المــــــاتــريدية

    • المــــــاتــريدية

      ردا على مقال الأخ في سؤاله عن الماتريدية


      ولعدم استطاعتي وضع الجواب في ذاك المقال وضعته هنا


      ----------------

      التعريف :

      الماتريدية : فرقة كلامية ، تنسب إلى أبي منصور الماتريدي ، قامت على استخدام البراهين والدلائل العقلية والكلامية في محاججة خصومها ، من المعتزلة والجهمية وغيرهم ، لإثبات حقائق الدين والعقيدة الإسلامية .

      التأسيس وأبرز الشخصيات :

      مرت الماتريدية كفرقة كلامية بعدة مراحل ، ولم تعرف بهذا الاسم إلا بعد وفاة مؤسسها كما لم تعرف الأشعرية وتنتشر إلا بعد وفاة أبي الحسن الأشعري ، ولذلك فإنه يمكن إجمالها في أربع مراحل رئيسية كالتالي :

      · مرحلة التأسيس : [ 000-333هـ] والتي اتسمت بشدة المناظرات مع المعتزلة وصاحب هذه المرحلة :

      - أبو منصور الماتريدي : [ 000-333هـ ] : هو محمد بن محمد بن محمود الماتريدي السمرقندي ، نسبة إلى ( ماتريد ) وهي محلة قرب سمرقند فيما وراء النهر ، ولد بها ولا يعرف على وجه اليقين تاريخ مولده ، بل لم يذكر من ترجم له كثيراً عن حياته ، أو كيف نشأ وتعلم ، أو بمن تأثر . ولم يذكروا من شيوخه إلا العدد القليل مثل : نصير بن يحيى البلخي ، وقيل نصر وتلقى عنه علوم الفقه الحنفي وعلوم المتكلمين ".

      - أطلق عليه الماتريدية ، ومن وافقهم عدة ألقاب تدل على قدره وعلو منزلته عندهم مثل :" إمام المهدى " ، " إمام المتكلمين " .

      قال عبد الله المرائي في كتاب الفتح المبين في طبقات الأصوليين : " كان أبو منصور قوي الحجة ، فحماً في الخصومة ، دافع عن عقائد المسلمين ، ورد شبهات الملحدين .. " ( 1/193 ، 194 ) . وقال عنه الشيخ أبو الحسن الندوي في كتاب رجال الفكر والدعوة " جهبذ من جهابذة الفكر الإنساني ، امتاز بالذكاء والنبوغ وحذق الفنون العلمية المختلفة " بل كان يرجحه على أبي الحسن الأشعري في كتاب تاريخ الدعوة والعزيمة ( 1/114-115) .

      - عاصر أبا الحسن الأشعري ، وعاش الملحمة بين أهل الحديث وأهل الكلام من المعتزلة وغيرهم . فكانت له جولاته ضد المعتزلة وغيرهم ، ولكن بمنهاج غير منهاج الأشعري ، وإن التقيا في كثير من النتائج غير أن المصادر التاريخية لا تثبت لهما لقاء أو مراسلات بينهما ، أو اطلاع على كتب بعضها .

      - توفي رحمه الله تعالى عام 333هـ ودفن بسمرقند ، وله مؤلفات كثيرة : في أصول الفقه والتفسير . ومن أشهرها : تأويلات أهل السنة أو تأويلات القرآن وفيه نصوص القرآن الكريم ، ولا سيما آيات الصفات ، فأولها تأويلات جهمية . و من أشهر كتبه في علم الكلام كتاب التوحيد وفيه قرر نظرياته الكلامية ، وبين معتقده في أهم المسائل الاعتقادية ، ويقصد بالتوحيد : توحيد الخالقية والربوبية ، وشيء من توحيد الأسماء والصفات ، ولكن على طريقة الجمهمية بتعطيل كثير من الصفات بحجة التنزيه ونفي التشبيه ؛ مخالفاً طريقة السلف الصالح . كما ينسب إليه شرح كتاب الفقه الأكبر للإمام أبي حنيفة ، وله في الردود على المعتزلة رد الأصول الخمسة وأيضاً في الرد على الروافض رد كتاب الأمامة لبعض الروافض ، وفي الرد على القرامطة الرد على فروع القرامطة .

      · مرحلة التكوين : [ 333-500هـ ] : وهي مرحلة تلامذة الماتريدي ومن تأثر به من بعده ، وفيه أصبحت فرقة كلامية ظهرت أولاً في سمرقند ، وعملت على نشر أفكار شيخهم وإمامهم ، ودافعوا عنها ، وصنفوا التصانيف مبتعين مذهب الإمام أبي حنيفة في الفروع ( الأحكام ) ، فراجت العقيدة الماتريدية في تلك البلاد أكثر من غيرها . ومن أشهر أصحاب هذه المرحلة: أبو القاسم إسحاق بن محمد بن إسماعيل الحكيم السمرقندي (342هـ) عرف بأبي القاسم الحكيم لكثرة حكمه ومواعظه ، وأبو محمد عبد الكريم بن موسى بن عيسى البزدوي (390هـ).

      · ثم تلى ذلك مرحلة أخرى تعتبر امتداد للمرحلة السابقة . ومن أهم وأبرز شخصياتها :

      - أبو اليسر البزدوي [421-493هـ] هو محمد بن محمد بن الحسين بن عبد الكريم والبزدوي نسبة إلى بزدوة ويقال بزدة ، ولقب بالقاضي الصدر ، وهو شيخ الحنفية بعد أخيه الكبير علي البزودي ، ولد عام (421هـ) .

      - تلقى العلم على يد أبيه ، الذي أخذه عن جده عبد الكريم تلميذ أبي منصور الماتريدي ، قرأ كتب الفلاسفة أمثال الكندي ، وغيره وكذلك كتب المعتزلة أمثال الجباني ، والكعبي ، والنظام ، وغيرهم ، وقال فيها : " لا يجوز إمساك تلك الكتب والنظر فيها ؛ لكي لا تحدث الشكوك ، وتوهن الاعتقاد ". ولا يرى نسبة الممسك إلى البدعة . كما اطلع على كتب الأشعري ، وتعمق فيها ، وقال بجواز النظر فيها بعد معرفة أوجه الخطأ فيها ، كما اطلع على كتابي التأويلات ، والتوحيد للماتريدي فوجد في كتاب التوحيد قليل انغلاق وتطويل ، وفي ترتيبه نوع تعسير ، فعمد إلى إعادة ترتيبه وتبسيطه مع ذكر بعض الإضافات عليه في كتاب أصول الدين .

      - أخذ عن الشيخ أبو اليسر البزدوي جم غفير من التلاميذ ؛ ومن أشهرهم : والده القاضي أبو المعاني أحمد ، ونجم الدين عمر بن محمد النسفي صاحب العقائد النسفية ، وغيرهما .

      - توفي رحمه الله تعالى في بخارى في التاسع من رجب سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة .

      · مرحلة التأليف والتأصيل للعقيدة الماتريدية : [ 500-700هـ ] : وامتازت بكثرة التأليف وجمع الأدلة للعقيدة الماتريدية ؛ والذا فهي أكبر الأدوار السابقة في تأسيس العقيدة ، ومن أهم أعيان هذه المرحلة :

      - أبو المعين النسفي [438-508هـ] : وهو ميمون بن محمد بن معتمد النسفي المكحولي ، والنسفي نسبة إلى نسف وهي مدينه كبيرة بين جيحون وسمرقند ، والمكحولي نسبة إلى جده الأكبر ، ولكن نسبته إلى بلده غلبت نسبته إلى جده ، وله ألقاب عدة أشهرها : سيف الحق والدين .

      - ويعد من أشهر علماء الماتريدية ، إلا أن من ترجم له لم يذكر أحداً من شيوخه ، أو كيفية تلقيه العلم ، يقول الدكتور فتح الله خليف : " ويعتبر الإمام أبو العين النسفي من أكبر من قام بنصرة مذهب الماتريدي ، وهو بين الماتريدية كالباقلاني والغزالي بين الأشاعرة ، ومن أهم كتبه تبصرة الأدلة ، ويعد من أهم المراجع في معرفة عقيدة الماتريدية بعد كتاب التوحيد للماتريدي ، بل هو أوسع مرجع في عقيدة الماتريدية على الإطلاق ، وقد اختصره في كتابه التمهيد ، وله أيضاً كتاب بحر الكلام ، وهو من الكتب المختصرة التي تناول فيها أهم القضايا الكلامية ".

      - توفي رحمه الله تعالى في الخامس والعشرين من ذي الحجة سنة ثمان وخمسمائة ’ وله سبعون سنة .

      - نجم الدين عمر النسفي [462-537هـ] : هو أبو حفص نجم الدين عمر بن محمد ابن اأحمد بن إسماعيل … بن لقمان الحنفي النسفي السمرقندي ، وله ألقاب أشهرها : نجم الدين ، ولد في نسف سنة إحدى أو اثنين وستين وأربعمائة .

      - كان من المكثرين من الشيوخ ، فقد بلغ عدد شيوخه خمسمائة رجلاً ومن أشهرهم : أبو اليسر البزدوي ، وعبد الله بن علي بن عيسى النسفي . وأخذ عنه خلق كثير ، وله مؤلفات بلغت المائة منها: مجمع العلوم ، التيسير في تفسير القرآن . النجاح في شرح كتاب أخبار الصحاح في شرح البخاري وكتاب العقائد المشهورة بالعقائد النسفية ، والذي يعد من أهم المتون في العقيدة الماتريدية وهو عبارة عن مختصر لتبصرة الأدلة لأبي المعين النسفي قال فيه السمعاني في ترجمة له : " كان إماماً فاضلاً متقناً ، صنف في كل نوع من التفسير والحديث .. فلما وافيت سمرقند استعرت عدة كتب من تصانيفه ، فرأيت فيها أوهاماً كثيرة خارجة عن الحد ، فعرفت أنه كان ممن أحب الحديث ، ولم يرزق فهمه ".

      - توفي رحمه الله تعالى بسمرقند ليلة الخميس ثاني عشر من جمادى الأولى سنة سبع وثلاثين وخمسمائة .

      * مرحلة التوسع والانتشار :[700-1300هـ] : وتعد من أهم مراحل الماتريدية حيث بلغت أوج توسعها وانتشارها في هذه المرحلة ؛ وما ذلك إلا لمناصرة سلاطين الدولة العثمانية ، فكان سلطان الماتريدية يتسع حسب اتساع سلطان الدولة العثمانية ، فانتشرت في : شرق الأرض وغربها ، وبلاد العرب ، والعجم ، والهند والترك ، وفارس ، والروم .

      وبرز فيها أمثال : الكمال بن الهمام صاحب المسايرة في العقائد المنجية في الآخرة ، والذي ما زال يدرس في بعض الجامعات الإسلامية . وفي هذا الدور كثرت فيها تأليف الكتب الكلامية من : المتون ، والشروح على الشروح ، والحواشي على شروح .

      وهناك مدراس مازالت تتبنى الدعوة للماتريدية في شبه القارة الهندية وتتمثل في :

      - مدرسة ديوبند و الندويه [ 1283هـ- …] وفيها كثر الاهتمام بالتأليف في علم الحديث وشروحه ، فالديوبندية أئمة في العلوم النقلية والعقلية ؛ وإلا أنهم متصوفة محضة ، وعند كثير منهم بدع قبورية ، كما يشهد عليهم كتابهم المهند على المفند لـ الشيخ خليل أحمد السهارنفوري أحد أئمتهم ، وهو من أهم كتب الديوبندية في العقيدة ، ولا تختلف عنها المدرسة الندوية في كونها ماتريدية العقيدة .

      - مدرسة البريلوي [1272هـ -…] نسبة إلى زعيمهم أحمد رضا خان الأفغاني الحنفي الماتريدي الصوفي الملقب بعبد المصطفى [1340هـ] وفي هذا الدور يظهر الإشراك الصريح ، والدعوة إلى عبادة القبور ، وشدة العداوة للديوبندية ، وتكفيرهم فضلاً عن تكفير أهل السنة .

      - مدرسة الكوثري [ 1296هـ - …] و تنسب إلا شيخ محمد زاهد الكوثري الجركسي الحنفي الماتريدي (1371هـ) ويظهر فيها شدة الطعن في أئمة الإسلام ولعنهم ، وجعلهم مجسمة ومشبهة ، وجعل كتب السلف ككتب : التوحيد ، الإبانة ، الشريعة ، والصفات ، والعلو ، وغيرها كتب أئمة السنة كتب وثنية وتجسيم وتشبيه ، كما يظهر فيها أيضاً شدة الدعوة إلى البدع الشركية وللتصوف من تعظيم القبور والمقبورين تحت ستار التوسل . انظر تعليقات الكوثري على كتاب الأسماء والصفات للبيهقي ، وكتاب مقالات الكوثري .

      أهم الأفكار والمعتقدات :

      · من حيث مصدر التلقي : قسم الماتريدية أصول الدين حسب التلقي إلى :

      - الإلهيات [ العقليات ] : وهي ما يستقل العقل بإثباتها والنقل تابع له ، وتشمل أبواب التوحيد والصفات .

      - الشرعيات [ السمعيات ] : وهي الأمور التي يجزم العقل بإمكانها ثبوتاً ونفياً ، ولا طريق للعقل إليها مثل : النبوات ، و عذاب القبر ، وأمور الآخرة ، علماُ بأن بعضهم جعل النبوات من قبيل العقليات .
      ولا يخفى ما في هذا من مخالفة لمنهج أهل السنة والجماعة حيث أن القرآن والسنة وإجماع الصحابة هم مصادر التلقي عندهم ، فضلاُ عن مخالفتهم في بدعة تقسيم أصول الدين إلى : عقليات وسمعيات ، والتي قامت على فكرة باطلة أصلها الفلاسفة من : أن نصوص الدين متعارضة مع العقل ، فعملوا على التوسط بين العقل والنقل ، مما اضطرهم إلى إقحام العقل في غير مجالات بحثه ؛ فخرجوا بأحكام باطلة تصطدم مع الشرع ألجأتهم إلى التأويل والتفويض ، بينما لا منافاة عند أهل السنة والجماعة بين العقل والسليم الصريح والنقل الصحيح .

      · بناء على التقسيم السابق فإن موقفهم من الأدلة النقلية في مسائل الإلهيات [ العقليات ] كالتالي :

      - إن كان من نصوص القرآن الكريم والسنة المتواترة مما هو قطعي الثبوت قطعي الدلالة عندهم ، أي مقبولاً عقلاُ ، خالياً من التعارض مع عقولهم ؛ فإنهم يحتجون به في تقرير العقيدة . وأما إن كان قطعي الثبوت ظني الدلالة عندهم أي : مخالفاً لعقولهم ، فإنه لا يفيد اليقين ،ولذلك تؤول الأدلة النقلية بما يوافق الأدلة العقلية ، أو تفويض معانيها إلى الله عز وجل . وهم في ذلك مضطربون ،فليست عندهم قاعدة مستقيمة في التأويل والتفويض ؛ فمنهم من رجح التأويل على التعويض ، ومنهم من رجح التفويض ، ومنهم من أجاز الأمرين ، وبعضهم رأى أن التأويل لأهل النظر والاستدلال ، والتفويض أليق للعوام .

      والملاحظ أن القول بالتأويل لم يكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحاب القرون المفضلة ، وإنما هي بدعة دخلت على الجهمية والمعتزلة من اليهود والنصارى ، وإلى التأويل يرجع جميع ما أحدث في الإسلام من بدع فرقت شمل الأمة ، وهو أشر من التعطيل ؛ حيث يستلزم التشبيه ، والتعطيل ، واتهاماً للرسول صلى الله عليه وسلم بالجهل ، أو كتمان بيان ما أنزل الله .

      وأما القول بالتفويض فهو من أشر أقوال أهل البدع لمناقضته ومعارضته نصوص التدبر للقرآن ، واستلزام تجهيل الأنبياء والمرسلين برب العالمين .

      - وإن كان من أحاديث الآحاد فإنها عندهم تفيد الظن ، ولا تفيد العلم اليقيني ، ولا يعمل بها في الأحكام الشرعية مطلقاً ، بل وفق قواعدهم وأصولهم التي قرروها ، وأما في العقائد فإنه لا يحتج بها ، ولا تثبت بها عقيدة ، وإن اشتملت على جميع الشروط المذكورة في أصول الفقه ، وإن كانت ظاهرة فظاهرها غير مراد ، وهذا موقف الماتريدية قديماً وحديثاً ؛ حتى أن الكوثري ومن وافقه من الديوبندية طعنوا في كتب السنة بما فيها الصحيحين ، وفي عقيدة أئمة السنة مثل : حماد بن سلمة راوي أحاديث الصفات ، والإمام الدارمي عثمان بن سعيد صاحب السنن . وهذا مخالف لفعل النبي صلى الله عليه وسلم ، حيث كان يبعث الرسل إلى الملوك والرؤساء فرادى يدعونهم إلى الإسلام . وكذلك فإن تقسيم ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم إلى متواتر وآحاد لم يكن معروفاً في عصر الصحابة والتابعين .

      - كما رتبوا على ذلك وجوب معرفة الله تعالى بالعقل قبل ورود السمع ، واعتبروه أول واجب على المكلف ، ولا يعذر بتركه ذلك ، بل يعاقب عليه ولو قبل بعثة الأنبياء والرسل . وبهذا وافقوا قول المعتزلة : وهو قول ظاهر البطلان ، تعارضه الأدلة من الكتاب والسنة التي تبين أن معرفة الله تعالى يوجبها العقل ،ويذم من يتركها ، لكن العقاب على الترك لا يكون إلا بعد ورود الشرع ، يقول الله تعالى ( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً ) [ سورة الإسراء الآية 15] وأن أول واجب على المكلف ، وبه يكون مسلماً : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، والبراءة من كل دين يخالف دين الإسلام على الإجمال ، ولهذا لما أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل إلى اليمن لم يأمره بغير ذلك . وكذلك الأنبياء لم يدعوا أقوامهم إلا بقول ( اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ) [ سورة الأعراف الآية 59] .

      - وقالوا أيضاً بالتحسين والتقبيح العقليين ،حيث يدرك العقل حسن الأشياء وقبحها ، إلا أنهم اختلفوا في حكم الله تعالى بمجرد إدراك العقل للحسن والقبح . فمنهم من قال : إن العباد يعاقبون على أفعالهم القبيحة ولو لم يبعث إليهم رسول ؛ كما سبق ، ومنهم من قال بعكس ذلك .

      - وذهب كذلك الماتريدية كغيرها من الفرق الكلامية إلى أن المجاز واقع في اللغة والقرآن والحديث ؛ ويقصدون بالمجاز بأنه اللفظ المستعمل في غير ما وضع له ، وهو قسيم الحقيقة عندهم . ولذلك اعتمدوا عليه في تأويل النصوص دفعاً - في ظنهم - لشبه التجسيم والتشبيه . وهو بهذا المعنى : قول مبتدع ، محدث لا أصل له في اللغة ولا في الشرع . ولم يتكلم فيه أئمة اللغة : كالخليل بن أحمد ، وسيبويه فضلاً عن أئمة الفقهاء والأصوليين المتقدمين .

      - مفهوم التوحيد عند الماتريدية هو : إثبات أن الله تعالى واحد في ذاته ، لا قسيم له ، ولا جزء له ، واحد في صفاته ، لا شبيه له ، واحد في أفعاله ، لا يشاركه أحد في إيجاد المصنوعات ، ولذلك بذلوا غاية جهدهم في إثبات هذا النوع من التوحيد باعتبار أن الإله عندهم هو : القادر على الاختراع . مستخدمين في ذلك الأدلة والمقاييس العقلية والفلسفية التي أحدثها المعتزلة والجهمية ، مثل دليل حدوث الجواهر والأعراض ، وهي أدلة طعن فيها السلف والأئمة وأتباعهم وأساطين الكلام والفلسفة وبينوا أن الطرق التي دل عليها القرآن أصح . بين ذلك أبو الحسن الأشعري في رسالته إلى أهل الثغر ، وابن رشد الحفيد في مناهج الأدلة . وشيخ الإسلام ابن تيمية في درء تعارض العقل والنقل . وأيضاً خالفوا أهل السنة والجماعة بتسويتهم بين توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية ، فالإله عند أهل السنة : المألوه المعبود الذي يستحق العبادة وحده لا شريك له . وما أرسلت الرسل إلا لتقرير ذلك الأمر ، ودعوة البشرية إلى توحيد الله تعالى في ربوبيته ، وألوهيته ، وأسمائه وصفاته .

      - أثبتوا لله تعالى أسماءه الحسنى ، وقالوا : لا يسمى الله تعالى إلا بما سمى به نفسه ، وجاء به الشرع . في ذلك وافقوا أهل السنة والجماعة في القول بالتوقيف في أسمائه تعالى إلا أنهم خالفوهم فيما أدخلوه في أسمائه تعالى : كالصانع ، القديم ،الذات … حيث لم يفرقوا بين باب الإخبار عن الله تعالى وباب التسمية .

      - وقالوا بإثبات ثماني صفات لله تعالى فقط ، على خلاف بينهم وهي : الحياة ، القدرة ، العلم ، الإرادة ، السمع ، البصر ، الكلام ، التكوين . وعلى أن جميع الأفعال المتعدية ترجع إلى التكوين ، أما ما عدا ذلك من الصفات التي دل عليها الكتاب والسنة [ الصفات الخبرية ] من صفات ذاتية ، أو صفات فعلية ، فإنها لا تدخل في نطاق العقل ، ولذلك قالوا بنفيها جميعاً . أما أهل السنة والجماعة فهم كما يعتقدون في الأسماء يعتقدون في الصفات وأنها جميعاً توقيفية ، ويؤمنون بها " بإثبات بلا تشبيه ، وتنزيه بلا تعطيل ، مع تفويض الكيفية وإثبات المعنى اللائق بالله - تعالى - لقوله تعالى : ( ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ) .

      - قولهم بأن القرآن الكريم ليس بكلام الله تعالى على الحقيقة ، وإنما هو كلام الله تعالى النفسي ، لا يسمع وإنما يسمع ما هو عبارة عنه ، ولذلك فإن الكتب بما فيها القرآن مخلوق ؛ وهو قول مبتدع محدث لم يدل عليه الكتاب ولا السنة ، ولم يرد عن سلف الأمة . وأول من ابتدعه ابن كلاب . فالله تعالى يتكلم إذا شاء متى شاء ، ولا يزال يتكلم كما كلم موسى ، ويكلم عباده يوم القيامة ، والقرآن كلام الله تعالى على الحقيقة ، غير مخلوق . وكذلك التوراة والإنجيل والزبور . وهذا ما عليه أهل السنة والجماعة من سلف الأمة الصالح ومن تبعهم بإحسان .

      - تقول الماتريدية في الإيمان أنه التصديق بالقلب فقط ، وأضاف بعضهم الإقرار باللسان ، ومنعوا زيادته ونقصانه ،وقالوا بتحريم الاستثناء فيه ، وأن الإسلام والإيمان مترادفان ، لا فرق بينهما ، فوافقوا المرجئة في ذلك ، وخالفوا أهل السنة والجماعة ، حيث إن الإيمان عندهم : اعتقاد بالجنان وقول باللسان ، و عمل بالأركان . يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية . ويجوز الاستثناء فيه [ والمقصود عدم تزكية النفس ] والإيمان والإسلام متلازمان ، إذا اجتمعا افترقا ، وإذا افترقا اجتمعا .

      · وافقت الماتريدية أهل السنة والجماعة في الإيمان بالسمعيات مثل : أحوال البرزخ وأمور الآخرة من : الحشر ، والنشر ، والميزان ، والصراط ، والشفاعة ، والجنة ، والنار ؛ لأنهم جعلوا مصدر التلقي فيها السمع ، لأنها من الأمور الممكنة التي أخبر بها الصادق صلى الله عليه وسلم وأيدتها نصوص الكتاب والسنة .

      - وبالتالي فإنهم أثبتوا رؤية الله تعالى في الآخرة ؛ ولكن مع نفي الجهة والمقابلة . وهذا قول متناقض حيث أثبتوا ما لا يمكن رؤيته ، ولا بخفى مخالفته لما عليه أهل السنة والجماعة .

      · كما وافقت الماتريدية أهل السنة والجماعة في القول في الصحابة على ترتيب خلافتهم ، وأن ما وقع بينهم كان خطاً عن اجتهاد منهم ؛ ولذا يجب الكف عن الطعن فيهم ، لأن الطعن فيهم إما كفر ، أو بدعة ، أو فسق . كما يرون أن الخلافة في قريش ، وتجوز الصلاة خلف كل بر وفاجر ، ولا يجوز الخروج على الإمام الجائر .

      · وأيضاً وافقوا أهل السنة والجماعة في القول : بالقدر ، والقدرة ، والاستطاعة ، على أن كل ما يقع في الكون بمشيئة الله تعالى وإرادته ، وأن أفعال العباد من خير وشر من خلق الله تعالى وأن للعباد أفعالاً اختيارية ، يثابون عليها ، ويعاقبون عليها ، وأن العبد مختار في الأفعال التكليفية غير مجبور على فعلها .

      قالت الماتريدية بعدم جواز التكليف بما لا يطاق موافقة المعتزلة في ذلك ،والذي عليه أهل السنة والجماعة هو : التفضيل ، وعدم إطلاق القول بالجواز أو بالمنع .

      الجذور الفكرية والعقائدية :

      يتبين للباحث أن عقيدة الماتريدية فيها حق وباطل ؛ فالحق أخذوه عن أهل السنة من الحنفية السلفية ، وغيرهم ؛ لأن المستقرىء للتاريخ يجد أن الحنفية بعد الإمام أبي حنيفة رحمه الله تفرقوا فرقاً شتى في وقت مبكر ، ولم يسر على سيرة الإمام أبي حنيفة وصاحبيه إلا من وفقه الله عز وجل . وقد كانت الغلبة في ذلك للأحناف المنتسبين للفرق المبتدعة من : جهمية ، ومعتزلة . ولأن المصادر التاريخية لم تشر إلى كيفية تلقي أبي منصور الماتريدي العلم أو من تأثر بهم من العلماء ، نستطيع ترجيع الآتي :

      _ تأثر أبو منصور الماتريدي مباشرة أو بواسطة شيوخه بعقائد الجهمية من الإرجاء والتعطيل ؛ وكذلك المعتزلة والفلاسفة في نفي بعض الصفات وتحريف نصوصها ، ونفي العلو والصفات الخبرية ظناً منه أنها عقيدة أهل السنة .

      - تأثر بابن كلاب ( 240هـ ) أول من ابتدع القول بالكلام النفسي لله عز وجل في بدعته هذه ، وأن لم يثبت لهما لقاء ، حيث توفي ابن كلاب قبل مولده ، بل صرح شيخ الإسلام ابن تيمية أن أبا منصور الماتريدي تابع ابن كلاب في عدة مسائل : الصفات ، وما يتعلق بها ، كمسألة القرآن هل سبحانه يتكلم بمشيئته وقدرته ؟ ومسألة الاستثناء في الإيمان . ( مجموع الفتاوي 7/362 ) .

      الانتشار ومواقع النفوذ :

      انتشرت الماتريدية ، وكثر أتباعها في بلاد الهند وما جاورها من البلاد الشرقية : كالصين ، وبنغلاديش ، وباكستان ، وأفغانستان . كما انتشرت في بلاد تركيا ، والروم ، وفارس ، وبلاد ما وراء النهر ، والمغرب حسب انتشار الحنفية وسلطانهم ، وما زال لهم وجود قوي في هذه البلاد ، وذلك لأسباب كثيرة منها :

      1- المناصرة والتأييد من الملوك والسلاطين لعلماء المذهب ، وبخاصة سلاطين الدولة العثمانية .

      2- للمدارس الماتريدية دور كبير في نشر العقيدة الماتريدية ، وأوضح مثال على ذلك : المدارس الديوبندية بالهند وباكستان وغيرها ؛ حيث لا زال يدرس فيها كتب الماتريدية في العقيدة على أنها عقيدة أهل السنة والجماعة .

      3- النشاط البالغ في ميدان التصنيف في علم الكلام ، وردهم على الفرق المبتدعة الأخرى ، مثل الجهمية الأولي والمعتزلة ، والروافض .

      4- انتسابهم للإمام أبي حنيفة ومذهبه في الفروع .

      يتضح مما سبق :

      أن الماتريدية فرقة كلامية نشأت بسمرقند في القرن الرابع الهجري ، وتنسب إلى أبي منصور الماتريدي ، مستخدمة الأدلة والبراهين العقلية والفلسفية في مواجهة خصومها من المعتزلة ، والجهمية وغيرهما من الفرق الباطنية ، في محاولة لم يحالفها التوفيق للتوسط بين مذهب أهل السنة والجماعة في الاعتقاد ومذاهب المعتزلة والجهمية وأهل الكلام ، فأعلوا شأن العقل مقابل النقل ، وقالوا ببدعة تقسيم أصول الدين إلى عقليات وسمعيات مما أضطرهم إلى القول بالتأويل والتفويض ، وكذا القول بالمجاز في القرآن الكريم ، والسنة النبوية ، وعدم الأخذ بأحاديث الآحاد ، وبالقول بخلق الكتب ومنها : القرآن الكريم ، وعلى أن القرآن الكريم كلام الله تعالى النفسي . مما قربهم إلى المعتزلة والجهمية في هذا الباب ، وإلى المرجئة في أبواب الإيمان ، وأهل السنة والجماعة في مسائل : القدر ، وأمور الآخرة وأحوال البرزخ ، وفي القول في الإمامة ، والصحابة رضي الله عنهم . ولما كان مفهومهم للتوحيد أنه يقتصر على : توحيد الخالقية ، والربوبية ، مما مكن التصوف الفلسفي بالتغلغل في أوساطهم ، فغلب على كبار منتسبيهم وقوي بقوة نفوذ وانتشار المذهب ؛ ولوجود أكثر من دولة تحميه وتؤيده مثل : الدولة العثمانية ؛ فضلاً عن وجود جامعات ومدارس مشهورة تعمل على نشره ، وكان لانتسابهم لمذهب الإمام أبي حنيفة في الفروع أثره البالغ في انتشار المذهب الماتريدي إلى اليوم . ومع هذا فإن للماتريدية خدمات جليلة في الرد على : المعتزلة والباطنية والفلاسفة الملحدين والروافض ، ولهم جهود مشكورة في خدمة كتب الحديث .