(1)
برنامج سؤال أهل الذكر
حلقة الأثنين 19 رمضان 1423 هـ ، 25/11/2002م
الموضوع : عام
سؤال :
هناك من يسند إلى السلف من أهل المغاربة أنهم رأوا فرض الكفاية في صلاة الجماعة ، فهل هذا صحيح ؟
يتبع بإذن الله تعالى
برنامج سؤال أهل الذكر
حلقة الأثنين 19 رمضان 1423 هـ ، 25/11/2002م
الموضوع : عام
سؤال :
هناك من يسند إلى السلف من أهل المغاربة أنهم رأوا فرض الكفاية في صلاة الجماعة ، فهل هذا صحيح ؟
الجواب :
بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام وعلى سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد :
فما من ريب أن جمهور العلماء يقولون بأن صلاة الجماعة هي واجبة على الكفاية سواء أصحابنا مشارقتهم ومغاربتهم أو غيرهم من علماء المذاهب الأخرى ، وهذا الرأي هناك من يخالفه من أصحابنا كما أن هنالك من يخالفه من علماء المذاهب الأخرى .
وعند الخلاف يجب الرجوع إلى الدليل ونحن تعلمنا من علمائنا أنفسهم أنه مع الاختلاف يجب أن يكون الدليل هو الفيصل وهو المرجع ، ولا يلتفت إلى غيره مع قيام حجته ، فقد حكى الإمام أبو نبهان رحمه الله عن الإمام أبي يعقوب يوسف بن إبراهيم الوارجلاني رحمه الله تعالى أنه عندما أكرمه الله سبحانه وتعالى بحج بيته المحرم وتشرف بزيارة النبي الأكرم عليه وعلى آله وصحبه أفضل الصلاة والسلام قال مشيراً إلى القبر الشريف : لا تقليد إلا لصاحب هذا القبر ، وأما الصحابة فهم أولى بالاتباع لعهدهم برسول الله صلى الله عليه وسلّم ، وأما التابعون فهم رجال ونحن رجال . ولئن كان التابعون هم رجالاً ونحن كذلك رجال في مقابلهم فإنه يجب أن يصار إلى الدليل .
كذلك الإمام أبو نبهان رحمه الله نفسه إذ يقول فيما يقول في هذا : إياك أن تلتف إلى من قال بل إلى ما قال . ومعنى ذلك أن الأقوال لا تنظر من خلال قائليها بحيث يؤخذ القول باعتبار مكانة قائله ، وإنما يلتفت إلى القول نفسه ومقدار قوته أو ضعفه بسبب عرضه على الدليل ، فمن خلال النظر في القول يُعرف القول الصحيح والقول الضعيف ، ويعرف الراجح والمرجوح . وكذلك نجد أن الإمام السالمي رحمه الله تعالى يقول :
فنحن حيث أمر القرآن *** لا حيث ما قال لنا فلان
ويقول أيضا :
حسبك أن تتبع المختارا *** وإن يقولوا خالف الآثارا
ويقول أيضا :
لأنني أقفو الدليل فاعلما *** لم أعتمد على مقال العلماء
فالعلماء استخرجوا ما استخرجوا *** من الدليل وعليه عرجوا
فهم رجال وسواهم رجل *** والحق ممن جاء حتماً يقبل
فالحجة هي الفيصل ونحن نرى الأدلة الكثيرة في كتاب الله وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلّم دالة على أن صلاة الجماعة واجبة على الأعيان فما لنا والانصراف عن هذا الدليل أو عن هذه الأدلة إلى قول يخالفها .
وحسبنا من كتاب الله أن الله تبارك وتعالى شرع صلاة الجماعة في وقت حرج جداً هو أحرج المواقف وأدقها موقف يقف فيه صفان صف المؤمنين وصف من الكافرين متواجهين وكل واحد من الجانبين ينتظر الفرصة للانقضاض على الجانب الآخر في هذا الموقف الحرج أُمر المؤمنون أن يصلوا جماعة وأن ينقسموا إلى طائفتين فالله تبارك وتعالى يقول ( وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ) ، مع أنه يقول ( ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة ) ، ولكن مع هذا أُمر المؤمنون في هذا الموقف الحرج وفي هذا الموقف الصامد وفي هذا الموقف الحساس أن يقيموا الصلاة في الجماعة وما ذلك إلا لأجل وجوبها على الأعيان وإلا فقد كان بإمكان كل واحد أن يصلي بنفسه أو أن تصلي طائفة وتنتظر الطائفة الأخرى تكون هي المواجهة للعدو من غير أن تكون داخلة في الصلاة مع الجماعة ، ولكن نظراً لما في صلاة الجماعة من جمع الشمل واجتماع الكلمة أُمر أن يجتمع الفريقان على إمام واحد .
ثم إننا نجد أن الله تبارك وتعالى يقول ( واركعوا مع الراكعين ) وقد فسر ذلك كثير من العلماء بأن تُصلى الصلاة مع الجماعة .
وكذلك يقول الحق تبارك وتعالى ( يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون ) ، وقد قال غير واحد من التابعين بأن الآية ما نزلت إلا في المتخلفين عن صلاة الجماعة من هذه الأمة يسمعون نداء الحق حي على الصلاة حي على الفلاح ثم لا يجيبون .
ولئن كانت الآيات جاءت مشيرة إلى هذا الحكم غير ناصة عليه فإن الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم جاءت ناصة وصريحة دالة على هذا الحكم فقد جاء في الحديث الذي أخرجه الإمام الربيع وأخرجه الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : لقد هممت بحطب فيحطب ثم آمر بالصلاة فينادى لها ثم آمر رجلاً فيصلي بالناس ، ثم أخالف إلى رجال لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار .
وما كان صلى الله عليه وسلّم ليهم بتحريق بيوت المتخلفين عن صلاة الجماعة بالنار إلا لأنهم تركوا واجباً عينياً ، ولو كان هذا الواجب واجباً كفائياً لكانت الكفاية حاصلة به صلى الله عليه وسلّم وبالمؤمنين الذين يقيمونها معه .
ولو كانت هذه سنة مرغباً فيها لم تنتقل إلى درجة الواجب لما هم النبي صلى الله عليه وسلّم أن ينزل بمن تركها هذا العقاب الأليم الصارم الشديد .
وما كان تركه صلى الله عليه وسلّم تنفيذ ما هم به إلا لما في البيوت من النساء والأطفال مع أنه لاتزر وازرة وزر أخرى وهذا شيء معلوم ومتبادر ، مع أنه جاءت رواية بذلك كما في رواية أحمد من طريق أبي هريرة وإن كان إسنادها مضعفاً إلا أن مغزاها واضح ، وذلك مما يتبادر إلى الذهن من أول الأمر .
ولا يقال بأن النبي صلى الله عليه وسلّم بتركه إياها وانصرافه إلى الذين يتخلفون عنها يكون بذلك تاركاً بنفسه لهذا الواجب لأن الواجب يترك لما هو أوجب منه ، على أن النبي صلى الله عليه وسلّم بإمكانه أن يستدرك ذلك بأن يصلي بأولئك الذين ينطلقون معه إلى أولئك القوم جماعة .
وبالجملة فإن دلالة الحديث على وجوب الصلاة على الأعيان أي صلاة الجماعة دلالة واضحة لا غبار عليها ، ويؤكد ذلك ما جاء في الروايات الأخرى من بين هذه الروايات حديث ابن أم مكتوم الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلّم وقال له : يا رسول إني ضرير البصر شاسع الدار وإن المدينة كثيرة الهوام كثيرة السباع أفتجد لي رخصة أن أصلي في بيتي ؟ فلما قال له النبي صلى الله عليه وسلّم نعم وهم بالانصراف ناداه صلى الله عليه وسلّم قال له : أتسمع النداء ؟ قال : نعم أجب إذن . وفي رواية أجب إذن فإني لا أجد لك رخصة . والحديث جاء من رواية ابن أم مكتوم نفسه ، وجاء من رواية أبي هريرة .
كذلك قول النبي صلى الله عليه وسلّم لمن جاء مودعاً له لأجل السفر مع أخيه إ: ذا كنتما في سفر فأذنا وأقيما وليؤمكما أفضلكما . وفي رواية فليؤمكما أكبركما . والحديث في الصحيحين وهو دليل على أن صلاة الجماعة يؤمر بها حتى في المواقف الحرجة فالسفر مظنة المشقة ولذلك شرع فيه القصر لأجل ما فيه من المشقة . والسفر مظنة الخوف ولا سيما في الأوقات التي يتربص فيها المشركون بالمؤمنين الدوائر ويريدون الانقاض عليهم ، ولكن مع هذا أُمر الرجلان أن يصليا جماعة في سفرهما . والأمر للوجوب ما لم تصرفه قرينة ، وليست هنالك قرينة صارفة عن هذه الدلالة بل القرائن مؤكدة لها .
على أننا إن اعتبرنا أن قول الصحابة رضوان الله عليهم أولى بالاتباع من قول غيرهم لأنهم أقرب عهداً إلى رسول الله صلى الله عليه سلّم ، وأدرى بالأحكام التي صدرت عنه عليه أفضل الصلاة والسلام ، فإننا نجد فيما يقوله الصحابة ما يؤكد هذا الرأي إذ لم أجد قط عن أحد من الصحابة قولاً يخالف القول بأن صلاة الجماعة واجبة على الأعيان .
ما رأيت عن أحد من الصحابة رضوان الله عليهم قولاً يدل على أن صلاة الجماعة واجبة على الكفاية ، أو أنها سنة مرغب فيها . بل كل أقوالهم تدل على أنهم يرون وجوبها وجوباً عينياً يلزم كل واحد بعينه . ومن الدلائل التي تدل على ذلك ما أخرجه الجماعة إلا البخاري والترمذي من رواية ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه قال : من سره أن يلقى الله غداً مسلماً فليحافظ على هذه الصلوات الخمس حيث ينادى بهن يعني في المساجد فإن الله شرع لنبيكم سنن الهدى ، وإنهن من سنن الهدى ، ولو صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم ، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم ، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق ، ولقد رأيت الرجل يهادى بين الرجلين من المرض حتى يقيماه في الصف . ومعنى ذلك أنه قد انتشر في أواسط الصحابة رضوان الله عليهم أن من تخلف عن صلاة الجماعة فهو منافق كانوا يعدون المتخلف عنها منافقاً معلوم النفاق ، وبلغ بهم الحال أن أحدهم وهو مريض يتوكأ على رجلين يسيران به إلى المسجد حتى يقيماه في الصف وهو يميل ذات اليمين وذات الشمال .
ولئن كان المريض من الصحابة رضوان الله عليهم ما يتخلف عن صلاة الجماعة بل يحرص على حضورها ويرى أن هذا التخلف سمة النفاق. وكذلك النبي صلى الله عليه وسلّم لم يعذر ابن أم مكتوم مع كونه شكا ما شكا ، شكا أنه ضرير البصر وأنه شاسع الدار وأن المدينة كثيرة الهوام كثيرة السباع ، فكيف بمن كان بخلاف ذلك . كيف بالمبصرين ؟ وكيف بمن كانوا أقرب إلى المساجد وهم يسمعون النداء ، وبإمكانهم التردد إلى المساجد في وضح النهار أو تحت أشعة الكهرباء في الليل ، كيف يعذر هؤلاء عن حضور صلاة الجماعة ؟
لا ريب أن صلاة الجماعة واجبة على الأعيان لأجل هذه الدلائل ولأجل دلائل غيرها أيضاً تؤكد هذا المعنى .
فلا ينبغي للإنسان بل لا يجوز له مع قيام هذه الحجة عليه أن يتشبث بأقوال الرجل بدلاً من أن يتعلق بالدليل ، فإن التعلق بأقوال الرجال مع قيام الأدلة على خلاف ما ذهبوا يعتبر أمراً مخالفاً لنهج السلف الصالح .
وأولئك العلماء أنفسهم علمونا بأن نتشبث بالأدلة وأن نستمسك بها وأن تعرض أقوالهم على الأدلة فنحن لم نخالفهم بل وافقناهم ، وبهذا علينا أن نتبع ما دل عليه الدليل، والله تعالى أعلم .
بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام وعلى سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد :
فما من ريب أن جمهور العلماء يقولون بأن صلاة الجماعة هي واجبة على الكفاية سواء أصحابنا مشارقتهم ومغاربتهم أو غيرهم من علماء المذاهب الأخرى ، وهذا الرأي هناك من يخالفه من أصحابنا كما أن هنالك من يخالفه من علماء المذاهب الأخرى .
وعند الخلاف يجب الرجوع إلى الدليل ونحن تعلمنا من علمائنا أنفسهم أنه مع الاختلاف يجب أن يكون الدليل هو الفيصل وهو المرجع ، ولا يلتفت إلى غيره مع قيام حجته ، فقد حكى الإمام أبو نبهان رحمه الله عن الإمام أبي يعقوب يوسف بن إبراهيم الوارجلاني رحمه الله تعالى أنه عندما أكرمه الله سبحانه وتعالى بحج بيته المحرم وتشرف بزيارة النبي الأكرم عليه وعلى آله وصحبه أفضل الصلاة والسلام قال مشيراً إلى القبر الشريف : لا تقليد إلا لصاحب هذا القبر ، وأما الصحابة فهم أولى بالاتباع لعهدهم برسول الله صلى الله عليه وسلّم ، وأما التابعون فهم رجال ونحن رجال . ولئن كان التابعون هم رجالاً ونحن كذلك رجال في مقابلهم فإنه يجب أن يصار إلى الدليل .
كذلك الإمام أبو نبهان رحمه الله نفسه إذ يقول فيما يقول في هذا : إياك أن تلتف إلى من قال بل إلى ما قال . ومعنى ذلك أن الأقوال لا تنظر من خلال قائليها بحيث يؤخذ القول باعتبار مكانة قائله ، وإنما يلتفت إلى القول نفسه ومقدار قوته أو ضعفه بسبب عرضه على الدليل ، فمن خلال النظر في القول يُعرف القول الصحيح والقول الضعيف ، ويعرف الراجح والمرجوح . وكذلك نجد أن الإمام السالمي رحمه الله تعالى يقول :
فنحن حيث أمر القرآن *** لا حيث ما قال لنا فلان
ويقول أيضا :
حسبك أن تتبع المختارا *** وإن يقولوا خالف الآثارا
ويقول أيضا :
لأنني أقفو الدليل فاعلما *** لم أعتمد على مقال العلماء
فالعلماء استخرجوا ما استخرجوا *** من الدليل وعليه عرجوا
فهم رجال وسواهم رجل *** والحق ممن جاء حتماً يقبل
فالحجة هي الفيصل ونحن نرى الأدلة الكثيرة في كتاب الله وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلّم دالة على أن صلاة الجماعة واجبة على الأعيان فما لنا والانصراف عن هذا الدليل أو عن هذه الأدلة إلى قول يخالفها .
وحسبنا من كتاب الله أن الله تبارك وتعالى شرع صلاة الجماعة في وقت حرج جداً هو أحرج المواقف وأدقها موقف يقف فيه صفان صف المؤمنين وصف من الكافرين متواجهين وكل واحد من الجانبين ينتظر الفرصة للانقضاض على الجانب الآخر في هذا الموقف الحرج أُمر المؤمنون أن يصلوا جماعة وأن ينقسموا إلى طائفتين فالله تبارك وتعالى يقول ( وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ) ، مع أنه يقول ( ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة ) ، ولكن مع هذا أُمر المؤمنون في هذا الموقف الحرج وفي هذا الموقف الصامد وفي هذا الموقف الحساس أن يقيموا الصلاة في الجماعة وما ذلك إلا لأجل وجوبها على الأعيان وإلا فقد كان بإمكان كل واحد أن يصلي بنفسه أو أن تصلي طائفة وتنتظر الطائفة الأخرى تكون هي المواجهة للعدو من غير أن تكون داخلة في الصلاة مع الجماعة ، ولكن نظراً لما في صلاة الجماعة من جمع الشمل واجتماع الكلمة أُمر أن يجتمع الفريقان على إمام واحد .
ثم إننا نجد أن الله تبارك وتعالى يقول ( واركعوا مع الراكعين ) وقد فسر ذلك كثير من العلماء بأن تُصلى الصلاة مع الجماعة .
وكذلك يقول الحق تبارك وتعالى ( يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون ) ، وقد قال غير واحد من التابعين بأن الآية ما نزلت إلا في المتخلفين عن صلاة الجماعة من هذه الأمة يسمعون نداء الحق حي على الصلاة حي على الفلاح ثم لا يجيبون .
ولئن كانت الآيات جاءت مشيرة إلى هذا الحكم غير ناصة عليه فإن الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم جاءت ناصة وصريحة دالة على هذا الحكم فقد جاء في الحديث الذي أخرجه الإمام الربيع وأخرجه الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : لقد هممت بحطب فيحطب ثم آمر بالصلاة فينادى لها ثم آمر رجلاً فيصلي بالناس ، ثم أخالف إلى رجال لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار .
وما كان صلى الله عليه وسلّم ليهم بتحريق بيوت المتخلفين عن صلاة الجماعة بالنار إلا لأنهم تركوا واجباً عينياً ، ولو كان هذا الواجب واجباً كفائياً لكانت الكفاية حاصلة به صلى الله عليه وسلّم وبالمؤمنين الذين يقيمونها معه .
ولو كانت هذه سنة مرغباً فيها لم تنتقل إلى درجة الواجب لما هم النبي صلى الله عليه وسلّم أن ينزل بمن تركها هذا العقاب الأليم الصارم الشديد .
وما كان تركه صلى الله عليه وسلّم تنفيذ ما هم به إلا لما في البيوت من النساء والأطفال مع أنه لاتزر وازرة وزر أخرى وهذا شيء معلوم ومتبادر ، مع أنه جاءت رواية بذلك كما في رواية أحمد من طريق أبي هريرة وإن كان إسنادها مضعفاً إلا أن مغزاها واضح ، وذلك مما يتبادر إلى الذهن من أول الأمر .
ولا يقال بأن النبي صلى الله عليه وسلّم بتركه إياها وانصرافه إلى الذين يتخلفون عنها يكون بذلك تاركاً بنفسه لهذا الواجب لأن الواجب يترك لما هو أوجب منه ، على أن النبي صلى الله عليه وسلّم بإمكانه أن يستدرك ذلك بأن يصلي بأولئك الذين ينطلقون معه إلى أولئك القوم جماعة .
وبالجملة فإن دلالة الحديث على وجوب الصلاة على الأعيان أي صلاة الجماعة دلالة واضحة لا غبار عليها ، ويؤكد ذلك ما جاء في الروايات الأخرى من بين هذه الروايات حديث ابن أم مكتوم الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلّم وقال له : يا رسول إني ضرير البصر شاسع الدار وإن المدينة كثيرة الهوام كثيرة السباع أفتجد لي رخصة أن أصلي في بيتي ؟ فلما قال له النبي صلى الله عليه وسلّم نعم وهم بالانصراف ناداه صلى الله عليه وسلّم قال له : أتسمع النداء ؟ قال : نعم أجب إذن . وفي رواية أجب إذن فإني لا أجد لك رخصة . والحديث جاء من رواية ابن أم مكتوم نفسه ، وجاء من رواية أبي هريرة .
كذلك قول النبي صلى الله عليه وسلّم لمن جاء مودعاً له لأجل السفر مع أخيه إ: ذا كنتما في سفر فأذنا وأقيما وليؤمكما أفضلكما . وفي رواية فليؤمكما أكبركما . والحديث في الصحيحين وهو دليل على أن صلاة الجماعة يؤمر بها حتى في المواقف الحرجة فالسفر مظنة المشقة ولذلك شرع فيه القصر لأجل ما فيه من المشقة . والسفر مظنة الخوف ولا سيما في الأوقات التي يتربص فيها المشركون بالمؤمنين الدوائر ويريدون الانقاض عليهم ، ولكن مع هذا أُمر الرجلان أن يصليا جماعة في سفرهما . والأمر للوجوب ما لم تصرفه قرينة ، وليست هنالك قرينة صارفة عن هذه الدلالة بل القرائن مؤكدة لها .
على أننا إن اعتبرنا أن قول الصحابة رضوان الله عليهم أولى بالاتباع من قول غيرهم لأنهم أقرب عهداً إلى رسول الله صلى الله عليه سلّم ، وأدرى بالأحكام التي صدرت عنه عليه أفضل الصلاة والسلام ، فإننا نجد فيما يقوله الصحابة ما يؤكد هذا الرأي إذ لم أجد قط عن أحد من الصحابة قولاً يخالف القول بأن صلاة الجماعة واجبة على الأعيان .
ما رأيت عن أحد من الصحابة رضوان الله عليهم قولاً يدل على أن صلاة الجماعة واجبة على الكفاية ، أو أنها سنة مرغب فيها . بل كل أقوالهم تدل على أنهم يرون وجوبها وجوباً عينياً يلزم كل واحد بعينه . ومن الدلائل التي تدل على ذلك ما أخرجه الجماعة إلا البخاري والترمذي من رواية ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه قال : من سره أن يلقى الله غداً مسلماً فليحافظ على هذه الصلوات الخمس حيث ينادى بهن يعني في المساجد فإن الله شرع لنبيكم سنن الهدى ، وإنهن من سنن الهدى ، ولو صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم ، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم ، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق ، ولقد رأيت الرجل يهادى بين الرجلين من المرض حتى يقيماه في الصف . ومعنى ذلك أنه قد انتشر في أواسط الصحابة رضوان الله عليهم أن من تخلف عن صلاة الجماعة فهو منافق كانوا يعدون المتخلف عنها منافقاً معلوم النفاق ، وبلغ بهم الحال أن أحدهم وهو مريض يتوكأ على رجلين يسيران به إلى المسجد حتى يقيماه في الصف وهو يميل ذات اليمين وذات الشمال .
ولئن كان المريض من الصحابة رضوان الله عليهم ما يتخلف عن صلاة الجماعة بل يحرص على حضورها ويرى أن هذا التخلف سمة النفاق. وكذلك النبي صلى الله عليه وسلّم لم يعذر ابن أم مكتوم مع كونه شكا ما شكا ، شكا أنه ضرير البصر وأنه شاسع الدار وأن المدينة كثيرة الهوام كثيرة السباع ، فكيف بمن كان بخلاف ذلك . كيف بالمبصرين ؟ وكيف بمن كانوا أقرب إلى المساجد وهم يسمعون النداء ، وبإمكانهم التردد إلى المساجد في وضح النهار أو تحت أشعة الكهرباء في الليل ، كيف يعذر هؤلاء عن حضور صلاة الجماعة ؟
لا ريب أن صلاة الجماعة واجبة على الأعيان لأجل هذه الدلائل ولأجل دلائل غيرها أيضاً تؤكد هذا المعنى .
فلا ينبغي للإنسان بل لا يجوز له مع قيام هذه الحجة عليه أن يتشبث بأقوال الرجل بدلاً من أن يتعلق بالدليل ، فإن التعلق بأقوال الرجال مع قيام الأدلة على خلاف ما ذهبوا يعتبر أمراً مخالفاً لنهج السلف الصالح .
وأولئك العلماء أنفسهم علمونا بأن نتشبث بالأدلة وأن نستمسك بها وأن تعرض أقوالهم على الأدلة فنحن لم نخالفهم بل وافقناهم ، وبهذا علينا أن نتبع ما دل عليه الدليل، والله تعالى أعلم .
يتبع بإذن الله تعالى