العمل العام

    • خبر
    • العمل العام

      Alwatan كتب:

      د. أحمد مصطفى أحمد:
      قبل عقدين أو ثلاثة كان الشائع أن من يتصدى للعمل العام يدرك حساسية ذلك الوضع، من ناحية ليس فقط تقبله للنقد أكثر من الآخرين، ولكن أيضا بالنسبة للحذر الشديد في ممارساته وسلوكياته. فالطبيعي أنه لكما أصبح الشخص في دائرة الضوء أكثر، يذوب الفاصل بين الخاص والعام بالنسبة له ويصبح كل تصرف له تحت المجهر. كانت الصحافة والإعلام غالبا، وما زالت إلى حدٍّ ما في بعض البلاد والمجتمعات، ذلك المجهر الذي يمحص كل ما يتعلق بالشخصيات العام خصوصًا السياسيين. وفي السنوات الأخيرة أصبحت مواقع التواصل على الإنترنت وسيلة أسرع انتشارا وأوسع تأثيرا في هذا السياق. ولأن مواقع التواصل ليست خاضعة لقيود مهنية ومعايير قيمية كتلك التي تخضع لها الصحافة، فإنها تطةل ليس فقط الشخصيات العامة، بل حتى الناس العادية. ورغم أن بعض الدول ضمنت تلك الوسائل في قوانين النشر، إلا أن ذلك لم يحد من تعرضها للبشر وأحيانا كثيرة بالتلفيق والتزوير الذي يساعد عليه تطور أدوات التكنولوجيا من فبركة الصوت والصورة.
      كان المفترض أنه مع تطور وسائل الكشف والنشر أن يزيد حرص من يتصدى للعمل العام. لكن ما حدث هو العكس تقريبا، فوسائل التواصل والنشر الرقمي عموما جعل من السهل على أي شخص يتم رصد هفواته أن يحاجج بأن ذلك “كذب وادعاء” ويتهم من ينشرون بالفبركة والتضليل. ورغم ما في تلك الحجج من وجاهة، أخذا في الاعتبار عملية الانتقام والابتزاز عبر الدس المعلوماتي، إلا أن ذلك لا يفسر ما حدث من تغير في العمل العام في العقود الأخيرة. فحتى قبل انتشار وسائل التواصل وتطبيقاتها على الهواتف الذكية التي أصبحت في كل يد تقريبا، كانت الشخصيات العام والسياسيون منهم بخاصة بدأوا في تجاهل كشف أخطائهم، بل وأحيانا التبجح وأن “تأخذهم العزة بالإثم”. وما عدنا نسمع عن وزير أو مسؤول ياباني كبير بقر بطنه بالسيف انتحارا إثر إشاعة فساد أو حتى استقالة وزير أوروبي بعد الكشف عن شبهة استغلاله لسلطته في تصرف قد يشكل مخالفة. فما الذي أصاب أخلاقيات العمل العام في الوقت الذي تطورت فيه وسائل الكشف ونشر العيوب بشكل أكبر؟
      هناك عامل عام، أتصور أن له علاقة بالتغيرات في السياسة بشكل عام، وخصوصا في دول الديموقراطيات الغربية. فبعدما ضاقت الفجوة بين طرفي الطيف السياسي، اليمين واليسار، وتركزت النخبة السياسية في الوسط لم تعد الديموقراطية التمثيلية ساحة منافسة قوية. كما أن الجماهير أصيبت بنوع من “اللامبالاة” والانسحاب من القضايا العامة بشكل واضح. وبدا الأمر في كثير من الدول والمجتمعات أن “الناس زهقت من السياسة”، وبالتالي تراجع اهتمام من يتصدرون العمل العام برد الفعل الجماهيري على تصرفاتهم. وربما ذلك ما جعل أشخاصا من خارج النخبة السياسية التقليدية يفوزون في انتخابات عامة في دول رئيسية، مثلما حدث بانتخاب الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب عام 2016. لكن ذلك العامل لا يفسر تماما حالة الصلف من جانب كثير من السياسيين والشخصيات العامة في مواجهة شبهات السلوك غير القويم.
      في العام الماضي، كان المانشيت الرئيسي لإحدى الصحف البريطانية يقول “لو أن المحافظين فريق كرة قدم تعرض لهزيمة 47-صفر ما استقالوا”. كان ذلك في وقت تعرضت فيه حكومة رئيس الوزراء وزعيم حزب المحافظين بوريس جونسون لحملة إعلامية مكثفة تتهمها بالتقصير، وواجه عدد من الوزراء اتهامات وصل بعضها إلى المحاكم. ورغم أن الصحيفة (ديلي ميرور) بالغت في العنوان باعتبار أنها يسارية التوجُّه وتميل لحزب العمال المعارض، إلا أن هناك قدرا من المصداقية في العنوان الساخر. بل ويمكن القول إن ذلك لا ينطبق على المحافظين وحدهم، أو على اليمين السياسي فحسب، بل يمكن سحبه بقدر ما على النخبة السياسية كلها. وربما ليس في بريطانيا وحدها، بل في كثير من الديموقراطيات الغربية في أوروبا وأميركا الشمالية وغيرها. لكن طبعا تظل بريطانيا، باعتبارها من أعرق الديموقراطيات في العالم، نموذجا يقاس عليه كما يحتذى به.
      في خلال أقل من عام، واجهت الحكومة عددا من المشاكل كلها تتعلق بممارسات وزرائها لكن رئيس الحكومة وقف دائما بجانب أعضاء حكومته ولم يطلب من أي منهم الاستقالة أو يقيله. بعضهم تمسك بمنصبه رغم جدية الاتهامات وبعضهم آثر الاستقالة؛ لأنه لم يعد قادرا على مواجهة تبعات أفعاله التي تم الكشف عنها. في مقدمة هؤلاء وزيرة الداخلية، والتي سبق أن أقيلت من حكومة سابقة لقبولها رشوة من إسرائيل. وقدم كبير موظفي وزارتها شكوى ضدها للقضاء لكنها بقيت في منصبها. ثم جاءت مخالفات وزير شؤون مجلس الوزراء وكبير مستشاري رئيس الوزراء لقوانين وباء كورونا في فترات الإغلاق لكنهما حصلا على دعم وتأييد رئيس الحكومة. وإن كان كبير مستشاريه استقال فيما بعد لكن لأسباب أخرى غير ما كشف عنه من مخالفاته. كذلك فل وزير الصحة السابق الذي واجه انتقادات واسعة منذ بدأ وباء كورونا، لكن فضيحة أخلاقية جعلته غير قادر على الاستمرار في العمل لأسباب أسرية. وأخيرا وزير الخارجية الذي كشفت الصحافة أنه تكاسل عن مواجهة تطورات أفغانستان لقضائه إجازة خارج البلاد لكن رئيس الحكومة دعمه أيضا. والأرجح للأسف أن يستمر هذا التوجُّه مع استمرار حالة السياسة في العالم وثقة الجماهير فيها.

      Source: alwatan.com/details/435564