فلا يمكن للمهندس أن يقدم حلول فرديّة لكلّ بيت standalone solutions

      وينطبقٌ الأمرُ كذلك على مياه الشرب. إذا قام المهندسون باستخدام مواد من الطبيعة تعمل على تنقية المياه مثل نبتة المورينجا أو الكاكتوس التي تعمل كمخثّرات طبيعيّة للأوساخ في المياه والرمل الذي ينقي الشوائب في مياه الشرب لكنها تظل حلولاً كافية لخدمة شريحة سكانية صغيرة لا تجمّع سكاني مليونيّ .. تجمعات كهذه تحتاج لتقنيات صناعيّة بكلفة عالية لا يمكن إلا لصناعِ القرار في الحكومة اعتمادها..

      هنالك مثلث للتنمية ذو محاور أساسيّة ثلاثة: صناع القرار والمشرعين في الحكومة ، أصحاب الصناعات والخدمات (القطاع الخاص والمهندسين) والثالث هو المجتمع .. إذا لم تنسجم هذه المحاور الثلاث فلا يمكننا تحقيق تنميَة قائمة على حلول هندسية ذات أثر فاعل على مستوى الكلفة والمنفعة ومؤديَة للغرض الذي قدمت له.

      خُلاصَة القول أنّ الهندسة تظل ذات أثر قاصر فهي قد تساهمَ في تقديم حلولٍ مؤقتة وذات نطاق محدود وبإمكانها أن تحل مشكلة آنية مؤديةً في كثير من الأحيان إلى مشاكل أكبر على المستوى البعيد (مثلاً تصميم نظام لجمع النفايات لا إدارتها) إذا لم تدعمها السياسة والسياسيُون. المهندسُون لا يحلُون المشاكل، إنهم يحولونها إلى شكلٍ آخر -كما يقولُ سكوت آدامز- إذا لم يدعمهم السياسيّون..

      نحنُ لا يقيّضُ لنا في عُمان أن نختَار وزراءنا. لكن لنحرُص على الأقل على اختيَار العقول الجديرة بتمثيلنا في مجلس الشورى. الانتخَابات قادمة فأحسِنُوا أيّها الشباب من يمثلُ مجتمعاتكم خيرَ تمثيل.

      Source: ayshaalsaifi.blogspot.com/2018/10/blog-post.html