الوطن -
نصر بن ليث الطائي:

ثمة فكرة مستنبطة من الدين الرباني، تعلمناها في المدارس ونحن صغار بالمرحلة الابتدائية وكنا نسمعها في مواضع شتى ألا وهي: الإسلام يحث أهله على طلب العلم. نقول: أول كلمة نزلت في القرآن كانت كلمة "اقرأ" ونستشهد بالرواية التي يذكر فيها النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ حين طلب من بعض أسرى المشركين يوم بدر بأن يفتدوا أنفسهم بتعليم أطفال المسلمين القراءة والكتابة. كما لا يغيب عن ذاكرتنا الحديث الشريف "طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة" وحديث آخر يحث فيه الرسول الكريم على ضرورة العلم والبحث في قوله: "اطلب العلم ولو في الصين" وغير ذلك كثير الذي لا مجال لحصره هنا. وبغض النظر عن صحة الحديث الأخير ودقة تفسير كلمة "العلم" في الأحاديث النبوية فإنه بلا شك أن العلم الحديث داعم أساسي للحضارة وتقدم الأمم وأن الإسلام منذ بدايته في العهد المكي اعتنى بالعلم الشرعي واللغوي وقد بدأ اتباع ديننا بتطوير قدراتهم بتلك العلوم في العهد النبوي حتى أقاموا حضارتهم في العهد الأموي ومن ثم في العصر العباسي على أسس التوحيد فتقدموا بالعديد من العلوم كالكيمياء في العهد الأموي والرياضيات في العصر العباسي.
لقد ورثنا هذه الرسالة الحضارية وروينا تلك المعلومات التاريخية فاستخدمناها لنحرك بها همة شبابنا ولنوجهه نحو العلم ولنروي بها أخبار مجد الأسلاف وأيضًا لنتباهى بها بين الأمم بذلك التقدم الحضاري الذي أنجزوه وأفادوا به الأمم المجاورة لهم وحتى البعيدة. ولكن السؤال يبقى .. ما أثر الرسالة الحضارية في جوهر/مكنون الذات المسلمة وإلى أي مدى تمسك المسلمون بذلك الإرث الثقافي بل ما حقيقة اتصال واقعنا الثقافي بالرسالة الحضارية؟!
لنعد إلى التاريخ القريب قليلاً لنستكمل قصة التفوق الحضاري فهناك معلومة تاريخية أخرى توازي أهمية الطرح الذي أسلفناه وهي من ضمن تسلسل التقلب الحضاري كما أنها حقيقة توضح الواقع التاريخي لثقافة الأمة في حقبة منسية تبعت الواقع التاريخي الذي نتغنى بحضارته. لقد ضعفت هيمنة الهوية الإسلامية في الخلافة العثمانية مع تقدم الدول الأوروبية علميًا، وعلى هذا الأساس استعان محمد علي باشا ـ والي الدولة العثمانية ومؤسس مصر الحديثة ـ بالأوروبيين وأخذ يضمهم للتدريس بمعاهد مصر التعليمية وبرغم الرفض الشعبي المصري بدأ بمنح البعثات إلى أوروبا وفرنسا على وجه الخصوص. وعاد بعض المفكرين من أمثال رفاعة الطهطاوي لإقناع المصريين بضرورة نهج المنهج الثقافي الأوروبي ولإعادة هيكلة النظام الاجتماعي في مصر. ثم قامت حركة جمال الدين الأفغاني المخالفة للتوجه الاجتماعي والثقافي الأوروبي باسم الإسلام وقد مثل الأفغاني بنفسه دورًا توعويًا رائدًا في مصارعة الحركة التغريبية ولكن طبيعة حركة إصلاح الأفغاني كانت انفعالية لم تخطُ بأسس فكرية شاملة لدرء تلك الهيمنة الحضارية أي أنها كانت يقظة حماسية لا أكثر، فلم تحتضن منهجًا عمليًا يقابل تلك النهضة العملية التي قادها الغربيون. فأدى ذلك كله إلى تصاعد اعتماد السلطات والشخصيات المؤثرة في مصر على هذا النمط التثقيفي حتى بدأ المصريون يقبلون ذلك الاعتماد والانقياد الكلي وبدأت الأسر الغنية بإرسال أبنائها إلى الدول الأوروبية بغرض التعليم وذلك تحديدًا بعصر الخديوي إسماعيل حفيد المؤسس محمد علي باشا. وقد وصل عدد المعلمين في عام 1875 ـ بعهد إسماعيل باشا ـ إلى 8961 معلمًا وكان المصريون يمثلون ما يقارب 2000 من ذلك العدد وأما البقية فكانوا كلهم غربيين أوروبيين.
لم تكن هناك مدارس حديثة قبل هذه النقلة التعليمية والحضارية في مصر، وبالتالي اضطر الوالي محمد علي باشا بإنشاء مدارس حديثة ومنها: مدرسة قصر العيني الطبية وهي أول مدرسة عربية طبية وقد أدار هذه المدرسة الطبيب الفرنسي كلوت بك الذي كان يعمل بالجيش المصري قبلها؛ أما على الصعيد الشخصي فقد أفرزت هذه النقلة شخصيات ثقافية عديدة لعل من أبرزها: تلميذ محمد عبده صبيًا وتلميذ المستشرق الفرنسي كايم دور شابًا - طه حسين المولود بعصر إسماعيل باشا.
من هنا نستطيع القول إنه لا يمكن أن ننظر إلى هذه النقلة بمنظور واحد ذلك أن لها أبعادا ثقافية واجتماعية وسياسية طويلة المدى. فبينما كان المصريون يسعون إلى تنمية وتثقيف مصر سعى الأوروبيون إلى تغريبها ليجعلوها أسيرة التبعية الكاملة للحضارة الغربية. وبمعنى آخر .. إن العرب قد اعتصموا برسالة الغرب الحضارية حتى انخلعوا من الفكر الإسلامي ونادوا بضرورة إعادة هيكلة المجتمع العربي على أسس فكر ونهج المجتمعات الغربية التي نادت مُسبقًا بخلع حكم الكنائس قبل اضعاف ومحاربة الخلافة الإسلامية. كما أحدثت هذه النقلة شخصيات جديدة على الأمة تنادي بإخضاع المصريين للمعيار الثقافي الغربي ـ وهذا ما بينه طه حسين في كتابه مستقبل "الثقافة في مصر". وموقف طه حسين هذا لم يكن محض صدفة عابرة وإنما عن دراسة وعشرة فلقد كان معلمه محمد عبده من الذين يؤولون النصوص الشرعية لتلائم المفاهيم الغربية ولعل تأثره بالبيئة الفرنسية زاده انقيادًا للتوجه الأوروبي والمفاهيم الغربية.
إذن التخلف والعجز العلمي والثقافي لدى المجتمع العربي دفع القيادة ومن ثم الشعب إلى الاستعانة بالحضارة الغربية وتطبيقها في البلاد العربية، كان الهدف هو رفع المستوى الثقافي للشعب ولكن سرعان ما غرس الأوروبيون أفكارهم لاستقطاب واستهداف الهوية العربية وإخضاعها للهيمنة الثقافية والاجتماعية والسياسية وحتى الاقتصادية للنظام الحضاري الجديد. مع هذه النقلة صدر نوعًا من الفج البين بين الرسالة الحضارية الإسلامية وبين المجتمع العربي حتى أصبح كبار رموزهم الثقافية والدينية يروجون لثقافة حضارية ليست مخالفة فحسب وإنما معادية ومستكبرة. فما هو واقع الشاب العربي بعد هذه النقلة التاريخية؟!
بعيدًا عن المطالبة بالإصلاح السياسي والاستقلال العلمي في بلادنا العربية النامية، لا بد لنا أن نلتفت لحال شبابنا ونقيس مدى تمسك الشاب العربي بالإرث الثقافي وتمسكه بالرسالة الحضارية. بالأمس القريب شهدنا المثقف منهم متأثرًا بالإرث الثقافي الغربي ويروج له بوطنه العربي ليطمس هويته الإسلامية العريقة. ومن بعد ذلك تراكمت المطامع الغربية ومع العولمة أو "الأمركة" بالأصح استبدلت المفاهيم الأصيلة بالمفاهيم الغربية حتى غاب الوعي والعطاء الجماعي بين أفراد الأمة. وإن قلنا إننا ننتمي للدين الذي تحث مفاهيمه على العلم لا يعني بأننا قد حققنا المراد وأخذنا به وقمنا عليه فهذا قول خارج عن نطاق الواقع الفعلي، يخبر عن أمة قد خلت ويعبر عن ما يقوله ويرجوه اللسان لا أكثر. تمَسُكنا بالإرث الثقافي ضعيف جدًا وهو بعيد كل البعد عن الواقع العملي والنشاط المطلوب لتحقيق تلك النهضة الثقافية وبناء تلك الحضارة مرة أخرى. القول بأن الإسلام دعا إلى العلم مجرد تعبير خارجي لا يحل الأزمة العلمية والثقافية الواقعة في المجتمع العربي لا بد أن يكون للواقع ميدان عملي يوظف به النشاط والسلوك الاجتماعي المرجو من مختلف فئات المجتمع.
وإذا نظرنا في حال الشاب العربي اليوم لوجدنا سموم التغريب تقف عرضًا بينه وبين ذلك النشاط والسلوك الذي يجدد به العزم وتعلو به الهمة لإعادة الماضي التليد. ومن أهم هذه السموم التي جاء بها التغريب في المجتمع العربي المعاصر هو مفهوم الفردية والذي يقدم بها مصلحة الفرد على المصلحة العامة. عادة ًما يتصف الشباب بالفردية في بداية "استكشافهم" لأنفسهم أو بسن المراهقة. كما أن الإعلام الغربي يباشر في تلقين الأطفال هذا المفاهيم منذ الصغر من خلال أبطال شخصيات أفلام "ديزني" الكرتونية وغيرها. ومفهوم الفردية يزرع في جوهر الذات الأنانية فإذا اتصف بها الشاب المسلم وجدته يحيد عن رسالة (الأمة) الحضارية لأنه بالتفكير الفردي يفتقر الإحساس بالرسالة التي اعتنت بتعزيز الروابط بين أفرادها على اختلاف أوطانهم وألوانهم وهي الرسالة التي جاءت لتوحد الأهداف والغايات للمصلحة العامة. كما أن في الفردية افتراقا وهذا مخالف لمقومات القوة المذكورة في الهدي الكريم.
ومن مظاهر سموم الفردية على الذات البشرية والمسلمة أن تجد الشاب غير مكترث بالأزمة التي تحيط به وكأنه مغيب عن وعيه وبعيد عن النشاط والسلوك الذي يجدد بنيان الحضارة به. ويظهر ذلك جليًا عند طلبة الجامعة إذ تجد أن الشاب قد قارب العشرين من عمره وهو يفتقر الثقافة العامة ومنشغلاً حتى بالركود فهو لا يكلف نفسه حتى بمعرفة الدوافع والبواعث والغايات التي يبنى عليها العمل الميداني لتحقيق الاغتنام والنهل من الإرث الثقافي، إلى جانب التطلع والإبداع في الميدان الثقافي والعملي. ولعل من المفيد والمهم أن نذكر بأن اللا مبالاة أشد ضررًا وعداء للنشاط الثقافي والتقدم الحضاري من السلبية والعزلة إذ إن السلبية والعزلة يصدران من الوعي وبنية ارادية لترجمة موقف أو بعث رسالة وهذا ما انتهجه أسامة بن زيد حين دعي للقتال وليكون طرفًا بالفتنة التي نشبت بين علي ومعاوية ـ رضي الله عنهما ـ وبين ذلك بقوله "لا أقاتل أحدًا يقول لا إله إلى الله أبدا ". وقد تكون العزلة تحديدًا موقفًا رشيدًا لتحقيق الغايات التي تفي بغرض النشاط والتقدم الحضاري وهذا ما انتهجه المسلمون في العهد المكي. ومن الطبيعي أن تكون اللا مبالاة أشد الأضرار على نهوض الأمة فهي بعيدة كل البعد عن النشاط الذي يخدم تقدمها والسلوك الجماعي الذي يقويها ويعزز مطالبها.
ليست الفردية واللا مبالاة إلا أمثلة بسيطة من الظواهر التغريبية التي تعيق المسؤولية والحفاظ على الرسالة الحضارية وتبين بعد جيل الشباب العربي المعاصر عن الإرث الثقافي الذي جاء به الإسلام. ومصر لم تكن الضحية الوحيدة لهذا الهجوم الحضاري ولعلها أبرز مثال على ذلك العدوان في العالم العربي إذ إنها كانت بذلك الوقت تابعة للدولة العثمانية ولها من التاريخ والحضارة والتعداد ما فاق الكثير من البلدان العربية. هذا التدني لم يكن وليد الصدفة، ولكن تراكم عبر العصور من خلال النشاط الغربي في الميدان الثقافي والعلمي العربي. أما الآن وقد وصلنا إلى هذه المرحلة من التسليم والخضوع للحضارة الغربية فحري بنا أن نذكر انتصار الحضارة الغربية وبداية مرحلة تقدمها وسيادتها على الأمة الإسلامية وندرس هذا الانحطاط الذي ما زال يخيم علينا منذ قرون، فلقد أضعنا السيادة الحضارية التي نتغنى بها منذ أن فرضت الحضارة الغربية هيمنتها. المعيار الحقيقي لتحقيق التقدم الحضاري هو ليس القول الذي يعود إلى صفحات التاريخ وإنما العمل الدؤوب في الميادين الثقافية لدى جيل الشباب المعاصر. كما أن المعتقد السليم المفهوم هو الذي يستطيع من خلاله أصحابه خلق منهجية عملية تقوم بها أسس النهضة والصلاح لمواجهة تحديات العصر الحضارية والفكرية.
نصر بن ليث الطائي:

ثمة فكرة مستنبطة من الدين الرباني، تعلمناها في المدارس ونحن صغار بالمرحلة الابتدائية وكنا نسمعها في مواضع شتى ألا وهي: الإسلام يحث أهله على طلب العلم. نقول: أول كلمة نزلت في القرآن كانت كلمة "اقرأ" ونستشهد بالرواية التي يذكر فيها النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ حين طلب من بعض أسرى المشركين يوم بدر بأن يفتدوا أنفسهم بتعليم أطفال المسلمين القراءة والكتابة. كما لا يغيب عن ذاكرتنا الحديث الشريف "طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة" وحديث آخر يحث فيه الرسول الكريم على ضرورة العلم والبحث في قوله: "اطلب العلم ولو في الصين" وغير ذلك كثير الذي لا مجال لحصره هنا. وبغض النظر عن صحة الحديث الأخير ودقة تفسير كلمة "العلم" في الأحاديث النبوية فإنه بلا شك أن العلم الحديث داعم أساسي للحضارة وتقدم الأمم وأن الإسلام منذ بدايته في العهد المكي اعتنى بالعلم الشرعي واللغوي وقد بدأ اتباع ديننا بتطوير قدراتهم بتلك العلوم في العهد النبوي حتى أقاموا حضارتهم في العهد الأموي ومن ثم في العصر العباسي على أسس التوحيد فتقدموا بالعديد من العلوم كالكيمياء في العهد الأموي والرياضيات في العصر العباسي.
لقد ورثنا هذه الرسالة الحضارية وروينا تلك المعلومات التاريخية فاستخدمناها لنحرك بها همة شبابنا ولنوجهه نحو العلم ولنروي بها أخبار مجد الأسلاف وأيضًا لنتباهى بها بين الأمم بذلك التقدم الحضاري الذي أنجزوه وأفادوا به الأمم المجاورة لهم وحتى البعيدة. ولكن السؤال يبقى .. ما أثر الرسالة الحضارية في جوهر/مكنون الذات المسلمة وإلى أي مدى تمسك المسلمون بذلك الإرث الثقافي بل ما حقيقة اتصال واقعنا الثقافي بالرسالة الحضارية؟!
لنعد إلى التاريخ القريب قليلاً لنستكمل قصة التفوق الحضاري فهناك معلومة تاريخية أخرى توازي أهمية الطرح الذي أسلفناه وهي من ضمن تسلسل التقلب الحضاري كما أنها حقيقة توضح الواقع التاريخي لثقافة الأمة في حقبة منسية تبعت الواقع التاريخي الذي نتغنى بحضارته. لقد ضعفت هيمنة الهوية الإسلامية في الخلافة العثمانية مع تقدم الدول الأوروبية علميًا، وعلى هذا الأساس استعان محمد علي باشا ـ والي الدولة العثمانية ومؤسس مصر الحديثة ـ بالأوروبيين وأخذ يضمهم للتدريس بمعاهد مصر التعليمية وبرغم الرفض الشعبي المصري بدأ بمنح البعثات إلى أوروبا وفرنسا على وجه الخصوص. وعاد بعض المفكرين من أمثال رفاعة الطهطاوي لإقناع المصريين بضرورة نهج المنهج الثقافي الأوروبي ولإعادة هيكلة النظام الاجتماعي في مصر. ثم قامت حركة جمال الدين الأفغاني المخالفة للتوجه الاجتماعي والثقافي الأوروبي باسم الإسلام وقد مثل الأفغاني بنفسه دورًا توعويًا رائدًا في مصارعة الحركة التغريبية ولكن طبيعة حركة إصلاح الأفغاني كانت انفعالية لم تخطُ بأسس فكرية شاملة لدرء تلك الهيمنة الحضارية أي أنها كانت يقظة حماسية لا أكثر، فلم تحتضن منهجًا عمليًا يقابل تلك النهضة العملية التي قادها الغربيون. فأدى ذلك كله إلى تصاعد اعتماد السلطات والشخصيات المؤثرة في مصر على هذا النمط التثقيفي حتى بدأ المصريون يقبلون ذلك الاعتماد والانقياد الكلي وبدأت الأسر الغنية بإرسال أبنائها إلى الدول الأوروبية بغرض التعليم وذلك تحديدًا بعصر الخديوي إسماعيل حفيد المؤسس محمد علي باشا. وقد وصل عدد المعلمين في عام 1875 ـ بعهد إسماعيل باشا ـ إلى 8961 معلمًا وكان المصريون يمثلون ما يقارب 2000 من ذلك العدد وأما البقية فكانوا كلهم غربيين أوروبيين.
لم تكن هناك مدارس حديثة قبل هذه النقلة التعليمية والحضارية في مصر، وبالتالي اضطر الوالي محمد علي باشا بإنشاء مدارس حديثة ومنها: مدرسة قصر العيني الطبية وهي أول مدرسة عربية طبية وقد أدار هذه المدرسة الطبيب الفرنسي كلوت بك الذي كان يعمل بالجيش المصري قبلها؛ أما على الصعيد الشخصي فقد أفرزت هذه النقلة شخصيات ثقافية عديدة لعل من أبرزها: تلميذ محمد عبده صبيًا وتلميذ المستشرق الفرنسي كايم دور شابًا - طه حسين المولود بعصر إسماعيل باشا.
من هنا نستطيع القول إنه لا يمكن أن ننظر إلى هذه النقلة بمنظور واحد ذلك أن لها أبعادا ثقافية واجتماعية وسياسية طويلة المدى. فبينما كان المصريون يسعون إلى تنمية وتثقيف مصر سعى الأوروبيون إلى تغريبها ليجعلوها أسيرة التبعية الكاملة للحضارة الغربية. وبمعنى آخر .. إن العرب قد اعتصموا برسالة الغرب الحضارية حتى انخلعوا من الفكر الإسلامي ونادوا بضرورة إعادة هيكلة المجتمع العربي على أسس فكر ونهج المجتمعات الغربية التي نادت مُسبقًا بخلع حكم الكنائس قبل اضعاف ومحاربة الخلافة الإسلامية. كما أحدثت هذه النقلة شخصيات جديدة على الأمة تنادي بإخضاع المصريين للمعيار الثقافي الغربي ـ وهذا ما بينه طه حسين في كتابه مستقبل "الثقافة في مصر". وموقف طه حسين هذا لم يكن محض صدفة عابرة وإنما عن دراسة وعشرة فلقد كان معلمه محمد عبده من الذين يؤولون النصوص الشرعية لتلائم المفاهيم الغربية ولعل تأثره بالبيئة الفرنسية زاده انقيادًا للتوجه الأوروبي والمفاهيم الغربية.
إذن التخلف والعجز العلمي والثقافي لدى المجتمع العربي دفع القيادة ومن ثم الشعب إلى الاستعانة بالحضارة الغربية وتطبيقها في البلاد العربية، كان الهدف هو رفع المستوى الثقافي للشعب ولكن سرعان ما غرس الأوروبيون أفكارهم لاستقطاب واستهداف الهوية العربية وإخضاعها للهيمنة الثقافية والاجتماعية والسياسية وحتى الاقتصادية للنظام الحضاري الجديد. مع هذه النقلة صدر نوعًا من الفج البين بين الرسالة الحضارية الإسلامية وبين المجتمع العربي حتى أصبح كبار رموزهم الثقافية والدينية يروجون لثقافة حضارية ليست مخالفة فحسب وإنما معادية ومستكبرة. فما هو واقع الشاب العربي بعد هذه النقلة التاريخية؟!
بعيدًا عن المطالبة بالإصلاح السياسي والاستقلال العلمي في بلادنا العربية النامية، لا بد لنا أن نلتفت لحال شبابنا ونقيس مدى تمسك الشاب العربي بالإرث الثقافي وتمسكه بالرسالة الحضارية. بالأمس القريب شهدنا المثقف منهم متأثرًا بالإرث الثقافي الغربي ويروج له بوطنه العربي ليطمس هويته الإسلامية العريقة. ومن بعد ذلك تراكمت المطامع الغربية ومع العولمة أو "الأمركة" بالأصح استبدلت المفاهيم الأصيلة بالمفاهيم الغربية حتى غاب الوعي والعطاء الجماعي بين أفراد الأمة. وإن قلنا إننا ننتمي للدين الذي تحث مفاهيمه على العلم لا يعني بأننا قد حققنا المراد وأخذنا به وقمنا عليه فهذا قول خارج عن نطاق الواقع الفعلي، يخبر عن أمة قد خلت ويعبر عن ما يقوله ويرجوه اللسان لا أكثر. تمَسُكنا بالإرث الثقافي ضعيف جدًا وهو بعيد كل البعد عن الواقع العملي والنشاط المطلوب لتحقيق تلك النهضة الثقافية وبناء تلك الحضارة مرة أخرى. القول بأن الإسلام دعا إلى العلم مجرد تعبير خارجي لا يحل الأزمة العلمية والثقافية الواقعة في المجتمع العربي لا بد أن يكون للواقع ميدان عملي يوظف به النشاط والسلوك الاجتماعي المرجو من مختلف فئات المجتمع.
وإذا نظرنا في حال الشاب العربي اليوم لوجدنا سموم التغريب تقف عرضًا بينه وبين ذلك النشاط والسلوك الذي يجدد به العزم وتعلو به الهمة لإعادة الماضي التليد. ومن أهم هذه السموم التي جاء بها التغريب في المجتمع العربي المعاصر هو مفهوم الفردية والذي يقدم بها مصلحة الفرد على المصلحة العامة. عادة ًما يتصف الشباب بالفردية في بداية "استكشافهم" لأنفسهم أو بسن المراهقة. كما أن الإعلام الغربي يباشر في تلقين الأطفال هذا المفاهيم منذ الصغر من خلال أبطال شخصيات أفلام "ديزني" الكرتونية وغيرها. ومفهوم الفردية يزرع في جوهر الذات الأنانية فإذا اتصف بها الشاب المسلم وجدته يحيد عن رسالة (الأمة) الحضارية لأنه بالتفكير الفردي يفتقر الإحساس بالرسالة التي اعتنت بتعزيز الروابط بين أفرادها على اختلاف أوطانهم وألوانهم وهي الرسالة التي جاءت لتوحد الأهداف والغايات للمصلحة العامة. كما أن في الفردية افتراقا وهذا مخالف لمقومات القوة المذكورة في الهدي الكريم.
ومن مظاهر سموم الفردية على الذات البشرية والمسلمة أن تجد الشاب غير مكترث بالأزمة التي تحيط به وكأنه مغيب عن وعيه وبعيد عن النشاط والسلوك الذي يجدد بنيان الحضارة به. ويظهر ذلك جليًا عند طلبة الجامعة إذ تجد أن الشاب قد قارب العشرين من عمره وهو يفتقر الثقافة العامة ومنشغلاً حتى بالركود فهو لا يكلف نفسه حتى بمعرفة الدوافع والبواعث والغايات التي يبنى عليها العمل الميداني لتحقيق الاغتنام والنهل من الإرث الثقافي، إلى جانب التطلع والإبداع في الميدان الثقافي والعملي. ولعل من المفيد والمهم أن نذكر بأن اللا مبالاة أشد ضررًا وعداء للنشاط الثقافي والتقدم الحضاري من السلبية والعزلة إذ إن السلبية والعزلة يصدران من الوعي وبنية ارادية لترجمة موقف أو بعث رسالة وهذا ما انتهجه أسامة بن زيد حين دعي للقتال وليكون طرفًا بالفتنة التي نشبت بين علي ومعاوية ـ رضي الله عنهما ـ وبين ذلك بقوله "لا أقاتل أحدًا يقول لا إله إلى الله أبدا ". وقد تكون العزلة تحديدًا موقفًا رشيدًا لتحقيق الغايات التي تفي بغرض النشاط والتقدم الحضاري وهذا ما انتهجه المسلمون في العهد المكي. ومن الطبيعي أن تكون اللا مبالاة أشد الأضرار على نهوض الأمة فهي بعيدة كل البعد عن النشاط الذي يخدم تقدمها والسلوك الجماعي الذي يقويها ويعزز مطالبها.
ليست الفردية واللا مبالاة إلا أمثلة بسيطة من الظواهر التغريبية التي تعيق المسؤولية والحفاظ على الرسالة الحضارية وتبين بعد جيل الشباب العربي المعاصر عن الإرث الثقافي الذي جاء به الإسلام. ومصر لم تكن الضحية الوحيدة لهذا الهجوم الحضاري ولعلها أبرز مثال على ذلك العدوان في العالم العربي إذ إنها كانت بذلك الوقت تابعة للدولة العثمانية ولها من التاريخ والحضارة والتعداد ما فاق الكثير من البلدان العربية. هذا التدني لم يكن وليد الصدفة، ولكن تراكم عبر العصور من خلال النشاط الغربي في الميدان الثقافي والعلمي العربي. أما الآن وقد وصلنا إلى هذه المرحلة من التسليم والخضوع للحضارة الغربية فحري بنا أن نذكر انتصار الحضارة الغربية وبداية مرحلة تقدمها وسيادتها على الأمة الإسلامية وندرس هذا الانحطاط الذي ما زال يخيم علينا منذ قرون، فلقد أضعنا السيادة الحضارية التي نتغنى بها منذ أن فرضت الحضارة الغربية هيمنتها. المعيار الحقيقي لتحقيق التقدم الحضاري هو ليس القول الذي يعود إلى صفحات التاريخ وإنما العمل الدؤوب في الميادين الثقافية لدى جيل الشباب المعاصر. كما أن المعتقد السليم المفهوم هو الذي يستطيع من خلاله أصحابه خلق منهجية عملية تقوم بها أسس النهضة والصلاح لمواجهة تحديات العصر الحضارية والفكرية.
¨°o.O ( على كف القدر نمشي ولا ندري عن المكتوب ) O.o°¨
---
أتمنى لكم إقامة طيبة في الساحة العمانية
---
أتمنى لكم إقامة طيبة في الساحة العمانية
وأدعوكم للإستفادة بمقالات متقدمة في مجال التقنية والأمن الإلكتروني
رابط مباشر للمقالات هنا. ومن لديه الرغبة بتعلم البرمجة بلغات مختلفة أعرض لكم بعض
المشاريع التي برمجتها مفتوحة المصدر ومجانا للجميع من هنا. تجدون أيضا بعض البرامج المجانية التي قمت بتطويرها بذات الموقع ..
والكثير من أسرار التقنية في عالمي الثاني Eagle Eye Digital Solutions
رابط مباشر للمقالات هنا. ومن لديه الرغبة بتعلم البرمجة بلغات مختلفة أعرض لكم بعض
المشاريع التي برمجتها مفتوحة المصدر ومجانا للجميع من هنا. تجدون أيضا بعض البرامج المجانية التي قمت بتطويرها بذات الموقع ..
والكثير من أسرار التقنية في عالمي الثاني Eagle Eye Digital Solutions