في العمق: منظومة تقييم الأداء بحاجة إلى ممكّنات

    • خبر
    • في العمق: منظومة تقييم الأداء بحاجة إلى ممكّنات

      Alwatan كتب:

      د. رجب بن علي العويسي:
      تُعد منظومة تقييم الأداء (المؤسسي والفردي) أحد أهم جوانب التطور الحضاري والرقي الفكري، والإجادة الإدارية للمجتمعات، في ظل تأسيسها على كفاءة المعايير، وجودة الأدوات، ومصداقية البيانات، وتنشيط سياسة الحوكمة، ووضوح مفاهيم العمل، واستراتيجيات الأداء، والوصف الدقيق للمهام والاختصاصات الوظيفية، فهي تأكيد على أن تنتهج سياسات العمل المؤسسي وثقافة أفراده نُهجا معيارية تعتمد الابتكارية والمنافسة مدخلا لها، والوضوح والشفافية والدقة في اللوائح وأنظمة العمل وطرق التفاعل طريق نجاحها، ويصبح الحديث عن مؤشرات الكفاءة والجودة وتحقق الإنتاجية أحد مخرجاتها الأساسية التي تعمل على تحقيقها ضمن نظام مؤسسي تتكامل فيه الجهود، وتتفاعل فيه العناصر المؤسسية مع بعضها، ذلك أن من شأن هذا الترابط والتكامل بين الهياكل التنظيمية والاختصاصات، واستحضار الكفاءة المهنية في المورد البشري الوطني، وما يمتلكه من مهارات وقدرات واستعدادات وتعليم وتعلم وتدريب ومواقف حياة، أن يشكل مدخلا للتكامل الفكري والأدائي بين السياسات والممارسات، والخطط والبرامج، والرؤى والأفكار المطروحة، والمبادرات والنماذج التطبيقية، وبالتالي فإن تجسيد إعادة الهيكلة في واقع عمل وحدات الجهاز الإداري للدولة، يتطلب إرادة صادقة، وحسًّا مسؤولًا، والتزامًا يصنع القوة، ويضع التغيير المقنن واقعا عمليا، من خلال عمل مؤسسي جاد ومبتكر، وشراكة فعلية تتماهى فيها الذات، وتنصهر فيها الأيديولوجيات، وتختفي فيها التقسيمات السيادية من غيرها للمؤسسات، هذا الأمر يستدعي اليوم وضوحا أكثر في مسار العمل، وتحليلا أدق لدور كل مؤسسة، كما يستدعي اعترافا بالقصور وجلدا للذات باعتبارها موجِّهات أساسية في ثقافة العمل المؤسسي وثقافة المسؤول الحكومي لإعادة تصحيح مسار الأداء والاعتراف به، وإعادة تحليل هذه الاختصاصات والبناء عليها وتمكين المؤسسات من ممارسة دورها بكل احترافية، في ظل منظومة رقابية كفؤة تحفظ الأداء الوطني من الانحراف وتجنبه الشطط والاندفاع، وتصنع له مسارات القوة، وتعظم من قيمة الإنجاز في فقه المواطن.
      وتبقى منظومة الأداء الحكومي (المؤسسي والفردي) بحاجة إلى مؤسسات رقابية مستقلة، تعمل على رصد نواتج العمل وأساليب الممارسة، وتشخص حالة الهدر والفاقد في السلوك الإداري، بما تمتلكه من اختصاصات وصلاحيات، وضبطية قانونية ورقابية تضمن قدرتها على مراجعة آليات العمل، وتقديم الدعم والمساندة لوحدات الجهاز الإداري للدولة المتأخرة عن ركب التطوير، أو عن تنفيذ متطلبات الإدارة الإلكترونية لتحقيق الشفافية الإدارية وتبسيط الإجراءات، أو المتعثرة في أداء مسؤولياتها الوظيفية والمهنية نحو موظفيها والمجتمع الوظيفي والمستفيدين من الخدمة الحكومية التي تقع ضمن دائرة اختصاصها، بما من شأنه تفعيل الأدوات الرقابية والرصد الفوري للأداء والمساءلة والمحاسبة، وتوفير أنظمة تقييم بديلة في التعامل مع طبيعة الموقف أو معالجة التحدي القائم، وتتبع مستمر لكل محطات الإنجاز المتحققة، ومستوى التوظيف للفرص وحضورها في منظومة الأداء، ومراجعة منظومة الصلاحيات والحوافز التي تقدمها منظومة التقييم لوحدات الجهاز الإداري للدولة ومدى استحقاقاتها لها بحيث تراعي مستوى الأداء وحجم الملاحظات والشكاوى المجتمعية نحوها، بالإضافة إلى دورها في إعادة هيكلة الأداء الفردي وطريقة التعاطي معه، وكيفية تطبيق اشتراطاته في واقع عمل المؤسسات من واقع الموارد البشرية، ومستوى حضور الكفاء القيادية والإدارة المخلصة، من غيرها في منظومة العمل، وما يصحب هذا الأمر من تراكمات وتظلمات ترصدها محكمة القضاء الإداري وغيرها حول العمليات الداخلية والممارسة الإدارية والمالية للمؤسسات، بما يعني امتلاك هذه المرجعية الوطنية لمسارات عمل قادرة على استيعاب الحالة الوطنية بكل تجلياتها وظروفها، مع ما يتبع عملية التقييم والرصد والتشخيص من لقاءات مستمرة تضمن تبليغ هذه الدوائر بأبرز الملاحظات التي عليها، وكيفية تصحيحها والمدة الزمنية الممنوحة لها في الواقع، والإصلاحات التي عليها أن تنجزها لتغيير هذا الوضع أو توقع الوصول إلى نتائج مرضية، والإشهار المستمر لهذا التقييم، سواء على مستوى الوحدات الحكومية وتقييم النتائج وتكريم الدوائر المتقدمة والمتفوقة في تنفيذ الاختصاصات ونسبة التنفيذ لها بحسب الخطة التشغيلية المحددة، ومستوى التقدم المتحقق في كل عنصر، ثم أسباب تأخر بعض الدوائر في إنجاز المهام، وموقع الإدارة المؤسسية من هذه الإخفاقات.
      وعليه، فإن وجود منظومة الأداء لا يكفي في تحقيق التحول في الأداء الحكومي، فهي بحاجة إلى ممكنات أخرى، وعبر تشريعات ضامنة تحتويها، وتحافظ على قوتها، وتقلل من تدخل العنصر البشري (الاستثناءات الممنوحة للمسؤول الحكومي في تغيير بوصلتها وإضفاء صفة الذاتية والمزاجية على الممارسة التقييمية والظروف التي تعمل فيها، وتدخلات الوجاهة الاجتماعية) بما يعني أن نجاح منظومة الأداء، وقدرتها على الاستدامة، والوصول إلى منتج وطني واضح يحقق العدالة ويعزز الإجادة ويقوّي روح الانتماء الوظيفي والولاء المؤسسي، بحاجة إلى وأد كل أشكال الهدر، ومسببات التأخر، ومبررات الشخصنة فيها، ومنع كل منافذ التأثير الوجاهية عليها، إذ إن الحقائق الكبرى التي تبرزها منظومة تقييم الأداء المؤسسي والفردي تجد ـ وللأسف الشديد ـ من يقف ضدها من أصحاب القرار والمتنفذين في المنظومة الإدارية، ويعمل بكل جهده على تقويضها وتضييع أركانها ومنع الصلاحيات عنها، وإجحاف حقها في الدعم والمساندة حتى وإن وجدت الفلسفة التي تعمل فيها أو إطار العمل الذي يحتويها ما دامت تفتقر للتشريعات والقوانين والأنظمة التي تعصمها من الانحراف وتبعدها عن الانزلاق، أو تفتقر لضمير الإنسان المخلص (المسؤول الحكومي والموظف) محاولة منه في إخفاء السر المدفون، وفرض سياسة إدارية خاصة بمؤسسته قائمة على الذاتية والفردانية وفرض سلطة الأمر الواقع، واستغلال النفوذ المتسلط للقرار، أو تعمل على تهمش دور المعايير ومستوى الثقة فيها والاعتماد عليها في الواقع، والاقتصار على وجودها الوجاهي في القوانين دون تجسيدها في واقع التنفيذ، أو الالتزام بتطبيق مؤشرات الأداء وتحليل نواتجها، أو الاحتكام إلى معيار الكفاءة في العمل ودقة الفعل في الممارسة، بقدر ما يعترف بالتصريحات والترويج والدعايات الإعلامية، فتضيع الجهود وتموت الكفاءات وتنتصر التحزبات والشكليات والممارسات الأخرى المشوهة للعمل المؤسسي الكفء، وتبرز العلاقات المصلحية وكثرة التردد على المسؤول وغيرها من الأمور على حساب النزاهة والكفاءة والإنتاجية.
      أخيرا، فإن تحقق الطموحات الوطنية في أداء حكومي كفء من إعادة هيكلة منظومة الأداء الوطني، بحاجة إلى إرادة الإنسان العماني نفسه (المسؤول والموظف) واستشعاره لقيمة التقييم وأهميته في تحقيق التغيير الذي يجب أن يطول هذه المنظومة بكل تفاصيله، مستحضرا ما أسهمت به حالة التعثر والبطء والهدر والتكرارية والترهل من نتائج سلبية على الأداء، إنها بحاجة إلى إحداث ثورة الإدارة في منظومة الجهاز الإداري للدولة، وفق مراجعة شاملة لكل الآليات والأساليب المتبعة في الوحدات الحكومية والتي تتعارض مع منظومة تقييم الأداء أو لا تخدم الإجادة المؤسسية والفردية، أو تلك التي تكرس لمفاهيم المحسوبية والذاتية، وتوفير التشريعات والأنظمة التي تعطي لمنظومة تقييم الأداء القوة والمرونة في التعامل مع كل الأحداث والمتغيرات في إطار متزن وبآلية عصرية تمتلك أدوات تقييم مقننة، وتستخدم حزما مجربة من الأساليب والمعايير، ومؤشرات قياس حقيقية تقف على جوانب القوة والقصور في عمل الوحدات الحكومية، وتضع محددات للمعالجة والتطوير بناء على رصد دقيق للواقع، وتقييم دوري للأداء، ومقارنات مستمرة تأخذ في الاعتبار كل العوامل الداعمة أو المحبطة للأداء، وبالتالي ما يرتبط بهذه الإرادة من إدارة كفؤة ومنظومة أداء مرنة تقرأ تفاصيل العمل المؤسسي، وتقيم إنجاز المورد البشري آخذة في الاعتبار طبيعة وظائف المستقبل ومساحة التدريب والتأهيل النوعي التي يحتاجها، بحيث تؤسس فيه مفهوم القدوة في الأداء، وترسخ لديه معيار التنافسية في العمل، وتبرز خلاله أخلاقيات الإنسان وقِيَمه ومبادئه وضميره وإنسانيته، بحيث يؤسس هذا الأمر إلى مرحلة جديدة في العمل المسؤول الذي تتفوق فيك الكفاءة المهنية والأخلاقية والأدائية على غيرها من الموازين الشكلية والاعتبارات المجتمعية، بما يحمي الوظيفة العامة من كل الألقاب القبلية والوجاهية المجتمعية التي باتت تؤثر سلبا على الأداء، وتمنح صاحبها حصانة مجتمعية تختزل الكثير من المرتكزات والأولويات والواجبات والأسس والمعايير المطبقة، وتصنع له استثناءات أخرى خارج إطار الوظيفة العامة بالشكل الذي يؤثر سلبا على أدائه المهني والتزامه الوظيفي، بالإضافة إلى أهمية وجود نظام عملي مرن ودقيق في اختيار الموظف الحكومي وترقيته ومكافأته، ومراجعة أسس الاختيار والترقيات لتصبح أكثر واقعية في ارتباطها بمنجزه الفعلي والمهارة المتوافرة والكفاءة الأدائية، مع ضرورة إعادة ضبط الوظائف والتقنين المعياري للوصف الوظيفي لها، وضبط معايير تقييم الأداء الفردي للموظف الحكومي بما يجسد عمليا متطلبات الوظيفة في الواقع. وبالتالي أن تضع هذه المنظومة في الحسبان كل التوقعات التي يفرضها الواقع وتستجدها الأحداث وتتعامل مع طبيعة الرفض البشري للتحولات الجديدة في تقييم الأداء، مع الاحتفاظ بحقها في التخطيط السليم، والتقييم العادل، والتنفيذ الأمين، والمراجعة المقننة للأدوات والآليات والخطط والبرامج والمبادرات، مستحضرة ما جاء في المادة (65) من الفصل السادس “المتابعة والرقابة على الأداء الحكومي” في النظام الأساسي للدولة، لعمل مؤسسي كفء، يحقق العدالة، ويبني المنافسة، ويحتفظ بكفاءة المورد البشري الوطني، ويرفض منطق البيروقراطية وشخصنة الممارسة المؤسسية.

      Source: alwatan.com/details/437051