مأزق الولايات المتحدة في المواجهة مع العراق

    • مأزق الولايات المتحدة في المواجهة مع العراق

      كان واضحا منذ البداية أن الحرب التي أعلنها الرئيس بوش ضد الإرهاب حربا بغير هدف لأنها اعتمدت علي مبدأ، ولم تعتمد علي واقع محدد يمكن التعامل معه، وساير العالم الرئيس بوش لأغراض مختلفة، ولعلم كثير من الساسة الدوليين أن ما يطرحه الرئيس بوش مجرد أوهام. واتخذ الرئيس بوش من القاعدة وافغانستان هدفا له، ولكن بعد عام كامل من الحرب اتضح انه لم يستطع ان يحقق أهدافه في أفغانستان، فما تزال القاعدة تتوعد بل وتقوم بأعمال تنسب لها كما حدث في أندونيسيا واليمن والكويت، وما زالت الولايات المتحدة لا تعرف مصير قادة القاعدة الذين استهدفتهم وفي مقدمهم الشيخ أسامة بن لادن، وهو ما جعل العالم يري الولايات المتحدة صغيرة في قدراتها الحقيقية. ولكن الولايات المتحدة لم تكتف بهذا الواقع وإنما أدخلت نفسها في فكرة مفرغة جديدة عندما تحدثت عن دول محور الشر وهي دول تعارض سياسات الولايات المتحدة ولها مواقف منها. وكان من الممكن للعالم أن يقبل دعاوي الولايات المتحدة لولا تحرك الرئيس جورج بوش بصورة عملية لتصفية حساب قديم مع العراق بدعوي أنه يمتلك أسلحة دمار شامل. ولكن موقف الولايات المتحدة من العراق لم يمر بسلام وإنما كشف بعض التناقضات الدولية ومواقف الدول الحقيقية من الولايات المتحدة وبدت الولايات المتحدة وكأنها تدار بواسطة جماعة من الهواة أو عصابة تخفي من الأهداف أكثر مما تعلن خاصة وأن العالم رأي الولايات المتحدة تغمض عينيها عن الجرائم التي ترتكبها اسرائيل بل وسمع الرئيس الأمريكي يصف ارييل شارون بأنه رجل سلام.

      ولا بد في البداية أن نتساءل عن الأسباب التي جعلت الولايات المتحدة تفتح صفحة العراق دون غيرها من الصفحات، وسنجد هنا أن عائلة بوش تشعر شعورا قويا تجاه هذا البلد بسبب استمرار رئيس العراق في الحكم أكثر من عقد من الزمان بينما الرئيس بوش الاب فشل في ان يؤمن لنفسه ولاية ثانية، ولم يعامل كما يعامل الأبطال بعد انتهاء حرب التحرير في الكويت. بل وجهت له سهام النقد واللوم لأنه لم يكمل المهمة بإقصاء الرئيس العراقي، ولكن المسألة لا تقف عند هذا الحد وإنما هناك مصالح اسرائيلية في قفل الملف العراقي، وبالتالي فقد كان الاتهام الرئيسي الذي وجهه بوش للرئيس العراقي هو أنه منع عودة المفتشين ورفض السماح بتفتيش القصور الرئاسية، وبنت السياسة الأمريكية موقفها علي ان العراق سوف يستمر في موقفه القديم في الرفض ما يبرر ضربة تحت ذريعة أنه يخالف قرارات مجلس الأمن ولكن العراق بدأ يلعب ورقته السياسية بصورة جيدة، فمن ناحية وافق علي عودة المفتشين وتفتيش القصور الرئاسية وسد بذلك الذرائع الأمريكية، ومن ناحية أخري قام بتحسين علاقاته مع تركيا وايران كما قام بعقد صفقات تجارية ضخمة مع روسيا والصين وغيرهما من الدول وإذا كانت كثير من هذه الدول لا تحفظ العهد فلا شك ان التناقض في سياساتها مع سياسة الولايات المتحدة سيلعب في صالح العراق دون شك. ولدي هذا الموقف المحرج بدأت الولايات المتحدة ومن خلفها بريطانيا تتحركان لإقناع العالم أن خطر العراق لا يكمن فقط في ما يمتلكه أو ما لا يمتلكه وإنما في قدرته علي أن يشكل تهديدا في المستقبل إذا امتلك أسلحة الدمار الشامل وسلمها لبعض الإرهابيين وهو ما جعل الرئيس الأمريكي يصل إلي درجة الكذب وهو يلمح إلي وجود علاقة بين العراق وتنظيم القاعدة.

      ومن ناحية أخري فقد رأينا الموقف الدولي يتشكل علي نحو جديد في هذه المسألة، فلا تزال أوروبا تتوجس من نفوذ الولايات المتحدة الذي يتجاوز وجودها. وعلي الرغم من أنها تظاهرها بالتأييد فالحقيقة هي أن أوروبا تجد نفسها في مفترق طرق حقيقي، ذلك ان اخفاق الولايات المتحدة في حربها ضد الارهاب او في حربها ضد العراق سوف يؤكد اهمية القوة الأوروبية كما أن نجاح الولايات المتحدة سوف يغير الحسابات ويجعل العالم كله خاضعا لسيطرتها، وعلي الرغم من ان الكثيرين يتحدثون في الوقت الحاضر عن عالم القطب الواحد، فالحقيقة هي أن ذلك مجرد طموح ولم تثبت الولايات المتحدة من الناحية العملية أنها قادرة علي السيطرة علي العالم. ويلاحظ ان أوروبا تركز في الوقت الحاضر علي ضرورة أن تلتزم الولايات المتحدة بالقانون الدولي وقرارات مجلس الأمن في أي تحرك ضد العراق لأن أوروبا لا تريد عالما يتقلص فيه نفوذ الأمم المتحدة وتنفرد فيه الولايات المتحدة بالنفوذ.

      وعلي المستوي الميداني يلاحظ أن الولايات المتحدة تواجه صعوبات أخري وأهم هذه الصعوبات تأتي علي الجبهة التركية، ذلك أنه علي الرغم من أن تركيا حليف طبيعي للولايات المتحدة وهي تطور علاقاتها مع اسرائيل، فهي تواجه واقعا حقيقيا في علاقاتها مع أوروبا وقد اخفت جهودها حتي الان في الالتحاق بالاتحاد الأوروبي بل وحتي إقناع دول الاتحاد بفتح مناقشة لصالحها. وعلي الرغم من أن الاتحاد يتذرع باسباب مثل حقوق الإنسان والديموقراطية وغيرها، فالحقيقة هي ان الإتحاد الأوروبي يشعر أن تركيا تنتمي إلي ثقافة أخري وهي غير ملائمة للدخول في الاتحاد الاوروبي خاصة وأن الاتحاد اضاف إلي عضويته دولا مشهودا لها بمخالفة حقوق الانسان. وهذا الوضع يجعل تركيا غير قادرة علي اتخاذ مواقف حاسمة لاسيما في مسألة العراق التي ظهر الخلاف فيها بين أوروبا والولايات المتحدة واضحا وهو ما يجعل من العسير علي تركيا أن تنحاز لأحد الطرفين بسبب حسابات المصالح الدقيقة. وتبدو ايران في موقف شبيه بهذا فهي ترسل اشارات متناقضة، فمن ناحية هي لا تريد ان توجه الولايات المتحدة ضربة للعراق، وهي من ناحية اخري لا تعارض توجيه الضربة بل وتعلن صراحة أنها لن تعارض اختراق الولايات المتحدة أجواءها وهي صيغة لإعلان موافقتها علي استخدام سماءها لضرب العراق.

      ويختلف الوضع في دول الخليج التي لا يبدو أنها ستقف في وجه الولايات المتحدة إذا ما نفذت هذه الضربة، وخاصة دولة الكويت التي لها مصالح في التعاون مع الولايات المتحدة في هذا الصدد. وعلي الرغم من أن المملكة العربية السعودية تبدي تحفظا تجاه استخدام قواعدها فلا يبدو أنها ستقف في وجه الولايات المتحدة إذا ما قررت تنفيذ الضربة، ولكن المملكة السعودية تثير مخاوف حقيقية بسبب الحملة التي وجهت ضدها وخطورة قيام نظام بديل في العراق يؤثر علي صداقتها مع الولايات المتحدةبل ويكون أداة لتنفيذ المخططات التي بدأت ترشح من الولايات المتحدة ولا يختلف الوضع العربي كله عن هذا الواقع، فهو موقف باهت يتسم بالتراجع وعدم القدرة علي اتخاذ القرار سواء كان ذلك علي مستوي القيادات أو علي المستوي الشعبي و لا تزال دولة مثل ليبيا التي قدم زعيمها إشارات واضحة للتعاون مع أمريكا، لا تزال تخرج فيها المظاهرات التي تطالب بتنحي الرؤساء العرب إذا كانوا غير قادرين علي اتخاذ القرار، ولا يختلف وضع مصر وسورية، إذ هما تقفان موقف المتفرج وتقتنصان الظروف هنا وهناك من أجل اطلاق تصريحات موجهة إلي الشعب أكثر من كونها مبادئ نحو سياسات عملية ويبقي الشارع العربي نائما لا يتحرك ويصعب علي أي فرد أن يفسر حالته في هذه المرحلة.

      ولا يعني ذلك أن الطريق مفروش بالورود أمام الولايات المتحدة لضرب العراق لأن الولايات المتحدة تواجه الان أسوأ مآزقها، فالحملة الجوية لن تحقق أهدافها ولوكانت لسجلت الولايات المتحدة انتصارا ساحقا في أفغانستان،ولا تستطيع الولايات المتحدة أن تحقق أهدافها هناك إلا بقوات برية، ويعني ذلك أنها بحاجة إلي التعاون مع دول المنطقة ولكن من الذي يضمن سلامة هذه القوات إذا دخلت العراق، بل من الذي يضمن واقع المنطقة كلها إذا نفذت الولايات المتحدة مخططها بإقامة حكومة احتلال في العراق تسيطر بها علي مواقع النفط في هذا البلد وفي المنطقة العربية كلها. سؤال تقف وراءه كل المشكلات التي تواجه الولايات المتحدة في مأزقها الحالي في العراق