على ضفاف قناة السويس

    • خبر
    • على ضفاف قناة السويس

      Alwatan كتب:

      أ.د. محمد الدعمي:
      ربما مرَّت أزمة انسداد قناة السويس المؤقتة على العديد من متابعي الأخبار دون ملاحظة، ولكنها (لحسن الطالع) أزمة لم تستمر طويلًا (حوالي ستة أيام فقط): فلو افترضنا أنها طالت أكثر من ذلك، لتأثر كل إنسان عبر القارات سلبًا بانسدادها، بل لتأثرت حتى مائدة غذاء الأسر عبر العالم بذلك. ومرد ذلك هو أن تجارة العالم (القديم خصوصًا آسيا وأوروبا وإفريقيا) قد اعتمدت هذا الممر الذي قلص تكاليف النقل البحري واختزل حركة التجارة العالمية مذ افتتاحها عام (1869)، فأسدى الشعب المصري الذي شق القناة للعالم جميلًا لا ينبغي أن ينسى.
      وإذا ما كانت أغلب منجزات التقدم العلمي والتقني اليوم ترتكن إلى فكرة عمليات الاختزال والتقليص (في الكلف والأحجام والتكاليف والمسافات)، خصوصًا عبر اختصار الأطوال الزمنية (كما تحقق ذلك اليوم مع الشبكات الرقمية وقنوات الاتصال والتواصل الفوري اليوم)، فإن شق قناة السويس كان (حقبة ذاك) هو الخطوة الرائدة الأولى من نوعها وعيارها على هذا المسار الاختزالي الذي غيَّر وجْه عالمنا مذاك، تواصلًا حتى اللحظة.
      وإذا كنا نعدُّ ما نتمتع به من اتصالات فورية ومواصلات سريعة من بديهيات الحياة الحديثة الاعتيادية الآن، فإن انسداد قناة السويس قد قدم للإنسان الحديث “صدمة وعي” من الطراز العنيف، إذ بقي العالم لستة أيام في حال من الارتباك والترقب، خشية العودة إلى حركة التجارة العالمية القديمة، أي من الشرق إلى الغرب، وبالعكس، عبر خط “رأس الرجاء الصالح” Cape of Good Hope الملاحي جنوب الزاوية المدببة القصوى الأخيرة لقارة إفريقيا، بمعنى تضاعف المسافة التي يتوجب على الملاحة الدولية أن تسلكها لتحقيق التواصل والتبادل التجاري القاري، بين آسيا وأوروبا، إضافة إلى بقية قارات العالم، والأميركيتين ليستا باستثناء. وتدرك أوروبا جيدًا أن هذه القناة المهمة إنما أمسكت برقبتها، ليس فقط على حقبة الكولونياليات البريطانية والفرنسية الزائلة، ولكن كذلك على الحقبة الجارية، أي حقبة العولمة واقتصادات التجارة الدولية المفتوحة، بدليل أن لندن وباريس تورطتا في صراعات وخصومات وحروب من أجل الهيمنة على هذا الشريان الحيوي الذي يربطهما بمستعمراتهما السابقة في الهند والهند الصينية.
      والحق، فإن أهم محك يجسد خطورة وحيوية قناة السويس قد ظهر يوم أفقد الرئيس المصري السابق، المغفور له جمال عبد الناصر، أعصاب قادة الامبراطوريتين البريطانية والفرنسية بتأميم قناة السويس وذلك عبر عملية مباغتة (عام 1956)، فتجسد “فقدان العصب” بالعدوان الثلاثي (البريطاني الفرنسي الإسرائيلي) على الشقيقة مصر في تلك السنة، بعد أن اشترت بريطانيا كافة أسهم شركة القناة على عهد رئيس وزرائها بنجامين دزرائيلي Disraeli.
      إنه لمن نافلة القول إن الرئيس المصري الراحل عبد الناصر كان يدرك جيدًا أن قناة السويس إنما تشكل مكافئًا لما يساوي الثروة النفطية، مقارنة بدولنا عبر الخليج العربي، نظرًا لأهمية ما تدر به القناة من أموال على الشعب المصري الشقيق.
      وإذا كان انسداد القناة المفاجئ قد دق ناقوس الخطر عالميًّا، فإن مسارعة الولايات المتحدة (سوية مع دول أوروبا) لإرسال فريق متخصص للمعاونة على تعويم الباخرة العملاقة قد دلَّ على أن أهميته القناة بالنسبة لواشنطن (لنتذكر مرور أساطيلها عبر القناة إلى آسيا وإفريقيا)، لا تقل أهمية عن أهمية “قناة بنما” التي اختزلت المسافة بين الأميركيتين (الشمالية والجنوبية) على نحو واضح المعالم.

      Source: alwatan.com/details/421950