كان لظهور كتاب (السلطة في الإسلام) صدى كبير في الأوساط الثقافية، واطروحاتالكتاب أذهلت الكثيرين، وصفها الشيخ العلامة أحمد بن حمد الخليلي المفتي العاملسلطنة عمان حفظه الله تعالى بقوله: ( إنها محاكمة للمسلمات التاريخية إلىثوابتالنصوص القطعية ).
وتقديراً للجهد الذي بذله المؤلف، وتقريباً لمراد الكتاب بصورة أوضح إلى القارئالكريم ، أجرت (المعالم) مدارسة علمية مع المستشار عبدالجواد ياسين مؤلف (السلطة فيالإسلام).
(المعالم) : كان لظهور كتابكم القيم (السلطة في الإسلام) صدى كبير، تراوح بينالسلب التام والإيجاب التام، وقبل أن ندخل في الحديث عن مفرداته، نريد أن تعرفوابأنفسكم للقراء الكرام....
(المستشار) :أنا عبدالجواد ياسين من مواليد عام 1954م، في قرية الزرقا إحدى قرىشمال مصر، تخرجت من كلية الحقوق بجامعة القاهرة عام 1976م، ومارست العمل في النيابةالعامة والقضاء المصري لفترة من الزمن، وأمارس الآن العمل في القضاء بدولة الإماراتالعربية المتحدة.
(المعالم) : بحكم عوامل الجغرافيا والتاريخ كان من المفروض أن تكون قارئاًللمدرسة السلفية من الداخل، لكنكم وقفتم خارجها ونقدتموها، ما هي الأسباب التيدعتكم إلى ذلك ؟.
(المستشار) :من طبيعة العقل أن يتحرك ويمارس التفكير، والمدرسة السلفية ليستبدعاً من العقائد والأفكار التي يمكن يمارس في حقها التفكير… فطوال فترة طويلة كنتأعتبر نفسي بشكل من الأشكال داخل المدرسة السلفية، أقول بشكل من الأشكال لأنه كانهناك دائماً نوع من الخلفية الرافضة للانصياع لمفهوم التبعية العمياء. وهذا سببهالممارسة العقلية التي تأبى بطبيعتها مبدأ الاتباع، أي أن يكون الإنسان تابعاً بلاتفكير.
وبعد فترة من الفترات وأنت تبحث، تصطدم بقضايا لا يمكن العبور عليها بسهولة، وفيفترة معينة كان من اللازم على الإنسان أن يقف وقفة مراجعة، وأنا أعتقد أن هذا تمبشكل طبيعي؛ وناجم عن ممارسة حقي الطبيعي في التفكير كإنسان أولاً ثم كمسلمثانياً.
وهذا التناول للقضايا والمسائل التي هي من صميم ديني وتمس أساً من أسسالحياة ... فأنا أعتقد أن هذا تم بشكل طبيعي.
(المعالم) : هل لوظيفتكم القضائية أثر في مناقشتكم للدائرة السلفية، لكونكمتتعاملون مع نصوص أقرب ما تكون إلى النصوص الشرعية، مع الاختلاف في أن هذه نصوصقضائية، وتلك نصوص شرعية. هل للقضاء أثر في تغيير وجهة نظركم للدائرة من الداخل إلىالخارج؟.
(المستشار) :لا شك أن أية صفة للإنسان تؤثر فيه سواء كان قاضياً أو غير قاض،وهناك عوامل كثيرة تؤثر في تكوين الإنسان الفكري منها: قراءاته، ومنها ثقافته ،ومنها وظيفته، ومنها بيئته، ومنها العوامل الوراثية الأخرى، ولأن القاضي يمارستعاملاً متواصلاً مع النص، وفي هذا التعامل من الواجب عليه أن يمارس نوعاً منمنطقية في التعامل، فلا شك أن يكون له أثر فيما تسأل عنه.
(المعالم) : كتابكم "السلطة في الإسلام" كان نقلة نوعيه في نظرنا للفكر الإسلاميالمعاصر، وصفها بعضهم بقوله: (إنها محاكمة للمسلمات التاريخية إلى ثوابت النصوصالقطعية)، لم كانت مثل هذه الاطروحات الراقية مجرد صرخات في واد ولا مجيب، ولم لاتنتشل من غياهب النسيان أو التغييب بالأصح، ولم لا تتحول إلى تيار قوي يفرض وجودهفي الساحة؟.
(المستشار) :أولاً: أشكر التقريض اللطيف الكريم للكتاب.وأعتقد أن صيغة الاستفهام الإنكارية التي سألت بها ... أنا أتفق معك بشأنها، نحننتعشم أن هذه الاطروحات لا تكون مجرد صرخات، وأن تنتشل من غياهب النسيان –على حدتعبيرك-، وأن تتحول إلى تيار قوي يفرض وجوده في الساحة.. هذا أمر مطلوب.لكن هذا لكي يتم لا بد أن تتغير الظروف الموضوعية أولاً ..
(المعالم) : ماذا تقصد بتغير الظروف الموضوعية؟.
(المستشار) :أقصد به التغير الناجم عن حركة التاريخ في الحياة، يبدو أن هناكأطوارا تاريخية تمر بها الشعوب، ويبدو أن على هذه الأمة أن تتجاوز الطور التاريخيالمتأخر نسبياً الذي تمر به في المرحلة الحرجة… ومعروف أن هذا الطور التاريخي مورثبحكم الميراث السلفي العاتي الشديد الوطأة، الذي ترزح هذه الأمة تحته من قديم.
وهذا الظرف الموضوعي، الذي هو تغير التكويني الذهني العقلي النفسي الثقافيالمسلم شيء أساسي وأولي، وهذا يتم بعناصر بعضها ظاهر ومحدد، وبعضها خفي غير مرئي،تفعل فيه يد التاريخ فعلتها مع الأمور، وتتم بشكل قد لا يكون محسوساً في النهاية.
وعلى كل من يعلم الحق أن يصدع به، وعلى كل من يرى رؤية في الفكر تصب في تيارإظهار الحق وتسليط الضوء على النواقص التي تنقص العقل المسلم، وبالذات ما ألححتعليه في هذا الكتاب من غياب المفردتين التي أسميتهما هناك رائعتين وهما (العقلوالحرية) وما يترتب على ذلك من مزيد من البروز –إن كان ثمة بروز- على إطلاق الحاسةالنقدية في العقل المسلم، التي تمكن الإنسان من أن يمارس جرأة النظر فيما يظن أنهثوابت، ويطرح بشأنها كمسلم تحت سقف النص أطروحته العقلية.
(المعالم) : لو كنت معكم أكثر جرأة، وقلت لك: بأنني سوف أعمل على تجميع الأصواتالمجددة في الدائرة "الفقهفكرية" في العالم الإسلامي هل ستكون معي في الخط؟.
(المستشار) :طبعاً.. أنا مع أي أحد يقوم بهذا العمل، وأشكرك على قيامك بهذاوأدعو لك.. والمسألة ليست سهلة ودونها صعاب وصعاب، وشمر ساعديك لهذا.
(المعالم) : طرحتم في هذا الكتاب القيم رؤية أصولية حديثية تدعو إلى مراجعةالاطروحات السلفية، هل هناك من يقول: إنكم تهدمون بذلك صرحاً إسلامياً شامخاً وماتعليقكم على مثل هذه المقولات؟
(المستشار) :كما اتفقنا أن السلفية كنمط تفكير تمارس سلطاناً عاتياً على العقلالمسلم، ونستطيع أن نقول إنها هي ذاتها العقل المسلم، والعقل المسلم الراهن هو مجردامتداد طولي زمني للعقل السلفي الأول.
وهذا يفسر بشكل بسيط جداً الهبّة التي يهبّها هذا العقل الراهن في وجه أي نوع منأنواع الممارسة النقدية على العقل السلفي، لأنه في حقيقة الأمر وهو يدافع عن العقلالسلفي الأول يدافع عن نفسه.
ومن الصعب جداً أن تقتلع الأفكار التي تم توارثها عبر هذه الفترة الزمنيةالطويلة من أعماق الناس... أياً كانت هذه الأفكار، فما بالك إذا كانت هذه الأفكارتتعلق بفرضية السلفية ذاتها. لأن العقل السلفي الأول كان سلفه سلفياً، وكانوا علىوعي بهذه القضية، وورث العقل المسلم فيما ورث مفهوم السلفية، أي مفهوم الاتباعالأعمى، وهذه قضية خطيرة جداً في العقل المسلم، وقبل الوصول إلى حل لإشكالية مفهومالاتباع المطلق الأعمى في العقل المسلم، ستبقى الأمور في خلل كبير، ويكون من الصعبجداً القفز إلى المنطلق الصحيح الذي ينبغي أن يقدم من خلاله الإسلام للناس في القرنالحادي والعشرين.
(المعالم) : طبعاً... نحن نسلم بوجود هذه الأصوات التي تعترض على هذه الاطروحات،ونحن نلاحظ هذه الحيثية التي ذكرتموها من عمق السلفية في العقل المسلم.لكن أليسمن سبيل للتحاور العلمي الهادئ الهادف مع مثل هؤلاء؟!.
(المستشار) :السلفية بالمفهوم الذي تكلمنا عنه ليست مجرد رأي، هي نزوعسيكولوجي، وهذا النزوع من الصعب التعامل معه بمنطلقات الفكر المحض، الرأي والرأيالآخر و الحجة بالحجة، هذا أمر يختلف عند التعامل مع إنسان يعاني من مرض نفسي.. أومن خلل نفسي.. أو من إشكالية نفسية لا سبيل إلى إقناعه بالحجة… القضية مختلفة.
أنا أزعم أن السلفية نزوع سيكولوجي بالمعنى الموجود في علم النفس… الناس تمارسهذه السلفية أحياناً بوعي وأحياناً بغير وعي. أصبح تكويناً راسخاً في التكوينةالإجمالية للإنسان بما فيها الشق النفسي، فمسألة الحوار وعدم الحوار يخضع فيهاالإنسان الراشد لحجية البرهان، فلما تكون المسائل بهذا الشكل تكون سهلة لا إشكالفيها، لكن لما يكون الإنسان قد قرر سلفاً بحكم نزوعه الوجداني أن لا يسمع.. تكونالمسألة صعبة.
ومع ذلك نحن لا ننفي أهمية الحوار مع أي أحد من الناس وفي أي وقت من الأوقات،ونحن نعيب على العقل السلفي أنه ينفر من الحوار ويتوجس منه خيفة ، وأنا لا أنفر منالحوار، بل أحب الحوار وأحب الخلاف، لأني أعلم أن الاتفاق الكامل مستحيل، ولا يوجدنوع من الاتفاق الكامل ولن يحدث (ولا يزالون مختلفين).
والاختلاف شيء من طبيعة البشر وتكوينهم، وهذا من خلق الله عز وجل، كل القضية أنتنظم هذا الاختلاف، وأن تنزل به إلى أدنى مستويات الضرر التي يمكن أن تترتب عليه،ثم تحصل منه على أعلى مستويات الفائدة التي يمكن أن تؤخذ منه؛ لأن الاختلاف لهفوائد بحكم أنك تستطيع أن تأخذ من كل شيئاً مختلفاً عما يعطيه كل فرد من أفرادالكيان. ومن جيشان هذا الاختلاف بين الناس يمكن أن ينتج ما ينفع الناس؛ ويؤدي إلىالمصالحة بالمعنى الحقيقي…
فأهلاً وسهلاً بالحوار.
(المعالم) : لو خرجنا نوعاً ما عن الدائرة الإسلامية، فمن خلال اطلاعكم علىعقلية غير العقلية الإسلامية كالعقلية الغربية مثلاً، هل ما زالت العقلية الغربيةتمارس هذه السلفية أم أنها تحررت منها؟.
(المستشار) :عند الحديث عن الغرب بالمعنى العام؛ يمكن أن تقول إنه بانتهاءالعصور الوسطى والدخول في عصور النهضة الأوروبية، أعلنت أوروبا قطيعة نهائية معالسلفية، لا سيما السلفية الدينية، لأن هناك سلفيات أخرى في الفكر الغربي، مارستأوروبا نوعاً من النكوص الارتدادي للماضي.
ومع بزوغ عصر النهضة توجهت أوروبا –في نوع من الحنين- إلى استدعاء الثقافةاليونانية القديمة، وادعت الانتساب إليها، وزعمت أنها امتداد للفلسفة اليونانية،والفلسفة الأوروبية المعاصرة تمارس الآن نوعاً جديداً من التمرد على السلفيةاليونانية.
وبالمعنى الدين ... أنت تعلم أن الكنيسة مارست على الإنسان الأوروبي طوال العصورالوسطى سياسة قبضة حديدية شديدة، فرضت عليه أن يقبع في دائرة بعيدة عن ممارسة العقلوعن ممارسة الحرية…. الكنيسة الكاثوليكية التي حاكمت (جاليليو) عندما تكلم عن الأرضبإنها ليست هي مركز الكون، وقال: إن مركز الكون هو الشمس ، مفجراً بذلك ثورة فيالعلوم الطبيعية، فأمرت الكنيسة بمعاقبته عقاباً شديداً…كاد يقتل فيه.
وانتهى الأمر بحبسه بعد اعتذاره الشديد عن النطق بهذه المقولة الهائلة الشديدة…والذي حصل عندما أخذ (جاليليو) للحبس، وبعد أن كتب إقرارا يعتذر فيه، فعندما دخلإلى الحبس نظر إليهم، وقال: ومع ذلك فإنها تدور؛ على الأرض … أي أنه غير قادر أنيقنع نفسه أن الأرض لا تدور لمجرد أن بعض المفاهيم السلفية لقراءة التوراة والإنجيلترى أن الأرض لا تدور... فالذي حصل في خلال السنوات القليلة الماضية أن أصدرتالكنيسة الكاثوليكية ذاتها اعتذاراً رسمياً (لجاليليو) وتبرأت من المفعول السلفيالأول الذي كان… والمقصد أنه حتى الكنيسة الكاثوليكية التي تمثل عمق أوروبا المسيحيالآن تمارس نوعاً من الرجوع عن السلفية... وتمارسها كذلك في أشياء كثيرة...
- في تفاصيل الفقه الكنسي.
- وتنصاع يوما بعد يوم لضغوط المجتمع المادي؛ الشديد المادية؛ الشديد الاغتراربقدرة العقل وفتنة التكنولوجيا التي ظهرت… لدرجة أن رجال الكهنوت أصبحوا من النساء،ويسمح لهم بأشياء لم يسمح لهم بها في الماضي، إلى درجة أن البعض يتحدث عن السماحلهم بممارسة الشذوذ الجنسي، وأشياء من هذا القبيل.
- فأوروبا تعيش؛ ليس مجرد ردة عن السلفية، بل تعيش انفجاراً ثورياً مضاداًللسلفية، هذه قضية تجاوزتها العقلية الغربية من قديم، لأن كلامنا هذا لا يمنع منوجود جيوب صغيرة أو شراذم داخل المجتمع الغربي تتكلم بشكل سلفي، أعني بذلك السلفيةالدينية أو السلفية العقلية المتمثلة في الفلسفة اليونانية، وقضية الفلسفة مشوارطويل جدا مختلف؛ فيه محطات طويلة؛ لا نريد أن نثقل على كاهل القراء به.
(المعالم) : هل تتصورون أنه سيأتي اليوم الذي سوف تعتذر السلفية للعقل المسلمالذي ينظر إلى النص مجرداً عن الإضافات التي أضيفت إليه؟.
(المستشار) :نعم أتصور... ولكنها حينئذ لن تكون سلفية، لا بد... لا بد أن يحدثذلك بحكم حركة التاريخ الطبيعة.
(المعالم) : ونحن متفائلون معكم.
(المستشار) :الحمد لله.
(المعالم) : هل ترون في المنهج الحديثي السلفي -على ما استقر عليه- إلزاماًلبقية المدارس الإسلامية، وإلا ما حدود الاستفادة من هذا المنهج؟
(المستشار) :تقصد منهج علم الحديث؟!!.
(المعالم) :: نعم؛ على ما استقر عند من سموا بأهل الحديث.
(المستشار) :ماذا تقصد بالإلزام؟
(المعالم) : سآتيك بمثال على ذلك: عند نقاش بقية المدارس مع المدرسة الحديثيةفي مسألة نقد الحديث، يطلب أهل المدرسة الحديثية أن يكون النقد مبنياً على ما قررتهالمدرسة الحديثية، فيلزمونا أن نتكلم وننقد وفق قواعدهم!، فهذا هو الإلزام!!. فهلالمنهج الحديثي على ما استقر عليه ملزم لبقية المدارس الإسلامية؟!
(المستشار) :منهج أهل الحديث يلزم أهله، والقائلون به يرون أنه الحق، والقائلونبغيره يرون عكس ذلك، هؤلاء يرون أنه ملزم، وهؤلاء يرون أنه غير ملزم، إذن فهذه وجهةنظر هؤلاء، وتلك هي وجهة نظر أولئك.
وأما وجهة نظري فهي أن لا شيء وضعياً يلزم إلا بدليل الحق، وقد لاحظت أن هذاالنمط من علم الحديث، الذي أسميناه بعلم الحديث الكلاسيكي؛ وجهت إليه بعضالانتقادات الواضحة في هذا الكتاب، وهذا وضع طبيعي أنك لا تلزم أحداً بما تنتقده…علم الحديث التقليدي الكلاسيكي؛ علم له وعليه، وأنا أرى أنه بما انتهى إليه منقواعد لم يستطع أن يقوم بالمهمة التي نشأ أساساً من أجلها وهي تقديم النص الحديثيالصحيح الواضح.
(المعالم) : أشكرك يا دكتور، لكن أعتبر -وأنت تعتبر هذا– على أن النظر في الحديثهو بيت القصيد، هل يمكن أن تتفق أو تشرع المدارس الإسلامية في تأسيس وجهة نظرحديثية منهجية جديدة يحاكمون إليها الروايات؟.
(المستشار) :أنا أشك في هذا، وأرى أنه صعب، على الرغم من رؤيتي أن الأرضية فيعلم الحديث بالذات ليست بعيدة بين المدارس… الأرضية العامة الإجمالية تكاد تكونمشتركة بين معظم المدارس، والخلافات تكمن أساساً في سلسلة الرجال، وامتداداتها خارجدائرة الرجال قليلة التأثير في رأيي، وبالتالي فإن علم الحديث باعتباره علماًتوثيقياً تاريخياً قابل لأن يمنهج، وقابل لأن يستند إلى قواعد المنطق والعقل؛ وهذاأمر مشترك… من الناحية النظرية يسهّل من حدوث ما تفضلتم بالسؤال عنه، ولكن شكوكيالأولى التي أبديتها ناجمة عن أسباب غير نظرية، ناجمة عن أسباب محض عملية في الواقعالذي نراه أمامنا.
(المعالم) : بمعنى أن نستخدم العبارة ((جائز عقلاً ممتنع واقعا)ً).
(المستشار) :بل سهل عقلاً.. سهل جداً. إنما سهام النقد يجب أن توجه لهذا العلم كما هو... بحالته الراهنة، أساساً منحيث إنه إسنادي بحت، قائم على السند وليس قائماً على المتن، ولا ينظر إلى نقدالحديث من متنه بأساسه، ونحن لا نتوجس من استعمال مفهوم النقد، وندعو إلى نوع منالتوسع في ممارسة النقد... هذا مطلوب.
(المعالم) : هناك قضايا جدلية على مدى تاريخ الدائرة الفقهفكرية الإسلامية،مثلاً لو تحدثونا الآن عن الإجماع والقياس، فهل لكم أن تسلطوا الضوء على وجهة نظركمالتي طرحتموها في الكتاب، وهل هي نظرية جديدة، وإذا كان كذلك فما الجديد فيها؟.
(المستشار) :الإشكالية الكبرى في الإجماع والقياس كليهما أنهما يشكلان مرجعيةمصدرية مفارقة للنص، ونحن لا نعادي مفردة الإجماع في ذاتها ولا مفردة القياس فيذاتها. ولكن نرفض ما رتبه عليهما العقل المسلم السلفي من إلزامية على أجيالالمسلمين إلى آخر الزمان.
مفهوم الإجماع في العقل السلفي هو: إذا اجتمع الناس –وهذا هو المفهوم الأول أوالميلاد الأول لمفهوم الإجماع، أنه اجتماع الناس بإطلاق- وكلمة الناس تشير إلىالمسلمين، أي إذا اجتمع المسلمون على أمر معين... أن هذا الأمر يمثل حكماً شرعياً،ومعنى أنه حكم شرعي أنه مؤبد على أجيال الأمة، وبالتالي يأثم من خالفه من الأمة ولوبعد ألف عام، ويظل الحكم الذي استنبطه بشر – على فرض إمكانية إجماع الناس عليه- يظلهذا الحكم ملزماً للناس لا يمكن أن يخالفوه بعد ذلك، فبالتالي يمثل وصاية أبديةمتواصلة على العقل المسلم تحرمه من أن يمارس حقه في الاجتهاد كإنسان يعيش العصرويمارس حقه في حرية النظر تحت سقف الضوابط الشرعية العلياء ومع حركة دفء الإيمان.
هذا الاعتراض على مفهوم الإجماع؛ الذي لنا عليه ملاحظات مبدئية منهجية، وهي أنهمستحيل عملاً بحكم جبلة الخلق الرباني التي خلقت بأصل الاختلاف في الجغرافياوالتاريخ وفي البيئة والثقافة والمولد واللون والتفكير.. في كل شيء؛ الاختلاف بينالبشر قائم.
أضف إلى هذا أن مفهوم الإجماع قد تطور في العقل السلفي المسلم، بعد أن كان إجماعالناس إلى أن صار إجماع الفقهاء، وهذا يسلمنا إلى وضعية بشرية جديدة معيبة ، لأنكستكون بحاجة إلى من يعرف لك هذه الهيئة التي سميت بالفقهاء، من الذي يختارها؟!.. منالذي يجمّع بينها؟!… ثم تفترض أن إجماع هؤلاء حدث في التاريخ… وهذا أمر أرى أنه لميحدث على الإطلاق في تاريخ المسلمين.
الإجماع الذي تكلم عنه البعض ومنهم ابن حزم مثلاً، هو إجماع الصحابة –هذا كلامابن حزم- على ما وافق الكتاب والسنة، وابن حزم قال على استحياء: إن هذا النوع منالإجماع هو النوع الوحيد الذي يعترف به. ثم يضيف أنه رغم اعترافه به، إلا أن هذا لايضيف جديداً، لأنه إذا كان إجماع على ما وافق الكتاب والسنة فإن المرجعية إلىالكتاب والسنة وليست لإجماع بشري.
القضية باختصار؛ إنه سؤال منهجي بسيط جداً وهو: من يشرع: الخالق أم المخلوق؟! .
إذا كان الخالق هو المشرع الوحيد في الإسلام، فالمخلوق لا يشرع ولا يغير من هذهالحقيقة أن يزيد عدد المخلوقين الذين يشرعون، لأن زيادة عدد المخلوقين لا يغير منطبيعتهم، لا يحولهم إلى خالقين..
المسألة واضحة وبسيطة جداً فيما يتعلق بالإجماع.
(المعالم) : وما يتعلق بالقياس؟
(المستشار) :إشكاليته أيضاً في التحليل الأخير؛ تؤدي إلى مرجعية بشرية إضافيةقائمة على الظنية، لأن الحكم الشرعي ينبغي أن يكون يقينياً ((إن الظن لا يغني منالحق شيئاً))
(المعالم) : طبعاً؛ هذا في دائرة الإلزام وليس في دائرة الرأي، أو كما يعبر عنهابعض الفقهاء في مسائل الدين والقطع وليس في مسائل الرأي والظن...
(المستشار) :ربما تكلمنا من قبل يا أخ خميس؛ أني لا أحرم ممارسة القياس كوسيلةعقلية ذهنية، الإنسان يقيس بحكم الطبيعة الذهنية، القضية غير التي نتكلم فيها.عندما نرفض القياس نرفضه مرجعية مذهبية تنشئ حكماً في الدين… إذا أدت إلى إنشاء حكمفي الدين… إذن بشر شرع وقاس شيئاً على شيء من غير يقين في الاشتراك.
أما خارج دائرة الإلزام في الدين، فأنت كبشر إذا كنت مطالباً بالاجتهاد فقد يكونمن حقك، بل ستمارس -شئت أم أبيت- أنماطاً شتى من القياس الذهني العقلي.. لن يصادرأحد حقك في ممارستها بعد ذلك… فوضع طبيعي وأنت تشرع داخل دائرة المباح، من الواردجداً أن تمارس حق القياس الذهني.
وكان الفقه القديم يرادف بين القياس والرأي، وكانوا يعتبرون مفردة القياس تعبرعن محض ممارسة الرأي، لأن القياس -في الحقيقة- هو نوع من الممارسة الذهنية العقليةالواضحة الصريحة، فإشكالية القياس أنه مبني على الاستناد إلى العلة، وكما قلنا وكماعرفنا القياس؛ بأنه إلحاق المسكوت عنه بالمنصوص عليه لاشتراكهما في العلة، هذايقتضي أن تثبت العلة يقينا في المنصوص عليه ثم تثبت العلة في المسكوت عنه ثم يثبتأن هذه هي العلة؛ أساساً... أن نتيقن أن هذه هي العلة … فإذا كانت العلة بذاتهامنصوصة فالحكم حكم النص، لأن تعدية العلة حينئذ سيكون أمراً مفهوماً بوسائل معهودةفي العقل وفي النص الشرعي، ولن تكون حينئذ قد قست إذا انتقلت إلى الحكم، لأن العلةمنصوصة، والعلة منصوصة بمعنى تعدية التعليل… فالنص هو الذي حكم.
فإذا لم تكن العلة منصوصة فقد حكمت بالظن، وتكون معيباً لو ألزمت الناس بذلكظناً، وقلت: إن هذا هو حكم الدين وأسندته للرحمن… لكن لو قلت إن هذا شيء اجتهادي..أنا أرى هذا.. هذا أمر جيد… وإذا كنت سلطة تملك حق التشريع الشرعي وانتهيت إلى هذاالرأي ووصلت إلى أن هذا هو الأمر الذي فيه الصالح التشريعي، فإن الإلزامية حينئذ لنتكون ناشئة عن القياس كمصدرية مستقلة، وإنما ستكون ناشئة عن مصدرية وجوب طاعة أوليالأمر في المسلمين أياً كان اسمه: السلطة.. الحكومة.. الحاكم.. إلخ.
ستكون الإلزامية ناجمة عن وجوب طاعته، وليس عن مرجعية القياس الأصلية.
الفارق بين الاثنين: أن مرجعية القياس الأصلية مؤبدة، وأما هذه فحكم محكومبزمانه وبظروفه يمكن أن يتغير، ويمكن للحاكم يغيره، لأن القوانين واللوائح تتغير منوقت لآخر، ولكن بالنسبة للقياس كحكم شرعي يضاف إلى الإلزاميات المحنطة التي تكبسعلى أنفاس العقل المسلم لفترة طويلة جداً مع جبال المحظورات والملزمات التي ما أنزلالله بها من سلطان في كثير منها، وتعامل معاملة النص.
(المعالم) : إذا نظرنا إلى العلة من حيث إنشاء الحكم، وهذا ما مارسته المدرسةالسلفية، ولكن هذه المدرسة عطلت الشق الآخر، أو عطلت ما كانت تقوم به المدرسةالعمرية (نسبة إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه) وهي فهم العلة لإعمال النص أو تركإعمال النص، فما رأيكم في هذا، هل فعلاً أن المدرسة الأثرية أغفلت هذا الأمر؟!، وهلأغفلته عن عمد؟!.
(المستشار) :حجر الأساس في المنظومة السلفية هو الاتباع… التعامل مع النص منخلال علته ضرب من ضروب ممارسة التعقل في النص، وممارسة التعقل في النص شيء محرم فيالعقل السلفي الأول، العقل السلفي الأول -كما قلنا- كان ينفر نفوراً شبه فطري منممارسة العقل، وقد مر بكم ما مارسته المنظومة السلفية مع عقلية مثل عقلية أبي حنيفةالذي مارس الرأي والتعقل في النص، وهذا التعقل في النص شيء خطير جداً.
(المعالم) : ماذا تقصد بشيء خطير: بالنسبة إلى الدين أم بالنسبة إلى المدرسةالسلفية؟
(المستشار) :عند المنظومة السلفية، وإغفاله هو الخطير عندي.
فأبو حنيفة متهم عند المدرسة السلفية بممارسة التعقل في النص، وهذه جريمة، ليسفقط بالممارسة العملية بل باللفظ …عبارات وتصريحات كثيرة لرجال المنظومة السلفيةالأوائل تذم الرأي صراحة وعلناً…(والحديث الضعيف أحب إلينا من رأي أبي حنيفة) وكأنالحديث الضعيف شيء.
والحديث الضعيف معناه لغو... لما تجئ مثلاً رواية كذاب ويجئ أحد ويأخذ هذاالكلام غير المقبول، ويفضله على رأي مستند إلى نص صحيح، لأن الرأي عند أبي حنيفةليس محض تفلسف في المطلق، فمفاهيمه الأصولية المعروفة ليست مجرد كلام.
انظر مثلاً إلى موقف أبي حنيفة داخل الدائرة السلفية بل الأصولية، ولم يكن أبوحنيفة متكلماً -مثلاً- كالمعتزلة، وموقفهم من المعتزلة كان موقفاً فظيعاً آخر، لأنالمعتزلة مارسوا التعقل في النص بجرأة أكبر، بجرأة أكبر من جرأة أبي حنيفة، ومارسواالتعقل في النص تحت عناوين أخرى غير عناوين السلفية العقلية… السلفية العقلية تريدلمن يتكلم أن لا يتكلم إلا تحت عناوين معينة، باستخدام مصطلحات معينة، باستخداممفردات معينة، باستخدام قضايا معينة… تكلم في الفقه وفي الفروع وتقول: قال شيوخنا.وانتهت القضية.....
ولما يجئ أحد ويخرج عن هذا السرب ويتكلم في قضايا أخرى، أو حتى يتكلم في هذهالقضايا تحت عناوين أخرى، كأنه أتى بدين جديد.. وهذا نوع من التماهي أو المرادفةبين الدين وبين أنفسهم، وهذه آفة شديدة وخطيرة جداً في العقل المسلم الأول.
أما عن موقفهم من المعتزلة... كان على درجة أشد وأقسى من موقفهم من أبي حنيفة،فهم بالكاد -في إجمالهم- اعتمدوا أبا حنيفة داخل دائرة السنة والجماعة بشكل أوبآخر، ومع ذلك قبل بدرجة مقبول، مع لمزات معينة وصلت إلى حد تكفيره، ومع ذلك قبلعلى مضض داخل حدود دائرة ما سمي بعد ذلك بالسنة والجماعة.
الموقف من المعتزلة كان شديداً جداً، تكاد كتب الفرق مثل البغدادي والشهرستانيتكفرهم صراحة....تعال إلى موقف آخر أعجب من هؤلاء وهؤلاء… موقفهم مع من مارسالتفلسف في الإسلام، كالكندي والفارابي وابن رشد.
فابن رشد مثلاً كان فيلسوفاً صريحاً رغم كتاباته في الفقه وكتاباته في لم الشملبين الشريعة والفلسفة…ابن رشد كُفِرَ تكفيراً واضحاً علنياً صريحاً، فكان الموقفالسلفي النهائي من العقل هو موقف قائم من العقل في ذاته، وتوجس من ممارسة التعقل،مما يشي بنوع من عدم الثقة بالنفس في رأيي لا تليق بمن يمثل هذا الدين العظيم الذيهو دين الله ((وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال)).
من أراد أن يفهم هذا الدين بهذا الشكل ينبغي أن يقدمه للناس دون أن يخشى منالعقل).
انتهى الحوار الذي نشرته مجلة المعالم ؛ والسلام عليكم ورحمة اللهوبركاته.
									وتقديراً للجهد الذي بذله المؤلف، وتقريباً لمراد الكتاب بصورة أوضح إلى القارئالكريم ، أجرت (المعالم) مدارسة علمية مع المستشار عبدالجواد ياسين مؤلف (السلطة فيالإسلام).
(المعالم) : كان لظهور كتابكم القيم (السلطة في الإسلام) صدى كبير، تراوح بينالسلب التام والإيجاب التام، وقبل أن ندخل في الحديث عن مفرداته، نريد أن تعرفوابأنفسكم للقراء الكرام....
(المستشار) :أنا عبدالجواد ياسين من مواليد عام 1954م، في قرية الزرقا إحدى قرىشمال مصر، تخرجت من كلية الحقوق بجامعة القاهرة عام 1976م، ومارست العمل في النيابةالعامة والقضاء المصري لفترة من الزمن، وأمارس الآن العمل في القضاء بدولة الإماراتالعربية المتحدة.
(المعالم) : بحكم عوامل الجغرافيا والتاريخ كان من المفروض أن تكون قارئاًللمدرسة السلفية من الداخل، لكنكم وقفتم خارجها ونقدتموها، ما هي الأسباب التيدعتكم إلى ذلك ؟.
(المستشار) :من طبيعة العقل أن يتحرك ويمارس التفكير، والمدرسة السلفية ليستبدعاً من العقائد والأفكار التي يمكن يمارس في حقها التفكير… فطوال فترة طويلة كنتأعتبر نفسي بشكل من الأشكال داخل المدرسة السلفية، أقول بشكل من الأشكال لأنه كانهناك دائماً نوع من الخلفية الرافضة للانصياع لمفهوم التبعية العمياء. وهذا سببهالممارسة العقلية التي تأبى بطبيعتها مبدأ الاتباع، أي أن يكون الإنسان تابعاً بلاتفكير.
وبعد فترة من الفترات وأنت تبحث، تصطدم بقضايا لا يمكن العبور عليها بسهولة، وفيفترة معينة كان من اللازم على الإنسان أن يقف وقفة مراجعة، وأنا أعتقد أن هذا تمبشكل طبيعي؛ وناجم عن ممارسة حقي الطبيعي في التفكير كإنسان أولاً ثم كمسلمثانياً.
وهذا التناول للقضايا والمسائل التي هي من صميم ديني وتمس أساً من أسسالحياة ... فأنا أعتقد أن هذا تم بشكل طبيعي.
(المعالم) : هل لوظيفتكم القضائية أثر في مناقشتكم للدائرة السلفية، لكونكمتتعاملون مع نصوص أقرب ما تكون إلى النصوص الشرعية، مع الاختلاف في أن هذه نصوصقضائية، وتلك نصوص شرعية. هل للقضاء أثر في تغيير وجهة نظركم للدائرة من الداخل إلىالخارج؟.
(المستشار) :لا شك أن أية صفة للإنسان تؤثر فيه سواء كان قاضياً أو غير قاض،وهناك عوامل كثيرة تؤثر في تكوين الإنسان الفكري منها: قراءاته، ومنها ثقافته ،ومنها وظيفته، ومنها بيئته، ومنها العوامل الوراثية الأخرى، ولأن القاضي يمارستعاملاً متواصلاً مع النص، وفي هذا التعامل من الواجب عليه أن يمارس نوعاً منمنطقية في التعامل، فلا شك أن يكون له أثر فيما تسأل عنه.
(المعالم) : كتابكم "السلطة في الإسلام" كان نقلة نوعيه في نظرنا للفكر الإسلاميالمعاصر، وصفها بعضهم بقوله: (إنها محاكمة للمسلمات التاريخية إلى ثوابت النصوصالقطعية)، لم كانت مثل هذه الاطروحات الراقية مجرد صرخات في واد ولا مجيب، ولم لاتنتشل من غياهب النسيان أو التغييب بالأصح، ولم لا تتحول إلى تيار قوي يفرض وجودهفي الساحة؟.
(المستشار) :أولاً: أشكر التقريض اللطيف الكريم للكتاب.وأعتقد أن صيغة الاستفهام الإنكارية التي سألت بها ... أنا أتفق معك بشأنها، نحننتعشم أن هذه الاطروحات لا تكون مجرد صرخات، وأن تنتشل من غياهب النسيان –على حدتعبيرك-، وأن تتحول إلى تيار قوي يفرض وجوده في الساحة.. هذا أمر مطلوب.لكن هذا لكي يتم لا بد أن تتغير الظروف الموضوعية أولاً ..
(المعالم) : ماذا تقصد بتغير الظروف الموضوعية؟.
(المستشار) :أقصد به التغير الناجم عن حركة التاريخ في الحياة، يبدو أن هناكأطوارا تاريخية تمر بها الشعوب، ويبدو أن على هذه الأمة أن تتجاوز الطور التاريخيالمتأخر نسبياً الذي تمر به في المرحلة الحرجة… ومعروف أن هذا الطور التاريخي مورثبحكم الميراث السلفي العاتي الشديد الوطأة، الذي ترزح هذه الأمة تحته من قديم.
وهذا الظرف الموضوعي، الذي هو تغير التكويني الذهني العقلي النفسي الثقافيالمسلم شيء أساسي وأولي، وهذا يتم بعناصر بعضها ظاهر ومحدد، وبعضها خفي غير مرئي،تفعل فيه يد التاريخ فعلتها مع الأمور، وتتم بشكل قد لا يكون محسوساً في النهاية.
وعلى كل من يعلم الحق أن يصدع به، وعلى كل من يرى رؤية في الفكر تصب في تيارإظهار الحق وتسليط الضوء على النواقص التي تنقص العقل المسلم، وبالذات ما ألححتعليه في هذا الكتاب من غياب المفردتين التي أسميتهما هناك رائعتين وهما (العقلوالحرية) وما يترتب على ذلك من مزيد من البروز –إن كان ثمة بروز- على إطلاق الحاسةالنقدية في العقل المسلم، التي تمكن الإنسان من أن يمارس جرأة النظر فيما يظن أنهثوابت، ويطرح بشأنها كمسلم تحت سقف النص أطروحته العقلية.
(المعالم) : لو كنت معكم أكثر جرأة، وقلت لك: بأنني سوف أعمل على تجميع الأصواتالمجددة في الدائرة "الفقهفكرية" في العالم الإسلامي هل ستكون معي في الخط؟.
(المستشار) :طبعاً.. أنا مع أي أحد يقوم بهذا العمل، وأشكرك على قيامك بهذاوأدعو لك.. والمسألة ليست سهلة ودونها صعاب وصعاب، وشمر ساعديك لهذا.
(المعالم) : طرحتم في هذا الكتاب القيم رؤية أصولية حديثية تدعو إلى مراجعةالاطروحات السلفية، هل هناك من يقول: إنكم تهدمون بذلك صرحاً إسلامياً شامخاً وماتعليقكم على مثل هذه المقولات؟
(المستشار) :كما اتفقنا أن السلفية كنمط تفكير تمارس سلطاناً عاتياً على العقلالمسلم، ونستطيع أن نقول إنها هي ذاتها العقل المسلم، والعقل المسلم الراهن هو مجردامتداد طولي زمني للعقل السلفي الأول.
وهذا يفسر بشكل بسيط جداً الهبّة التي يهبّها هذا العقل الراهن في وجه أي نوع منأنواع الممارسة النقدية على العقل السلفي، لأنه في حقيقة الأمر وهو يدافع عن العقلالسلفي الأول يدافع عن نفسه.
ومن الصعب جداً أن تقتلع الأفكار التي تم توارثها عبر هذه الفترة الزمنيةالطويلة من أعماق الناس... أياً كانت هذه الأفكار، فما بالك إذا كانت هذه الأفكارتتعلق بفرضية السلفية ذاتها. لأن العقل السلفي الأول كان سلفه سلفياً، وكانوا علىوعي بهذه القضية، وورث العقل المسلم فيما ورث مفهوم السلفية، أي مفهوم الاتباعالأعمى، وهذه قضية خطيرة جداً في العقل المسلم، وقبل الوصول إلى حل لإشكالية مفهومالاتباع المطلق الأعمى في العقل المسلم، ستبقى الأمور في خلل كبير، ويكون من الصعبجداً القفز إلى المنطلق الصحيح الذي ينبغي أن يقدم من خلاله الإسلام للناس في القرنالحادي والعشرين.
(المعالم) : طبعاً... نحن نسلم بوجود هذه الأصوات التي تعترض على هذه الاطروحات،ونحن نلاحظ هذه الحيثية التي ذكرتموها من عمق السلفية في العقل المسلم.لكن أليسمن سبيل للتحاور العلمي الهادئ الهادف مع مثل هؤلاء؟!.
(المستشار) :السلفية بالمفهوم الذي تكلمنا عنه ليست مجرد رأي، هي نزوعسيكولوجي، وهذا النزوع من الصعب التعامل معه بمنطلقات الفكر المحض، الرأي والرأيالآخر و الحجة بالحجة، هذا أمر يختلف عند التعامل مع إنسان يعاني من مرض نفسي.. أومن خلل نفسي.. أو من إشكالية نفسية لا سبيل إلى إقناعه بالحجة… القضية مختلفة.
أنا أزعم أن السلفية نزوع سيكولوجي بالمعنى الموجود في علم النفس… الناس تمارسهذه السلفية أحياناً بوعي وأحياناً بغير وعي. أصبح تكويناً راسخاً في التكوينةالإجمالية للإنسان بما فيها الشق النفسي، فمسألة الحوار وعدم الحوار يخضع فيهاالإنسان الراشد لحجية البرهان، فلما تكون المسائل بهذا الشكل تكون سهلة لا إشكالفيها، لكن لما يكون الإنسان قد قرر سلفاً بحكم نزوعه الوجداني أن لا يسمع.. تكونالمسألة صعبة.
ومع ذلك نحن لا ننفي أهمية الحوار مع أي أحد من الناس وفي أي وقت من الأوقات،ونحن نعيب على العقل السلفي أنه ينفر من الحوار ويتوجس منه خيفة ، وأنا لا أنفر منالحوار، بل أحب الحوار وأحب الخلاف، لأني أعلم أن الاتفاق الكامل مستحيل، ولا يوجدنوع من الاتفاق الكامل ولن يحدث (ولا يزالون مختلفين).
والاختلاف شيء من طبيعة البشر وتكوينهم، وهذا من خلق الله عز وجل، كل القضية أنتنظم هذا الاختلاف، وأن تنزل به إلى أدنى مستويات الضرر التي يمكن أن تترتب عليه،ثم تحصل منه على أعلى مستويات الفائدة التي يمكن أن تؤخذ منه؛ لأن الاختلاف لهفوائد بحكم أنك تستطيع أن تأخذ من كل شيئاً مختلفاً عما يعطيه كل فرد من أفرادالكيان. ومن جيشان هذا الاختلاف بين الناس يمكن أن ينتج ما ينفع الناس؛ ويؤدي إلىالمصالحة بالمعنى الحقيقي…
فأهلاً وسهلاً بالحوار.
(المعالم) : لو خرجنا نوعاً ما عن الدائرة الإسلامية، فمن خلال اطلاعكم علىعقلية غير العقلية الإسلامية كالعقلية الغربية مثلاً، هل ما زالت العقلية الغربيةتمارس هذه السلفية أم أنها تحررت منها؟.
(المستشار) :عند الحديث عن الغرب بالمعنى العام؛ يمكن أن تقول إنه بانتهاءالعصور الوسطى والدخول في عصور النهضة الأوروبية، أعلنت أوروبا قطيعة نهائية معالسلفية، لا سيما السلفية الدينية، لأن هناك سلفيات أخرى في الفكر الغربي، مارستأوروبا نوعاً من النكوص الارتدادي للماضي.
ومع بزوغ عصر النهضة توجهت أوروبا –في نوع من الحنين- إلى استدعاء الثقافةاليونانية القديمة، وادعت الانتساب إليها، وزعمت أنها امتداد للفلسفة اليونانية،والفلسفة الأوروبية المعاصرة تمارس الآن نوعاً جديداً من التمرد على السلفيةاليونانية.
وبالمعنى الدين ... أنت تعلم أن الكنيسة مارست على الإنسان الأوروبي طوال العصورالوسطى سياسة قبضة حديدية شديدة، فرضت عليه أن يقبع في دائرة بعيدة عن ممارسة العقلوعن ممارسة الحرية…. الكنيسة الكاثوليكية التي حاكمت (جاليليو) عندما تكلم عن الأرضبإنها ليست هي مركز الكون، وقال: إن مركز الكون هو الشمس ، مفجراً بذلك ثورة فيالعلوم الطبيعية، فأمرت الكنيسة بمعاقبته عقاباً شديداً…كاد يقتل فيه.
وانتهى الأمر بحبسه بعد اعتذاره الشديد عن النطق بهذه المقولة الهائلة الشديدة…والذي حصل عندما أخذ (جاليليو) للحبس، وبعد أن كتب إقرارا يعتذر فيه، فعندما دخلإلى الحبس نظر إليهم، وقال: ومع ذلك فإنها تدور؛ على الأرض … أي أنه غير قادر أنيقنع نفسه أن الأرض لا تدور لمجرد أن بعض المفاهيم السلفية لقراءة التوراة والإنجيلترى أن الأرض لا تدور... فالذي حصل في خلال السنوات القليلة الماضية أن أصدرتالكنيسة الكاثوليكية ذاتها اعتذاراً رسمياً (لجاليليو) وتبرأت من المفعول السلفيالأول الذي كان… والمقصد أنه حتى الكنيسة الكاثوليكية التي تمثل عمق أوروبا المسيحيالآن تمارس نوعاً من الرجوع عن السلفية... وتمارسها كذلك في أشياء كثيرة...
- في تفاصيل الفقه الكنسي.
- وتنصاع يوما بعد يوم لضغوط المجتمع المادي؛ الشديد المادية؛ الشديد الاغتراربقدرة العقل وفتنة التكنولوجيا التي ظهرت… لدرجة أن رجال الكهنوت أصبحوا من النساء،ويسمح لهم بأشياء لم يسمح لهم بها في الماضي، إلى درجة أن البعض يتحدث عن السماحلهم بممارسة الشذوذ الجنسي، وأشياء من هذا القبيل.
- فأوروبا تعيش؛ ليس مجرد ردة عن السلفية، بل تعيش انفجاراً ثورياً مضاداًللسلفية، هذه قضية تجاوزتها العقلية الغربية من قديم، لأن كلامنا هذا لا يمنع منوجود جيوب صغيرة أو شراذم داخل المجتمع الغربي تتكلم بشكل سلفي، أعني بذلك السلفيةالدينية أو السلفية العقلية المتمثلة في الفلسفة اليونانية، وقضية الفلسفة مشوارطويل جدا مختلف؛ فيه محطات طويلة؛ لا نريد أن نثقل على كاهل القراء به.
(المعالم) : هل تتصورون أنه سيأتي اليوم الذي سوف تعتذر السلفية للعقل المسلمالذي ينظر إلى النص مجرداً عن الإضافات التي أضيفت إليه؟.
(المستشار) :نعم أتصور... ولكنها حينئذ لن تكون سلفية، لا بد... لا بد أن يحدثذلك بحكم حركة التاريخ الطبيعة.
(المعالم) : ونحن متفائلون معكم.
(المستشار) :الحمد لله.
(المعالم) : هل ترون في المنهج الحديثي السلفي -على ما استقر عليه- إلزاماًلبقية المدارس الإسلامية، وإلا ما حدود الاستفادة من هذا المنهج؟
(المستشار) :تقصد منهج علم الحديث؟!!.
(المعالم) :: نعم؛ على ما استقر عند من سموا بأهل الحديث.
(المستشار) :ماذا تقصد بالإلزام؟
(المعالم) : سآتيك بمثال على ذلك: عند نقاش بقية المدارس مع المدرسة الحديثيةفي مسألة نقد الحديث، يطلب أهل المدرسة الحديثية أن يكون النقد مبنياً على ما قررتهالمدرسة الحديثية، فيلزمونا أن نتكلم وننقد وفق قواعدهم!، فهذا هو الإلزام!!. فهلالمنهج الحديثي على ما استقر عليه ملزم لبقية المدارس الإسلامية؟!
(المستشار) :منهج أهل الحديث يلزم أهله، والقائلون به يرون أنه الحق، والقائلونبغيره يرون عكس ذلك، هؤلاء يرون أنه ملزم، وهؤلاء يرون أنه غير ملزم، إذن فهذه وجهةنظر هؤلاء، وتلك هي وجهة نظر أولئك.
وأما وجهة نظري فهي أن لا شيء وضعياً يلزم إلا بدليل الحق، وقد لاحظت أن هذاالنمط من علم الحديث، الذي أسميناه بعلم الحديث الكلاسيكي؛ وجهت إليه بعضالانتقادات الواضحة في هذا الكتاب، وهذا وضع طبيعي أنك لا تلزم أحداً بما تنتقده…علم الحديث التقليدي الكلاسيكي؛ علم له وعليه، وأنا أرى أنه بما انتهى إليه منقواعد لم يستطع أن يقوم بالمهمة التي نشأ أساساً من أجلها وهي تقديم النص الحديثيالصحيح الواضح.
(المعالم) : أشكرك يا دكتور، لكن أعتبر -وأنت تعتبر هذا– على أن النظر في الحديثهو بيت القصيد، هل يمكن أن تتفق أو تشرع المدارس الإسلامية في تأسيس وجهة نظرحديثية منهجية جديدة يحاكمون إليها الروايات؟.
(المستشار) :أنا أشك في هذا، وأرى أنه صعب، على الرغم من رؤيتي أن الأرضية فيعلم الحديث بالذات ليست بعيدة بين المدارس… الأرضية العامة الإجمالية تكاد تكونمشتركة بين معظم المدارس، والخلافات تكمن أساساً في سلسلة الرجال، وامتداداتها خارجدائرة الرجال قليلة التأثير في رأيي، وبالتالي فإن علم الحديث باعتباره علماًتوثيقياً تاريخياً قابل لأن يمنهج، وقابل لأن يستند إلى قواعد المنطق والعقل؛ وهذاأمر مشترك… من الناحية النظرية يسهّل من حدوث ما تفضلتم بالسؤال عنه، ولكن شكوكيالأولى التي أبديتها ناجمة عن أسباب غير نظرية، ناجمة عن أسباب محض عملية في الواقعالذي نراه أمامنا.
(المعالم) : بمعنى أن نستخدم العبارة ((جائز عقلاً ممتنع واقعا)ً).
(المستشار) :بل سهل عقلاً.. سهل جداً. إنما سهام النقد يجب أن توجه لهذا العلم كما هو... بحالته الراهنة، أساساً منحيث إنه إسنادي بحت، قائم على السند وليس قائماً على المتن، ولا ينظر إلى نقدالحديث من متنه بأساسه، ونحن لا نتوجس من استعمال مفهوم النقد، وندعو إلى نوع منالتوسع في ممارسة النقد... هذا مطلوب.
(المعالم) : هناك قضايا جدلية على مدى تاريخ الدائرة الفقهفكرية الإسلامية،مثلاً لو تحدثونا الآن عن الإجماع والقياس، فهل لكم أن تسلطوا الضوء على وجهة نظركمالتي طرحتموها في الكتاب، وهل هي نظرية جديدة، وإذا كان كذلك فما الجديد فيها؟.
(المستشار) :الإشكالية الكبرى في الإجماع والقياس كليهما أنهما يشكلان مرجعيةمصدرية مفارقة للنص، ونحن لا نعادي مفردة الإجماع في ذاتها ولا مفردة القياس فيذاتها. ولكن نرفض ما رتبه عليهما العقل المسلم السلفي من إلزامية على أجيالالمسلمين إلى آخر الزمان.
مفهوم الإجماع في العقل السلفي هو: إذا اجتمع الناس –وهذا هو المفهوم الأول أوالميلاد الأول لمفهوم الإجماع، أنه اجتماع الناس بإطلاق- وكلمة الناس تشير إلىالمسلمين، أي إذا اجتمع المسلمون على أمر معين... أن هذا الأمر يمثل حكماً شرعياً،ومعنى أنه حكم شرعي أنه مؤبد على أجيال الأمة، وبالتالي يأثم من خالفه من الأمة ولوبعد ألف عام، ويظل الحكم الذي استنبطه بشر – على فرض إمكانية إجماع الناس عليه- يظلهذا الحكم ملزماً للناس لا يمكن أن يخالفوه بعد ذلك، فبالتالي يمثل وصاية أبديةمتواصلة على العقل المسلم تحرمه من أن يمارس حقه في الاجتهاد كإنسان يعيش العصرويمارس حقه في حرية النظر تحت سقف الضوابط الشرعية العلياء ومع حركة دفء الإيمان.
هذا الاعتراض على مفهوم الإجماع؛ الذي لنا عليه ملاحظات مبدئية منهجية، وهي أنهمستحيل عملاً بحكم جبلة الخلق الرباني التي خلقت بأصل الاختلاف في الجغرافياوالتاريخ وفي البيئة والثقافة والمولد واللون والتفكير.. في كل شيء؛ الاختلاف بينالبشر قائم.
أضف إلى هذا أن مفهوم الإجماع قد تطور في العقل السلفي المسلم، بعد أن كان إجماعالناس إلى أن صار إجماع الفقهاء، وهذا يسلمنا إلى وضعية بشرية جديدة معيبة ، لأنكستكون بحاجة إلى من يعرف لك هذه الهيئة التي سميت بالفقهاء، من الذي يختارها؟!.. منالذي يجمّع بينها؟!… ثم تفترض أن إجماع هؤلاء حدث في التاريخ… وهذا أمر أرى أنه لميحدث على الإطلاق في تاريخ المسلمين.
الإجماع الذي تكلم عنه البعض ومنهم ابن حزم مثلاً، هو إجماع الصحابة –هذا كلامابن حزم- على ما وافق الكتاب والسنة، وابن حزم قال على استحياء: إن هذا النوع منالإجماع هو النوع الوحيد الذي يعترف به. ثم يضيف أنه رغم اعترافه به، إلا أن هذا لايضيف جديداً، لأنه إذا كان إجماع على ما وافق الكتاب والسنة فإن المرجعية إلىالكتاب والسنة وليست لإجماع بشري.
القضية باختصار؛ إنه سؤال منهجي بسيط جداً وهو: من يشرع: الخالق أم المخلوق؟! .
إذا كان الخالق هو المشرع الوحيد في الإسلام، فالمخلوق لا يشرع ولا يغير من هذهالحقيقة أن يزيد عدد المخلوقين الذين يشرعون، لأن زيادة عدد المخلوقين لا يغير منطبيعتهم، لا يحولهم إلى خالقين..
المسألة واضحة وبسيطة جداً فيما يتعلق بالإجماع.
(المعالم) : وما يتعلق بالقياس؟
(المستشار) :إشكاليته أيضاً في التحليل الأخير؛ تؤدي إلى مرجعية بشرية إضافيةقائمة على الظنية، لأن الحكم الشرعي ينبغي أن يكون يقينياً ((إن الظن لا يغني منالحق شيئاً))
(المعالم) : طبعاً؛ هذا في دائرة الإلزام وليس في دائرة الرأي، أو كما يعبر عنهابعض الفقهاء في مسائل الدين والقطع وليس في مسائل الرأي والظن...
(المستشار) :ربما تكلمنا من قبل يا أخ خميس؛ أني لا أحرم ممارسة القياس كوسيلةعقلية ذهنية، الإنسان يقيس بحكم الطبيعة الذهنية، القضية غير التي نتكلم فيها.عندما نرفض القياس نرفضه مرجعية مذهبية تنشئ حكماً في الدين… إذا أدت إلى إنشاء حكمفي الدين… إذن بشر شرع وقاس شيئاً على شيء من غير يقين في الاشتراك.
أما خارج دائرة الإلزام في الدين، فأنت كبشر إذا كنت مطالباً بالاجتهاد فقد يكونمن حقك، بل ستمارس -شئت أم أبيت- أنماطاً شتى من القياس الذهني العقلي.. لن يصادرأحد حقك في ممارستها بعد ذلك… فوضع طبيعي وأنت تشرع داخل دائرة المباح، من الواردجداً أن تمارس حق القياس الذهني.
وكان الفقه القديم يرادف بين القياس والرأي، وكانوا يعتبرون مفردة القياس تعبرعن محض ممارسة الرأي، لأن القياس -في الحقيقة- هو نوع من الممارسة الذهنية العقليةالواضحة الصريحة، فإشكالية القياس أنه مبني على الاستناد إلى العلة، وكما قلنا وكماعرفنا القياس؛ بأنه إلحاق المسكوت عنه بالمنصوص عليه لاشتراكهما في العلة، هذايقتضي أن تثبت العلة يقينا في المنصوص عليه ثم تثبت العلة في المسكوت عنه ثم يثبتأن هذه هي العلة؛ أساساً... أن نتيقن أن هذه هي العلة … فإذا كانت العلة بذاتهامنصوصة فالحكم حكم النص، لأن تعدية العلة حينئذ سيكون أمراً مفهوماً بوسائل معهودةفي العقل وفي النص الشرعي، ولن تكون حينئذ قد قست إذا انتقلت إلى الحكم، لأن العلةمنصوصة، والعلة منصوصة بمعنى تعدية التعليل… فالنص هو الذي حكم.
فإذا لم تكن العلة منصوصة فقد حكمت بالظن، وتكون معيباً لو ألزمت الناس بذلكظناً، وقلت: إن هذا هو حكم الدين وأسندته للرحمن… لكن لو قلت إن هذا شيء اجتهادي..أنا أرى هذا.. هذا أمر جيد… وإذا كنت سلطة تملك حق التشريع الشرعي وانتهيت إلى هذاالرأي ووصلت إلى أن هذا هو الأمر الذي فيه الصالح التشريعي، فإن الإلزامية حينئذ لنتكون ناشئة عن القياس كمصدرية مستقلة، وإنما ستكون ناشئة عن مصدرية وجوب طاعة أوليالأمر في المسلمين أياً كان اسمه: السلطة.. الحكومة.. الحاكم.. إلخ.
ستكون الإلزامية ناجمة عن وجوب طاعته، وليس عن مرجعية القياس الأصلية.
الفارق بين الاثنين: أن مرجعية القياس الأصلية مؤبدة، وأما هذه فحكم محكومبزمانه وبظروفه يمكن أن يتغير، ويمكن للحاكم يغيره، لأن القوانين واللوائح تتغير منوقت لآخر، ولكن بالنسبة للقياس كحكم شرعي يضاف إلى الإلزاميات المحنطة التي تكبسعلى أنفاس العقل المسلم لفترة طويلة جداً مع جبال المحظورات والملزمات التي ما أنزلالله بها من سلطان في كثير منها، وتعامل معاملة النص.
(المعالم) : إذا نظرنا إلى العلة من حيث إنشاء الحكم، وهذا ما مارسته المدرسةالسلفية، ولكن هذه المدرسة عطلت الشق الآخر، أو عطلت ما كانت تقوم به المدرسةالعمرية (نسبة إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه) وهي فهم العلة لإعمال النص أو تركإعمال النص، فما رأيكم في هذا، هل فعلاً أن المدرسة الأثرية أغفلت هذا الأمر؟!، وهلأغفلته عن عمد؟!.
(المستشار) :حجر الأساس في المنظومة السلفية هو الاتباع… التعامل مع النص منخلال علته ضرب من ضروب ممارسة التعقل في النص، وممارسة التعقل في النص شيء محرم فيالعقل السلفي الأول، العقل السلفي الأول -كما قلنا- كان ينفر نفوراً شبه فطري منممارسة العقل، وقد مر بكم ما مارسته المنظومة السلفية مع عقلية مثل عقلية أبي حنيفةالذي مارس الرأي والتعقل في النص، وهذا التعقل في النص شيء خطير جداً.
(المعالم) : ماذا تقصد بشيء خطير: بالنسبة إلى الدين أم بالنسبة إلى المدرسةالسلفية؟
(المستشار) :عند المنظومة السلفية، وإغفاله هو الخطير عندي.
فأبو حنيفة متهم عند المدرسة السلفية بممارسة التعقل في النص، وهذه جريمة، ليسفقط بالممارسة العملية بل باللفظ …عبارات وتصريحات كثيرة لرجال المنظومة السلفيةالأوائل تذم الرأي صراحة وعلناً…(والحديث الضعيف أحب إلينا من رأي أبي حنيفة) وكأنالحديث الضعيف شيء.
والحديث الضعيف معناه لغو... لما تجئ مثلاً رواية كذاب ويجئ أحد ويأخذ هذاالكلام غير المقبول، ويفضله على رأي مستند إلى نص صحيح، لأن الرأي عند أبي حنيفةليس محض تفلسف في المطلق، فمفاهيمه الأصولية المعروفة ليست مجرد كلام.
انظر مثلاً إلى موقف أبي حنيفة داخل الدائرة السلفية بل الأصولية، ولم يكن أبوحنيفة متكلماً -مثلاً- كالمعتزلة، وموقفهم من المعتزلة كان موقفاً فظيعاً آخر، لأنالمعتزلة مارسوا التعقل في النص بجرأة أكبر، بجرأة أكبر من جرأة أبي حنيفة، ومارسواالتعقل في النص تحت عناوين أخرى غير عناوين السلفية العقلية… السلفية العقلية تريدلمن يتكلم أن لا يتكلم إلا تحت عناوين معينة، باستخدام مصطلحات معينة، باستخداممفردات معينة، باستخدام قضايا معينة… تكلم في الفقه وفي الفروع وتقول: قال شيوخنا.وانتهت القضية.....
ولما يجئ أحد ويخرج عن هذا السرب ويتكلم في قضايا أخرى، أو حتى يتكلم في هذهالقضايا تحت عناوين أخرى، كأنه أتى بدين جديد.. وهذا نوع من التماهي أو المرادفةبين الدين وبين أنفسهم، وهذه آفة شديدة وخطيرة جداً في العقل المسلم الأول.
أما عن موقفهم من المعتزلة... كان على درجة أشد وأقسى من موقفهم من أبي حنيفة،فهم بالكاد -في إجمالهم- اعتمدوا أبا حنيفة داخل دائرة السنة والجماعة بشكل أوبآخر، ومع ذلك قبل بدرجة مقبول، مع لمزات معينة وصلت إلى حد تكفيره، ومع ذلك قبلعلى مضض داخل حدود دائرة ما سمي بعد ذلك بالسنة والجماعة.
الموقف من المعتزلة كان شديداً جداً، تكاد كتب الفرق مثل البغدادي والشهرستانيتكفرهم صراحة....تعال إلى موقف آخر أعجب من هؤلاء وهؤلاء… موقفهم مع من مارسالتفلسف في الإسلام، كالكندي والفارابي وابن رشد.
فابن رشد مثلاً كان فيلسوفاً صريحاً رغم كتاباته في الفقه وكتاباته في لم الشملبين الشريعة والفلسفة…ابن رشد كُفِرَ تكفيراً واضحاً علنياً صريحاً، فكان الموقفالسلفي النهائي من العقل هو موقف قائم من العقل في ذاته، وتوجس من ممارسة التعقل،مما يشي بنوع من عدم الثقة بالنفس في رأيي لا تليق بمن يمثل هذا الدين العظيم الذيهو دين الله ((وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال)).
من أراد أن يفهم هذا الدين بهذا الشكل ينبغي أن يقدمه للناس دون أن يخشى منالعقل).
انتهى الحوار الذي نشرته مجلة المعالم ؛ والسلام عليكم ورحمة اللهوبركاته.
 
											
 :
:  :
:  :
: