ما قبل الزواج و فترة الحمل الأسري
الأسرة تولد كما يولد الطفل , وفترة الحمل بهذا المولود الجديد قد تطول أو تقصر حسب الظروف والإمكانيات , وبمقدار الاهتمام بهذا الجنين المرتقب , وتغذيته الغذاء السليم , وتوعية أبويه بالأمراض التي تفتك به قبل وبعد الولادة , وإعطاء والدته اللقاحات المناسبة , تكون صحة هذا المولود الجديد .
ومن هذا المنطلق فإن صحة الأسرة أو مرضها تتضح معالمه في فترة الحمل الأسري
( فترة ما قبل الزواج ) , و تتشكل الصورة المبدئية لها , حيث تخلق التصورات المختلفة , وتتضح المعالم , ويرى كل واحد من الخاطبين الآخر من منظوره , فيعقد عليه الأمل ,أو يحكم على علاقته بالفشل .
" والخطبة هي وعد بالزواج "* والزواج هو أهم شراكة يعقدها الإنسان في حياته , وبمقدار ما تكون الثقة والوضوح بين أطراف هذه الشراكة يكون التوفيق والاستقرار والسعادة , وبمقدار ما يكون التحايل والخداع بين هذه الأطراف يكون الفشل والإحباط واليأس ,
وهذا مأخوذ من حديث رواه أبو داود عن أبي هريرة رفعه قال ( أي النبي صلى الله عليه وسلم ) : " إن الله يقول : أنا ثالث الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه فإذا خانه خرجت من بينهما "
فما أجمل تلك الشركة الزوجية التي يكون الله سبحانه شريكا فيها !!
وما أتعس تلك الأسرة التي يخرج الله سبحانه وتعالى بلطفه ورحمته منها !!!
وفترة الحمل الأسري فترة مشحونة بالعاطفة اللاهبة , المشوبة بالحذر الخادع , والتلون الجاذب , والأحلام الوردية , والعيشة الهنية , والليال المخملية , حيث يحاول الأطراف المختلفة من خاطب ومخطوبة وذويهما إظهار المحاسن الفاتنة , وإخفاء المساوئ القاتلة , وتذليل الصعاب الجمة , والعوائق المختلفة بطريقة سطحية بسيطة, وتـنساق الأطراف وراء هذه العواطف الغبية , حتى ينتهي الأمر وتولد الأسرة وعند ذلك تصطدم بصخرة الواقع , وصعوبة العيش , وتتضح الأكاذيب , فتتبلد العاطفة , وتظهر الألوان , وتتبخر الأحلام , وتصبح الحياة جحيما لا يطاق , فيحصل الشقاق وقد يقع الطلاق .
إن التصرفات الخاطئة لمختلف الأطراف في هذه الفترة التي أسميناه فترة الحمل الأسري هي التي تؤدي غالبا إلى إجهاض هذه الأسرة قبل ولادتها , أو ولادتها ولادة مشوهة , وتصبح بذلك الأسرة عالة على المجتمع بدلا من أن تكون دعامة قوية له ولبنة صالحة فيه
لذلك كان لابد من ضوابط لهذه الفترة , حتى يكون هذا الحمل سليما معافى وحتى لا تولد الأسرة بحالة مشوهة
والضوابط لهذه الفترة هي الضوابط العامة للمسلمين مع بعض الخصوصية في بعض المواقف ومن هذه الضوابط :
1- حسن النظر والاختيار ( نظر الخاطب لخطيبته والخطيبة لخطيبها ) : حيث تكون هذه الرؤية بمثابة المفتاح للقلوب بين الطرفين , وسببا في تحصيل الوفاق بينهما , وتمهيدا لحياة ملؤها المودة والحنان ولهذا وجه النبي عليه السلام في الحديث الذي رواه الترمذي عن المغيرة بن شعبة أنه خطب امرأة فقال النبي صلى الله عليه وسلم " انظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما " قال أبو عيسى هذا حديث حسن
" ( أن يؤدم بينكما ) أن يؤلف ويوفق بينكما , أي يوقع الأدم بينكما يعني يكون بينكما الألفة والمحبة , ..إذا تزوجها بعد معرفة فلا يكون بعدها غالبا ندامة " **
قال النووي في شرح مسلم : فيه استحباب النظر إلى من يريد تزوجها .
ويجب ألا يفهم من كلمة " انظر إليها " فقط مجرد النظر الحسي والجسدي , فكلمة " انظر " لها مدلولاتها العديدة من النظر في أخلاقها وأصدقائها وطريقة تفكيرها ونظرتها للحياة وغير ذلك من الأمور المهمة لبناء الأسرة وهذا مأخوذ من الحديث " فاظفر بذات الدين تربت يداك " البخاري عن أبي هريرة , ومن هنا تأتي أهمية النظر في مختلف جوانب الفتاة فالذي يريد أن يتزوج لا بد أن ينظر بصفات الفتاة ليستخلص ذات الدين .
وما يطبق على المخطوبة يطبق على الخاطب حيث النظر الحسي للمخطوبة حق من حقوقها بالإضافة للنظر العام في أحواله وافكاره ومبادئه وتتطلعاته وأهدافه وهذا أيضا مأخوذ من حديث " إذا خطب إليكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض " الترمذي عن أبي هريرة والنظر هنا للفتاة وذويها في دين الخاطب وخلقه .
2 – لا مجاملة في الاختيار : من أخطر ما يصيب الأسرة هو المجاملة في الاختيار , حيث تكون الفتاة غير راغبة أو يكون الزوج غير راغب فيحرج أو تحرج لأسباب متعددة ويحصل الزواج وتولد الأسرة مشوهة وتبدأ المعاناة . وقد أكد النبي عليه السلام مبدأ عدم المجاملة في الإختيار الزوجي مهما كانت الأسباب فقد روى البخاري عن سهل بن سعد قال أتت النبي صلى الله عليه وسلم امرأة فقالت إنها قد وهبت نفسها لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم فقال : " ما لي في النساء من حاجة " والنبي معروف أنه لا يرد أحدا , وهو الكريم والرؤوف والرحيم لكنه مع ذلك رفض تلك المرأة ولم يجاملها ويقبلها , فأمر الاختيار في الزواج لا يحتاج إلى مجاملة أو تورية إنما يحتاج إلى بت وقطع .
3 – الوضوح : إن من أهم الصفات العامة للمسلم هي صفة الوضوح , وتجنب الغموض , والابتعاد عن الضبابية والتلون الزائف , في كل مجالات الحياة ومعاملاتها ولا سيما إذا كان الأمر يتعلق بتأسيس الشراكة الزوجية .
إن كثيرا من الناس يجعل هذه الفترة فترة" ( الكذب فيها مباح ) , فيبدأ يرسم على صفحات الماء لوحات فنية من السعادة , ويطلق العنان للسانه أن يقول ما يشاء , ويحمل نفسه أعباء هو في غنى عنها , ويشوه حقيقته المادية بومضات من كبد الخيال , ويلون تصرفاته السيئة بألوان زاهية من الرقي والالتزام والمحبة , وفي الطرف الآخر تتكلم الفتاة عن نفسها وهي في أغلب الأحيان تتكلم عن امرأة من صنع الخيال , فيلتبس الأمر على الطرفين فيصطدمان في أول ليلة بواقع مرير وكأن كل واحد قد تزوج خيال الآخر .
إن أخطر ما يصيب الحياة الزوجية بعد الزواج ذلك الغموض الذي يكرسه أحد الطرفين أو كلاهما , فتتحول تلك الكلمات التي ذكرت في فترة الخطبة إلى معوقات حقيقية للحياة الزوجية, وما أبشع أن يكتشف الإنسان أنه قد خدع وأنه بنى حياته على غموض وضبابية .
4 - عدم إطلاق الوعود الخادعة:
وثمة أمر آخر يجهض كل الضوابط التي وضعها الإسلام لتحصين هذا الحمل الأسري هو إطلاق الوعود الكاذبة والخادعة , حيث يبدأ الخاطب ببناء أحلام من طين , و يعد بما ليس بمقدوره تحقيقه , وتقابله الفتاة بوعود مخملية , وحياة بألوان زهية , فإذا حصل الوصال بينهما إذا بهما في خضم الحياة قد اكتشف كل واحد كذب الآخر, وعدم وفائه بعده , ويذكر كل طرف الآخر بوعوده الكاذبة , فتقع الجفوة , وتتكدر الحياة , وتنعدم الثقة , لذلك فإن الإسراف في الوعود قبل الزواج تشكل عبئا على الإنسان وخاصة إذا كانت الوعود غير قابلة للولادة .
5 - تبيان المنهج العام للأسرة القادمة : غالبا ما ينسى الطرفان انهما مقدمان على بناء شراكة مهمة وخاصة في خضم العواطف الجيـاشة التي تلف حالة الخطبة , لكن هذه العواطف يجب ألا تنسي الطرفين أن يوضحا معالم الأسرة التي يريدون وكيفية بنائها ومعالمها وطرق حل المشاكل فيها , وتبيان ما يحب وما يكره كل طرف .
إن عرض مثل هذه الأمور في مرحلة الخطبة بين الطرفين تفتح آفاقهما للحوار وهي محاولة لفهم الآخر وتصرفاته وتبيان حقوقه وواجباته .
إن فترة الحمل الأسري من أهم فترات حياة الأسرة , فالاعتناء به , وضبطه بالضوابط اللازمة من أهم ما ينبغي معرفته وبيانه ليسهم هذا الأمر في بناء وولادة أسرة متكاملة متماسكة بإذن الله تعالى
والحمد لله رب العالمين
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عدم التذكير بالماضي المزعج
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
(( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ))
(( إن الله سائل كل راع عما استرعاه حفظ أم ضيع حتى يسأل الرجل عن أهل بيته ))
ما زلنا نبحث عن وسائل متعددة لإصلاح الأسرة المسلمة هذه الأسرة التي هي مفتاح الهزائم ومفتاح الانتصارات .. فبقدر ما تكون قريبة من الإسلام فإنها تكون سعيدة منتجة وبقدر ما تكون بعيدة عن الإسلام تكون شقية متفرقة.
ذكرنا نقاطا :
• تخفيف مثيرات الشهوة في البيوت " صيد الفوائد تربة الأبناء "
• اشاعة ثـقافة المصارحة في البيوت . "
نتابع اليوم :
عدم تذكير بالماضي المزعج:
ما من إنسان إلا وقصر في حياته وأخطأ سواء كان هذا الخطأ كبيرا أو صغيرا , وهذه من صفات ابن آدم التي جبله الله عليها ولذلك ورحمة بنا وردت آيات وأحاديث كثيرة تشجع على التوبة والإنابة والاستغفار " إن الحسنات يذهبن السيئات "
وفي الحديث الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها "
وطلب الإسلام من المسلمين قبول التائب وقبول توبته وعدم التذكير في كل لحظة بالخطأ الذي ارتكبه وتوعد لأولئك الذين يحكمون على الناس بعدم قبول التوبة وذلك في الحديث الذي رواه الإمام مسلم عن جندب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " حدث أن رجلا قال والله لا يغفر الله لفلان وإن الله تعالى قال من ذا الذي يتألى علي أن لا أغفر لفلان فإني قد غفرت لفلان وأحبطت عملك أو كما قال "
وعصر الصحابة الذي هو خير القرون وجد فيه من وقع بالخطأ ورجع وأناب وتاب وقبل الناس توبته ولم يقفوا عند أخطاء من أخطأ فلم يذكر التاريخ أن الصحابة عيروا كعب ابن مالك لتخلفه بعد توبة الله عليه
وكذلك لم يذكر أن أحدا من الصحابة عير حاطب ابن أبي بلتعة على فعله على الرغم من شناعته بعد التوبة والإنابة و غير ذلك
ويوم تكلم أحد الصحابة وهو خالد رضي الله عنه عن المرأة الغامدية بعد رجمها نهاه النبي بقوله : " يا خالد فوالذي نفسي بيده لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له ثم أمر بها فصلى عليها ودفنت "مسلم
وبما أن الأسرة هي جزء من المجتمع المسلم فإن ما ينطبق عليه ينطبق عليها تماما
إن كثيرا من الناس يتملكهم الرغبة الشديدة والقوية في تذكير الناس بماضيهم السيئ أو المزعج فكلما جلسوا مجلسا واجتمعوا في مكان يبدؤون بتذكير الناس بهذا الماضي وهذا يحدث للإنسان وهو كبير يريد أن يتوب من فعل اقترفه في سالف حياته لكن الناس لا يريدون أن يتوبوا عليه أو يقبلوه فكلما أراد أن يؤسس لحياة جديدة خرج له بعض الأشخاص ويذكرونه بما عاهد الله على ألا يعود إليه .
والحقيقة أن الإنسان يكون أكثر تعريا في التصرفات أمام أسرته وفي بيته ,فأغلب الآباء يعرفون أولادهم كيف ارتقوا وتربوا وكيف انتقل ذلك الولد من فكرة سالبة إلى أخرى موجبة أو من خطيئة إلى حسنة وكثير من الأزواج يعلمون هنات زوجاتهم وهنا ويا للأسف الشديد يكون الإطلاع على مثل هذه الأمور مدعاة للسخرية والتذكير بها في بعض المجالس
فمثلا كثير من الآباء يجلسون مع ضيوف ويجلس معهم الأولاد فيبدأ الأب بتذكير ما فعله أولاده من هنات ( والأولاد جالسون يسمعون ) أو بالأفكار التي كانوا يدينون بها ويضحك الأب ويضحك الضيوف..دون الاهتمام بأن الأولاد قد كبروا وتغيروا الأمر الذي يجعل الأثر السلبي كبير على نفوس الأولاد
وذات الشئ يتكرر مع الأزواج لزوجاتهم .
ليس هناك أشد تخريبا للعلاقة الأسرية من التذكير بالماضي السيء والمزعج في كل لحظة مما يجعل الحياة جحيما لا يطاق
إن استدعاء الماضي للتقليل من شأن الآخرين وغض الطرف عن أفعالهم الحسنة إنما يدل على إنسان مريض نفسيا يريد أن يبني شموخه وشهوته على أنقاض الآخرين والحط من قدرهم
ولعل هذا الفعل السيء بتذكير الناس بماضيهم المزعج له آثاره السيئة الجلية منها:
1- الكراهية حيث يكره الابن أن يجلس مع أبيه وكذلك الزوجة تكره الجلوس مع زوجها .
2- الإصرار على المعصية : حيث سيكون ترك الفعل أو عدمه سيان وهذا ما يحصل لكثير من الشبان الذين يتعلمون بعض العادات السيئة ويريدون أن يتوبوا فتجد التشهير بهم سببا للإصرار على فعلهم .
3- الوصول إلى درجة الوقاحة : حيث يبقى الرجل يذكر ولده بفعل معين ويذكر ويذكر دون حكمة حتى يخلع الولد ما كان عليه من احترام ويصل إلى درجة الوقاحة فيقول هذا أمر يخصني وحدي ولا دخل لأحد به
إن التذكير بالماضي المزعج و السيء خطير جدا إذ يحطم الروابط الأسرية , ويبدلها بروابط أخرى أقلها روابط الكراهية والشماته .
وإن الحل الأمثل لهذا الماضي هو نسيانه ووضعه في مكان آمن من الذاكرة لا يمكن الوصول إليه بحال من الأحوال والنظر إلى المستقبل والعمل على تحسينه .
والله ولي التوفيق
