مستقبل الشرق الأوسط ج1

    • مستقبل الشرق الأوسط ج1

      المستشار محمد سعيد العشماوي ---- الموضوع منقول عن عرب تايمز

      مستقبل الشرق الأوسط ج1
      يقول لى أصدقائى من الأساتذة الأمريكيين ، المتخصصين فى شئون الشرق الأوسط وفى التاريخ عامة ، أنهم يُدعوْن تباعا ، فى فترات متقاربة ، لتناول إفطار عمل مع رئيس الولايات المتحدة ، فى البيت الأبيض ، حيث تجرى المناقشة فى موضوع معين أو فى شأن عام ، فيتيح ذلك للرئيس أن يكون على دراية بوجهة النظر العلمية وبالسياق التاريخى للأحداث ، مما يجعله على بيّنة عند إتخاذ أى قرار أو إبداء أى رأى .

      ومن هؤلاء الأساتذة من يحرص على أن نلتقى معا ، فى مصر أو فى الولايات المتحدة ، أو فى المؤتمرات التى تُعقد فى أوروبا ، كيما نتحادث سويا ، فى كتبى وفى أفكارى ، حتى يكون بدوره على علم بكل ما يجرى فى الشرق الأوسط ، فيساعده ذلك فى مجرى الحديث مع رئيس الولايات المتحدة ، وفى عرض الواقع عليه عرضا واضحا سليما .

      فالأمور السياسية الدولية ، وما يتعلق منها بالشرق الأوسط ، لا تصدر فيها القرارات عفوية أو إعتباطا ، بل تسبقها دراسات كثيرة ، تستند إلى آراء الخبراء من العلماء ، بل وإلى كتابات وأفكار بعض أبناء الشرق الأوسط أنفسهم .

      والشرق الأوسط يتكون من البلاد العربية جميعاً ، ومن تركيا وإيران وإسرائيل .

      وإيران دولة تقع جنوب غرب آسيا ، وكثيرا ما يُطلق عليها إسم فارس ؛ لأن منطقتها كانت موطنا للأمبراطورية الفارسية القديمة . إستقر أصول الفرس فى إقليم فارس الحالى (persia) والذى كان يتبع الأمبراطورية الأشورية (حيث توجد العراق حالا) . فلما أقيمت الأمبراطورية الفارسية فى منتصف القرن السادس (ق.م) شـُيدت على نظم إقتبسها الحكام من دول سابقة ، فأخذوا نظام آشور السياسى ، وفنون بابل وآشور . ونشب صراع بين فارس والروم حسمه الأسكندر الأكبر بالاْنتصار على الفرس (فى موقعة نهر جرانيق 334 ق.م ، وموقعة جاوجا ميلا 231ق.م) وقضى على الأسرة الحاكمة . وبعد موت الأسكندر وقعت معظم الأراضى الفارسية فى قبضة خلفائه من السلوقيين ، الذين أدخلوا إليها الثقافة الهلـّينية . وحوالى 226ق.م أقيمت الأمبراطورية الساسانية وإزدهرت حتى 641 – 642 م ، حين إستولى العرب على بلاد فارس . ومع الوقت حلّ الإسلام محل المذهب الزرادشتى الذى كان شريعة الفرس . وتحول الفرس إلى المذهب الشيعى ، فأصبح أغلب الإيرانيين شيعة . والمذهب الشيّعى يختلف عن المذهب السنى ، مذهب أهل السنة والجماعة ، فى مسائل جذرية ، منها إضافة ركن سادس إلى أركان الإسلام الخمسة ، هو إتخاذ ولىّ من شيعة على ابن أبى طالب وزوجه فاطمة بنت النبى ، وهو ما يتأدى إلى إعتبار الولاية ، أو الإمامة ، وهى سياسية ، ركنا من الدين . هذ بالإضافة إلى خلافات عميقة فى الحديث والفقة ، الأمر الذى حدا بأكبر فقهائهم (الكـُلينى ، أبو جعفر أبن يعقوب) لأن يقول : كلّ ما عليه أهل السنة فهو خلافنا (أو هو العكس والضد لما نعتقد فيه) .

      ومع أن الفرس دخلوا فى الإسلام ، وكان لهم شأن كبير فى تأسيس الحضارة الإسلامية ، بما إختلط لديهم من عناصر الحضارات السابقة الأشورية والبابلية والهلّينية ، وما أضافوه هم إليها ، فإنهم لم يغيرّوا لسانهم إلى العربية بل ظلوا حتى اليوم يتكلمون اللغة الفارسية كلغة أولى وأخيرة ، فلا يتعلمون أو يتكلمون العربية ولو لغة ثانية ، الأمر الذى يجعل حديث من يتحدث منهم العربية كحديث الفرنجة ولهجة الأجانب ولكْنة (الخواجات).

      وتعلم اللغة العربية ليس ترفا للمسلم بل هو واجب عليه ، وإلا كان مسلما بطريقة غير مباشرة ، أو بالواسطة (second hand) .

      فالقرآن وهو الكتاب الأساسى فى الإسلام ، يتضمن مبادىء الدين وقواعد الشريعة ، ويرى كثير من المسلمين أنه معجزة النبى البلاغية . وفى القرآن آيات تفيد أنه عربى ، وأنه خطاب إلى من يعرف العربية ، وأن من لا يعرف العربية لا يستطيع أن يفهمه ، ولا يكون إيمانه على بصيرة .

      (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) سورة يوسف 12 : 2 ، (وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً) سورة الرعد 13 : 37 ، (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ . عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ . بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ . ... وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ . فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ) سورة الشعراء 26 - 193 : 199 (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) سورة إبراهيم 14 : 4 .

      القرآن من ثمّ كتاب عربى ، وحكم عربى ، لا يؤمن به حق الإيمان أعجمى لا يفهمه ، وكما أن الرسول يكون بلسان قومه ليبيّن لهم ، فإن المؤمنين لابد أن يكونوا على لسان النبى ليسْلم إيمانهم ، حين يكون سمعا للكلام ، وفهما للمبنى ، ووعيا للمعنى .
      ونظرا لأن أى ترجمة للقرآن لا تكون على مستوى النّص العربى أبدا فى بنيانه وفى بيانه ، فإنه يُقال عن أى ترجمة إنها ترجمة لمعانى القرآن . أى إن الذى لا يقرأ القرآن فى لغته العربية ، وهو يفهمها بإمعان ويعيها بإتقان ، فإنه يقرأ فى الترجمة معانى القرآن لا القرآن ذاته ؛ ولا يمكن أن يدرك معجزته البيانية .
      وإذا كانت أسبانيا عندما غزت بلاد أمريكا الوسطى وأمريكا الجنوبية قد غيّرت لسان أبناء هذه البلاد جميعا إلى الأسبانية (عدا البرازيل التى تتخذ لها من البرتغالية لسانا) ، وكانت فرنسا قد نشرت لغتها ، بل وجعلت منها لسانا أولا أو ثانيا لعدد كبير من البلاد ، كوّنوا رابطة الفرانكفونية ، فكيف لم تنتشر اللغة العربية حيثما إنتشر الإسلام ، ولو كلغة ثانية ، بما كان يصهر المسلمين فى مبانى ومعانى النص القرآنى العربى ، ويجعل لهم إلى جانب الإشتراك فى الإيمان التحاما فى الوجدان وإتحادا فى اللسان ؟

      عندما يصرّ قوم على البقاء على لغتهم ولسانهم ، بعد أنْ يدخلوا إلى الإسلام ، فلا يغيروا لسانهم إلى العربية ، ولا يتعلموا العربية كلغة ثانية لهم ، فإن ذلك يعد أبلغ دليل على علو شأن القومية لديهم ، بما يتساوق أو يتفارق على الشعور الدينى ذاته .
      هذا الشعور القومى الحادّ الغلاب لدى الفرس تصادم منذ بداية التاريخ الإسلامى مع الشعور القومى العربى (للعرب العدنانيين فى مكة أو المدينة) المتعالى بدوره ، فحدث ما يسمى بالشعوبية ، وهو صراع القوميات ؛ هذا الصراع الذى حكم التاريخ الإسلامى طويلا ، وما زال ذا أثر فعّال فيه .
      ففى تقدير بعض المؤرخين أن الفرس تحولوا إلى شيعة كى ما يتميزوا عن باقى المسلمين ، أهل السنة والجماعة ، بمذهب أو إتجاه خاص بهم ، تخالط ، عمدا أو عفوا ، مع تراثهم الشعبى (الفولكلور ، ومع مجدهم الوطنى) .

      وعندما قامت الثورة الإسلامية الإيرانية 1979 فقد أمّل الجميع أن تكون ثورة بعث روحى وأخلاقى يفيد منها الشعب الإيرانى ثم باقى المسلمين تباعا ، غير أنه سرعان ما كشرّت الثورة عن أنيابها ، فتبين أنها ثورة سياسية ذات مطامع فارسية ومطامح سلطوية ، فأعلنت مبدأ تصدير الثورة ، أى تصدير نهجها وفكرها ، إلى كل البلاد الإسلامية . وهذا المبدأ هو فى جوهره مبدأ الشيوعية والماركسية الذى أعلنته منذ البداية ، وعملت على تحقيقه طويلا ، مما أدى بخصومها إلى أن يحاربوها بنفس السلاح حتى تفوقوا عليها ، فإنهار الإتحاد السوفييتى وتحلل إلى بلاد عدة ، وتلاشى المبدأ الماركسى المؤسس على تصدير الثورة .
      وإلى جانب ذلك ، فإن الثورة الإيرانية أسرفت فى إعدام الخصوم ، بل وفى تصدير الإغتيال ، فقتلت خصوماً لها فى بلاد غربية ، وفى مقاه ومطاعم عامة ، ولما أدان القضاء المحلى مرتكبو جرائم الإغتيال سيرّت إيران المظاهرات ضد أحكام القضاء (كأنها تضغط لتبرئة القتلة بإرهاب الدولة وتخويف الساسة) وهى إتجاهات لا يجوز أن تنسب إلى الدين أو أن تـُلحق بالشريعة .

      ويرى كثير من المحللين السياسيين أن الثورة الإيرانية الإسلامية ، ثورة فارسية ، جوهراً ومظهراً ، فى المضمون وفى المحتوى ، وإنها تندثر بالإسلام وتتلحف بالشريعة لتغزو العالم الإسلامى تحت راياتهما ، ثم تعمل على سيادة المطامع الفارسية والمطامح الإيرانية ، بتسويد مذهبها الدينى ، خاصة وقد ادّعى زعيمها الخمينى أن النبى محمد لم يكمل رسالته ، كما أفتى بأن الدولة (أى السياسة) أهم من الدين . ونتيجة لذلك فقد فشلت الثورة فى كل ما فعلت ، ولم تنجح فى حربها مع العراق ، ولم تنجح فى رفع المستوى الإقتصادى للشعب الإيرانى (بل إن مستوى دخل الفرد إنخفض إلى ثلث ما كان عليه أيام الشاه) ، هذا بالإضافة إلى أنها لم تقدم أى إضافة جديدة ومفيدة للدين أو الشريعة . وكانت النتيجة أن إنقسمت الثورة على نفسها ، وإختلفت الأمة فى إتجاهاتها ، فظهر إتجاه ليبرالى بقيادة رئيس الجمهورية السابق محمد خاتمى وآخرين ، وأغلب أبناء الشعب الإيرانى ، وهى ليبرالية تـُعتبر ، بمفاهيم التطرف الإسلامى ، عالمانية ترتدى عمامة . وما زال وسوف يظل الصراع مستمرا بين الأقلية المتزمتة التى تقبض على مفاتيح السلطة ، والأغلبية المتحررة التى تتطلع إلى دحر التزمت وكَسْر الجمود . وكل ما نجحت فيه الثورة الإيرانية أن قدمت للعالم كله نموذجا شائها للإسلام ، وصورة سيئة للمسلم .

      أما تركيا ، وهى البقية الباقية من الأمبراطورية العثمانية التى تكونت فيما بين القرنين 14 و 16 على يد قبائل من التتار غزت منطقة آسيا الصغرى ، بعد تفكك الأمبراطورية السلجوقية (وهى من التتار كذلك) . فلقد قام التتار الذين كانوا يقيمون فى جنوب الصين ووسط آسيا بغزو المناطق التى تقع إلى الغرب منهم ، وكان من هذا الغزو غزوة إستقرت فى منطقة تركيا الحالية وأسست دولة نُسبت إلى زعيمها الأهم عثمان ، فسُميت بالعثمانية حتى تنفى عن نفسها وصف التتار الذى كان كريها لدى الناس جميعاً ، وسمّت عنصرها العنصر التركى ، مع أن التركية إسم اللغة التى يتكلمون بها .
      فى سنة 1402 هزم تيمور لنك (المغولى ، وهى قبيلة من قبائل التتار) تركيا وأسر السلطان بايزيد الأول . ولما إسترد العثمانيون قوتهم بادروا بالعدوان على كل المناطق المجاورة لهم ، والمتاخمة ، وما بعد المتاخمة . فقد هاجموا الدولة البيزنطية ومملكتى بلغاريا وصربيا ، وإستولوا على القسطنطينية سنة 1453 ، وهى بيزنطة عاصمة الأمبراطورية البيزنطية ، وسمّوها إسلام بول أو اسطانبول . وإستولوا على الشام ومصر عامى 1516 ، 1517 . وأجبروا الخليفة العباسى المتوكل على التنازل عن الخلافة لسليم الأول ثم السلاطين من بعده . وغزوا معظم بلاد اليونان والمجر وكثيرا من أنحاء فارس وبلاد العرب . وصارت ولايات ترنسلفانيا والافلاق والبغدان إيالات (ملْكيات) خاصه بهم . وهددوا الامبراطورية النمساوية وحاصروا عاصمتها فيينا حتى خف لعونها جون الثالث ملك بولندا ورفع الحصار عنها سنة 1683.

      لما كان التتار قبائل بدائية فقد كان إمتيازهم فى الحرب والضرب والنهب والسلب ، فلما إستقر بهم الأمر فى مكان أو فى دولة عجزوا عن تقديم النظم السياسية والإقتصادية والإجتماعية الملائمة لتكوين دولة وتسييرها . لهذا ظلت الإمبراطورية العثمانية (بقيادة تركيا الحالية) تقوم على خصائص العصور الوسطى ، وعلى نظام أسيوى إستبدادى ، أضافت إليه استخدام الانكشارية (وهم جنود يختارون من منطقة البلقان غالبا) وعلى نظام البادى شاه (وهو نظام إدارى قوامه أفراد خاضعون للسلطان وعبيد له) . وقد أدى ذاك إلى تخلف وتحلل السلطنة العثمانية ، وكل البلاد التى كانت تبْسط عليها نفوذها ؛ فى الوقت الذى كانت عوامل النهضة الأوروبية ترقى بالبلاد الأوروبية وتستحدث نظما أرقى وافضل فى الحروب والتنظيم السياسى والإقتصادى والإجتماعى . وما إن ارتقت هذه البلاد حتى بدأت ترد العدوان العثمانى وتصد غوائله عنها ، وحدث أول انكسار حربى عندما هزم الأسطولين الأسبانى والبندقى (نسبة إلى البندقية) الأسطول التركى فى معركة ليبانتو البحريه 1571. وتلى ذلك إكراه الترك على رفع الحصار عن فيينا 1683. وأعقب هذا إندحار الجيش التركى أمام قوات شارل الخامس أمير اللورين ، ولويس دون بادن (فى ألمانْيا)، ويوجين أمير سافوى ، فأكره الترك على عقد معاهدة كارلو ونزو 1699 التى نزلوا فيها عن بلاد المجر وممتلكات شتى . وظل التدهور السياسى والضعف الخلقى يسريان فى جسم السلطنة ، حتى علا شأن الأنكشارية ، فصاروا هم الحكام الحقيقيين. وعجلّ بسرعة انهيار السلطنة حروبها مع الروسيا فى القرن 18، حتى استبد بها الضعف وغلب الوهن ، وصارت تسمى رجل أوربا المريض . وثارت آنذاك ماسُمى بالمسألة الشرقية ، وهى خوف الغرب ، من الهيمنة الروسية على تركيا والبلاد العربية التابعة لها ، فبدأ عصر الإستعمار ، كرد فعل متأخر على العدوان العثمانى ، وخط دفاع حيوى لمنع روسيا من إستعمار الشرق الأوسط . فاحتلت بريطانيا مصر 1882، واحتلت إيطاليا طرابلس (ليبيا)1911-1912 ، ودخلت فرنسا حلبة الإحتلال ، بل وكانت هى البادئة به بالحملة الفرنسية على مصر .

      خلال ذاك كانت صربيا وبلغاريا ورومانيا قد أعلنت إستقلالها عن السلطنة العثمانية ، وكونت مع اليونان حلف بلقانيا شن عليها حربا ضروسا خسرت فيها السلطنة معظم ماتبقى لها من أراضى فى أوروبا .
      فى 1918 إنهارت السلطنة العثمانية أمام ضربات البريطانيين والجيش العربى فى العراق وفلسطين وسوريا ، وانتـُزعت منها كل أملاكها فى أسيا بمقتضى معاهدة سيفر . وإنتهى الحال بإستيلاء الجيش على السلطة حيث بدأ مصطفى كمال أتاتورك يقيم ما قال إنه دولة عالمانـّية .
      عالمانية تركيا ، عالمانية متخصصة بظروفها متعلقة بتاريخها ، فهى من ثم عالمانية خاصة جدا . ذلك أن الترك العثمانيين هم فى الأصل قبائل تتارية ، وإن تزاوجوا بعد ذلك بأخلاط من بلاد البلقان واليونان ، إما أنهم تخيروا منهم وإما أنهم نقلوا قبائلهم إلى أرض تركيا ، فى عمليات النقل (Transfer) المتواصلة ، والتى ظلت مستمرة ومتفاعلة ، حتى هاجر عدد كبير من اليونانيين والبلغار من تركيا خلال القرنين 19 ، 20 ، فصارت الكثرة الكبرى من السكان أتراكا ، تخالطت وتمازجت دماء الكثير منهم مع الدماء البلقانية واليونانية .

      وعندما احتل الأتراك العثمانيون بيزنطة (القسطنطينية) ورثوا الأمبراطورية البيزنطية ، بكل نظمها الإدارية والسياسية ، التى كانوا يجهلونها تماما ، بل وكانوا عاطلين من أى قدرة على إنشائها . هذا فضلاً عن أنهم ورثوا الطعام والمطبخ البيزنطى ، الذى صار يسمى بالمطبخ والطعام التركى ، وهو أصلا بيزنطى .
      اتخذت السلطنة العثمانـّية جل النظم السياسية والإدارية البيزنطية نطما لها ، وكان من ذلك أن أنشئت وظيفة المفتى الأعظم لتكافىء أو تعادل وظيفة وإختصاصات "بابا الكنيسة البيزنطية" . وعلى الرغم من أن الإسلام لا يقر وضع المفتى الأعظم ، ولم يظهر فى تاريخ الإسلام أبداً وجود هذه الوظيفة ، فقد أصبحت فى السلطنة العثمانية سلطة دينية عليا ، تكافىء وتعادل السلطة الكنسّية فى بلاد أوروبا المسيحية ، قبل عصر النهضة . وقوىّ من شأو المفتى الأعظم ورفع من شأنه ، أن الأتراك عامة ، والسلاطين خاصة ، تمسكوا بلسانهم التركى شأنهم فى ذلك شأن الفرس ، ولم يتعلموا العربية ، ولو كلغة ثانية . ولم يكن السلاطين ، الذين عُدّوا فى الواقع خلفاء المسلمين ، يجيدون قراءة القرآن بالعربية ، أو يفهموا معانيه ، أو يدركوا مراميه ؛ وبالتالى لم يكن بوسعهم أن يؤموا الناس فى الصلاة ، أو أن يفتوا فى شئون الدين . بهذا إنقسمت السلطة إلى سلطة سياسية وإدارية من جانب ، وسلطة دينية وشرعية من جانب آخر ، أى سلطان ومفتى (كما كان الوضع فى البلاد الغربية : إمارة وكنيسة) . فعندما ألغى كمال أتاتورك منصب الخلافة ، كان يلغى حق سلطان لا يعرف القرآن فى لغته العربية ، ولا يفهم الإسلام من مصادره المباشرة ، فى أن يتخلـّف (أى يجعل نفسه) خليفة للمسلمين له القول الفصل والرآى النهائى فى شئون الدين وفى أمور الدنيا . هذا بالإضافة إلى أنه قصد إلغاء وظيفة المفتى الأعظم ، وفصل سلطته الدينية الواسعة عن السلطة السياسية والإدارية .

      إن المفتى الأعظم فى السلطنة العثمانية كان سنادا للمظالم السياسية ، كما كانت السلطنة عمادا لا فتئاته على الدين . فلقد أفتى شاغلوا وظيفة المفتى الأعظم بحق السلطان فى قتل إخوته الذكور حتى يستقر الأمر له فلا يتخوف من محاولة أحدهم منازعته السلطة ، كما أفتى بعض المفتين بحق السلطان فى حبس إخوته فى حجرات تبنى لهم داخل القصر السلطانى ، مثلهم مثل الحيوان تماما ، حتى كانوا يُسمون أمراء القفص ، يعيشون ويموتون فى أقفاص من الحجر .
      وإذا كانت القومية الفارسية قد نافست وغالبت الشعور الدينى فحجبت الفرس عن تعليم العربية ، فإن القومية التتارية فعلت نفس الشىء وأدت إلى ذات النتائج بالنسبة للترك ، فظل هؤلاء وهؤلاء على لغتهم التى لا تمتّ بأدنى صلة للغة العربية . فالفارسية لغة إيرانية من الفصيلة الفرعية الهندية الإيرانية للـّغات الهندية . واللغة التركية من الفصيلة التركية ، ومنها لغة التتار ، ولغة بعض جهات القوقاز ، والتركية الحديثة (التى داخلتها ألفاظ كثيرة من لغات متعددة) .
      أما اللغة العربية فهى مجموعة خاصة بنفسها تتفرع إلى العربية الكلاسيكية والعربية الحديثة ، وأصلها اللغة الحميرية (وهى لغة قد إنقرضت) .

      عندما إجتمع المجلس الصهيونى الأول ، بجهود تيودور هرتزل الصحفى النمساوى (1860 – 1904) ، فى مدينة بازل بسويسرا يوم 29/8/1887 ، تم الإتفاق على إنشاء دولة إسرائيل . وقد كان ثمّ عرض بإقامتها فى أفريقيا أو فى أمريكا اللاتينية ، غير أن الرأى إستقر على إنشائها فى فلسطين ، وإتخاذ القدس عاصمة لها ، لإضفاء مشاعر وجدانية عليها وربط اليهود المعاصرين بالتاريخ اليهودى العام ، وبالشريعة المسيحية التى تتخذ من التوراة كتابا لها فتضمه إلى الأناجيل ، وتجعل من التوراة العهد القديم وتسمى الإنجيل العهد الجديد . بهذا وصل اليهود المعاصرين أنفسهم بالتاريخ اليهودى القديم ، كما أنهم أوجدوا روابط دينية بينهم وبين المسيحيين جميعاً .

      عندما حدث الخروج (Exodus) من مصر ، كان خروجا للأمير المصرى موس (الذى نـُطق اسمه فى العبرية موشى ثم صُحف فى العربية إلى موسى) حاكم منطقة جاسان ببعض المصريين ، الذى كونوا جماعة لاوى (اللاويون) بقيادة هارون أخ موسى ، وصاروا كهنة بنى إسرائيل ، مع عدد من العبرانيين الذين كانوا يقيمون فى أرض جاسان على حواف المنطقة الشرقية بالدلتا ، نظراً لأن المصريين كانوا يرون أن الرّعاة أنجاس ، فلا يسمحون لهم بالإقامة بينهم أو التعامل معهم (وهى حقيقة ينبغى إعادة تفسير قصّة الخروج التى وردت فى التوراة على أساسها) . ولم تكن للخروج أى أهمية لدى المصريين ، ولا كانت بالضـّجة التى تصورها التوراة ، وإلا لكانت قد أثبتتها أو حتى أشارت إليها السّجلات المصرية التى كانت حريصة على إثبات كل حدث مهم ، وأى واقع غير عادىّ .

      وفى الخروج حدثت وقائع معينة ، لابد من الإلتفات إليها لبيان واقع الأمر وما تطرق إليه وتسلسل به حتى العصر الحالى .

      (أ) خروج العبرانيون (الذين أصبحوا بنى إسرائيل) من مصر رغما عنْهم ، وفى معارضة منهم لرغبة موسى ، مما يقطع بأنهم لم يكونوا مستعبدين أو مضطهدين . "قالوا لموسى هل لأنه ليست قبور فى مصر أخذتنا لنموت فى البرّية . ماذا صنعت بنا حتى أخرجتنا من مصر . أليس هذا هو الكلام الذى كلـّمناك به فى مصر قائلين كفّ عنا فنخدم المصريين ، لأنه خير لنا أن نخدم المصريين من أن نموت فى البرية" خروج 14 : 11 – 13 . " فتذمر كل جماعة بنى إسرائيل على موسى وهارون فى البرية . وقال لهما بنو إسرائيل ليتنا متنا بيد الرب فى أرض مصر إذ كنا جالسين عند قدور اللـّحم نأكل خبزا للشبع . فإنكما أخرجتمانا إلى هذا القفر لكى تميتا كل هذا الجمهور بالجوع" خروج 16 : 2 – 3 .
      (ب) قطع الرب العهد مع موسى فنسخ بذلك أى عهد سابق (مع إبراهيم أو مع يعقوب الملقب إسرائيل .. أى يسر إسم أوزير الأصلى + إيل وهو إسم الله فى اللغات السامية) ، ذلك أن موسى قال لتابعيه "الرب إلهنا قطع معنا عهدا فى حوريب . ليس مع آبائنا قطع الرب هذا العهد بل معنا نحن الذين هنا اليوم جميعاً أحياء" تثنية 5 : 2 – 3 .
      (ج) أن الرب أعلن إسمه إلى موسى ولم يعلنه إلى إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، مما دعا البعض إلى أن يقرر أن الرب الذى ظهر لموسى هو غير الرب الذى ظهر للآخرين "ثم كلم الله موسى وقال له أنا الرب . وأنا ظهرت لإبراهيم وإسحاق ويعقوب بأنى الإله القادر على كل شىء . واما بإسمى يهوه فلم أُعرف عندهم" خروج 6 : 3 – 4 ؛ هذا مع ملاحظة أن يهوه تكتب فى الأصل حروفاً متفاصلة ى هـ و ه ، وهو أسلوب مصرى .

      وإلى جانب ذلك ، فإن سرجون الملك الأشورى فتح السامرة عاصمة إسرائيل (فى الشمال) وإستولى على مملكة يهوذا (فى الجنوب) حوالى 725 ق.م ، ونفى اليهود ، مما أدى إلى تشتت قبائلهم الأثنى عشر ، ففُقدت منهم عشر قبائل (أسباط ، أمم ) وبقيت قبيلتان . وإنضمت قبائل أخرى لليهودية أهمهم قبائل الخزر التتارية ، وبذلك لم يعد اليهود هم نسل إسرائيل (يعقوب) ، لكنهم صاروا من يعتنقون ثقافة أو أكثر من ثقافات اليهود المتعددة .

      اليهود المعاصرون إذن ليسوا هم بنو إسرائيل المذكورين فى التوراة . وبنو إسرائيل الذين خرجوا مع الأمير المصرى موسى قاوموا الخروج وعارضوه وآذوا موسى بسببه كثيراً . والعهد الذى يقال إن الرب قد قطعه مع إبراهيم قد نسخه العهد الذى قـُطع مع موسى والذين معه عند جبل حوريب .. وهكذا .
      كل هذا معلوم ومعروف لليهود المثقفين ، ومنهم من حضر المجلس الصهيونى الأول ، والثانى (29 أغسطس 1997) ، والذين يقال إنهم مُلحدون ، والحقيقة تعنى أنهم لا يؤمنون بصورة الإله الرب المبينة فى التوراة ، والتى تجعله أقرب إلى الجنىّ منه إلى الإله للأكوان وللإنسان ، كما أنهم لا يؤمنون بما ورد فى التوراة عن الشعب المختار أو عن أرض الميعاد أوعن إقامة الهيكل ، لكنهم خلطوا التراث الشعبى بالإضطهاد العنـْصرى بالآمال المتوقعة ليقيموا أيديولوجية محورها العبارة التى كان يرددها كل يهودى إلى غيره من اليهود ، فى أى مناسبة أو إحتفال ، حيث يقول (العام القادم فى أورشليم) .
    • مستقبل الشرق الأوسط ج2المستشار محمد سعيد العشماوي
      فى يوم 29 نوفمبر 1947 صدر عن الأمم المتحدة القرار رقم 181 بتقسيم أرض فلسطين إلى دولتين ، دولة عربية ودولة عبرية ، على أن تخضع مدينة القدس لإشراف دولى . وبصدور هذا القرار وقع زلزال عنيف فى منطقة الشرق الأوسط ، كانت له تداعيات كثيرة وتوابع خطيرة ؛ منها إنفجار بركان الإسلام السياسى ، الذى ألهب بحممه بلاد الشرق الأوسط ، ثم إنتشر اللهب وتدفقت الحمم حتى وصلت إلى كل أركان المعمورة .

      كانت السلطنة العثمانية تدعو اليهود دائما إلى الإقامة فى بلادها ، تركيا والبلاد العربية ، حتى تستفيد من ملاءتهم المالية ، وقدراتهم الإقتصادية ، وإتصالاتهم السياسية . وعندما رفض السلطان عبد الحميد أن يمنحهم حق إنشاء دولة على أرض فلسطين ، فقد كان ذلك لأسباب عدة ؛ منها تخوفه من أن تقطع هذه الدولة طريق السلطنة إلى البلاد العربية الخليجية ، وبخاصة أرض الحجاز التى كانت السلطنة قد بدأت تـُعنى بها للتأثير على المسلمين ، بإعتبارها حامية للحرمين . ومنها عدم رغبته فى إستقلال اليهود بدولة ، قد تنافسه عند تحقيق أهدافها ، ولا تساعده فى تنفيذ أغراضه ؛ هذا بالإضافة إلى عزوف السلطنة العثمانية عن الموافقة على إستقلال أى قوم أو بلد عنها ، حتى فى منطقة البلقان ، كى لا تطالب شتى القوميات وباقى البلاد بالإستقلال ، وفقا لنظرية الدومينو ، التى تؤدى إلى وقوع القطع تباعاً متى وقعت واحدة منـْها .

      هذه الرغبة العارمة من السلطنة العثمانية ، خاصة بعد ضعفها فى إستجلاب اليهود إلى أرض السلطنة ، كانت من أهم العوامل التى شجّعت اليهود على إختيار إقامة دولتهم على أرض فلسطين ، حيث تكون أورشليم عاصة لهم ، وهى البلد والإسم الذى ظلوا يحلمون به ، منذ حدث الشتات الثانى ، إثر تدمير الرومان للمدينة سنة 70م .

      عادة ما يقال فى ذلك إن الذى كان يشجع اليهود على الهجرة إلى السلطنة العثمانية ، ودافعهم إلى التطلع والعمل على إنشاء دولتهم فى فلسطين ، هم الدونمه (Donmeh أى المرتدون) وهم يهود كانوا قد دخلوا فى الإسلام تقية أو إيهاما ، وظلوا فى دواخلهم على يهوديتهم ، ومن ثم سُمّوا بالمرتدين عن اليهودية . ونتيجة لادعائهم الإسلام فقد وصلوا إلى مراكز رفيعة فى الجهاز السياسى والإدارى والتشريعى للسلطنة .

      هذا القول فى الحقيقة أدنى إلى الإشاعة المزمنة (Fixed Rumor) منه إلى الحقيقة المؤكدة . ذلك أن نظام السلطنة العثمانية هو الذى كان يعمد ، باضطهاد أو إهمال أو تهميش غير المسلمين ، إلى دفعهم دفعا إلى إدعاء الإسلام ، تقية أو إيهاما ، وهم يحملون داخلهم عقائدهم القديمة ، فيعملون فى تحايل وإنتقام على هدم الإسلام من الداخل وتقويض النظام من أساسه ، وهو أمر حدث منذ بداية الإسلام ، على يد بعض اليهود مثل عبد الله ابن سلام ، وكعب الأحبار ، وعبد الله ابن سبأ . فالخطأ هنا هو خطأ النظام ، وليس خطأ من اضطر إلى الدخول فيه مكرها ، فدخل على دخَلْ ، لينتقم ويحطم ويدمر ، بهدوء وفى تؤدة . يضاف إلى ذلك أن جماعة الدونمة كانت معروفة للسلطة العثمانّية بالإسم ، فلماذا لم تراقبها وتقَلّم أظافرها ، بدلا من أن تترك لها العنان وتضعها فى الصدارة من السلطة وفى أماكن حساسة بها ، حتى تمكنت من أن تحقق أهدافها ، فتقوض السلطنة وتستولى على أرض فلسطين ؟ هذا فضلا عن أنه لم يثبت حتى الآن وجود سببية ، وثيقة ووحيدة ، بين الدونمة وبين كل ما يتـّصل بإنشاء إسرائيل ، خاصة وأنه من المعروف عن العرب والمسلمين إلقاء الخطأ على أى سبب أو شخص أو سلطة أخرى ، وعدم الإعتراف بالخطأ أو الإقرار بالجرْم .

      خلال الحرب العالمية الأولى إكتشف حاييم وإيزمان (أول رئيس لدولة إسرائيل فيما بعد) مادة الأسيتون الصّناعى التى كانت تفيد فى صناعة البارود فائدة كبيرة ، فقدم إختراعه إلى بريطانيا التى إستفادت منه فائدة عظمى . وإلى جانب ذلك فإن اليهود وقفوا مع بريطانيا وتخلوا عن ألمانيا ، فدمروها إقتصاديا ، ومن ثم إنهارت بينما كانت متفوقة عسكريا على كل الجبهات (وهذا هو أساس العداوة بين النازى واليهود) . ولكى تكافىء بريطانيا حاييم وإيزمان على مساعدته لها ، وتفتح شهية اليهود لدعمها ، بتقويض الإقتصاد الألمانى سنة 1918 ، فقد أصدرت وعد بالفور فى 2 نوفمبر 1917 الذى أبدى عطفها على إنشاء وطن قومى لليهود فى فلسطين .

      مع أن اليهود ليسوا جنـْسا واحد بل أجناسا متعددة ، وليسوا ذوى ثقافة واحدة بل ثقافات متنوعة ، ولا يتحدثون لغة واحدة بل لغات متفرقة ، ولا يقيمون فى إقليم واحد بل فى أقاليم متشتتة ، وهم على اليقين ليسو بنى إسرائيل الوارد ذكرهم فى التوراة ؛ مع كل ذلك ، فقد تحدد لهم الهدف بأن يقيموا دولة إسرائيل فى أرض فلسطين ، وتكون أورشليم هى عاصمتها . وقد برروا ذلك إبتداء بالرغبة فى منع إضطهاد الشعوب الأخرى لهم .

      ومنذ أوائل القرن الحالى (كما بينّا فى دراسة لنا عنوانها : المسألة الفلسطينية) عمل المهاجرون اليهود بشتى الوسائل على إنشاء دولة لهم ، كان عَلَمها موجودا ، وحدّها مخطوطا ، وهدفها مرسوما . هذا فى حين أن عرب فلسطين (مسلمون ومسيحيون) كانوا لاهين بغير هدف ، ودون عزم ، وبغير دوام . أما باقى البلاد العربية فكانت تناضل فى سبيل إستقلالها . فالقومية العربية ظهرت وتوطدت وتوكدت فى بلاد الشام والحجاز لتناوىء القومية التركية (الطورانّية) وتصل إلى الإستقلال عنها . ومصر كانت فى شغل شاغل بمكافحة الإحتلال البريطانى لتحصل على الإستقلال التام (أو الموت الزؤام) ! .

      فى 24 مارس 1945 وقعت سبع بلاد عربية ميثاق إنشاء جامعة الدول العربية ، وكانت مصر أولها . وسعد العرب جميعاً بإنضمام مصر إليهم بما يعطى العروبة دفعة قوية ، خاصة وأن مصر كانت منارة العالم العربى والعالم الإسلامى ؛ وكان دخلها القومى ثلاثة أمثال الدخل القومى لكل البلاد العربية مجتمعة . وبدلا من أن تعمل الجامعة العربية على مضاعفة الجهد العربى ووضعه فى أطر علمية وقنوات عملية ، فقد شتتت جهودهم وبددت طاقاتهم وضاعفت خلافاتهم . وحين صدر قرار الأمم المتحدة بتقسيم أرض فلسطين ، لم يكن لدى الجامعة العربية أى دراسات علمية ولا أى إحصاءات رسمية ولا أى بيانات دولية ، فسارع العرب جميعا برفض قرار التقسيم دون دراسة لعواقبه ونواتجه ، ولا لمعنى رفض القرار وتداعياته ؛ فكانوا بذلك أول دول ترفض الشرعية الدولية وتخرج عليها ، مع أنها عاطلة من أى قوة فعالة عارية من تأثير دولى .

      وكان هدف قادة إسرائيل أن يدفعوا العرب إلى محاربتهم ، حتى يسقط قرار التقسيم بفعل العرب ، وأن يدفعوا العرب إلى طرد اليهود المقيمين فى بلادهم حتى يهاجروا إلى إسرائيل فتقوى بهم وتتكاثر .
      وسعت إسرائيل إلى تحقيق أهدافها ، بالحيل والدهاء ، من خلال إختراق الجبهة العربية ، والمصرية بالذات .

      فالحكومة المصرية لم تكن راغبة فى دخول أى حرب رسمية فى فلسطين ، إلى ما قبل 15 مايو 1984 بقليل . لكن حدث إختراق للحكومة من خلال الملك فاروق من جانب والضغوط الشعبية من جانب آخر . فلقد صورت بعض أجهزة المخابرات الأجنبية للملك فاروق أن الحرب فى فلسطين سوف تكون نزهة تمنحه نصرا ومجداً ، يوطد مركزه فى مصر ، ويهيؤه لخلافة المسلمين ، كما كان يتمنى ويرغب هو ، ووالده الملك فؤاد من قبله . ولأن الحكومة آنذاك كانت حكومة أقلية لا تستند فى قيامها وإستمرارها إلا على إرادة الملك ، فقد صدعت لرغبته . وفى الوقت ذاته ، إخترقت أجهزة المخابرات الأجنبية قيادة الإخوان المسلمين التى سيّرت المظاهرات تهتف بالجهاد وتعبىء الشعور العام للضغط على الحكومة ، كما أنها زرعت القنابل فى المؤسسات التجارية والصحفية المملوكة ليهود ، مما دفع اليهود المصريين إلى الهجرة إلى إسرائيل ، عبر بلاد غير عربية .

      فور إعلان قيام دولة إسرائيل صباح 15 مايو 1948 ، وعلى الرغم من إعتراف كل من الولايات المتحدة والإتحاد السوفييتى بها كدولة ، فإن العرب دخلوا الحرب ضدّها ، بقالة إن هذه الحرب لتأديب العصابات الصهيونية ، ودون أى دراسة جدية ، ولكن بإسلوب المظاهرات العشوائية ؛ مع أن إسرائيل كانت تملك جيشاً أكثر عدداً وأوفر عتاداً من كل الدول العربية . يضاف إلى ذلك أن بعض الدول العربية لم تكن ترغب فى محاربة إسرائيل ، بل كانت على إتفاق سرى معها ، وقد دخلت الحرب مرغمة ومتظاهرة تحت تأثير الضغوط الشعبية ، فأساءت بذلك إلى العمل العربى ، الذى كان يفتقد التخطيط والتنظيم ، وساعدت على وقوع الكارثة العظمى . فقد أدت الحرب إلى هزيمة العرب ، وإلى تصدع النظم السياسية ، وإلى إبتداء عهد الإنقلابات العسكرية ، وإلى مدّ موجة الإسلام السايسى .

      كانت بريطانيا شديدة الإهتمام بقناة السويس ، بإعتبار أنها كانت حتى فترة قريبة ، الشريان الرئيسى الذى يربط الغرب الأدنى ومنه بريطانيا ، بالشرق الأقصى ، وفيه الهند جوهرة التاج البريطانى . وكانت تدير قناة السويس شركة مصرية إسماً وفرنسية بالفعل . وعندما قامت ثورة 1919 خشيت كل من بريطانيا وفرنسا من شدة الشعور الوطنى المصرى وتخوفت من أن يؤدى وصول القوى الوطنية إلى الحكم وإستمرارها فيه إلى ضرب مصالحها فى مصر ، وتأميم قناة السويس . وهو تخوف كان فى محله ، فقد طالبت بعض القوى الوطنية سنة 1950 بتأميم قناة السويس ، وتم التأميم بالفعل فى 26/7/1956 (ويلاحظ أن هذا التأميم كان مجرد إستيلاء مادى على الخط الملاحى ومبانى الشركة ، وبقيت أسهم الشركة فى أيدى المساهمين وفى تعامل البورصات ؛ بحيث كان يمكن – لو لم تشترى الحكومة المصرية هذه الأسهم – أن يستطيع حملة الأسهم توقيع حجوزات دولية على البواخر والطائرات المصرية فى أى مكان من العالم ) .

      فى الإسماعيلية ، حيث يوجد المقر الرئيسى لشركة قناة السويس كانت المخابرات البريطانية والفرنسية تتركز وتنتشر ، فالتقطت شابا حديث السن ، محدود الثقافة ، قليل الخبرة ، شديد الطموح ، هو حسن البنا (1906-1949)- فلقد كان هذا الشاب (22 سنة) مدرس الخط واللغة العربية ، يجتمع فى مقهى بالحى العربى ببعض العمال ليحدثهم عن أمجاد الإسلام وضرورة تطبيق الشريعة ، بنفس اللغة ، بل والألفاظ التى بدأت بها السلطنة العثمانية ، فى عهد عبد الحميد الثانى (1842-1918) ثم نقلها عنها محمد رشيد رضا (1865-1935) وأخذها عنه رواد مدرسة المنار ، ومنهم حسن البنا .
      بدراسة واعية ، أدركتْ أجهزة المخابرات أن التّدين السياسى هو أفضل وسيلة لتبديد الشعور الوطنى ، وصارت هذه القاعدة هى أساس عمل المخابرات الغربية والإسرائيلية ، حتى اليوم . هذا التدين يقوم على تسييس الدين وتحزيب الشريعة وتلفيق الشعارات.

      فعندما يقال إن "القرآن دستورنا" فإن هذا الشعار يقوض الإتجاه لوضع دستور وطنى (مع أن القرآن لا يتضمن أى قواعد قانونية تحل محل الدستور وتغنى عنه ، وعلى الرغم من أن أغلب الدول الإسلامية ، ومنها إيران الإسلامية تتخذ لنفسها دستوراً) . وحينما يقال إن "الرسول زعيمنا" فإن ذلك يعنى نفى أى زعامة مدنية لآى زعيم ، مع أن الرسول ليس حيا ليتزعم الناس ، ومع أنه ليس زعيم أمة بل نبى العالمين . وحينما يقال لابد من تطبيق الشريعة ، فإن ذلك يعنى فى الحقيقة تقويض النظام القانونى ، لأن الشريعة ليست مجرد أحكام قانونية (توجد فى 80 آية من مجموع 6000 آية فى القرآن) لكنها إسلوب حياة . وعندما يتم التركيز على الإخوة الدينية ، فإن هذا ينفى مبدأ المواطنة الذى يقيم المساواة بين جميع المواطنين ، مهما إختلفت عقائدهم . فشعارات الإسلام السياسى فى واقع الحال ، كانت تقويضاً للدولة المدنية وتعويقا للمجتمع المدنى ، ينتهى إلى وضع القدرة الإلهية فى يد المرشد أو الأمير أو الإمام . لذلك فقد إنتهى المرشد الأول للإخوان إلى أن يقول ، "من أطاعنى فقد أطاع الرسول ، ومن يطع الرسول فقد أطاع الله" ، وبهذا صارت طاعته هى طاعة الله ، وإرادته هى إرادة المولى سبحانه ، وفعله هو قدرته عز وجلا .

      وجدت جماعة الإخوان المسلمين تأييداً شديداً من سلطة الإحتلال البريطانية ، ومن القصر الملكى ، ومن أحزاب الأقليات ، حيث رأوا جميعاً بقصر نظر بالغ ، أن هذه الجماعة هى أفضل تهديد لحزب الوفد الذى كان يمثل الإتجاه الوطنى والشعبى آنذاك ، ولم يحْسبوا نتائج تسييس الدين وتديين السياسة بعد ضرب الشعور الوطنى . وعمدت جماعة الإخوان إلى كثرة التمحك بالقصر الملكى ، وإلى عدم إتخاذ أى إجراء فعلى لمقاومة الإحتلال البريطانى ، بل على العكس فقد سعت إلى خدمة القوى التى تقول إنها إمبريالية أى إستعمارية .

      فلقد ثبت من الوثائق الأمريكية التى نُشرت أن مرشد الأخوان المسلمين عرض سنة 1947 على المستشار السياسى بالسفارة الأمريكية تكوين مكتب لمكافحة الشيوعية ، يكون تمويله المالى من الولايات المتحدة ونشاطه الفعلى لأعضاء جماعة الأخوان المسلمين . ورفضت الولايات المتحدة هذا العرض لكنه نبّهها فيما بعد إلى إستغلال المشاعر الدينية ، والإسلام السياسى ، فى ضرب الماركسية وتفكيك الإتحاد السوفيتى ، وهو ما حدث بالفعل ، فى أوروبا وفى أمريكا الوسطى والجنوبية ، وفى الشرق الأوسط .

      استشعر مرشد الإخوان الأول قوة وهمية ، حين ساعده إسماعيل صدقى رئيس الحكومة بشتى الوسائل عامى 46 ، 1947، وبعدما جمع أسلحة كثيرة بدعوى إستعمالها فى حرب فلسطين - مع أنه كان يهدف بها إلى تنفيذ إنقلاب يصل به إلى السلطة - ونتيجة للشعور الموهوم ، فقد تعجل الصدام مع السلطة ، فإنتهى الأمر بإغتيال رئيس الحكومة وإغتياله ، وصار الصدام مع السلطة هو سمة الإسلام السياسى فى كل بلد ، يقع عندما يتعجل قادته الوصول إلى السلطة ، ويستشعروا فى جماعتهم قوة موهومة .

      نتيجة للهزيمة فى حرب فلسطين 48 ، 1949 ، وأثرا للدعايات الوفدية والتحريضات الماركسية ، فقد نشأ شعور مضاد للملك والملكية ، قوى مع الأيام حتى إنتهى الأمر بوقوع الإنقلاب العسكرى فى 23 يوليو 1952 . وقد وجد تأييداً شعبياً على مظنة أنه سوف يحقق الديمقراطية بإزاحة الملك الذى يعرقل تحقيقها ، وسوف يحقق النصر فى فلسطين بما يشفى الكرامة الوطنية الجريحة نتيجة هزيمة 48 ، 49 ، وسوف يحقق العدالة الإجتماعية التى جرى الظن بأنها سوف تتحقق تلقائياً بمجرد تقليص ملكية كبار ملاك الأراضى الزراعية .

      نتيجة لعمل المخابرات المخطط بدقة ، فقد إستطاع عميل لها أن يقنع سلطة الإنقلاب المصرية بعقد صفقة سلاح مع الإتحاد السوفييتى والإدعاء بأنه من تشيكوسلوفاكيا 1955 . ووقعت مصر فى الشرك ، فبدأ دفعها خطوة بعد خطوة نحو الإتحاد السوفييتى ليحدُث إستقطاب فى الشرق الأوسط بين الإتحاد السوفييتى والولايات المتحدة ، تستطيع من خلاله هذه أن تساعد إسرائيل بالسلاح وغيره . ومخطىء من يظن أن الحكومات تسعى دائما إلى السلام وإلى عدم إيجاد نزاعات أو صدامات ، ذلك أن الصحيح أن بعض الحكومات ، ولو كانت الحكومات الخفية (أى أجهزة المخابرات والقوى الحاكمة التى تتضامن معها) تعمل دائما على إيجاد بؤر للنزاع ، وخطط للصّراع ، ولو كانت مفتعلة ، خاصة إذا كانت دولا منتجة للسلاح ، ترمى إلى تجربة الجديد منه ، وتهدف إلى بيع الكثير من إنتاجها .

      ظهرت فى مصر كتب أشير فيها إلى أن أعضاء مجلس قيادة حركة الجيش (التى قيل فيما بعد إنها ثورة) كانوا جميعاً أعضاء فى جماعة الإخوان المسلمين ، أو على الأقل موالين لها ، مع أن بعضهم كان له إنتماء مزدوجاً إلى الإخوان المسلمين وإلى التنظيمات الماركسية (وخاصة منظمة حدتو) . وقدتصور قادة الإخوان المسلمين أن هؤلاء الضباط قاموا بإنقلاب ليهيؤا طريق السلطة أمامهم ، غير أن الضباط الذين ملكوا أزمّة السلطة وقبضوا على أعنّة الحكم رفضوا التخلى عن أماكنهم لقادة الإخوان المسلمين ، فوقع بين هؤلاء وهؤلاء صراع على السلطة إنتهى بإزاحة جماعة الإخوان عن مراكز السلطة فى مصر ، وإتجاه الحكم العسكرى إلى الدكتاتورية . ونظراً للشعبية الواسعة للرئيس عبد الناصر فى العالم العربى نتيجة تأميم قناة السويس ، فقد صار زعيم القومية العربية ، التى ظلت تسير بخطى سريعة نحو الإتحاد السوفييتى ، راغبة أو مدفوعة أو مجذوبة .

      بعدما علا سهم القومية العربية ، وزادت شعبية الرئيس عبد الناصر ، استدرجته إسرائيل إلى الحرب ، فوقع فى الفخ وأغلق مضايق تيران وخليج العقبة ، وكان قد منح إسرائيل سرّا حق المرور فيها ثمنا لإنسحابها من سيناء إثر العدوان الثلاثى 1956 . ونتيجة لهزيمة 5 يونيو 1967 فقد سقطت القومية العربية وسقط زعيمها ، مما فتح الباب على مصراعيه للقومية الإسلامية ، أو الايديولوجيا الإسلامية ، أو الإسلام السياسى .

      ففى أول خطاب له بعد الهزيمة قال الرئيس عبد الناصر : إن الشعب يريد الدين ، وأنا معه .وكانت هذه العبارة إشارة إلى إعراض الشعب عن الماركسية وعن صداقة الإتحادالسوفييتى ، وإلى إتجاه الرئيس إلى التكفير عن مسلكه والإلتجاء إلى الدين . ونزلت إلى وحدات ضباط وجنود الجيش كتائب من الوعاظ تؤكد على فكرة الجبرية فى الإسلام ، وعلى أن الهزيمة كانت قضاء مكتوباً على مصر منذ الأزل ، ولا حيلة فى منعها أو وقفها ، لكن المسلمين موعودين بالنصر ، والنصر آت عما قريب على يد الزعامة السياسية . وكان القصد من هذه الدعاية واضحا ، هو أن لا دخل لهذه الزعامة فى وقوع الهزيمة لأنها قضاء الله وقدره ، الذى لا يمكن دفعه ، وأن هذه الزعامة سوف تحقق النصر الذى وعد الله به . بهذه الدعاية هدأت نفوس الضباط والجنود ، وضمنت القيادة سكوت الناس عن محاسبتها . لكن هذه الدعاية بالذات كانت ذات أثر خطير عل عقليّة الشعب ونفسيته وإرادته ، خاصة بعد أن زادت الجرعة الدينية الجبرية زيادة كبيرة فى التليفزيون والإذاعة والصحافة والمطبوعات ؛ وبهذا بدأت فورة الإسلام السياسى ، بعد أن مهدت لها الهزيمة العسكرية ، وسقوط القومية العربية ، وإنتشار الأفكار الجبرية .

      وعندما تولى الرئيس السادات سلطة الحكم 1970 عارضه الناصريون والماركسيون ، وكانت الوصفة جاهزة ، أن يستعين بالإسلام السياسى ضد خصومه ومعارضيه ، وبهذا ضاعف من جرعة وقوة الإسلام السياسى . ثم وقعت حرب أكتوبر 1973 التى أدت إلى إرتفاع أسعار البترول من 4 أو 5 دولارات للبرميل إلى 40 أو 45 دولارا (للبضاعة الحاضرة فى ميناء روتردام) . وذاق العالم الأمرّين خلال الحرب وبعدها نتيجة وقف العرب ضخ النفط ، وأثرا للإضطرابات الإجتماعية والإقتصادية لمضاعفة أسعار النفط ، فى الوقت الذى زادت فيه ثروة وقوة البلاد الخليجية ؛ حتى أن المملكة السعودية حققت فائضا نقديا فى عشر سنوات أكثر مما حققته الولايات المتحدة الأمريكية فى مائتى سنة .

      هذه الثروة الهائلة والطائلة التى حطت على عرب الخليج ، وليبيا ، دون عمل أو جهد ، لم تـُوجه لصالح الإنسانية أو حتى فى الإتجاه الصحيح لمصلحة هذه البلاد وأبنائها . ذلك أنها لم تُستخدم فى بناء حضارة خاصة بالإسلام أو بالشرق الأوسط ، ولا فى الإسهام الجدّى فى الحضارة العالمية القائمة من حيث الإبداع والإنتاج ، ولا أقامت معامل بحوث ضخمة أو مراكز دراسات شاملة . بل ولا عمدت إلى إحداث تنمية بشرية حقيقية بين أبنائها ، أو إقامة بنية إجتماعية قوية فى بلادها ؛ ولا قدمت معونة فعالة إلى البلاد العربية ذات الكثافة والكفاية السكانية مثل مصر وسوريا وتونس والمغرب . كل ما حدث هو إقامة بعض المدن ، على نمط غربى صرف ، وبعضها بغير بنية تحتية متكاملة ، وزيادة نمط الإستهلاك زيادة بالغة ، كانت ذات أثر سلبى على أبنائها وعلى أبناء البلاد المجاورة والمتاخمة ؛ مما أحدث إستفزازا لدى كثير من الشعوب . ناهيك عن الإنفاق السفيه فى أماكن غير لائقة أو أعمال غير مشروعة .

      أما فى الجانب الدينى ، فقد حدث إنفاق طائل على المظهر دون الجوهر وعلى الشكل دون الحقيقة ؛ فزاد بناء المساجد زيادة كبيرة ، حتى فى بلاد أوروبية ، وبصورة لا تتناسب مع عدد المسلمين ، بل لمجرد إثبات الوجود ، ولنشر التدين السياسى والتحزب المعتقدى ، الذى ينتهى إلى ثقافة الكراهية (Hatred Culture) حتى ضد المسلمين أنفسهم .

      لقد كان عقد السبعينيات وعقد الثمانينيات هما عقدا الإسلام السياسى ، فقد تضخم وتورم فى مصر والجزائر والسودان وبلاد أخرى كثيرة ، فضلا عن إنتشار شعاراته ومقولاته فى كل أنحاء المعمورة ، عبر الكتب المدعومة والمراكز التى تنفق عليها دول معينة ، لتوطيد مكانتها وتجيد طرقها . وقد أيّد هذا الإسلام السياسى وعضده جهاز المخابرات الأمريكى (CIA) وجهاز المخابرات الإسرائيلى (الموساد) ، وأقيمت له فى حقبة الثمانينيات أكثر من مائة مؤتمر فى كل أنحاء العالم ، مما أوجد له شبكة عالمية ومالية قوية ، وتبنت بعض الدساتير العربية والإسلامية فكرة تطبيق الشريعة ، بل وعمدت السلطة فى مصر إلى محاولة تقنينها ، وكأنها بذلك تقر عدم شرعية نظامها الدستورى والقانونى ، وقامت الثورة الإيرانية (1979) فبدأت دفعة جديدة ، قوية وثورية ، للإسلام السياسى فى العالم أجمع . ثم حدث التدخل السوفييتى فى أفغانستان ، فكان بداية لحرب طويلة لجماعات الإسلام السياسى ، بمن سُموا الأفغان العرب ، ضد الإتحاد السوفييتى ، وفى دعم ورعاية من المخابرات الأمريكية ، حتى بدا الأمر وكان الإسلام السياسى سوف يقبض على السلطة فى كل مكان فى العالمين العربى والإسلامى .

      ثم حدث العجب ، حين دارت عجلة الحظ ، فبدأ هبوط الإسلام السياسى وزوال شدته ، لكن مدّه وجزره أثـّر وسوف يؤثر على مستقبل الشرق الأوسط زمنا طويلاً .
      منقول عن عرب تايمز
    • مستقبل الشرق الأوسط(3) المستشار محمد سعيد العشماوى

      يتيقن الأطباء أن المرء ليست به آفة عقلية، إن كان غير شديد اليقين بقواه العقلية، ومعارفه العامة، وكان يتصور إحتمال أن تطرأ على تفكيره علل، وأن تكون معلوماته قابلة للشكوك، تجوز مناقشتها وتغييرها أو تبديلها أو تعديلها.
      ويدرك الناس أن الفرد قد نضج ولم يعد طفلا، إن هو لم يظل متعلقاً بالتدليل، راغبا فى المديح، إنما يقبل التوْجيه ويحتمل النقد.
      وشأن الجماعات شأن الأفراد، يمكن أن تظل فى حالة طويلة من الإضطراب الفكرى والإختلاط العقلى والقصور النفسى، إن هى أضفت اليقين على كل معلومة لديها وكل مفهومة عندها، حتى لو كانت قد تلقتها سماعا، دون تحقيق أو تدقيق أو توثيق، فرفضت أى جدال فيها، وقاومت أى نقاش بشأنها وكذلك فإن الجماعات (أو الأمم) تكون غير سوية وغير ناضجة، إذا كانت تسرف فى طلب المديح وتكرار الفخر، وترفض قبول أى حقيقة أو سماع أى نقد.
      هذه الجماعات غير السوية وغير الناضجة، أى الجماعات الطفولية القاصرة، تصعب – إن لم يكن من المستحيل – مواجهتها بالحقائق أو مكاشفتها بالصواب، ذلك أن هذه الجماعات تتعلق بالتدليل وتتمسك بالتفاخر وتميل إلى سماع ما يرضيها، وما يدغدغ عواطفها، أو يهدهد مشاعرها. وبذلك تظل فى قصور دائم، وطفولة مستمرة، ينـْطلى عليها الزور والبهتان، وتتمسك أبدا بالخطأ والبطلان، ما دامت عقولها قد غابت فى الآذان، وهى الصورة التى عبّر عنها الشاعر بدقة، حين قال وهو يصف شعبا أو جمعا، من هذه الجماعات (الأمم) فقال عنه، عندما تصور أن الهزيمة نصر:
      أثر البهتان فيه
      وانطلى الزور عليه
      يا له من ببغاء
      عقله فى أذنيه
      بعد عرض واقع الشرق الأوسط، لابد من التعرض لمستقبله، لبيان ما يمكن أن يجد فيه أو يطرأ عليه، وفى ذلك، فإن الأمر سوف يكون مثار جدال ومجال نقاش، خاصة مع هؤلاء الذين ينحّون العقل والمنطق جانبا، ويجعلون الحكم للعواطف والشعارات.
      فى العصر الحديث بدأ عصر الدول الوطنية يظهر ويسود، بعد الثورة الفرنسية (1789). ومع ازدياد عدد الدول الوطنية ورسوخ قدمها، بدأت تظهر فكرة سيادتها (Sovereignty) وهى فكرة تعنى أن تكون الدولة ذات سيادة كاملة على أرضها وشعبها، بل على كل من يقيم على أرضها أو يعبر خلالها. والسيادة تكون فى الأصل للدولة (State) وليس للنظام (Regime) الذى يسيطر على مقاليدها أو الحكومة أو الإدارة (Administration , Government) التى تمارس السلطة فيها.
      غير أن سيادة الدولة لم تكن سيادة مطلقة أبدأ، ذلك أنها تتقيد بالقواعد الدولية، مثل ترسيم الحدود بينها وبين غيرها من الدول، والتحرك فى نطاق محدد من الأميال فى البحار التى تطل عليها، وهكذا. يضاف إلى ذلك أن المعاهدات الثنائية والمعاهدات متعددة الأطراف، كانت وما زالت تفرض قيوداً على سيادة الدول التى تقع عليها.
      وقد حدث إبّان حكم السلطنة العثمانية أنها رفضت توقيع معاهدات ثنائية مع دول غير إسلامية، بإدعاء عدم جواز تعاقد المسلم مع غير مسلم. ومن ثم فقد أصدرت فرمانات (مراسيم) بإمتيازات لبعض مواطنى البلاد الأوربية لتسهيل الإنتقال والتجارة. ومع الوقت صارت هذه الأمتيازات (Capitulations) عبئا على الدولة العثمانية، والبلاد التابعة لها كمصر، إذ صارت تشكل قيوداً على سيادتها لا يقابلها أى حقوق لها (حتى إستطاعت مصر إلغاء الإمتيازات الأجنبية بمقتضى معاهدة مونترو 1937).
      وفضلا عما سلف، فإن مبدأ الأممية (Internationalism) الذى إعتنقته وبشرت به الماركسية، كان لا يقيد من سيادة الدول الأخرى فحسب، بل كان يعمل على تقويض النظم السياسية والإجتماعية والإقتصادية فيها. وكذلك الشأن فى مبدأ القوميات، فالقومية العربية مثلا، كانت تخاطب الشعوب بعيداً عن حكوماتها وترى أن سيادة القومية أولى من سيادة الدولة. ومبدأ تصدير الثورة الذى تبنته الثورة الإسلامية كان يلتزم نفس النهج. ولما قويت نظم الحكم الأيديولوجية والدكتاتورية استلبت لنفسها مبدأ سيادة الدولة، وخالطت وطابقت بين النظام (Regime) والدولة (state) لتعتبر أنها هى الدولة، مع أنها نظام عارض قد يكون، وغالبا ما كان مضاداً لصوالح الدولة ومعارضاً لمصالح الشعب. ولعل أول مثل منطوق فى ذلك هو ما قاله لويس الرابع عشر ملك فرنسا حين أدمج الدولة فى شخصه فقال : أنا الدولة (L’ Etat C’ est Moi). وفى العصر الحديث، فإن النظام الفاشى فى إيطاليا، والنظام النازى فى ألمانيا، إختزل الدولة فى تنظيمه أو فى زعيمه، ليكون هذا أو ذاك هو الدولة، وفى حال كهذه، يصعب إضفاء السيادة على زعيم أو حاكم أو نظام ليتمتع بكل حقوق السيادة المقررة أصلاً للدولة، فيعبث بها، ويسىء إستخدامها حتى ضد أبناء الوطن وعامة الشعب. فالضمير الإنسانى يتأذى بلا شك حين يقوم النظام النازى بإعدام مواطنين فى بلده، ظلما وعدوانا، ويحتمى فى عمله ذاك بمبدأ السيادة، كذلك فإن ذلك الضمير ومبادىء العدالة تتضرر بشدة حين يضرب النظام العراقى أبناء شعبه بالغازات السامة (حلبجة 1988). وحين يطلق النظام الصربى (1999) فرق الإعدام لتقوم بأعمال الإغتيال الجماعى للجنسيات والأعراق غير الصربية من شعبها، ثم يتستر الحكام هنا وهناك بمبدأ السيادة ليمنعوا أى رقابة على أعمالهم الإجرامية، ويحولوا دون أىّ مساءلة عن إغتيال الأبرياء.
      يضاف إلى ذلك أن سهولة وتكرار قيام بعض المجموعات بإنقلابات عسكرية، يستولون بعدها على أزمّة الحكم وأعنّة السلطة، ثم يزيفون إستفتاءات أو إنتخابات لإضفاء الشرعية على أوضاعهم، لا يمكن فى التقدير القانونى السليم أو المفهوم الدولى الصائب، أن يخولهم حق السيادة المطلق المقرر أصلاً للدولة، وبالتالى للمؤسسات التى تصدر عن الشعب فى حرية وشرعية، وتعبّر عم مصالحه وصوالح الدولة فى وعى وإلتزام. وعندما قامت عصبة الأمم (1919) كانت تهدف إلى أن تحدّ من سيادة أعضائها بما يحول دون قيام حرب عالمية أخرى، ولما أنشئت الأمم المتحدة (1945) قصدت إلى ذلك الهدف، وأضافت أهدافاً أخرى لتنمية الشعوب الفقيرة، ونشر الثقافة الرفيعة، وإيجاد معايير علمية للزراعة، والعمل على حفظ الصحة العامة، وبذلك وُجدت إلى جانب الجمعية العامة للأمم المتحدة، ومجلس الأمن، منظمات أخرى غير سياسية، مثل منظمة العلوم والثقافة (Unesco)، ومنظمة الزراعة (Fao)، ومنظمة الصحة العالمية (Who)، وهكذا. وهذه المنظمات تعمل على مساعدة الدول، لكنها فى سبيل تحقيق أهدافها قد تلزمها بعض القواعد أو الإجراءات التى تحد من سيادتها أو تعتبر فى القليل قيوداً عليها.
      ونظر لرغبة بعض الدول فى إحداث تنمية إقتصادية ترفع من المستوى الإجتماعى والأقتصادى لأفراد شعبها، مع عدم وجود أموال كافية لديها، فإنها تضطر إلى الإقتراض من الحكومات الغنية، ومن المنظمات الدولية، مثل صندوق النقد الدولى (IMF)، وتقبل فى ذلك الشروط التى تـُوضع لها والقيُود التى تـُفرض عليها، فى تحديد الموارد وبيان المصارف، وعرض الميزانية العامة، وفرض الضرائب بصورة مرسومة، وهكذا، مما إضطرت لقبوله كثير من البلاد النامية، بل قبلته الروسيا نفسها.
      وإلى جانب القروض فإن تشجيع الإستثمار الأجنبى لرفع المستوى الفنى والإقتصادى للشعوب، أدى ويؤدى إلى تنازل بعض الحكومات طواعية عن جزء من سيادتها.
      فمصر التى كافحت طويلاً لإلغاء المحاكم المختلطة، حتى ألغيت 1949، عادت وأصدرت القانون رقم 27 لسنة 1994 (21/4/1994). فى شأن التحكيم الدولى، وهو قانون يسمح للجهة المستثمرة بأن تلجأ فى حل منازعاتها مع الحكومة المصرية والأفراد إلى هيئات التحكيم الدولى فى جنيف، أى إن هذا القانون بديل عصرى للمحاكم المختلطة، يحد من سيادة الدولة المطلقة فى أن تتولى سلطتها القضائية الفصل فى كل المنازعات.
      وقد أدى تغير الظروف الدولية بسرعة متناهية، وتخلف بعض الحكومات عن مواكبة هذا التغيير، إلى أن تسْعى هذه الحكومات إلى طلب ما كانت ترفضه فى حقبة الخمسينات والستينيات، مثال ذلك أن البلاد العربية جميعاً كانت ترفض قواعد عسكرية أجنبية بها، غير أن بعض هذه الحكومات إضطر فى التسعينيات إلى قبول وجود قواعد عسكرية على أراضيها أو فى بحارها، وعرض إقامة مشاركة إستراتيجية مع دول عظمى، ودعوة هذه الدول إلى الدفاع عنها، بل دفعت الحكومات وما زالت تدفع قوائم حساب الجيوش والقواعد والأسلحة الأجنبية، وهذا كله مما يعتبر تغييراً جوهرياً فى مبدأ السيادة الوطنى.
      علا مدّ الإسلام السياسى وعلى ما سلف بيانه، منذ أوائل السبعينات حتى وصل إلى الذروة فى نهايتها، بدخوله إلى أفغانستان للحرب مع الولايات المتحدة ضد الإتحاد السوفيتى، ووقوع الثورة الإسلامية الإيرانية.
      ومن الثابت أن الولايات المتحدة هى التى نصحت شاه إيران بمغادرة إيران، ومنعت قادة القوات المسلحة الإيرانية من إطلاق القذائف على الطائرة التى أقلـّت الخمينى ومجموعته من فرنسا إلى طهران، وبذلك تكون فى الواقع قد مهدت الطريق للثورة الإيرانية، وسلمتها مقاليد الحكم بسهولة، ودون أى مقاومة، لكن هذه الثورة سرعان ما تنكرت للولايات المتحدة وسّمتها الشيطان الأكبر، وقامت ببعض الأعمال التى تؤثر دعائياً على الولايات المتحدة. ومن ثم فقد أعطتها الذرائع لضرب الثورة الإيرانية، فبدأ ذلك بحرب الخليج (الأولى 1980 – 1988) ثم تلى ذلك فرض الحصار على إيران، عسكرياً وإقتصادياً، حتى انخفضت مواردها، وصار دخل الفرد فى المتوسط ثلث دخله إبّان حكم الشاه، ومع الوقت تحللت الثورة الإيرانية، وخـَبَتْ قوتها، أمام المشكلات الإقتصادية، وبسبب تطلعات الشباب (وهو 70٪ من تعداد الشعب الإيرانى) إلى نموذج الحياة الأمريكية، ومظاهر الترف الحضارى، هذا فضلاً عن الرغبة العارمة لدى القوى المستنيرة، ومنها رئيس جمهورية سابق، وكل الشباب الإيراني، في إنشاء المجتمع المدني، الذي يقوم على سيادة الشعب وحكم القانون، فينفى مبدأ ولاية الفقيه ونظام الدولة الكهنوتية، وإذ كان الشباب هو المستقبل، فإن صراع القوى التقليدية مع القوى التحررية، محسوم من الآن لصالح الليبرالية والتحررية والمجتمع المدني. ولا عزاء لمن لعب على حبال التطرف زمنا أو رقص على مزامير التخلف طويلا.
      ولئن كان المد المتطرف قد بدأ جزره في إيران، فإنه سرى كاللهيب فى أنحاء كثيرة من العالم، نتيجة الجهل والتخلف، وأثرا لتمويل التهييج، حتى صارت ناره تشتعل فى أماكن كثيرة، من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، والعلة فى ذلك ترجع إلى أسباب متعددة يمكن دمجها وإيجازها لتيسير البحث وتسهيل الفهم.
      فى حديث لإحدى القنوات الفضائية قال الجنرال فادرينكوف رئيس القوات البرية السوفيتية فى أفغانستان (1979 -1985) إن الولايات المتحدة كانت تعلم أن الاتحاد السوفيتي سوف يدخل إلى أفغانستان، لكنها لم تذكر ذلك ولم تبد أي ملحوظة عنه ولم تصدر أي تحذير بشأنه، لأنها كانت ترغب بالفعل فى أن تدخل القوات العسكرية السوفيتية إلى أفغانستان،حتى تقع فى المستنقع، وحتى ترتب الولايات المتحدة النتائج التي استتبعت دخول القوات السوفيتية.
      وهذا القول من شخصية سوفيتية بارزة كانت فى ميدان الحرب وفى حومة الوغى، يؤكد ما ذكرناه من قبل من أن الحكومات لا ترغب بصفة عامة فى الهدوء والسلام، بل إن بعضها يعمد إلى اختلاق مجالات للتوتر وبؤر للصراع ومناطق للنزاع.
      وبالنظر إلى حديث القائد السوفيتي، وقياسا عليه، يمكن القول بأن المخابرات الأمريكية(A.I.C) والمخابرات الإسرائيلية (Musad) عملا معا على زيادة قوة الإسلام السياسي، لضرب القومية العربية ومنظمة التحرير الفلسطينية،اللتين كانتا مدعومتين بالاتحاد السوفيتي، ولضرب الحركات الماركسية فى الشرق الأوسط وغيره، وفى سبيل ذلك، فقد أقيم أكثر من مائة مؤتمر لجماعات الإسلام السياسي، عقد أكثرها فى الولايات المتحدة، مما أدى إلى أن تكون هذه الجماعات لنفسها شبكة اتصالات عالمية خاصة بها (Internet )،وشبكة معاملات مصرفية متعلقة بنشاطها، وهو الأمر الذي دعاها - كما هو الملحوظ دائما - إلى أن تتعجل الصراع مع من صنعوها وزودوها بالقوة والحماية. ففي خلال عقدي السبعينيات والثمانينيات كانت الحكومات تتفادى أي صدام مع جماعات الإسلام السياسي، بل كانت تقدم لها العون والمساعدة، وكان كتاب ودعائيو هذه الجماعات يتجنبون أي صراع مع الحكومات ويوجهون قذائفهم ضد المستنيرين ليخلو الجو لهم، ولا يكون هناك شخص غيرهم، ولا صوت غير صوتهم، ونظرا لأني عرفت هذه الحقيقة فى وقت مبكر، من اتصالاتي الشخصية، فقد نبهت بعض الأصدقاء من المستنيرين إلى ذلك، حتى نكون على بينة من حقيقة من يحمى جماعات الإسلام السياسى، ولنتفهم السبب فى أن الحكومات تعزف عن محاربتهم أو حتى تقليص نشاطهم،أو مجرد إعطاء المستنيرين أى مساحة للرد عليهم وتفنيد شعاراتهم، سواء فى الصحف أو فى أجهزة الإعلام. وفى حديث لى مع مجلة مصرية (فبراير 1990) ذكرت ما كنت قد علمته من أن جماعات الإسلام السياسى قد طلبت من المخابرات الأمريكية عام 1988 أن تسلمها السلطة فى كل البلاد العربية، والإسلامية، والإ فإنها سوف تشعل أبار النفط نارا، حتى تضرب المصالح العالمية. وإذ لم تتلق الجماعات الإسلامية ردا على مطلبها، لأن الغرب كان يعرفها جيدا وكان قد استخدمها بما يكفيه، ولم تعد له رغبة فيها، فقد انقلبت هذه الجماعات على الغرب بصفة عامة، وعلى الولايات المتحدة بصفة خاصة، وبدأت تعمل ضدهما، وهو ما ظهر أمره واضحا جليا منذ حرب الخليج الثانية، فى أغسطس 1990، حيث أرادت تهييج الشارع الإسلامى إلى صفها ففشلت.
      عندما كان للاتحاد السوفيتى علاقة صداقة مع مصر وسوريا والعراق والجزائر ومنظمة التحرير الفلسطينية،وخلال حرب افغانستان، كانت جماعات الإسلام السياسى تندد فى كل مقال وأى مجال بهذه العلاقة مع مشركين ينكرون الدين.. وتدعو فى كل مقال وأى مجال إلى ضرورة الصداقة والتعاون مع أهل الكتاب من النصارى فى الولايات المتحدة وفى أوربا. وحينما انقلبت الجماعات الإسلامية على الولايات المتحدة بدأت تركز دعايتها على عدم الولاية مع غير المسلمين، واتهمت الغرب بما أسمته الصليبية والصهيونية. وكانت أجهزة المخابرات الغربية قد عجمت عيدان قادة جماعات الإسلام السياسى، وأيقنت أنهم على جهالة وضيق أفق وقلة خبرة، فضلا عن أنهم لا يؤتمنون على علاقة أبدا. فعلى مدى تاريخهم، منذ بدأت جماعة الإخوان المسلمين، لم يكن لهم صديق إلا المال، ولا حبيب غير السلطة، وكان الصديق يتحول إلى عدو والعدو ينقلب إلى صديق، وفقا للمصلحة وتبعا للثمن.
      ظل البوم ينعق فى أجهزة التليفزيون وفى محطات الإذاعة وفى المطبوعات المختلفة بثقافة الكراهية (Hatred culture) ضد غير المسلمين، وهى ثقافة تنتشر بطبيعتها بأيسر مما تنتشر به ثقافة المحبة والصداقة. ونتيجة لهذا فقد اشتعلت بؤر النزاع فى كل مكان من العالم، وفيها على الدوام طرف مسلم، حدث هذا فى الفيلبين وفى غرب الصين وفى جنوب الروسيا وفى إندونيسيا وفى شبه الجزيرة الهندية وفى كل البلاد العربية وفى كثير من البلاد الغربية، وأوربا وأمريكا.. ولجأت جماعات الإسلام السياسى إلى شن حرب من الإرهاب، اعتبار من 1992، على الحكومات فى مصر والجزائر وفى فرنسا والولايات المتحدة وغيرها.
      وكأنما كانت أجهزة المخابرات الأمريكية والإسرائيلية تنتظر هذا التصرف، الذى ربما تكون قد عملت له طويلا، ودفعت هؤلاء الحمقى الجهال إليه دفعا. بهذا انقلب العالم كله ضد الإسلام وضد المسلمين، ومن ثم صارت قضايا غير المسلمين ضد المسلمين قضايا عادلة، اكتسبت عدالتها من الصورة الشائهة التى بدا عليها الإسلام والمسلمون، بفضل مقالات وتصرفات جماعات الإسلام السياسى، ومن يلحظ أو يرصد تصرفات حكام إسرائيل يجد أنهم كانوا يزورون كل بلد يقوم فيه بعض المسلمين باضطرابات انفصالية أو أعمال إرهابية، فقد حدث ذلك مع الصين ومع الروسيا، إذ أصبح الجميع فى سلة واحدة، يحاربون عدوا واحدا. ولعل هذا هو ما جمع جهودا كثيرة للعمل على القبض على زعيم حزب العمل الكردستانى وتسليمه إلى الحكومة التركية.
      فى أمريكا وكندا وأوربا، يجرى العمل بهدوء وفى تنسيق كامل على محاصرة المسلمين، واستبعاد من يمكن استبعاده مع وضع قوانين صارمة للهجرة تمنعهم من الوجود الدائم فى هذه البلاد، هذا مع التدقيق الشديد فى إعطاء تأشيرات الدخول visa)) إلى مواطنى الشرق الأوسط خاصة، وللمسلمين عامة.
      وفى تركيا وضح لبعض المحللين أن الموجة الإسلامية ليست موجة صحية موضوعية لكنها موجة شكلية مظهرية، قوامها غطاء الرأس (المسمى خطأ بالحجاب) وإطلاق اللحية ورفع الصوت فى الأذان وتلاوة بعض الأدعية. وأرجع هؤلاء المحللون تلك الموجة إلى حنين فقراء الأتراك إلى أيام السلطنة العثمانية التى سودت الأتراك وأثرتهم، براية الإسلام وعلم الشريعة، فأخذت الجزية والغنائم من البلاد الإسلامية ووزعت بعضها على الأتراك من الشعب.هذا فضلا عن تولى الأتراك السلطة فى كل البلاد التابعة للإمبراطورية العثمانية، سواء فى منطقة البلقان واليونان أو فى البلاد العربية.
      فالإسلام لدى الأتراك الذين يجهلون العربية ولا يستطيعون قراءة القرأن فى لغته، هو الحنين إلى أيام الأمجاد والسيادة والثراء. وأمام النزعة الدينية الشكلية المظهرية، بدأت تتنامى القومية التركية الطورانية التى يمكن أن تركب موجة المستقبل، فتضم تحت لوائها أغلب بلاد التركستان، وسط أسيا، التى تتكلم التركية (عدا أذربيجان) وتشترك مع الترك فى أن أصولها تتارية (أو مغولية). وهذه البلاد تتمتع بثروات طبيعية هائلة.ويمكن أن تكون مع تركيا كتلة ضخمة، تصبح مع الوقت ذات ثراء عظيم ونفوذ كبير. أما فى الشرق الأوسط فإن الوضع جد خطير، لأن هذه المنطقة هى مهد الإسلام، وموطن كل حركاته، ومصدر الإسلام السياسى المعاصر. وإذا كان المسلمون قد استاءوا عندما قيل، بعد تفكك الاتحاد السوفيتى، إنه لم يبق أمام الغرب إلا المسلمون فعليهم أن يلوموا من عمل منهم بطيش وحمق، وعمالة وجهالة، على إيجاد تلك المقولة ثم إثباتها، بالتأكيد المتوالى على عبارة (الصليبية والصهيونية )، وعلى التكرار المتصل على ثقافة العداوة التى تدعو إلى عدم موالاة المسلم لغير المسلم، وهى اتجاهات دعت إلى تدخل ما يعرف بالنظام العالمى الجديد. تعبير النظام العالمى الجديد ظهر فى بداية القرن، مع نشوء الماركسية فى الاتحاد السوفيتى، ودعوتها إلى الأممية لتحقيق هذا النظام، ثم عاود التعبير ظهوره أثناء الحرب العالمية الثانية، إذ كان النازى يشيع أنه يعمل على تحقيق النظام العالمى الجديد.. ثم ظهر التعبير مرة ثالثة، أثناء حرب الخليج الثانية، التى استدعت فيها دول عربية قوى غربية، على رأسها الولايات المتحدة، للدفاع عنها.
      مع الوقت بدأ تحديد إطار ومعالم وأهداف هذا النظام العالمى الجديد، خاصة بعد التدخل العسكرى من حلف الناتو (nato)فى كوسوفا ومنطقة البلقان، واحتفال الناتو فى واشنطن بعيده الخمسينى، مع انضمام ثلاث دول جدد إليه. هذا الإطار وتلك المعالم وهاتيك الأهداف تتحدد فيما يلى:
      • مبدأ تصدير الأمن، بمعنى أن الحلف لن يتوقف عند مبدأ حماية أعضائه، لكن نشاطه سوف يمتد لإقرار الأمن والنظام فى أى مكان فى العالم.
      • التأكيد على أن تقوم كل دولة فى العالم بتوفيق أوضاعها لتتلاءم مع النظام العالمى الجديد، ويكون ذلك بإنشاء المؤسسات الحقيقية الفعالة فى كل دولة، ابتداء من مؤسسة الحكم وانتشارا إلى باقى مؤسسات السلطة.
      • اعتبار القوام الحقيقى لكل دولة هو حكم القانون واحترام حقوق الإنسان، وذلك وفقا للمعايير الدولية الخاصة بحكم القانون وحقوق الإنسان، وليس تبعا لتفسير نظم الحكم المختلفة لمفهوم القانون وحقوق الإنسان.
      • حظر إنتاج واستعمال الأسلحة البيولوجية والجرثومية، والبلاستية. وإلى جانب هذا المبادىء، فقد قال الرئيس كلينتون فى خطاب له، مكتوب وليس مرتجلا (مما يفيد أنه يتضمن مبادىء استراتيجية )، بتاريخ 2 يونيو 1999، فى أكاديمية القوات الجوية بكلورادو، وهو يحدد مهام الولايات المتحدة، إن من هذه المهام أن تقوم (الولايات المتحدة) بسد الفجوة التى حدثت بين العالم الإسلامى والغرب، منذ ألف سنة، (وهى مدة طويلة جدا، تشمل فيما تشمل خروج العرب من أسبانيا،والحروب الصليبية، واستيلاء العثمانيين على الإمبراطورية البيزنطية وعاصمتها القسطنطينية، وحروب الاحتلال الغربي لبلدان الشرق الأوسط، والمسألة الفلسطينية..الخ)
      مفاد ذلك كله، أنه بعد انتصار حلف الناتو فى كوسوفو، سوف يعيد تنظيم منطقة البلقان، ويتركها للاتحاد الأوربي (u.E) ليعمل هذا على تنميتها اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا، وضمها إليه تباعا، أما المجال التالى لعمل حلف الناتو فسيكون منطقة الشرق الأوسط. ولا يمكن الاحتجاج فى ذلك بمبدأ السيادة الوطنية، فقد سلف شرح هذا المبدأ فى صدر هذه الدراسة، وكيف أنه مبدأ لدن، اتسع ويتسع لتفسيرات متعددة، يضاف إلى ذلك أن العرب هم الذين يستدعون أمريكا وأوروبا لحل المسألة الفلسطينية، ويتهمونهم بكل نقيصة إن تقاعسوا عن التدخل فيها لحلها. مع أن الحل لن يكون كما يرجو العرب، لأن الظروف الدولية والمحلية سوف تعنى بأمن إسرائيل، ولن يكون على أرض الواقع ما يسمح بقيام دولة فلسطينية ذات سيادة كاملة، وجيش عصري، وحدود لا تداخلها مدن إسرائيلية وطرق إسرائيلية.
      أما بالنسبة لباقي الدول العربية، فعليها من الآن أن تلتزم المعايير الدولية فى إنشاء المؤسسات، وإقامة حكم القانون وتأكيد حقوق الإنسان. وهى أمور لازمة لتقدم كل دولة واستقرارها، ولا ضير فيها أو خطر منها، ولا تنتظر إلى أن تفرضها عليها قوى خارجية. يضاف إلى ذلك أن قيام المؤسسات الصحيحة قد يؤدى إلى غض الطرف عن حيازة أسلحة الدمار الشامل، لأن خشية المجتمع العالمي الحقيقية، أن تقع هذه الأسلحة فى أيد غير مسئولة، فى دولة ليست بها مؤسسات تضمن عدم وصول مغامرين إلى الحكم، أو أن تظل الأسلحة فى أيد غير أمينة تتعلل بمبدأ السيادة لتجعل من الحاكم الدكتاتور صاحب الحق المطلق، والسيادة الشاملة فى استخدام هذه الأسلحة ضد مواطنيه وغير مواطنيه.
      جميع المواضيع من هنا