مشهد الموت

    • مشهد الموت

      تراخى الجسد المتعب على السرير, وبدأ وتير التنفس ينخفض, وتعالت في المكان أصوات الحشرجات, وأخذ الصدر المثقل يتحرك ببطء متزامنة مع حركاته انتفاضة جسدية كانتفاضة السمكة في شبكة الصياد, وبدأ اللون الأزرق يتسرب إلى ملامح الوجه الجامدة, وصارت العيون المفتوحة خافتة البريق, والأصابع المشدودة تتراخى وتضعف, والجسد كله يعلن الرحيل... رحيل الروح إلى بارئها.

      في ركن الغرفة الشبه مظلمة استكانت العيون الدامعة في صمت وهي تراقب المنظر, خائفة من الخروج وجازعة من الاقتراب, هلعة وغير مصدقة فهذا الجسد الحبيب أيستكين إلى الأبد؟؟ وهذه الروح الحبيبة أترحل إلى الأبد؟؟... وتحرك... تحرك حمد من زاويته واقترب من الجسد المستكين في تردد, ووجه نظره نحو العينين الباهتتين الناظرتين في فراغ الغرفة في جمود, ثم حول أنظاره الجزعة يراقب الصدر الذي أخذ يعلو ويهبط... يعلو ويهبط... يعلو ويهبط... ولا يعلو ... وسرت قشعريرة باردة في جسده أشعرته بالبرد رغم العرق الذي أخذ يتفصد من جبينه, هيا أيها الصدر لا تسكن... واقترب أكثر ومد يده ليلمس القلب وهو يتمنى أن يشعر بالنبض... هيا.. هيا أيها القلب لا تسكن أنت أيضاً... هيا أبتي لا تسكن تحرك!! سوف تتحرك أليس كذلك؟؟

      وحول نظره إلى العينين الجاحظتين الميتتين... هيا أبتي ألن تتحرك؟ أنا هنا ولدك الحبيب, هيا استيقظ وتحرك... أنا أحبك وأريدك... ولمن... ؟؟ أتراه يسمع جواباً؟؟!

      وأخذ حمد يهز جسد والده ويصرخ : أبتي أرجوك استيقظ إني أحتاجك، لا تتركني وحدي أرجوك... وانهمر شلال الدموع من عينيه ، وتراخت يده عن الجسد، وشعر بثقل في رموشه وبدوار في رأسه، وتراخى جسده ووقع على الأرض.

      فتح حمد عينيه بجهد كبير وشعر بطبول تدق في رأسه المزدحم بالأفكار، وتحسس بيده الأرض الصلبة أسفله , ودار ببصره في أرجاء الغرفة ليستقر بعد ذلك على السرير... قام ببطء متكأ على السرير وهو يتمنى أن ما كان منذ لحظات أو ساعات ليس إلا كابوس... كابوس كاد أن يفجر رأسه... ورفع رأسه وتحسس بيده الساخنة اليد الباردة المتصلبة ونظر بعينيه اللتين جف فيهما الدمع إلى العينين الجاحظتين... ما رآه حقيقة... وما كان يخشاه أصبح حقيقة... ولكن كيف يواجه هذه الحقيقة؟؟! هنا كان السؤال وهنا كان عقله المتعب يعجز عن التفكير....

      وأعاد نظره إلى العينين ورفع يده ليغمضهما... استرح أبي.. نم ولا تفكر في شيء... أتشعر بالبرد؟ سأغطيك لتدفأ... وسحب بيديه غطاء السرير ولكنه تريث عندما رآها.... ما هذا يا أبي؟؟! وتحسس بيده البقعة الزرقاء الجامدة الملطخة باللون الأحمر القاني الذي امتد إلى السرير ثم إلى أرض الغرفة في بقع متفرقة تصل إلى الطاولة في زاوية الغرفة، وتتبع البقع بنظره ورجليه، واقترب من الطاولة الصغيرة ليرى بقعة أخرى على خشبها الرديء... وبجانبها كيس صغير ومحقنة طبية وقوارير أدوية متناثرة وبضعة أقراص من الحبوب، ولكن ماذا في الكيس؟؟ إنها بودرة بيضاء... أتكون ملحاً؟؟! كلا فحبيبات الملح بلورية الشكل وكذلك السكر... ونثرها على الطاولة، ولكن ماذا يفعل أبي بها؟؟ وحوَل نظره إلى المحقنة الطبية... أيحقن نفسه بها لأنه مريض؟! أذكر أن الطبيب حقنني بها ذات يوم عندما كسرت يدي... إنها مؤلمة... ورماها على الأرض بحركة سريعة... والتفت إلى الطاولة... وهذه القوارير... وهذه الأقراص، ماذا يفعل أبي بها؟... لم كلها هنا؟؟؟

      وعاد يجول بنظره في أركان الغرفة... ونظر إلى ركن الغرفة حيث كان جالساً من قبل... وتحرك إليه..... واتخذ جلسته السابقة ينظر بعينيه البريئتين إلى الجسد النائم.

      لماذا تنام الآن يا أبي؟؟ أما يجدر بك أن تنهض... أن تذهب إلى تلك الطاولة وتجلس عليها... إنها المفضلة لديك، فعندما أعود من المدرسة أراك جالساً إليها تنظر إلي من النافذة، وعندما تحضر الطعام تضعه عليها وتناديني: حمود.. حمود هيا الغداء جاهز..... فأحضر لأجلس معك إليها، أنا آكل الأرز واللبن وأنت تنظر إلي... لا أعلم لم كنت تمتنع عن الأكل؟! كنت دائماً تنتظرني لأنتهي من طعامي ثم تقول لي: هيا... قم إلى دروسك... لتبقى وحدك تدخن سيجارة أو تشم تلك البودرة أو تحقن نفسك بالإبرة ... نعم كنت تظن أنني لا أراك ... بلا كنت أراك تتألم لوخز الإبرة ، وتتلهف لشم البودرة ، وتستمتع بدخان السيجارة ... لماذا با أبي؟؟ لماذا لا تنهض الآن لتقوم بذلك؟؟!

      وتحرك من ركنه ، وتقدم بخطى بطيئة نحو الجسد الساكن , ونظر إلى العينين المغمضتين ، ورفع يده إلى الرأس ليربت على الشعر الأبيض ... وتذكر ...... تذكر كلام صديقه سلطان عندما قال له ذات يوم : "الذي يصبح شعره أبيض يموت ، لأن جدي عندما صار شعره أبيض مات ورأيت أبي يغطيه بلحاف أبيض".... ونظر إلى غطاء السرير... إنه أبيض اللون.... إنه في لون شعرك أبي .... وسحب غطاء السرير وغطى به الجسد كاملاً، ثم نظر إليه وقال :" آسف أبي.. لكن سلطان قال أن والده فعل ذلك بجده لأن شعره أبيض ... لذلك يجب أن أفعله معك لأن شعرك أبيض".....

      والتفت ورائه وعاد إلى الطاولة الصغيرة وجلس إليها، أمسك الأقراص الصغيرة وأخذ يقلبها بين يديه.... أيجب أن أبلعها أنا؟؟!!... الأستاذ في المدرسة يقول لنا اقتدوا بآبائكم... وأبي يأكل من هذه الأقراص دائماً... فلماذا لا آكل أنا منها؟؟..... ولكن أبي ضربني ذلك اليوم حين وجدني أمسكها... لماذا يمنعني عنها؟؟!!!.... ألا يجب علي أن أفعل كما يفعل؟؟.. ألا يجب علي أن أقول كما يقول؟؟

      والتفت ينظر إلى السرير... هيا أبتي قل لي ما يجب علي فعله... هل أبتلع هذه الأقراص أم أضعها جانباً؟؟!!... هل أكون مثلك أم لا؟؟؟؟!!!

      :sad:sad:sad