Source: alwatan.com/details/439824Alwatan كتب:
سامي الهاشلي:
تلك المدرسة التي نحزم إليها حقيبة كتبنا، ننسل منقماط منزلنا إليها صباحًا لنعود إليه مساء، هي تمثيل مصغّر للحياة الدنيا، وذلك المنزل الذي نؤوب إليه هو الوطن الذي خلقنا فيه، وكل يعود إلى موطن أبيه وأمه، وإن طال غيابه، وموطننا الأصيل هو الجنة التي سكنها أبونا آدم وأمنا حواء، وقد غادرنا ذلك الوطن إلى الدنيا لنعود إلى إليه تارة أخرى، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، قَالَ:(كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ إِلَّا مَنْ أَبَى، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَنْ يَأْبَى؟ قَالَ: مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى) (رواه البخاري)، كتلك الرحلة المدرسية، حيث الابتلاءات المتعددة،مشقة الدراسة وتراكم المناهج والاختباراتوالتقارير والواجبات والتكليفات، ثم إلى الشهادة والنجاح والرسوب وغيرها، ولن تتأتي النتيجة إلا بعد مضي جدول الحياة تطبيقًا.
ومن سنة الله أن يختبر العبد لينظر إلى ما قدم، وهذهالجدلية يجاب بها من يتساءل استنكارًا:ما الغاية من خلقنا؟!، والجواب بكل سهولة: إن منحتنا المدرسة شهادة النجاح، قبل الدراسة فمن الذي سيسعى سعيها، وما هي مبررات التفوق إن كان المهمل والمجتهد في النتيجة سواء، ومن يستطيع توزيع التفاضل في الدرجات بلا تقييم لجهد ولا مقياس لنتاج؟، سينتج من ذلك فوضى عارمة لا قبل لها، ولكن إن توزعت الدرجات على حسب الاجتهاد سيرضى كلٌ بما تحصّل وإن كان راسبا، فذلك نصيبه العادل، لذلك يقول المهمل يوم الحساب الأكبر (..يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي) (الفجر ـ 21)، فلا حجة بعدها تحسب على الله، والابتلاءات (أو نسميها الاختبارات) واقعة بكل فرد أو جماعة لا محالة،وهي أنواع عديدة، نجملها في الآتي لنتمكن من معرفة ماهيتها وكيفية التعامل معها بالخلق وكيفية تحقيق الهدف منها:
1ـ الابتلاء المادي والنفسي: قال الله تعالى:(وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِوَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) (البقرة ـ 155)، وقال جل جلاله: (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًاوَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) (آل عمران ـ 186)، فالخوف بلاء نفسي يصدر من عدة أسباب، كالصحة والسقم، والتهديد والصعوبات، والسعادة والشقاوة، ويصدر من أهل الاستهتار والنفاق والحسد والعداوة والضغينة، والبلاء المادي في الفقر والغنى والعوز والرفاهية، والضعف في الرواتب والمكافآت والترقيات .. وغيرها.
2ـ الابتلاء بالدرجات الدنيوية: سواء المناصب الاجتماعية أو الوظيفية أو الاقتصادية أو العلمية .. وغيرها، قال الله تعالى:(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ۗ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ) (الأنعام ـ 165)، (وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ ۚ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَىٰ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ ۚ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ) (النحل ـ 71)، فالمفضل بالدرجة ما لم يعتصم بخلق التواضع والعدل والرحمة يأخذه خلق البطر والتكبر والتغطرس والظلم والاستبداد، والمفضل بالغنى إن لم يتحل بخلق الإحسان ستتخطفه الأنانية والطمع والاحتكار، وينقاد للفساد، وينسى حق الله وحق الوطن في التخلص من طبقية الفقر، وأما المفضل عليه إن يثبت بخلقه سيتحامل على الغني بالحقد والحسد والانتقام والسرقة والتخريب والإفساد .. وغيرها، وكذا في الجانب الطبقي سيلجأ إلى التمرد والعصيان والفوضى والسخرية .. وغيرها.
وفي الابتلاء بالعلم إن لم يشعر المتعلم بتفضيل الله له سينجر إلى التكبر والغرور، والسخرية من الآخرين والتعالي عليهم بالشعور بالأفضلية، وقد يأدي به إلى الانعزال وعدم إفادة العلم بالتعليم، وفي المقابل يسخط المفضل عليه به إن لم يتمسك بخلقه هو الآخر، وقد يؤدي به إلى كره العلم الذي يحمله ذلك العالم، ولا ينصاع إلى توجيهاته وإن كان عالم دين، وما يخشى أنه معرض للوقوع في ضلالة الإلحاد.
3ـ الابتلاء التنافسي: قال الله تبارك وتعالى وهو يحث على التنافس في التقدم في مضمار الحياة والوصول إلى ما هو جديد ومبتكر وأجمل:(وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا..) (هود ـ 7)، وقال جل جلاله: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًاوَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) (الملك ـ 2)، فالحياة مسارح للرقي بالنهج الأخلاقي، وممشاةللحسنية وطلاوة التحضر، سواء في جلب الخير أو دفع الضر.
4ـ الابتلاء الإرجاعي: قال تعالى:(وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًامِّنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَٰلِكَوَبَلَوْنَاهُم بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (الأعراف ـ 168)، من الآيةقد تصاب جماعة من الناس بأسرها بقارعة في مناخ كإعصار أو زلزلة أو براكين أو مد بحري كتسونامي، أو قحط أو انتشار مرض، قال تعالى:(وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَىٰ دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (السجدة ـ 21)، بسبب انتشار المعاصي والفساد بشكل جماعي، والحكمة من الابتلاء التخويف بما يجري عليهم، أو الاعتبار بغيرهم، وكلا الأمرين لأجل الرجوع إلى الله:(وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُم مِّنَ الْقُرَىٰ وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (الأحقاف 27)، للرجوع إلى التقوىوالإصلاح في الأرض، (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَىٰ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) (هود ـ 117).
5ـ الابتلاء بالإيجاب والسلب: لا يقتصر الابتلاء على الجوانب السلبية، التي ذكرناها سابقا، لكنه يشمل الأمور الإيجابية، بالمال والجاه والعافية والمنصب وكثرة الأولاد ومثل ذلك، قال تعالى:(.. وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ۖ وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) (الأنبياء ـ 35)، وافترض أنه يعقب هذا الابتلاء الشكر على النعمة، لأنّ الخلق المضاد لها الجحود والنكران والطغيان والكبر والخيلاء والاستعلاء في الأرض، ونحوها، (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْوَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) (إبراهيم ـ 7).
* الهدف الخلقي من الابتلاء
الابتلاء مهم جدا وله حاجة ملّحة، فالنفس الإنسانية تحمل صفتين متناقضتين، الشكر والكفر، التقوى والفجور، (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) (الشمس 7 ـ 8)، وينتج من الابتلاء غلبان صفة الخير على الشرّ.
الابتلاء يعزز به خلق الثقة بمشيئة الله وقدره واختبار لمقدرة حسن الظن وتثبيتها في النفس، لتعلو صعاب الحياة وتحدياتها والإقدام فيها بكل يسر وتفان، وعليه فالابتلاء واقع على كل مؤمن بلا استثناء ليكن ذلك في الحسبان، وليكن استحضار هذا الهدف حاضرًا عند تلقي الابتلاءات (أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ) (العنكبوت ـ 2).
الابتلاء سلم الارتقاء فالاختبار بالابتلاء تتمحص به النفس المؤمنة لتظهر أمام الله وهي ثابتة الإيمان قادرة على الصبر والتجاوز، فينتج منه العلو إلى مرتبة رسمها الله للمؤمن كهدف يسعى إليه وهي مرتبة الشهادة (إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ ۚ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) (آل عمران ـ 140)، ومرتبة الشهادة هي مرتبة القيادة، ومطية ذلك الاتصاف بالعزم والصبر والحكمة والتقوى التي هي شمّ الفاعلية القيادية، قال جل جلاله بعد عرض الابتلاءات الكثيرة: (.. وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) (آل عمران ـ 186).
الابتلاء يكبح جماح النفس المائلة إلى الأخلاق السيئة كالغرور والتعالي، وعدم الشعور بالنعمة فيتعذّر شكرها، والابتعاد عن المولى والدعاء له، وتقلص اللجوء إليه..فالابتلاء لها دواء وشفاء، (.. كَذَٰلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) (الأعراف ـ 163)، فالابتلاء يرجع الخلق إلى مستقره الآمن، فيعود بها إلى التواضع والشعور بالحاجة لله والحاجة إلى حفظه وعدم الاستغناء عن معونته والرضى بقدره وديمومة توبته، واستشعار نعمته بعد فقدها، وسعة حلمه وكرمه ومحبته وخشيته.
بالإجمال يظهر إجمال الاختبارات في أمرين: التنافس، والتوبة، فالتنافس يعزز به إما أمانة الاستخلاف وهي أمانة لعامة الناس أجمع مسلمهم وكافرهم، وإما أمانة الدين وهي تخص أهل الإيمان، وتكون التوبة إما للعاصي المسلم ليستقيم أو الكافر ليسلم.
* كاتب عماني
البلوى في ميزان الخلق وتحقيق الهدف الرباني فيها
- خبر
-
مشاركة