النفس البشرية بين الفلسفة والقرآن الكريم
معرفة النفس اختراق للذات ، وسفر خارج حدود الزمان والمكان .. والحديث عن النفس أساس فلسفة الوجود ، ومحاولة لاختراق سر الحياة ..
إن البحث عن حقيقة النفس يختلف تماماً عن البحث في أي مسألة كونية حسية ، لأن ساحة العلوم الكونية هي المادة ، أما النفس – كما سنرى – فمجردة عن المادة .. ولذلك سنتعرض في بحثنا عن النفس إلى الفلسفة والرؤى الحياتية من منظار علمي ،وإلى القرآن الكريم ..
في معظم الديانات القديمة كانت النفس – باعتقاد معتنقي هذه الديانات – مستقلة عن الجسد .. ففي الديانات الفرعونية كان الاعتقاد بأن النفس ترتفع إلى السماء ، وأن الجسد تناله الأرض .. فالمصريون القدماء كانوا يعتبرون النفس ذات أربع شعب :
1 – الروح .
2 – العقل والإرادة .
3 – صورة من الأثير على هيئة الجسم تماماً .
4ـ الجوهر الخالد وهو ما يشترك فيه الإنسان مع الآلهة .
والبابليون كانوا يعتقدون أن نفس الإنسان تنفذ من القبر ، وبالتالي فالنفس غير الجسد لأن الجسد لا ينفذ من القبر ..
ومن معتقدات القدماء الصينيين أن أرواح الأموات تنفصل عنهم بعد موتهم وتبقى في الدنيا مع أسرهم ..
وفي الديانة الطاوية التي أسسها الفيلسوف الصيني (لاوتسي) في القرن السادس قبل الميلاد ، والتي يُعتقد فيها بتناسخ الأرواح ، فإن لكل إنسان ثلاث أنفس هي :
النفس العاقلة : ومقرها الرأس .
النفس الحساسة : ومقرها في الصدر .
النفس المادية : ومقرها في المعدة .
وفي الديانات الهندية تُعد النفس مستقلة عن الجسد ، فمسألة تقمص الأرواح التي تُعد القاسم المشترك لكل الفلسفات الهندية ، مبنية أصلاً على استقلال النفس عن الجسد ..
يقول كريشنه الذي وُلد حوالي سنة (4800) ق.م من امرأة عذراء حيث حلَّ الإله في جسده كما يعتقد الهنود .. يقول : (إن الجسد الذي تهبط إليه النفس شيءٌ زائل ، أما النفس التي لا تدركها العين فهي أبدية .)
ويقول أيضاً : (إذا انحل الجسد بالموت ، طارت النفس التي تتغلب عليها الحكمة إلى الطبقات العليا ، التي يرى فيها الأتقياء الله ، ويدركون كماله ، وإذا كانت الشهوات متغلبة على النفس فإنها تُرد ثانية إلى الأرض .)
وفي المذهب الأوبنيشادي الصوفي الهندي ، يُنظر إلى النفس على أنها كونية شاملة موجودة في كل كائن ، وبناءً على ذلك فالإنسان عينه يكون موجوداً في كل كائن من النبات إلى الإله .. لننظر إلى النص التالي من هذا المذهب : (نفس المخلوقات واحدة ، إلا أنها ماثلة في كل مخلوق ، وهي في الآن عينه وحدة وتعدد ، كالقمر الذي يتلألأ على صفحة المياه .)
وفي الفلسفة اليونانية اعتبر سقراط النفس حقيقة مجردة مستقلة ، فالإنسان الحقيقي عند سقراط هو النفس وليس الجسد ..
ووضع أفلاطون مبدأ الثنائية في الوجود ، فميز تمييزاً قاطعاً بين النفس والجسد .. لننظر إلى النص التالي الذي يبين هذه المسألة : (النفس تشبه أقرب الشبه الإلهي والخالد والمعقول وذا الطبيعة الواحدة – أي البسيط غير المركب – الذي لا يتحلل والذي هو هو ذاته ودائماً على نفس الحال ، أما الجسد يشبه أقرب الشبه ما هو إنساني ، وفإنه متعدد الطبيعة وغير معقول ولا يبقى أبداً هو هو على نفس الحال .)
وفلسفة أفلاطون تَعدَّت الفصل بين النفس والجسد إلى وظائف النفس وعلاقاتها مع الجسد ، فأقام تعارضاً بين النفس والجسد ، معتبراً كل ما يخص الجسد يحمل بذور الشر والتعاسة .. فعلاقة النفس بالجسد ليست علاقة ارتباط عضوي بل علاقة صراع ..
فالنفس عند أفلاطون كيان مفكر ، كانت تعرف المثل الجوهرية في عالم المثل قبل حلولها في الجسد .. وهكذا فالمعرفة –عنده – هي إحدى الوظائف الجوهرية للنفس ..
ولكن أفلاطون رأى أن النفس تقوم بوظائف ثلاث تتعارض أحياناً ، هي : المعرفة والإرادة والشهوة ، فرأى أنه من غير المعقول أن يقوم بهذه الوظائف الثلاث العضو نفسه في النفس ..
وهكذا على الرغم من أن أفلاطون قد اعتبر النفس لا تتحلل ولا تتجزأ ، إلا أنه عاد فاعتبرها مكونة من أقسامٍ ثلاثةٍ : 1- المبدأ العاقل
2- المبدأ الغضبي
3- مبدأ الشهوة
وعاد أفلاطون فقال إن مبدأ العقل يسيطر على المبدأين الآخرين ، وأن القوة العاقلة في النفس هي وحدها الجديرة باسم النفس ، وأن النفس خالدة بقسمها العاقل فقط ، وبالتالي فالإنسان الحقيقي هو العقل .. وما دفعه إلى هذه الأقوال هو التوفيق بين قوله إن النفس لا تتجزأ ، وبين قوله إنها مكونة من ثلاثة أقسام ..
أما الفلسفات التي أنكرت النفس ككيان مستقل عن الجسد ومجرد عن المادة ، فتتمثل في الفلسفات المادية الإلحادية ، التي تنكر أصلاً وجود ما وراء عالم المادة والمكان والزمان .. فوجود عالم غير العالم المادي يهدم فلسفتهم المادية التي تزعم بسرمدية المادة والزمان والمكان ..
هذا – باختصار شديد – مرور سريع على أهم الرؤى الفلسفية بالنسبة لمسألة النفس وعلاقتها مع الجسد ..
ولننظر الآن إلى النفس وعلاقتها بالجسد من منظار الرؤى الحياتية والعلمية لعلاقة أحاسيسنا المختلفة بالجسد ومكوناته ..
لاشك أننا نحس باللذة والألم عبر عناصر أجسادنا المادية .. فصحة الجسد ومرضه، عوامل مادية تجعلنا نتأرجح بين الراحة من الألم وبين الخضوع لسيطرته .. وغريزة الشبع والجوع لا نستطيع التعامل معها إلا عبر مادة الطعام .. ولا شك أن حواس البصر والسمع والذوق والشم واللمس هي مفاتيحنا للدخول إلى هذا العالم المادي ..
ولا شك أن إحساسنا بالزمان والمكان متعلقٌ بجسدنا المادي من جهة ، وبالعالم المادي المحيط بنا من جهة أخرى .. فسيلان الزمن – بالنسبة لنا – هو إدراكنا للتغيرات المادية المحيطة بنا ، من منظار تفاعلنا مع التغيرات المادية لمادة أجسادنا ..
إذاً تتفاعل أنفسنا مع الزمن وفق بُعدين :
الزمن الداخلي : وهو ناتجٌ عن تفاعل النفس مع طبيعة الجسد وماهيته وحركته ، حيث تدرك النفس انسياب زمنها الداخلي نتيجة لهذا التفاعل .. والزمن الداخلي لكل نفس ، هو الأساس والميزان الذي نقيس عليه الزمن الخارجي الذي نتفاعل معه عبر حواسنا .. فإحساس الإنسان بالزمن وهو مريض يختلف عن إحساسه بهذا الزمن وهو معافى ، مع أن المحيط المادي هو ذاته في الحالتين ..
الزمن الخارجي : وهو ناتجٌ عن إدراك النفس – عبر حواسها – لحركة المادة خارج الجسد ، ويتبع ذلك للوضع المكاني لها ، ولنسبية حركتها ، بالنسبة للعالم الخارجي - خارج الجسد – وتقدر النفس سرعة انسيابه بالنسبة لزمنها الداخلي ..
وكلامنا هذا ليس فلسفة تصورية مادتها الخيال ، إنما حقيقة علمية رياضية أُثبتت بالتجارب ، فالنظرية النسبية لآينشتاين وضعت المعادلات الرياضية التي تربط سرعة الحركة بانسياب الزمن وبتغير شكل المادة وكتلتها ..
فلو وضعنا إنساناً في مركبة فضائية تسير بسرعة كبيرة جداً ، وقريبة من سرعة الضوء ، فإن إحساسه بالزمن يختلف عن إحساسنا نحن البعيدين عن الخضوع لهذه السرعة .. فعلى سبيل المثال لو كانت سرعة المركبة هي (240000) كم/ ثا ، لكانت كل (10) دقائق في عالمنا تقابل (6) دقائق في عالم المركبة ، ومع ازدياد سرعة المركبة يزداد الفارق ، حتى إذا بلغت سرعة المركبة سرعة الضوء خرج هو ومركبته من إطار المادة والمكان والزمان ، وأصبحت الثانية في عالمنا تقابل اللانهاية من السنين في عالمه..
وهذا المسافر في المركبة لا يحسّ بتغير الزمن لأن الزمن الداخلي الذي يحسّ به نتيجة تعرض مادة جسده لهذه السرعة الهائلة ، يساوي تماماً تغير مادة عالم مركبته المدفوعة هي الأخرى بالسرعة ذاتها ، ولذلك يحصل توازن ما بين زمنه الداخلي والخارجي ، فلا يحس بأي تغير في انسياب الزمن ..
أما لو أُتيح له النظر إلى عالمنا فسيرى أن زماننا يتسارع مقارنة مع زمنه ، وذلك بنسبة تتعلق بسرعة مركبته .. فلو كانت سرعة مركبته مثلاً قريبة جداً جداً من سرعة الضوء ، فإن الزمن اللازم عنده لشرب فنجان من القهوة في مركبته ،يراه قد مر سنين كثيرة على عالمنا عندما يعود إلى هذا العالم.
هذه الفلسفة العلمية المثبتة رياضياً نستطيع التحقق منها يومياً أثناء نومنا .. فعندما ننام ينتهي إحساسنا بانسياب الزمن وينتهي تفاعلنا مع تغير عناصر المكان فبعد مرور فترة من نومنا يأخذ الجسم حاجته الكاملة من الراحة ، بعد هذه الفترة لا نحس بعد أن نفيق من نومنا بمقدار الزمن الذي مر علينا أثناء هذا النوم سواءً كان يوماً أم مائة عام ، وفي هذا أكبر دليل على أننا في تلك الفترة كنا – كجوهر مجرد من مادة الجسد – خارج حدود الزمان والمكان ..
وبالتالي فجوهر الإنسان (نفسه) ليس مادياً على الإطلاق فلو كان هذا الجوهر مادياً حتى بأيِّ نسبة لكان هناك إحساس بالزمن يقابل هذه النسبة لأن إدراك الزمان والمكان يقتضي مادة تتحرك مكوناتها ضمن حيز من المكان ..
والنفس أثناء النوم على الرغم من وجودها خارج الجسد فإنها تعود إلى الجسد فور تعرضه لمؤثر خارجي كافٍ لعودتها ، وبعد هذه العودة تحس بالعالم خارج الجسد ، أما إذا كان المؤثر الخارجي غير كافٍ لعودتها فإننا لا نحس به إطلاقاً ..
ولذلك نرى أنه حين خضوعنا للتخدير الجراحي لا نحس إطلاقاً بالألم على الرغم من تعرض أجسادنا للعمل الجراحي ، وسبب ذلك أن أنفسنا كانت أثناء التخدير خارج أجسادنا ، وحين عودتها إلى هذه الأجساد بعد زوال تأثير مادة التخدير ، يبدأ إحساس أنفسنا بالألم ..
وعلى الرغم من أن التخدير يكون من خلال المادة ، إلا أن هذه المادة تؤدي إلى خروج النفس من الجسد بدليل عدم إحساسنا بالألم ، وفي هذا دليل على أن هناك علاقة بين النفس والجسد .. هذه العلاقة هي من منظار العالم المادي الذي ينتمي إليه الجسد هي علاقة مادية ، بدليل أن مادة التخدير أخرجت النفس من الجسد .. وهي من منظار العالم المجرد عن المادة الذي تنتمي إليه النفس ، هي علاقة غير مادية على الرغم من أنها تؤثر على مادة الجسد ، والدليل هو إحساسنا بالنشوة والألم حينما نفرح ونحزن عند سماعنا للأخبار السارة والحزينة ، وهذا الفرح والحزن يؤثر على فيزيولوجيا الجسد، فكم من مرضٍ عضوي كان منشؤه نفسياً ، وكم من حالةٍ نفسية ساهمت في علاج أمراضٍ عضوية ..
ودليلٌ آخر على أن النفس جوهر غير مادي ، وتحس باللذة والألم في هذا العالم المادي عبر مادة الجسد ، هو أننا أثناء أحلامنا في النوم نحس باللذة و الألم على الرغم من أن الجسد لم يتعرض لأي مؤثر مادي يؤدي إلى تلك الأحاسيس ..
إذاً الذي يحس بالألم واللذة ليس الجسد ، وإنما النفس .. ولكن الجسد هو الباب الذي تعبر منه النفس في أحاسيسها إلى هذا العالم المادي عبر الحواس المعروفة ..
وهذا لا يعني أن النفس محتاجة في أحاسيسها في العوالم غير المادية لهذه الأبواب الحسية .. ففي النوم - كما قلنا – يتم الإحساس دون هذه الأبواب الحسية ، على الرغم من أن الجسد أحياناً يستجيب لتلك الأحاسيس ، فعندما نفيق نجد أجسادنا – أحياناً – وكأنها هي من تعرض للتأثيرات التي رأيناها في المنام، وهذا – كما قلنا – يتعلق بالعلاقة بين النفس والجسد ..
إن ما نريد قوله هو أن النفس في المنام ترى دون آلية العين الضوئية ، وتسمع دون آلية السمع الأذنية .. وتمارس كل أحاسيسها دون آليات الجسد الحسية ، ودون التأثير المادي للعالم المادي المحيط بأجسادنا ..
إذاً الجسد بحياته ونبضه وحركة مكوناته الداخلية ، ليس أكثر من وعاءٍ للنفس التي تنتمي لعالمٍ غير مادي .. والجسد يعمل بأمر هذه النفس ويستجيب لشهواتها ورغباتها ، وبالمقابل فإن النفس عندما تحل بهذا الجسد تصبح محكومة لإطار المكان والزمان الذي ينتمي إليه الجسد ..
فحركتنا في هذه الحياة تتكون من وجهين متمايزين :
حركة لا شعورية ترتبط بحياة الجسد من حركة للقلب وغيره من أعضاء الجسم ، وهذه الحركة لا علاقة للنفس بها ، بدليل بقاء هذه الحركة مستمرة أثناء النوم .
حركة إرادية تقوم بها النفس عبر الجسد .
وأفضل تشبيهٍ للعلاقة بين النفس والجسد ، هو العلاقة بين السائل والوعاء الذي يُوضع به هذا السائل .. فالسائل هو الذي يعطي الوعاء الوظيفة التي صُنع من أجلها ، والوعاء هو الذي يحجز السائل داخل جدرانه ويمنعه من الانفلات ، ويفرض عليه شكل سطحه الداخلي ..
وما يؤكد أن النفس جوهر غير مادي ، وأن الجسد ليس أكثر من وعاء لها ، هو أنه بتطور العلوم الطبية أصبح من الممكن نقل الأعضاء من إنسانٍ لآخر ، واستبدال بعض الأعضاء كالقلب والكلى بأجهزة من صناعة البشر .. وعلى الرغم من ذلك لا يتبدل الإنسان كنفسٍ عاقلة مدركة نتيجة استبدال بعض أعضائه ..
إذاً القوة العاقلة المدركة التي تقف وراء استقراء الإنسان وتعقله وشهوته ، هي قوة تابعة للنفس المجردة عن عالم المادة ، فالعقل والإرادة ودوافع الشهوة (دون الغريزة) ، كل ذلك يصدر عن النفس .
وكما أن الجسد بكليته وبحركته وحياته وعاء للنفس ، فإن الدماغ وعاءٌ للعقل .. وبما أن الدماغ يقود الجسم ويقف – مادياً – وراء كل الأوامر التي يتلقاها الجسد ، فإن القوة العاقلة (بما فيها الإرادة) تقف وراء كل الدوافع النفسية التي تأمر بها النفس الجسد ..
ولما كان الجسد مادياً وينتمي لهذا العالم المادي الذي يحوي المتناقضات في الوقت ذاته ، ولما كانت النفس بوجهها المجرد تنتمي لعالم لا يحتوي المتناقضات في الوقت ذاته .. نرى أنه يمكننا تصور المسألتين الماديتين المتناقضتين للمسألة الواحدة في الوقت ذاته ، ولا يمكننا أبداً تصور المسألتين الرياضيتين المجردتين للمسألة الواحدة في الوقت ذاته ..
فيمكننا أن نتصور أن ارتفاع درجة الحرارة يؤدي إلى تمدد أقطار الجسم ، ويؤدي إلى تقلص أقطار الجسم أيضاً ، فمعلومٌ أن الماء في الدرجة (+4) مئوية يزداد حجمه بانخفاض درجة الحرارة ، ولكننا حينما تصورنا أن الاثنين أكبر من الواحد كقضية مجردة، فإن هذا التصور ينفي أبداً تصور القضية المعاكسة لهذه القضية ، وهي أن الواحد أكبر من الاثنين كقضية مجردة .. ومرد هذا أن هذه القضية المجردة هي قضية عقلية تنبع من النفس المجردة عن المادة ..
ولكن حينما ننزل هذه القضية العقلية المجردة إلى عالم الحس فإننا نقبل المتناقضات لهذه القضية في الوقت ذاته .. فالبرتقالة الكبيرة أكبر من برتقالتين صغيرتين ..
الأمر ذاته بالنسبة لإرادة النفس ، فلا يمكن للنفس أن تحمل في الوقت ذاته للمسألة ذاتها إرادتين متناقضتين ، ولكن حينما تنزل هذه الإرادة إلى عالم الحس والوجود المادي، وتتفاعل مع مادة تنفيذ هذه الإرادة ، وتتحول إلى مشيئة ، فمن الممكن أن تكون هناك طرقٌ متناقضة لتنفيذ الإرادة الواحدة .. ومرد ذلك أن عالم المشيئة يحتوي المتناقضات في الوقت ذاته ، لأنه عالم مادي متغير غير ثابت ..
هذه هي أهم معالم النفس ومتعلقاتها من منظار الفلسفة والعلم والتجربة الحياتية ..
ولنبحر الآن مع القرآن الكريم عبر بعض النصوص القرآنية التي ترد فيها كلمة النفس ومشتقاتها، وكلمة الروح ومشتقاتها ..
النفس في القرآن الكريم مستقلة عن الحياة الجسدية .. قال تعالى :
( الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ) الزمر : 39/42 -
فأثناء النوم – كما يقول القرآن الكريم – تكون النفس خارج الجسد ، وعلى الرغم من ذلك نرى أن جسد الإنسان لا يفقد الحياة والنمو .. وعلى الرغم من استقلالية النفس عن الجسد في القرآن الكريم ، فإن القرآن الكريم لم يغفل تعلق النفس بالإطلالة الحسية على عالم المادة من خلال الجسد .. فالنفس تشتهي وتأكل عن طريق الجسد .. قال الله تعالى :
( أولم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز فنخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون ) - السجدة : 32/ 27 –
2 – النفس الإنسانية موجودة قبل حلولها في الجسد ، فنفوس جميع البشر دون استثناء موجودة منذ أخذ الله تعالى العهد والميثاق على الإنسان في عالم ما وراء المادة والمكان والزمان .. لننظر إلى قول الله تعالى :
( وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين <172> أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون ) الأعراف : 7/172-173-
وموت النفس يكون بخروجها خروجا نهائيا من الجسد ، مع خروج الحياة منه .. وتعود النفس إلى عالمها ما وراء المادة والمكان والزمان ، ويعود الجسد إلى مادته التي خلق منها وهي التراب .. لننظر إلى قول الله تعالى :
( ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون ) الأنعام :6/93-
3 – النفس في القرآن الكريم لا تأتي مرتبطة – من بين جميع المخلوقات – إلا بالإنسان ، فلا يوجد نص قرآني واحد يدل على أن للحيوانات أنفسا .. بالإضافة إلى أن هناك إشارات تدل على أن النفس مسألة تخص الإنسان فقط من بين جميع المخلوقات .. لننظر إلى قول امرأة العزيز في القرآن الكريم :
( وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم ) يوسف : 12/53 –
إن العبارة القرآنية (إن النفس لأمارة بالسوء ) تشير إلى ارتباط النفس بالإنسان فقط ، لأن الحيوانات تشتهي بغريزتها ، ولا يوجد لديها أمر بالسوء أو بغير السوء ..
ولننظر إلى قول الله تعالى :
( من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفساً بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً ) المائدة : 5 /32 -
إننا نرى ورود النفس في هذه الصورة القرآنية بصيغة النكرة ( نفساً ) التي تفيد الإطلاق ، وأنه من يقتل نفساً فكأنما قتل الناس جميعاً .. فلو كانت الذبابة نفساً فسيكون حكم من يقتلها كحكم من يقتل الناس جميعاً ..
وكما يؤكد القرآن الكريم فإن الإنسان هو من يُحاسب يوم القيامة ، لأنه هو المكلف في الحياة الدنيا من بين جميع المخلوقات المحسوسة في هذه الدنيا .. وورود كلمة النفس في النص التالي بالصيغة المطلقة التي تشمل كل نفس دليل على أن النفس خاصة بالإنسان من بين المخلوقات الأخرى المحسوسة في هذا الكون ..
( ونفخ في الصور ذلك يوم الوعيد <20> وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد <21> لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد ) ق : 50 /20 – 22 –
4 – ما يؤكد أن النفس جوهر مستقل عن المادة ، هو أن الإنسان بعد الموت لا يحس بسيلان الزمن ، فالموت الذي يعني خروج النفس خروجاً نهائياً من الجسد ، يعني أيضاً خروجها خروجاً نهائياً من إطار المكان والزمان .. لننظر إلى النصوص القرآنية التالية :
- ( فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوماً أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام ... ) البقرة : 2/259 –
( يوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون )
الروم : 30 / 55 –
- ( ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله وما كانوا مهتدين ) يونس : 10/ 45 –
5 – لما كانت النفس خاصة بالإنسان من بين المخلوقات المحسوسة ، فإن العقل مسألة خاصة بالإنسان من بين هذه المخلوقات ، لأن قوة التعقل ترتبط ارتباطاً كاملاً بالجانب المجرد للنفس .. ولذلك فعدم تعقل الإنسان يجعله كالأنعام .. لننظر إلى قول الله تعالى :
( أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا ً) الفرقان : 25 /44
وترتبط بالنفس أيضاً قوة الشهوة ( المجردة عن الغريزة ) والهوى .. لننظر إلى قول الله تعالى :
- ( وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون ) الزخرف : 43 /71 –
- ( إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ) النجم : 53 /23 –
6 – كما رأينا أن النفس بوجهها المجرد مستقلة عن الجسد وحياته ، فإن الروح في القرآن الكريم مستقلة عن النفس وعن الجسد .. وكما رأينا أن النفس تميز الإنسان عن باقي المخلوقات ، نرى أن الروح – كما يصورها القرآن الكريم – تميز البشر عن بعضهم بعضاً .. فالروح في القرآن الكريم خاصة بالمقربين من الله تعالى دون بقية البشر .. لننظر إلى النصوص القرآنية التالية ...
- (ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون ) النحل : 16 / 2
(رفيع الدرجات ذو العرش يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاقِ ) غافر : 40 / 15 –
(لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروحٍ منه..) المجادلة : 58 / 22 –
ففي الصورة القرآنية الأخيرة نرى العبارة (أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروحٍ منه)، فالروح أُيد بها هؤلاء بعد أن كُتب الإيمان في قلوبهم ، وهذا دليلٌ على أن الروح هي بمعنى الصلة والقربة من الله تعالى ويتم التأييد بها بعد وقوع الإيمان الصادق .
وما يؤكد أن الروح تعني الصلة الأمينة والقربة مع الله تعالى ، هو وصف جبريل عليه السلام بالروح الأمين ، أي الصلة الأمينة بين الله تعالى وبين البشر .. لننظر إلى قول الله تعالى ..
( نزل به الروح الأمين <193> على قلبك لتكون من المنذرين )
الشعراء : 26 / 193-194
ولما كانت كلمة الروح في القرآن الكريم تعني الصلة والقربة من الله تعالى ، فإن إضافة هذه الكلمة لله تعالى أعطتها خصوصية خاصة بها ، بأنها لا يعطيها إلا الله تعالى ، شأنها بذلك شأن المسائل التي أُضيفت إلى الله تعالى ، كالبيت الحرام ، والناقة التي أُرسلت بينة مع صالح عليه السلام .. لننظر إلى قول الله تعالى :
( وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود ) البقرة : 2 / 125 –
( قد جاءتكم بينة من ربكم هذه ناقة الله لكم آية .. ) الأعراف : 7 / 73
وهذه الروح التي يؤيد بها الله تعالى المقربين منه ، نُفخت في آدم ، وأُيد بها عيسى عليهما السلام .. لننظر إلى النصوص القرآنية التالية ..
- ( وإذ قال ربك للملائكة إني خالقٌ بشراً من صلصالٍ من حمإٍ مسنون <28> فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين ) الحجر : 15 / 28-29
- ( وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس ) البقرة : 2 / 87
( إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروحٌ منه )
النساء : 4 / 171
وما يؤكد أن الروح تعني العطاء الخالص من الله تعالى ، صلةً وقربةً منه .. هو النص القرآني التالي ..
( يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من رَوح الله إنه لا ييأس من رَوح الله إلا القوم الكافرون ) يوسف : 12 / 87
إن الرَّوح من مشتقات الروح .. وواضحٌ أن العبارة القرآنية ( رَوح الله ) تعني مدد الله تعالى وصلته والقربة منه ..
وفي النص القرآني التالي نرى أن هذه القربة إلى الله تعالى لا ينالها بعد الموت إلا المقربون ..
( فأما إن كان من المقربين <88> فرَوحٌ وريحانٌ وجنة نعيم )
الواقعة : 56 / 88-89
وفرق القرآن الكريم بين الإرادة كقوة مجردة تنبع من النفس المجردة عن المادة ، وبين المشيئة كقوة مادية ساحتها عالم الوجود المكاني والزماني ، نتيجة تنفيذ الإرادة في هذا العالم الحسي ..
وبما أن العالم المجرد الذي تنتمي إليه النفس المجردة ، لا يقبل المتناقضات للمسألة الواحدة ، فإن الإرادة كقوة تنبع من هذه النفس المجردة ترد في القرآن الكريم بجميع صيغها بحيث لا تحمل المتناقضات للمسألة الواحدة .. فلا توجد عبارة قرآنية واحدة ترد فيها مشتقات الإرادة بحيث يتم عطف مسألتين متناقضتين على هذه الإرادة .. لننظر إلى قول الله تعالى :
( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ) البقرة : 2 /185
إننا نرى أن اليسر والعسر كمسألتين متناقضتين ارتبطتا بإرادتين مستقلتين ، وذلك بورود كلمة يريد مرتين مرة لليسر ومرة للعسر ..
أما المشيئة كتفاعل مادي في هذا العالم الحسي الذي يحوي المتناقضات ، ترد في القرآن الكريم أحياناً بحيث تحمل المشيئة الواحدة مسألتين متناقضتين ، أي من الممكن عطف مسألتين متناقضتين على مشتق من مشتقات المشيئة في القرآن الكريم .. لننظر إلى قول الله تعالى
( يمحو الله ما يشاء ويثبت ) الرعد : 13 / 39
( لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر ) المدثر : 74 / 37
إننا نرى أن المحو والإثبات كمسألتين متناقضتين تم عطفهما على مشيئة واحدة ، وكذلك الأمر بالنسبة للتقدم والتأخر ...
وهكذا نرى أن القرآن الكريم ميز بين ثلاثة عناصر مختلفة :
الجسد الحي : ويشترك فيه الإنسان مع الحيوان .
النفس : ويتميز بها الإنسان عن الحيوان .
الروح : ويتميز بها المقربون من الله تعالى عن باقي البشر .
هذه هي – أهم الرؤى الفلسفية والحياتية لمسألة النفس ، وأهم ما أدركته من وصف القرآن الكريم لهذه المسألة .. واعتبر هذه المحاضرة باباً للحوار ، قد ندخل من خلاله إلى مفاهيم جديدة ، قد تكون أكثر إدراكاً لمراد الوصف القرآني لمسألتي الروح والنفس ، وأكثر إحاطةً للرؤى الحياتية والفلسفية لهذه المسألة ...
تم تحرير الموضوع 1 مرة, آخر مرة بواسطة ناجي الدسوقي: تصحيح ().