كثيرا ما يتّهم الشباب العربي بالاستهتار والركض وراء صور العولمة المدمّرة وما تنقله الفضائيات والانترنت إلى المجتمع العربي من مظاهر غربية هجينة عن تقاليده وأخلاقه.. وكثيرا ما يوصف غالبيّة الشباب بالانحلال والسير خلف صرعات الموضة والأغاني الهابطة والكليبات المثيرة، ويتهمون بأنهم السبب في الضعف «المجتمعي» والانهيار الثقافي، لأنهم غير مسئولين؛ ولكن هذا الانهيار السلوكي لا يتحمّل وزره الشباب، فقط، هذه الفئة الحيوية والحساسة التي تمثل أكثر من نصف المجتمع العربي، بل إن هياكل عديدة، على رأسها الأسرة ثمّ الحكومات والهيئات الرسمية، مشاركة في الوضع المتردي للشباب العربي الذي يعيش في دوامة كبيرة اسمها "وقت الفراغ" أو "الوقت الضائع".
ويقصد هنا بـ"أوقات الفراغ" الأوقات التي ليس للشاب أي شيء "مفيد" يمارسه خارج أوقات العمل أو الدراسة أو ساعات النوم الطبيعية، وبالتالي يضطر إلى البحث عن وسائل بديلة يقتل بها هذا الفراغ الذي قد يتطوّر ليصبح مرضا نفسيّا واجتماعيا وبداية الانهيار الأخلاقي والسلوكي
.
من حق أي شخص أن يرفّه عن نفسه وأن يكون له وقت فراغ يقضيه هكذا دون أن يكون مقيّد بواجب أو عمل محدد، لكن الشيء إن زاد عن حده مؤكد سينقلب إلى الضد، وأوقات الفراغ في صفوف الفئة الشابة إن تجاوزت الساعات المعقولة ستؤدي حتما إلى نتائج لا يحمد عقباها في المستقبل، وهي نتائج ستؤثّر حتما على نفسية الشاب ومستقبله وسلوكه، كما أن لها أبعاد اجتماعية واقتصادية تتجاوز شخص المفرد لتطال المجتمع
.
كما أنه من غير المعقول أن نوفّر للشباب، من تلاميذ مدارس وطلبة جامعات وعاطلين، كمية لا يستهان بها من أوقات الفراغ سواء في أيام الدراسة أو أيام العطلة، ثمّ نلومه على الإهمال والإفراط في مشاهدة التلفزيون والتأثّر بثقافة الفضائيات؛ ففي السعودية مثلا تشير الدراسات إلى أن الشباب السعودي يعيش قدرا لا يستهان به من وقت الفراغ، سواء في أيام الدراسة أو أيام العطل الأسبوعية (الخميس والجمعة)، حيث تزيد ساعات الفراغ في أيام الدراسة عن 3 ساعات يوميا، أما أيام عطلة نهاية الأسبوع (الخميس والجمعة) فترتفع ساعات الفراغ لدى الشباب لتصل إلى 6 ساعات يومياً، ويرتفع هذا المعدل إلى مؤشرات أعلى في أيام العطلات الرسمية والإجازات؛ ولا يختلف الأمر كثيرا في قطر حيث يبلغ متوسط ساعات فراغ الشباب 6 ساعات يوميا، ونفس المعدل يسجّل في مصر، حيث تزيد ساعات الفراغ عند الشباب المصري، في المدارسوالجامعات، بين 3 و6 ساعات يوميا، وترتفع المدة الزمنية في صفوف الفئة العاطلة عن العمل، وبالتالي حين يجد الشاب أو الفتاة نفسه بلا هدف طيلة 6 ساعات أو أكثر في اليوم، هي معدّل وقت فراغه، وفي تونس رغم أن السنة الدراسية هي في الأصل 9 أشهر في السنة، لكن إذا استثنينا العطل الرسمية والإجازات نصف السنوية لا يكاد التلاميذ والطلبة يتمون الخمسة أشهر، هذا بالإضافة إلى الإجازة الصيفية الطويلة نسبيّا، حيث يلاقي شباب المدارس والجامعات نفسه "عاطل"، فمن الطبيعي إذن أن يبحث بمختلف الطرق عن وسيلة مسلية لقتل هذا الوقت، خاصة وأن الوالدين في أغلب الأحيان يكونان متواجدين في العمل، والمدرسة لا تعترف بالتلميذ خارج أوقات الدراسة، كما أن المناهج الدراسية لا تولي اهتماما لهذا الموضوع الذي يتطوّر ليصبح خطرا يهدد المجتمع في مستقبله، الذي يمثّله الشباب، في غياب وعي اجتماعي وتربوي، داخل المدرسةوالأسرة، بضرورة تربية الأطفال على حسن استغلال أوقات الفراغ وتحويل هذا الحيّز الزمني الوافر إلى وقت من ذهب يمارس خلالها الطفل أو الشاب أنشطة مفيدة، وسياسات حكومية فعّالة تخطّط لاستثمار أوقات الفراغ عند الشباب وفهم حاجاتهم ورغباتهم بوضع برامج تحقق له توازنا ثقافيا واجتماعيا ونفسيا بحيث يغدو وقت الفراغ فرصة للكشف عما يختلج صدورهم والتنفيس عن رغباتهم المكبوتة
.
الصينيون، مثلا، يعلّمون أبناءهم، منذ نشأتهم، حسن استغلال الوقت، فالعطلة عند الأطفال والطلبة الصينيين فرصة للاطلاع على أحد أهم الصناعات المسيرة لاقتصاد البلاد، وهي الصناعات الالكترونية والآلات الدقيقة، كالساعات والألعاب الالكترونية الصغيرة، حيث يستغلّ أكثر من نصف الشباب في الصين العطلة للعمل في هذا المجال أو تعلّم مختلفة وفي مقدمتها الحرف التقليدية والخزف والصناعات الخشبية، ليتمّ بيع منتوجات هؤلاء الشباب فيما بعد في الأسواق العربية. وفي بلدان العالم المتقدم لا يختلف الوضع كثيرا عن الصين، حيث ينشأ الأطفال على الاعتماد على أنفسهم وتعلّم استغلال وقت الفراغ خاصة العطل المدرية في شيء مفيد، حتى ولو كان عملا في محل لبيع البيتزا؛ أما في العالم العربي فتأتي مشاهدة التلفزيون والإبحار بين مواقع النت، بغثّّها وسمينها، على قائمة أكثر الوسائل اعتمادا من تلاميذ المدارس والشباب العرب لقتل وقت الفراغ؛ فالتغلب على أوقات الفراغ تغيّرت وسائله، ولم تعد المطالعة أو ممارسة إحدى الهوايات هي الحلّ، في عصر الانترنت والفضائيات ووسائل الاتصال الحديثة، تأتي المطالعة والقراءة في ذيل قائمة الوسائل التي قد يفكر فيها الشباب لتمضية وقت فراغهم، في حين يقضي الشباب، من مختلف الفئات العمرية، 72? من أوقات فراغه أمام التلفزيون أو وسائل الاتصال السمعية البصرية، مثل الكومبيوتر والانترنت والبلاي ستايشن، ويأتي التسكع مع الأصدقاء في المرتبة الثانية من طرق قتل الشباب لوقت الفراغ.
قد لا يعير البعض اهتماما بأوقات الفراغ عند الشباب ويعتبرونها فترة راحة لهم، لكن هذه الساعات الفارغة تخلّف على المدى البعيد فراغا أشد خطورة بل إنها أشبه بـ"الفيروس" يتطوّر بمرور الوقت وحين يصل مرحلة متطورة جدا يتحوّل إلى ورم خبث تصعب مداواته؛ فقد توصّلت عديد من النظريات في علم النفس وعلم الاجتماع إلى أن هناك علاقة وطيدة بين سوء استغلال وقت الفراغ والمشي في طريق الانحراف، خاصة وأن مفهوم وقت الفراغ يقابل بتهاون وعدم اهتمام في الأسر العربية التي تفتقد إلى الثقافة بأهمية استغلال هذا الحيّز الزمني بطرق إيجابية دون وعي منها بخطورة تجاهل هذا الأمر، خاصة في هذا الوقت الذي يشهد تطوّرا هاما في وسائل الترفيه ووسائل الاتصال مما يزيد من إمكانية تدهور الوضع. وحتى لا يقع الشباب فريسةً لأصدقاء السوءِ والسلوك المنحرف وتضييع أوقاتٍ كثيرة فيما لا ينفع؛ تتحمّل الأسرة، بدرجة أولى، مسؤولية توجيه طاقات أبنائها في عمل مفيد يجمع بين الجد والهزل حتى لا يشعروا بالملل ولا تتحوّل أوقات الفراغ عندهم إلى مناسبة للإفراط في النوم ومشاهدة التلفزيون والسهر إلى ساعات متأخرة من الليل وتضييع الوقت بين مواقع الانترنت والدردشة.
ويؤدي عدم استثمار أوقات الفراغ ايجابيا إلى وقوع الشباب في مشكلات نفسية منها ويصابون بالقلق والتوتر المستمر بالضجر والملل، فيؤدي هذا بدوره إلى الشعور بالفراغ والضياع مما يسهّل الوقوع في براثن الانحراف ويتسبب في الانهيار الأخلاقي، ليتطور الأمر بتقدم الشاب في العمر ويصبح متعاطيا للمسكرات والمخدرات؛ وإذا كانت هذه المشاكل تمسّ بدرجة أولى الذكور من الشباب، فإن الإحساس بالملل خلال أوقات الفراغ الكثيرة لا يقلّ خطورة في أوساط الفتيات، خاصة في المجتمعات التي تمنع على الفتاة الخروج والتحرك بحرية وبالتالي فإن الوسيلة الوحيدة، إلى جانب الإفراط في مشاهدة التلفزيون، ستكون من خلال "الدردشة" والتواصل عبر الانترنت، وهي وسيلة شديدة الخطورة حيث تكون الفتيات عرضة للتحرشات والانتهاكات الجنسية عبر الانترنت.
لا يجوز اعتبار وقت الفراغ مسألة ثانوية يمكن التقليل من أهميته وقيمته بالنسبة إلى الإنسان والمجتمع كما لا يمكن تصور الحياة عملا متواصلا لأن ذلك يؤدي بعد فترة إلى الشعور بالتعب والملل لذا فإن تحقيق التوازن بين وقت العمل ووقت الفراغ أمر أساسي وضرورة حيوية إلا أن ذلك لا يعني استغلال هذا الفراغ في الفراغ بل يجب استثماره وتحويله إلى وقت من ذهب لأن ذلك يساعد على تفريغ الضغوط الاجتماعية والانفعالات المكبوتة، وتجاوز الفراغ العاطفي وهي كلها عوامل مثيرة للقلق والتوتر والمعاناة خاصة وان مرحلة الشباب هي المرحلة الأكثر حساسية في حياة الإنسان والتي ينبني عليه المستقبل ككلّ.
السؤال
بماذا تقضون وقتكم فـــــــــــــ اليوم ـــــــي -
السؤال عام للكل *
اتمنى ان ينال الموضوع اعجابكم
♡•0•● قُلَبًيِ آلَشُـفُـآفُـ أجّـمًلَ عٌيِوٌبًيِ ◐◑。๑ εïз
