أوفد الإمام طالب الحق قائد جنده أبا حمزة الشاري - رحمه الله تعالى- إلى أرض الحجاز، من أجل الدعوة إلى الله، ومن أجل تعريف الناس بالموسم بهذه الحركة التي قاموا بها، ولما وصل إلى بلاد الحجاز، ووافى الموسم، اشتد قلق سليمان بن عبد الواحد بن عبد الملك الذي كان بمكة المكرمة عاملاً من قِبل الخليفة الأموي، فأرسل إلى أبي حمزة يفاوضه إلى أن ينتهي موسم الحج، فأجابه أبي حمزة بقوله:
«نحن أحرص الناس على حجنا» واستمسكوا بهذا الشرط، ولم يقوموا بأي عمل قتالي في أرض الحرم، بل لم يؤذوا أحداً في حرم الله تعالى، ولما انتهى الموسم خشي سليمان ابن عبد الواحد فخرج من مكة المكرمة ولحق بأرض الخلافة.
ودخل أبو حمزة مكة بدون قتال، واستولى عليها، وخطب هنالك خطباً كثيرة؛ بيَّن فيها النهج الذي هم عليه سائرون، ثم بعد ذلك ذهب مع أصحابه إلى المدينة.
وكان من سياسة بني أمية أنهم حاولوا إغراق أهل الحرمين الشريفين في الملاهي، وحرصوا على تمييع المجتمع في الحرمين الشريفين بكثرة الملاهي هنالك، وكثرة المطربين والمغنيين، وكثرة الناس المفسدين، وبعدما استمرأ أهل المدينة ذلك الفساد شق عليهم أن يغادروه إلى غيره، وينتقلوا من نمط تلك الحياة التي ألفوها إلى نمط حياة أخرى، نمط الحياة الشديدة، حياة الاستمساك بأهداب الاستقامة، ولذلك خرج عدد من المقاتلين منهم يصل ثمانية آلاف مقاتل، وواجهوا أبا حمزة وأصحابه في (قُدَيْد) فحرص أبو حمزة على التفاوض معهم، ولكنه لم يجد من أهل المدينة استجابة، فأقام عليهم الحجة بكثير مما وجهه إليهم من الأسئلة التي أجابوا عنها بما يقيم الحجة على أنفسهم، ولكنهم لم يرتضوا بالتفاوض، فقال لأصحابه: دعوهم حتى يبدءوكم بالقتال، وكان أصحابه لا يتجاوزون ألفاً ومائة على أكثر ما قيل، فرمى أهل المدينة في جند أبي حمزة بسهامهم -رشقوهم بسهامهم- وأصابوا أحداً من جنده، فقال: دونكم الآن، فقد حل قتالهم، فأصلت السيوف، وقاوموهم مقاومة عنيفة أدت إلى انهزام أهل المدينة، بعدما تركوا وراءهم آلافاً من القتلى، وعادوا أدراجهم إلى المدينة المنورة.
ودخل أبي حمزة المدينة المنورة، وبث في الناس دعوة الخير، ونعى أهل المدينة ما صاروا إليه، وكان مما قاله لهم في بعض خطبه التي وجهها إليهم: «يا أهل المدينة أولكم خير أول، وآخركم شر آخر، يا أبناء المهاجرين والأنصار نِعْمَ ما ورَّثَكم آباؤكم لو حافظتم عليه، وبئس ما تورثونه أبنائكم إن تمسكوا به». وذكرهم بأن بلادهم آوت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان مما يشيعه أهل المدينة في أبي حمزة وأصحابه أن هؤلاء شباب أغمار سفيهة أحلامهم، فلما شاعت هذه المقالة، وبلغت أبا حمزة -رحمه الله- جاء إلى منبر النبي ووضع وجهه حيثما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يضع قدميه وبكى طويلاً حتى خضب لحيته بالدموع، ثم قال: «كم من قدم عاصية لله، منتهكة لحرماته، متسلطة على عباده، حاكمة بغير ما أنزل، وطئت موضع قدم النبي بأبي هو وأمي» ثم بعد ذلك خطب خطبته التي بيَّن فيها سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وسيرة خلفاءه وما انتهى إليه الأمر من بعد، ثم قال لأهل المدينة:
«يا أهل المدينة تعيرونني بأصحابي، تزعمون أنهم شباب وهل كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا شباباً؟ نعم شباب والله مكتهلون في شبابهم غضيضة عن الحرام أعينهم، بطيئة عن الشر أقدامهم، أنضاء عبادة، وأطلاح سهر، موصول كلالهم بكلالهم، وقيام ليلهم بصيام نهارهم، قد أكلت الأرض جباههم، وأيديهم وركبهم من طول السجود، مصفرة ألوانهم، ناحلة أجسامهم من كثرة القيام وطول الصيام، لقد نظر الله إليهم في جوف الليل منحنية أصلابهم على أجزاء القرآن إذا مر أحدهم بآية فيها ذكر الجنة بكى شوقاً إليها، وإذا مر بآية فيها ذكر النار شهق شهقة كأن زفير جهنم في أذنيه، مستقلون ذلك في جنب الله، مستنجزون لوعد الله، حتى إذا رأوا سهام العدو قد فوِّقت، ورماحه قد انتُضيت، وأرعدت الكتيبة بصواعق الموت وأبرقت، استهانوا وعيد الكتيبة لوعد الله، فلقوا شبا الأسنة، وشائك السهام، وحد السيوف بوجوههم، وصدورهم ونحورهم، ومضى الشاب هنالك قدماً حتى اختلفت رجلاه على عنق فرسه فخر صريعاً في الثرى ورملت محاسن وجهه بالدماء، وأسرعت إليه سباع الأرض وانحط إليه طير السماء، فكم من عين في منقار طائر طالما بكى صاحبه في جوف الليل من خشية الله، وكم من يد أبينت عن ساعدها طالما اعتمد عليها صاحبها في سجوده لله، وكم من خَدٍّ عتيق قد فلق بعمد الحديد، فرحم الله تلك الأبدان وأدخل أرواحهم الجنان»
تصوروا وضع الشباب الذي رباه أبو عبيدة على الاستقامة والبر والتقوى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتضحية في سبيل الله، والحرص على امتثال أمر الله، وكما قيل قديماً: «لا يُصْلِح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها» فالاستسماك إذاً بهذا النهج القويم، وتربية الشباب عليه وتوجيههم نحوه هو السبيل الأمثل لاستعادة أمجاد هذه الأمة، وجعلها أمة قوية، أمة ذات شأن بين الأمم، أمة ترهب الأمم قوتها، وترهب الأمم سلطانها وتأثيرها، هذا هو الطريق لإعادة أمجاد هذه الأمة لا تربية الشباب على الفساد وعدم الاستقامة.
من كتاب الشباب بين الواقع والطموح لسماحة الشيخ أحمد الخليلي حفظه الله
«نحن أحرص الناس على حجنا» واستمسكوا بهذا الشرط، ولم يقوموا بأي عمل قتالي في أرض الحرم، بل لم يؤذوا أحداً في حرم الله تعالى، ولما انتهى الموسم خشي سليمان ابن عبد الواحد فخرج من مكة المكرمة ولحق بأرض الخلافة.
ودخل أبو حمزة مكة بدون قتال، واستولى عليها، وخطب هنالك خطباً كثيرة؛ بيَّن فيها النهج الذي هم عليه سائرون، ثم بعد ذلك ذهب مع أصحابه إلى المدينة.
وكان من سياسة بني أمية أنهم حاولوا إغراق أهل الحرمين الشريفين في الملاهي، وحرصوا على تمييع المجتمع في الحرمين الشريفين بكثرة الملاهي هنالك، وكثرة المطربين والمغنيين، وكثرة الناس المفسدين، وبعدما استمرأ أهل المدينة ذلك الفساد شق عليهم أن يغادروه إلى غيره، وينتقلوا من نمط تلك الحياة التي ألفوها إلى نمط حياة أخرى، نمط الحياة الشديدة، حياة الاستمساك بأهداب الاستقامة، ولذلك خرج عدد من المقاتلين منهم يصل ثمانية آلاف مقاتل، وواجهوا أبا حمزة وأصحابه في (قُدَيْد) فحرص أبو حمزة على التفاوض معهم، ولكنه لم يجد من أهل المدينة استجابة، فأقام عليهم الحجة بكثير مما وجهه إليهم من الأسئلة التي أجابوا عنها بما يقيم الحجة على أنفسهم، ولكنهم لم يرتضوا بالتفاوض، فقال لأصحابه: دعوهم حتى يبدءوكم بالقتال، وكان أصحابه لا يتجاوزون ألفاً ومائة على أكثر ما قيل، فرمى أهل المدينة في جند أبي حمزة بسهامهم -رشقوهم بسهامهم- وأصابوا أحداً من جنده، فقال: دونكم الآن، فقد حل قتالهم، فأصلت السيوف، وقاوموهم مقاومة عنيفة أدت إلى انهزام أهل المدينة، بعدما تركوا وراءهم آلافاً من القتلى، وعادوا أدراجهم إلى المدينة المنورة.
ودخل أبي حمزة المدينة المنورة، وبث في الناس دعوة الخير، ونعى أهل المدينة ما صاروا إليه، وكان مما قاله لهم في بعض خطبه التي وجهها إليهم: «يا أهل المدينة أولكم خير أول، وآخركم شر آخر، يا أبناء المهاجرين والأنصار نِعْمَ ما ورَّثَكم آباؤكم لو حافظتم عليه، وبئس ما تورثونه أبنائكم إن تمسكوا به». وذكرهم بأن بلادهم آوت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان مما يشيعه أهل المدينة في أبي حمزة وأصحابه أن هؤلاء شباب أغمار سفيهة أحلامهم، فلما شاعت هذه المقالة، وبلغت أبا حمزة -رحمه الله- جاء إلى منبر النبي ووضع وجهه حيثما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يضع قدميه وبكى طويلاً حتى خضب لحيته بالدموع، ثم قال: «كم من قدم عاصية لله، منتهكة لحرماته، متسلطة على عباده، حاكمة بغير ما أنزل، وطئت موضع قدم النبي بأبي هو وأمي» ثم بعد ذلك خطب خطبته التي بيَّن فيها سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وسيرة خلفاءه وما انتهى إليه الأمر من بعد، ثم قال لأهل المدينة:
«يا أهل المدينة تعيرونني بأصحابي، تزعمون أنهم شباب وهل كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا شباباً؟ نعم شباب والله مكتهلون في شبابهم غضيضة عن الحرام أعينهم، بطيئة عن الشر أقدامهم، أنضاء عبادة، وأطلاح سهر، موصول كلالهم بكلالهم، وقيام ليلهم بصيام نهارهم، قد أكلت الأرض جباههم، وأيديهم وركبهم من طول السجود، مصفرة ألوانهم، ناحلة أجسامهم من كثرة القيام وطول الصيام، لقد نظر الله إليهم في جوف الليل منحنية أصلابهم على أجزاء القرآن إذا مر أحدهم بآية فيها ذكر الجنة بكى شوقاً إليها، وإذا مر بآية فيها ذكر النار شهق شهقة كأن زفير جهنم في أذنيه، مستقلون ذلك في جنب الله، مستنجزون لوعد الله، حتى إذا رأوا سهام العدو قد فوِّقت، ورماحه قد انتُضيت، وأرعدت الكتيبة بصواعق الموت وأبرقت، استهانوا وعيد الكتيبة لوعد الله، فلقوا شبا الأسنة، وشائك السهام، وحد السيوف بوجوههم، وصدورهم ونحورهم، ومضى الشاب هنالك قدماً حتى اختلفت رجلاه على عنق فرسه فخر صريعاً في الثرى ورملت محاسن وجهه بالدماء، وأسرعت إليه سباع الأرض وانحط إليه طير السماء، فكم من عين في منقار طائر طالما بكى صاحبه في جوف الليل من خشية الله، وكم من يد أبينت عن ساعدها طالما اعتمد عليها صاحبها في سجوده لله، وكم من خَدٍّ عتيق قد فلق بعمد الحديد، فرحم الله تلك الأبدان وأدخل أرواحهم الجنان»
تصوروا وضع الشباب الذي رباه أبو عبيدة على الاستقامة والبر والتقوى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتضحية في سبيل الله، والحرص على امتثال أمر الله، وكما قيل قديماً: «لا يُصْلِح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها» فالاستسماك إذاً بهذا النهج القويم، وتربية الشباب عليه وتوجيههم نحوه هو السبيل الأمثل لاستعادة أمجاد هذه الأمة، وجعلها أمة قوية، أمة ذات شأن بين الأمم، أمة ترهب الأمم قوتها، وترهب الأمم سلطانها وتأثيرها، هذا هو الطريق لإعادة أمجاد هذه الأمة لا تربية الشباب على الفساد وعدم الاستقامة.
من كتاب الشباب بين الواقع والطموح لسماحة الشيخ أحمد الخليلي حفظه الله
