رحاب: العودة إلى وديان جبل الصلاة (2)

    • خبر
    • رحاب: العودة إلى وديان جبل الصلاة (2)

      Alwatan كتب:

      د. أحمد بن علي المعشني:
      وصلنا إلى مصب شلال (لجأ الشأ) بعد أكثر من ساعتين ونصف من الصعود المتدرج..
      استقبلنا هدير الماء الذي ينحدر بقوة عارمة من منابع تقع في صدر جبل الصلاة (سمحان)..
      يصدر الماء صوتًا يدمج أصوات الهواء والطيور وحفيف الأشجار فيخرج إيقاعًا تتلقاه أسماعنا بانطباعات ومشاعر مختلفة، بين راغب في البكاء، وشاعر يستلهم قصيدة، ومقبل على المكان لتنظيفه وإعادة جمالياته.
      سلك أحد رفاقنا طريقًا وعرًا متسلقًا الصخور ومتحديًا الأشجار الشوكية من أجل أن يصل إلى أعلى نبع يغذي تلك الشلالات المتدفقة بكل قوة وعنفوان، لكن طريقه كان يزداد وعورة، تختفي أمامه معالم الطريق القديم الذي كان الرعاة وجامعي العسل يسلكونه، تابع صعوده غير عابئ بندائنا لإقناعه بالترك المغامرة، لكنه وجد نفسه متحررًا من القيود، كانت مشاعره الدفينة على موعد مع الطبيعة، كنا من وقت لآخر نرفع أصواتنا باسمه بحثًا عنه، لكن صدى ندائنا يعود إلينا من الصخور والكهوف.
      صرنا متأرجحين بين متعة الوصول والاستراحة بعد العناء والتعب وبين قلقنا على زميلنا الذي وجد نفسه في الطبيعة بعيدًا عنا، يعيش حالة العثور على الذات بالرغم من الوعورة والخطورة..
      انتحينا جهة اليمين من حوض الشلال والتمسنا الظل بين صخرة كبيرة شجرة تمر هندي وارفة الظل.
      كان المكان ضيقًا، بدأنا محاولات إزاحة بعض الصخور والأحجار وانتزاع بعض الشجيرات الضارة وتسوية المكان، أوجدنا مساحة صغيرة ظليلة سمحت لنا بقضاء ساعات استراحتنا تحت ظلال الأشجار وبجوار حوض الشلال الذي يشق طريقه بعيدًا إلى بطن الوادي، حيث تستقبله خزانات كبيرة وأنابيب قوية وعريضة تطوف بالقرى والتجمعات والممرات لتسقي الناس والمواشي وتتزيد من روعة الحياة في مناطق وديان جبل الصلاة البديعة.
      شعرت أن هدفي في الحياة يزدهر تمامًا عبر إحساس عميق ومترابط بمعرفة أن لدي القدرة على إحداث تغيير في حياتي كلها، جميع الأمراض يمكن أن يتم التخلص منها في الطبيعة، وكذلك الأفكار والمشاعر والذكريات السلبية يمكنها أن يخرجها المشي الجبلي من تلافيف العقل والجسد ويعرضها على شاشة الوعي.
      لقد ولدت في الطبيعة وعشت حياتي قبل المدرسة في الطبيعة بالكامل، فكانت بيتي في الجلوس والقيام والذهاب والتنقل والترحال، كنت متعودًا تمامًا أن أشاهد الغابات والأشجار والجبال في جميع أوقات الليل والنهار وعبر جميع الفصول، وعندما كانت الأمطار تسقط أو تهب الرياح أو يكون الجو لهيبًا حارًّا، فإن صفحة مشاعري تتفاعل لتواكب ذلك التغيير.
      ها أنا استعيد تلك المشاعر وأنا استأنف مع رفاقي مشوار العودة من (لجأ لشأ) كان طريق العودة شاقًّا ووعرًا جدًّا، تحرسه أشجار السمر وأشجار الصمغ العربي بنصال أشواكها الحادة، وتتراكم الصخور الضخمة مشكلة تحديات صخرية تستفز مشاعر الحذر والخوف.
      هنا عيادة نفسية كبيرة تضعك على محك الاعتراف، تسفر طبيعتك الحقيقية وتخرج مخاوفك، وتبدأ مشاعر الخوف والارتباك والنظر إلى نفسك بعيون الآخرين، كل ذلك يعبر عن وضع جديد أخوضه وأتعلم منه.
      صرت منذ سنواتي الأولى في (الهايكنج) أسمح للطفل الذي في داخلي أن يخرج بكل آلامه، وهفواته وأخطائه..
      اكتشفت أنني عندما أمشي في الطبيعة فأنا على موعد مع كل المشاعر المكبوتة.
      ومن خلال هذا المشي، بدأت تدريجيًا أعثر على طريق العودة إلى مراحل حياتي المختلفة، فأستعيد الإحساس العميق بالسلام والفرح.
      أدركت أن حبي للطبيعة لن يتوقف عند هذا المشي الجبلي فحسب، بل هناك فرصة كبيرة لعلاج آلام النفس والبدن والروح، هنا أستعيد الوعي من جديد وأقبل مشاعر الماضي الدفينة وأعالجها واسمح لبعضها بالرحيل.

      * رئيس أكاديمية النجاح للتنمية البشرية ـ مؤسس العلاج بالاستنارة (الطاقة الروحية والنفسية)

      Source: alwatan.com/details/435239